[المؤمنون : 1] قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ
1 - (قد) للتحقيق (أفلح) فاز (المؤمنون)
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله: " قد أفلح المؤمنون " قد أدرك الذين صدقوا لله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، وأقروا بما جاءهم به من عند الله ، وعملوا بما دعاهم إليه مما سمى في هذه الآيات الخلود في جنات ربهم ، وفازوا بطلبتهم لديه .
كما حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرازق ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : " قد أفلح المؤمنون " قال : قال كعب : لم يخلق الله بيده إلا ثلاثة : خلق آدم بيده ، وكتب التوراة بيده ، وغرس جنة عدن بيده ، ثم قال لها تكلمي ، فقالت : " قد أفلح المؤمنون " لما علمت فيها من الكرامة .
حدثنا سهل بن موسى الرازي ، قال : ثنا يحيى بن الضريس ، عن عمرو بن أبي قيس عن عبد العزيز بن رفيع ، عن مجاهد ، قال : لما غرس الله تبارك وتعالى الجنة ، نظر إليها فقال : " قد أفلح المؤمنون " .
قال : ثنا حفص بن عمر ، أبي خلدة ، عن أبي العالية ، قال : لما خلق الله الجنة قال : " قد أفلح المؤمنون " فأنزل الله به قرآنا .
حدثنا ابن حميد قال : ثنا جبير ، عن عطاء ، عن ميسرة ، قال : لم يخلق الله شيئا بيده غير أربعة أشياء : خلق آدم بيده ، وكتب الألواح بيده ، والتوراة بيده ، وغرس عدنا بيده ، ثم قال : " قد أفلح المؤمنون " .
وقوله : " الذين هم في صلاتهم خاشعون " يقول تعالى ذكره : الذين هم في صلاتهم إذا قاموا فيها خاشعون ، وخشوعهم فيها تذللهم لله فيها بطاعته ، وقيامهم فيها بما أمرهم بالقيام به فيا . وقيل : إنها نزلت من أجل أن القوم كانوا يرفعون أبصارهم فيها إلى السماء قبل نزولها ، فنهوا بهذه الآية عن ذلك .
ذكر الرواية بذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت خالدا ، عن محمد بن سيرين ، قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى نظر إلى السماء ، فأنزلت هذه الآية " الذين هم في صلاتهم خاشعون " قال : فجعل بعد ذلك وجهه حيث يسجد " .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا هارون بن المغيرة ، عن أبي جعفر ، عن الحجاج الصواف ، عن ابن سيرين ، قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعون أبصارهم في الصلاة إلى السماء ، حتى نزلت : " قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون "فقالوا بعد ذلك برءوسهم هكذا .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن علية ، قال : أخبرنا أيوب ، " عن محمد ، قال : نبئت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى رفع بصره إلى السماء ، فنزلت آية ، إن لم تكن " الذين هم في صلاتهم خاشعون " فلا أدري أية آية هي ، قال : فطأطأ " . قال : وقال محمد : وكانوا يقولون : لا يجاوز بصره مصلاه ، فإن كان قد استعاد النظر فليغمض .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا هشيم ، عن ابن عون ، عن محمد نحوه .
واختلف أهل التأويل في الذي عنى به في هذا الموضع من الخشوع ، فقال بعضهم : عني به : سكون الأطراف في الصلاة .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان عن منصور ، عن مجاهد " الذين هم في صلاتهم خاشعون " قال : السكون فيها .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الزهري " الذين هم في صلاتهم خاشعون " قال : سكون المرء في صلاته .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرازق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، مثله .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرازق ، عن الثوري ، عن أبي سفيان الشيباني ، عن رجل ، عن علي ، قال : سئل عن قوله : " الذين هم في صلاتهم خاشعون " قال : لا تلتفت في صلاتك .
حدثنا عبد الجبار بن يحيى الرملي ، قال : قال ضمرة بن ربيعة ، عن أبي شوذب ، عن الحسن ، في قوله : " الذين هم في صلاتهم خاشعون " قال : كان خشوعهم في قلوبهم ، فغضوا بذلك البصر وخفضوا به الجناح .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم ، في قوله " خاشعون " قال : الخشوع في القلب ، وقال : ساكنون .
قال : ثنا الحسن ، قال : ثني خالد بن عبد الله عن المسعودي ، عن أبي سنان ، عن رجل من قومه ، عن علي رضي الله عنه ، قال : الخشوع في القلب ، وأن تلين للمرء المسلم كنفك ، ولا تلتفت .
قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال عطاء بن أبي رباح ، في قوله : " الذين هم في صلاتهم خاشعون " قال : التخشع في الصلاة ، وقال أبي غير عطاء : " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام في الصلاة نظر عن يمينه ويساره ووجاهه ، حتى نزلت : " قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون " فما رؤي بعد ذلك ينظر إلا إلى الأرض " .
وقال آخرون : عني به الخوف في هذا الموضع .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الحسن " الذين هم في صلاتهم خاشعون " قال : خائفون .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، في قوله " الذين هم في صلاتهم خاشعون " قال الحسن : خائفون . وقال قتادة : الخشوع في القلب .
حدثني علي ، قال : ثنا عبدالله ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، في قوله : " الذين هم في صلاتهم خاشعون " يقول : خائفون ساكنون .
وقد بينا فيما مضى قبل من كتابنا ، أن الخشوع : التذليل والخضوع بما أغنى من إعادته في هذا الموضع . وإذ كان ذلك كذلك ، ولم يكن الله تعالى ذكره دل على أن مراده من ذلك معنى دون معنى في عقل ولا خير ، كان معلوما أن معنى مراده من ذلك العموم . وإذ كان ذلك كذلك . فتأويل الكلام ما وصفت من قبل ، من أنه : والذين هم في صلاتهم متذللون لله بإدامة ما ألزمهم من فرضه وعبادته ، وإذا تذلل لله فيها العبد رؤيت ذلة خضوعه في سكون أطرفه ، وشغله بفرضه ، وتركه ما أمر بتركه فيها .
مكية كلها في قول الجميع
فيه تسع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: " قد أفلح المؤمنون " روى البيهقي من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" لما خلق الله جنة عدن وغرس أشجارها بيده قال لها تكلمي فقالت قد أفلح المؤمنون ". وروى النسائي " عن عبد الله بن السائب قال:
حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فصلى في قبل الكعبة، فخلع نعليه فوضعهما عن يساره فافتتح سورة المؤمنين، فلما جاء ذكر موسى أو عيسى عليهما السلام أخذته سعلة فركع ". خرجه مسلم بمعناه. وفي الترمذي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:
"كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه الوحي سمع عند وجهه كدوي النحل، وأنزل عليه يوما فمكثنا ساعةً فسري عنه فاستقبل القبلة فرفع يديه وقال: اللهم زدنا ولا تنقصنا [وأكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا وآثرنا ولا تؤثر علينا]وأرضنا وارض عنا - ثم قال - أنزل علي عشر آيات من أقامهن دخل الجنة - ثم قرأ - قد أفلح المؤمنون " حتى ختم عشر آيات، صححه ابن العربي وقال النحاس : معنى من " أقامهن " من أقام عليهن ولم يخالف ما فيهن، كما تقول: فلان يقوم بعلمه. ثم نزل بعد هذه الآيات فرض الوضوء والحج فدخل معهن. وقرأ طلحة بن مصرف " قد أفلح المؤمنون " بضم الألف على الفعل المجهول، أي أبقوا في الثواب والخير. وقد مضى في أول ((البقرة)) معنى الفلاح لغةً ومعنى، والحمد لله وحده.
سورة المؤمنون
بسم الله الرحمـن الرحيم
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق , أخبرني يونس بن سليم قال: أملى علي يونس بن يزيد الأيلي عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد القاري ؟ قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: كان إذا نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي يسمع عند وجهه كدوي النحل, فلبثنا ساعة فاستقبل القبلة ورفع يديه وقال "اللهم زدنا ولا تنقصنا, وأكرمنا ولا تهنا, وأعطنا ولا تحرمنا, وآثرنا ولا تؤثر علينا, وارض عنا وأرضنا ـ ثم قال ـ لقد أنزل علي عشر آيات من أقامهن دخل الجنة" ثم قرأ: "قد أفلح المؤمنون" حتى ختم العشر, ورواه الترمذي في تفسيره, والنسائي في الصلاة من حديث عبد الرزاق به, وقال الترمذي : منكر لا نعرف أحداً رواه غير يونس بن سليم , ويونس لا نعرفه.
وقال النسائي في تفسيره: أنبأنا قتيبة بن سعيد , حدثنا جعفر عن أبي عمران عن يزيد بن بابنوس قال: قلنا لعائشة أم المؤمنين: كيف كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت: كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن, فقرأت " قد أفلح المؤمنون " حتى انتهت إلى " والذين هم على صلواتهم يحافظون " قالت: هكذا كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد روي عن كعب الأحبار ومجاهد وأبي العالية وغيرهم: لما خلق الله جنة عدن وغرسها بيده نظر إليها وقال لها: تكلمي, فقالت: "قد أفلح المؤمنون" قال كعب الأحبار : لما أعد لهم من الكرامة فيها. وقال أبو العالية : فأنزل الله ذلك في كتابه.
وقد روي ذلك عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً, فقال أبو بكر البزار : حدثنا محمد بن المثنى , حدثنا المغيرة بن سلمة , حدثنا وهيب عن الجريري عن أبي نضرة , عن أبي سعيد قال: خلق الله الجنة لبنة من ذهب ولبنة من فضة, وغرسها وقال لها: تكلمي, فقالت: "قد أفلح المؤمنون" فدخلتها الملائكة, فقالت: طوبى لك منزل الملوك, ثم قال: وحدثنا بشر بن آدم , وحدثنا يونس بن عبيد الله العمري , حدثنا عدي بن الفضل , حدثنا الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خلق الله الجنة لبنة من ذهب ولبنة من فضة, وملاطها المسك ـ قال البزار : ورأيت في موضع آخر في هذا الحديث ـ حائط الجنة لبنة ذهب ولبنة فضة, وملاطها المسك. فقال لها: تكلمي, فقالت: "قد أفلح المؤمنون" فقالت الملائكة: طوبى لك منزل الملوك" ثم قال البزار : لا نعلم أحداً رفعه إلا عدي بن الفضل وليس هو بالحافظ. وهو شيخ متقدم الموت.
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا أحمد بن علي , حدثنا هشام بن خالد , حدثنا بقية عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما خلق الله جنة عدن خلق فيها ما لا عين رأت, ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر, ثم قال لها: تكلمي, فقالت "قد أفلح المؤمنون"" بقية عن الحجازيين ضعيف. وقال الطبراني : حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة , حدثنا منجاب بن الحارث , حدثنا حماد بن عيسى العبسي , عن إسماعيل السدي عن أبي صالح عن ابن عباس يرفعه "لما خلق الله جنة عدن بيده, ودلى فيها ثمارها, وشق فيها أنهارها, ثم نظر إليها فقال: "قد أفلح المؤمنون" قال: وعزتي وجلالي لا يجاورني فيك بخيل".
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا : حدثنا محمد بن المثنى البزار , حدثنا محمد بن زياد الكلبي , حدثنا يعيش بن حسين عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خلق الله جنة عدن بيده: لبنة من درة بيضاء ولبنة من يا قوتة حمراء ولبنة من زبرجدة خضراء, ملاطها المسك, وحصباؤها اللؤلؤ, وحشيشها الزعفران, ثم قال لها انطقي, قالت: "قد أفلح المؤمنون" فقال الله: وعزتي وجلالي لا يجاورني فيك بخيل" ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون".
وقوله تعالى: "قد أفلح المؤمنون" أي قد فازوا وسعدوا وحصلوا على الفلاح, وهم المؤمنون المتصفون بهذه الأوصاف "الذين هم في صلاتهم خاشعون" قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس "خاشعون" خائفون ساكنون, وكذا روي عن مجاهد والحسن وقتادة والزهري . وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الخشوع خشوع القلب, وكذا قال إبراهيم النخعي . وقال الحسن البصري : كان خشوعهم في قلوبهم, فغضوا بذلك أبصارهم وخفضوا الجناح, وقال محمد بن سيرين : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعون أبصارهم, إلى السماء في الصلاة, فلما نزلت هذه الاية: "قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون" خفضوا أبصارهم إلى موضع سجودهم. قال محمد بن سيرين : وكانوا يقولون: لا يجاوز بصره مصلاه, فإن كان قد اعتاد النظر فليغمض, رواه ابن جرير وابن أبي حاتم . ثم روى ابن جرير عنه وعن عطاء بن أبي رباح أيضاً مرسلاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك حتى نزلت هذه الاية, والخشوع في الصلاة إنما يحصل لمن فرغ قلبه لها واشتغل بها عما عداها وآثرها على غيرها, وحينئذ تكون راحة له وقرة عين, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والنسائي عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "حبب إلي الطيب والنساء, وجعلت قرة عيني في الصلاة".
وقال الإمام أحمد : حدثنا وكيع , حدثنا مسعر عن عمرو بن مرة عن سالم بن أبي الجعد عن رجل من أسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا بلال "أرحنا بالصلاة" وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي , حدثنا إسرائيل عن عثمان بن المغيرة عن سالم بن أبي الجعد أن محمد بن الحنفية قال: دخلت مع أبي على صهر لنا من الأنصار, فحضرت الصلاة, فقال: يا جارية ائتني بوضوء لعلي أصلي فأستريح, فرآنا أنكرنا عليه ذلك, فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قم يا بلال فأرحنا بالصلاة".
وقوله: "والذين هم عن اللغو معرضون" أي عن الباطل, وهو يشمل الشرك كما قاله بعضهم, والمعاصي كما قاله آخرون, وما لا فائدة فيه من الأقوال والأفعال, كما قال تعالى: "وإذا مروا باللغو مروا كراماً" قال قتادة : أتاهم والله من أمر الله ما وقفهم عن ذلك. وقوله: "والذين هم للزكاة فاعلون" الأكثرون على أن المراد بالزكاة ههنا زكاة الأموال, مع أن هذه الاية مكية, وإنما فرضت الزكاة بالمدينة في سنة اثنتين من الهجرة, والظاهر أن التي فرضت بالمدينة إنما هي ذات النصب والمقادير الخاصة, وإلا فالظاهر أن أصل الزكاة كان واجباً بمكة, كما قال تعالى في سورة الأنعام وهي مكية: "وآتوا حقه يوم حصاده" وقد يحتمل أن يكون المراد بالزكاة ههنا زكاة النفس من الشرك والدنس, كقوله: "قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها" وكقوله " وويل للمشركين * الذين لا يؤتون الزكاة " على أحد القولين في تفسيرهما, وقد يحتمل أن يكون كلا الأمرين مراداً وهو زكاة النفوس وزكاة الأموال, فإنه من جملة زكاة النفوس, والمؤمن الكامل هو الذي يفعل هذا وهذا, والله أعلم.
وقوله "والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين * فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون" أي والذين قد حفظوا فروجهم من الحرام فلا يقعون فيما نهاهم الله عنه من زنا ولواط, لا يقربون سوى أزواجهم التي أحلها الله لهم أو ما ملكت أيمانهم من السراري ومن تعاطى ما أحله الله له فلا لوم عليه ولا حرج, ولهذا قال: "فإنهم غير ملومين * فمن ابتغى وراء ذلك" أي غير الأزواج والإماء "فأولئك هم العادون" أي المعتدون. وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن بشار , حدثنا عبد الأعلى , حدثنا سعيد عن قتادة أن امرأة اتخذت مملوكها وقالت: تأولت آية من كتاب الله "أو ما ملكت أيمانهم" فأتى بها عمر بن الخطاب رضي الله عنه, وقال له ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: تأولت آية من كتاب الله عز وجل على غير وجهها, قال: فضرب العبد وجز رأسه, وقال: أنت بعده حرام على كل مسلم, هذا أثر غريب منقطع, ذكره ابن جرير في تفسير أول سورة المائدة وهو ههنا أليق, وإنما حرمها على الرجال معاملة لها بنقيض قصدها, والله أعلم.
وقد استدل الإمام الشافعي رحمه الله ومن وافقه على تحريم الاستمناء باليد بهذه الاية الكريمة "والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم" قال: فهذا الصنيع خارج عن هذين القسمين, وقد قال الله تعالى: "فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون" وقد استأنسوا بحديث رواه الإمام الحسن بن عرفة في جزئه المشهور حيث قال: حدثني علي بن ثابت الجزري عن مسلمة بن جعفر عن حسان بن حميد , عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سبعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولا يجمعهم مع العالمين, ويدخلهم النار أول الداخلين إلا أن يتوبوا ومن تاب تاب الله عليه الناكح يده, والفاعل والمفعول به, ومدمن الخمر, والضارب والديه حتى يستغيثا, والمؤذي جيرانه حتى يلعنوه, والناكح حليلة جاره" هذا حديث غريب, وإسناده فيه من لا يعرف لجهالته, والله أعلم.
وقوله: "والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون" أي إذا اؤتمنوا لم يخونوا بل يؤدونها إلى أهلها, وإذا عاهدوا أو عاقدوا أوفوا بذلك لا كصفات المنافقين الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب, وإذا وعد أخلف, وإذا اؤتمن خان". وقوله: "والذين هم على صلواتهم يحافظون" أي يواظبون عليها في مواقيتها, كما قال ابن مسعود : " سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله أي العمل أحب إلى الله ؟ قال الصلاة على وقتها. قلت: ثم أي ؟ قال بر الوالدين. قلت: ثم أي ؟ قال: الجهاد في سبيل الله". أخرجاه في الصحيحين . وفي مستدرك الحاكم قال: "الصلاة في أول وقتها".
وقال ابن مسعود ومسروق في قوله: "والذين هم على صلواتهم يحافظون" يعني في مواقيت الصلاة, وكذا قال أبو الضحى وعلقمة بن قيس وسعيد بن جبير وعكرمة . وقال قتادة : على مواقيتها وركوعها وسجودها, وقد افتتح الله ذكر هذه الصفات الحميدة بالصلاة واختتمها بالصلاة فدل على أفضليتها كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استقيموا ولن تحصوا, واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة, ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن" ولما وصفهم تعالى بالقيام بهذه الصفات الحميدة والأفعال الرشيدة قال: " أولئك هم الوارثون * الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون ". وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس, فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة, ومنه تفجر أنهار الجنة, وفوقه عرش الرحمن".
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان , حدثنا أبو معاوية , حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحد إلا وله منزلان: منزل في الجنة, ومنزل في النار, فإن مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله, فذلك قوله: "أولئك هم الوارثون"" وقال ابن جريج عن ليث عن مجاهد "أولئك هم الوارثون" قال: ما من عبد إلا وله منزلان: منزل في الجنة ومنزل في النار, فأما المؤمن فيبني بيته الذي في الجنة ويهدم بيته الذي في النار, وأما الكافر فيهدم بيته الذي في الجنة ويبني بيته الذي في النار. وروي عن سعيد بن جبير نحو ذلك, فالمؤمنون يرثون منازل الكفار لأنهم خلقوا لعبادة الله تعالى وحده لا شريك له, فلما قام هؤلاء المؤمنون بما وجب عليهم من العبادة, وترك أولئك ما أمروا به مما خلقوا له, أحرز هؤلاء نصيب أولئك لو كانوا أطاعوا ربهم عز وجل بل أبلغ من هذا أيضاً, وهو ما ثبت في صحيح مسلم عن أبي بردة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يجيء ناس يوم القيامة من المسلمين بذنوب أمثال الجبال, فيغفرها الله لهم ويضعها على اليهود والنصارى", وفي لفظ له: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان يوم القيامة دفع الله لكل مسلم يهودياً أو نصرانياً, فيقال: هذا فكاكك من النار" فاستحلف عمر بن عبد العزيز أبا بردة بالله الذي لا إله إلا هو ثلاث مرات, أن أباه حدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك قال: فحلف له, قلت: وهذه الاية كقوله تعالى: "تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقياً" وكقوله: "وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون" وقد قال مجاهد وسعيد بن جبير , الجنة بالرومية هي الفردوس, وقال بعض السلف: لا يسمى البستان الفردوس إلا إذا كان فيه عنب, فا لله أعلم.
هي مكية بلا خلاف. قال القرطبي كلها مكية في قول الجميع، وآياتها مائة وتسع عشرة آية.
وقد أخرج أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه وغيرهم عن عبد الله بن السائب قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم بمكة الصبح فاستفتح سورة المؤمنين، حتى إذا جاء ذكر موسى وهارون، أو ذكر عيسى أخذته سعلة فركع. وأخرج البيهقي من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لما خلق الله الجنةقال لها تكلمي، فقالت: قد أفلح المؤمنون". وأخرجه أيضاً ابن عدي والحاكم. وأخرج الطبراني في السنة وابن مردويه من حديث ابن عباس مثله. وقد ورد فضائل العشر الآيات من أول هذه السورة ما سيأتي قريباً.
قوله: 1- "قد أفلح المؤمنون" قال الفراء: قد ها هنا يجوز أن تكون تأكيداً لفلاح المؤمنين، ويجوز أن تكون تقريباً للماضي من الحال، لأن قد تقرب الماضي من الحال حتى تلحقه بحكمه، ألا تراهم يقولون: قد قامت الصلاة قبل حال قيامها، ويكون المعنى في الآية أن الفلاح قد حصل لهم، وأنهم عليه في الحال، والفلاح الظفر بالمراد والنجاة من المكروه، وقيل البقاء في الخير، وأفلح إذا دخل في الفلاح، ويقال أفلحه: إذا أصاره إلى الفلاح، وقد تقدم بيان معنى الفلاح في أول البقرة. وقرأ طلحة بن مصرف قد أفلح بضم الهمزة وبناء الفعل للمفعول. وروي عنه أنه قرأ أفلحوا المؤمنون على الإبهام والتفسير، أو على لغة أكلوني البراغيث.
مكية، أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أخبرنا أحمد بن الحسين الحيري ، أخبرنا حاجب بن أحمد الطوسي ، أخبرنا محمد بن حماد ، أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا يونس بن سليمان ، أملى علي يونس صاحب أيلة، عن ابن شهاب ، عن عروة بن الزبير، عن عبد الرحمن بن عبد القارئ قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: " كان إذا نزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي يسمع عند وجهه دوي كدوي النحل، فمكثنا ساعة- وفي رواية: فنزل عليه يوماً فمكثنا ساعة- فاستقبل القبلة ورفع يديه وقال: اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وارض عنا، ثم قال: لقد أنزل علي عشر آيات من أقامهن دخل الجنة، ثم قرأ " قد أفلح المؤمنون " إلى عشر آيات".
ورواه أحمد بن حنبل ، و علي بن المديني ، وجماعة عن عبد الرزاق ، وقالوا: ((وأعطنا ولا تحرمنا وأرضنا وارض عنا)).
1. قوله تعالى: " قد أفلح المؤمنون "، ((قد)) حرف تأكيد، وقال المحققون: ((قد)) تقرب الماضي من الحال، يدل على أن الفلاح قد حصل لهم، وأنهم عليه في الحال، وهو أبلغ من تجريد ذكر الفعل، ((والفلاح)): النجاة والبقاء، قال ابن عباس: قد سعد المصدقون بالتوحيد وبقوا في الجنة.
1ـ " قد أفلح المؤمنون " قد فازوا بأمانيهم توقد تثبت المتوقع كما أن لما تنفيه وتدل على ثباته إذا دخلت على الماضي ، ولذلك تقربه من الحال ولما كان المؤمنون متوقعين ذلك من فضل الله صدرت بها بشارتهم ، وقرأ ورش عن نافع " قد أفلح " بإلقاء حركة الهمزة على الدال وحذفها ، وقرئ (( أفلحوا )) على لغة : أكلوني البراغيث ، أو على الإبهام والتفسير ، و " أفلح " بالضم اجتزاء بالضمة عن الواو و (( أفلح )) على البناء للمفعول .
Surah 23. Al-Muminun
1. Successful indeed are the believers
SURA 23: MU'MINUN
1 - The Believers must (eventually) win through,