[الأنبياء : 83] وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ
83 - واذكر (وأيوب) ويبدل منه (إذ نادى ربه) لما ابتلي بفقد جميع ماله وولده وتمزيق جسده وهجر جميع الناس له إلا زوجته سنين ثلاثا أو سبعا أو ثماني عشرة وضيق عيشه (أني) بفتح الهمزة بتقدير الباء (مسني الضر) أي الشدة (وأنت أرحم الراحمين)
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : و اذكر أيوب يا محمد ، إذ نادى ربه و قد مسه الضر و البلاء ، رب " أني مسني الضر و أنت أرحم الراحمين * فاستجبنا له " يقول تعالى ذكره : فاستجبنا لأيوب دعاءه إذ نادانا ، فكشفنا ما كان به من ضر و بلاء و جهد ، و كان الضر الذي أصابه ، و البلاء الذي نزل به ، امتحانا من الله له و اختبارا .
وكان سبب ذلك كما :
حدثني محمد بن سهل بن عسكر البخاري ، قال : ثنا إسماعيل بن عبج الكريم بن هشام قال : ثني عبد الصمد بن معقل ، قال: سمعت وهب بن منبه يقول : كان بدء أمر أبوب الصديق صلوات الله عليه ، انه كان صابرا نعم العبد . قال وهب إن لجبريل بين يدي الله مقاما ليس لأحد من الملائكة في القربة من الله ، و الفضيلة عنده ، و إن جبريل هو الذي يتلقى الكلام ، فإذا ذكر الله عبدا بخير ، تلقاه جبرائيل منه ، ثم تلقاه ميكائيل ، و حوله الملائكة المقربون حافين من حول العرش ، و شاع ذلك في الملائكة المقربين ، صارت الصلاة على ذلك العبد من أهل السماوات ، فإذا صلت عليه ملائكة السماوات ، هبطت عليه بالصلاة إلى ملائكة الأرض ، و كان إبليس لا يحجب بشيء من السماوات ، و كان يقف فيهن حيث شاء ما أرادوا ، و من هنالك وصل إلى آدم حين أخرجه من الجنة ، فلم يزل على ذلك يصعد ف السماوات ، حتى فع الله عيسى ابن مريم ، فحجب من أربع ، و كان يصعد في ثلاث ، فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه و سلم ، حجب من الثلاث الباقية ، فهو محجوب هو و جميع جنوده من جميع السماوات إلى يوم القيامة " إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين " (الحجر : 18) ، و لذلك أنكرت الجن ما كانت تعرف إلى يوم قالت : " وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا " (الجن : 8 ) ..... إلى قوله " شهابا رصدا " (الجن : 9 ) .
قال وهب : فلم يرع إبليس إلا تجاوب ملائكتها بالصلاة على أيوب ، و ذلك حين ذكره الله ، و أثنى عليه ، فلما سمع إبليس صلاة الملائكة ، أدركه البغي و الحسد ، و صعد سريعا ، حتى وقف من الله مكانا كان يقفه ، فقال : يا إلهي ، نظرت في أمر عبدك أبوب ، فوجدته عبدا أنعمت عليه فشكرك ، و عافيته فحمدك ، ثم لم تجربه بشدة و لم تجربه ببلاء ، و أنا لك زعيم : لئن ضربته بالبلاء ليكفرن بك و لينسينك ، و ليعبدن غيرك . قال الله تبارك و تعالى له : انطلق ، فقد سلطتك على ماله ، فإنه الأمر الذي تزعم أنه من أجله يشكرني ، ليس لك سلطان على جسده ، ولا على عقله ، فانقض عدو الله ، حتى وقع على الأرض ، ثم جمع عفاريت الشياطين و عظماءهم ، و كان لأيوب البثنية من الشام كلها ، بما فيها من شرقها و غربها ، و كان له بها ألف شاة برعاتها ، و خمس مائة فدان ، يتبعها خمس مائة عبد ، لكل عبد امرأة وولد ومال ، و حمل آلة كل فدان أتان ولد من اثنين وثلاثة و أربعة و خمسة و فوق ذلك ، فلما جمع إبليس الشياطين ، قال لهم : ماذا عندكم من القوة و المعرفة ، فإني قد سلطت على مال أيوب ، فهي المصيبة الفادحة ، و الفتنة التي لا يصير عليها الرجال ، قال عفريت من الشياطين : أعطيت من القوة ما إذا شئت تحولت إعصارا من نار ، فأحرقت كل شيء آتي عليه ، فقال له إبليس : فأت الإبل ورعاتها ، فانطلق يؤم الإبل ، و ذلك حين وضعت رؤوسها ، و ثبتت في مراعيها ، فلم تشعر الناس حتى ثار من تحت الأرض إعصار من نار ، تنفخ منها أرواح السموم ، لا يدنو منها أحد إلا احترق ، فلم يزل يحرقها و رعاتها حتى أتى على آخرها ، فلما فرغ منها تمثل إبليس على قعود منها براعيها ، ثم انطلق يؤم أيوب ، حتى وجده قائما يصلي ، فقال : يا أيوب ، قال : لبيك ، قال : هل تدري ما الذي صنع ربك الذي اخترت ، وعبدت ووحدت ، بإبلك ورعاتها ؟ قال أيوب : إنها ماله أعارينه ، وهو أولى به إذا شاء نزعه ، وقديما ما وطنت نفسي ومالي على الفناء . قال إبليس : وإن ربك أرسل عليها نارا من السماء فاحترقت ورعاتها ، حتى أتى على آخر شيء منها ومن رعاتها ، فتركت الناس مبهوتين ، وهم وقوف عليها يتعجبون ، منهم من يقول : ما كان أيوب يعبد شيئا ، وما كان إلا في غرور ، ومنهم من يقول : لو كان إله أيوب يقدر على أن يمنع من ذلك شيئا لمنع وله ، ومنهم من يقول : بل هو فعل الذي فعل ، ليشمت به عدوه ، وليفجع به صديقه . قال أيوب : الحمد لله حين أعطاني ، وحين نزع مني ، عريانا خرجت من بطن أمي ، وعريانا أعود في التراب ، وعريانا أحشر إلى الله ، ليس ينبغي لك أن تفرح حين أعارك الله ، وتجزع حين قبض عاريته ، الله أولى بك ، وبما أعطاك ، ولو علم الله فيك أيها العبد خيرا ، لنقل روحك مع ملك الأرواح ، فآجرني فيك ، وصرت شهيدا ، ولكنه على منك شرا ، فأخرك من أجله ، فعراك الله من المصيبة وخلصك من البلاء ، كما يخلص الزوان من القمح الخلاص .
ثم رجع إبليس إلى أصحابه خاسئا ذليلا ، فقال لهم : ماذا عندكم من القوة ؟ فإني لم أكلم فلبه . قال عفريت من عظمائهم : عندي من القوة ما إذا شئت صحت صوتا لا يسمعه ذو روح إلا خرجت مهجة نفسه ، قال له إبليس فأت الغنم ورعاتها ، فانطلق يؤم الغنم ورعاتها ، حتى إذا وسطها صاح صوتا جثمت أمواتا من عند آخرها ورعاؤها . ثم خرج إبليس متمثلا يقهرمان الرعاء ، حتى إذا جاء أيوب وجده وهو قائم يصلي ، فقال له القول الأول ، ورد عليه أيوب الرد الأول . ثم إن إبليس رجع إلى أصحابه ، فقال لهم : ماذا عندكم من القوة ، فإني لم أكلم قلب أيوب ، فقال عفريب من عظمائهم : عندي من القوة إذا شئت تحولت ريحا عاصفا تنسف كل شيء تأتي عليه ، حتى لا أبقي شيئا ، قال له إبليس : فأت الفدادين والحرث ، فانطلق يؤمهم . وذلك حين قربوا الفدادين ، وأنشئوا في الحرث ، والأتن وأولادها رتوع ، فلم يشعروا حتى هبت ريح عاصف ، تنسف كل شيء من ذلك ، حتى كأنه لم يكن . ثم خرج إبليس متمثلا بقهرمان الحرث ، حتى جاء أيوب وهو قائم يصلي ، فقال له مثل قوله الأول ، ورد عليه أيوب مثل رده الأول .
فلما رأى إبليس أنه قد أفنى ماله ، ولم ينجح منه . صعد سريعا ، حتى وقف من الله الموقف الذي كان يقفه : يا إلهي ، إن أيوب يرى أنك ما متعته بنفسه وولده ، فأنت معطيه المال ، فهل أنت مسلطي على ولده ؟ فإنها الفتنة المضلة ، والمصيبة التي لا تقوم لها قلوب الرجال ، ولا يقوى عليها صبرهم ، فقال الله تعالى له : انطلق ، فقد سلطتك على ولده ، ولا سلطان لك على قلبه ولا جسده ، ولا على عقله ، فانقض عدو الله جوادا ، حتى جاء بني أيوب وهم في قصرهم ، فلم يزل يزلزل بهم حتى تداعى من قواعده ، ثم جعل يناطح الجدر بعضها ببعض ، ويرميهم بالخشب والجندل ، حتى إذا مثل بهم كل مثله ، رفع به القصر ، حتى إذا أقله بهم ، فصاروا فيه منكسين ، انطلق أيوب متمثلا بالمعلم الذي كان يعلمهم الحكمة ، وهو جريح مشدوخ الوجه يسيل دمه ، ودماغه متغير لا يكاد يعرف من شدة التغير والمثلة التي جاء متمثلا فيها ، فلما نظر إليه أيوب هاله ، وحزن ودمعت عيناه ، وقال له : يا أيوب ، لو رأيت كيف أفلت من حيث أفلت ، والذي رمانا به من فوقنا ومن تحتنا ، ولو رأيت بينك كيف عذبوا ، وكيف مثل بهم ، وكيف قلبوا فكانوا منكسين على رؤوسهم ، تسيل دماءهم ودماغهم من أنوفهم وأجوافهم ، وتقطر من أشفارهم ، ولو رأيت كيف شقت بطونهم ، فتناثرت أمعاؤهم ، ولو رأيت كيف قذفوا بالخشب والجندل ، يشدخ دماغهم ، وكيف دق الخشب عظامهم ، وخرق جلودهم ، وقطع عصبهم ، ولو رأيت العصب عريانا ، ولو رأيت العظام متهشمة في الأجواف ، ولو رأيت الوجوه مشدوخة ، ولو رأيت الجدر تناطح عليهم ، ولو رأيت ما رأيت ، قطع قلبك ، فلم يزل يقول هذا ونحوه ، ولم يزل يرققه حتى رق أيوب فبكى ، وقبض قبضة من تراب ، فوضعها على رأسه ، فاغتنم إبليس الفرصة منه عند ذلك ، فصعد سريعا الذي كن من جزع أيوب ، مسرورا به ، ثم لم يلبث ايوب أن فاء وأبصر ، فاستغفر ، وصعد قرناؤه من الملائكة بتوبة منه ، فبدروا إبليس إلى الله ، فوجدوه قد علم بالذي رفع إليه من توبة أيوب ، فوقف إبليس خازيا ذليلا ، فقال : يا إلهي ن إنما هون على أيوب خطر المال والولد ، أنه يرى أنك ما متعته بنفسه ، فأنت تعيد له المال والولد ، فهل أنت مسلطي على جسده ؟ فأنا لك زعيم لئن ابتليته في جسده لينسينك ، وليكفرن بك ، و ليجحدنك نعمتك ، قال الله : انطلق قد سلطتك على جسده ، و لكن ليس لك سلطان على لسانه ، و لا على قلبه ، ولا على عقله .
فانقض عدو الله جوادا ، فوجد أيوب ساجدا ، فعجل قبل أي يرفع رأسه ، فأتاه من قبل الأرض في موضع وجهه ، فنفخ في منخره نفخة اشتعل منها جسده ، فترهل ، و نبتت به ثآليل مثل أليات الغنم ، ووقعت فيه حكة لا يملكها ، فحك بأظفاره حتى سقطت كلها ، ثم حك بالعظام ،وحك بالحجارة الخشنة ، و بقطع المسوح الخشنة ، يزل يحكه حتى نفد لحمه و تقطع ، ولما نغل جلد أيوب ، و تغير و أنتن ، أخرجه أهل القرية ، فجعلوه على تل ، و جعلوا له عريشان و رفضه خلق الله غير امرأته ، فكانت تختلف إليه بم يصلحه و يلزمه ، و كان ثلاثة من أصحابه اتبعوه على دينه ، فلما رأوا ما ابتلاه الله به رفضوه ، من غير أن يتركوا دينه و اتهموه ، يقال لأحدهم بلدد ، و أليفز ، صافر ، قال : فانطلق إليه الثلاثة ، و هو في بلائه ، فبكتوه ، فلما سمع منهم أقبل على ربه ، فقال أيوب صلى الله عليه وسلم : رب لأي شيء خلقتني ؟ ولو كنت إذ كرهتني في الخير تركتني فلم تخلقني ، يا ليتني كنت حيضة القتني أمي ، ويا ليتني مت في بطنها ، فلم أعرف شيئا ولم تعرفني ، ما الذنب الذي أذنبت لم يذنبه أحد غيري ؟ و ما العمل الذي عملت فصرفت وجهك الكريم عني ؟ لو كنت أمتني فألحقتني بآبائي ، فالموت كان أجمل بي ، فأسوة لي بالسلاطين الذي صفت من دونهم الجيوش ، يضربون عنهم بالسيوف ، بخلا بهم عن الموت، و حرصا على بقائهم ، أصبحوا في القبور جاثمين ، حتى ظنوا أنهم سيخلدون ، و أسوة لي بالملوك الذين كنزوا الكنوز ، و طمروا المطامير ، و جمعوا الجموع ، و ظنوا أنهم سيخلدون ، و أسوة لي بالجبارين الذين بنوا المدائن و الحصون ، و عاشوا فيها المئين من السنين ، ثم أصبحت خرابا ، مأوى للوحوش ، و مثنى للشياطين .
قال أليفز التيماني : قد أعيانا أمرك يا أيوب ، إن كلمناك فما نرجو للحديث منك موضعا ، و إن نسكت عنك مع الذي نرى فيك من البلاء ، فذلك علينا ، قد كنا نرى من أعمالك أعمالا كنا نرجو لك عليها من الثواب غير ما رأينا ن فإنما يحصد امرؤ ما زرع ن و يجزى بما عمل ، أشهد على الله الذي لا يقدر قدر عظمته ، ولا يحصى عدد نعمه ، الذي ينزل الماء من السماء ، فيحيي به الميت ، و يرفع به الخافض ، و بقوي به الضعيف ، الذي تضل حكمه الحكماء عند حكمته ، و علم العلماء عند علمه ، حتى تراهم من العي في ظلمة يموجون ، إن من رجا معونة الله هو القوي، و إن من توكل عليه هو المكفي ، هو الذي يكسر و يجبر ، و يجرح و يداوي .
قال أيوب : لذلك سكت فعضضت على لساني ، ووضعت لسوء الخدمة رأسي ، لأني علمت أن عقوبته غيرت نور وجهي ، و أن قوته نزعت قوة جسدي ، فأنا عبده ، ما قضى علي أصابني ، ور قوة لي إلا ما حمل على ، لو كانت عظامي من حديد ، و جسدي من نحاس ، و قلبي من حجارة ، لم أطق هذا الأمر ، و لكن هو ابتلاني ، و هو يحمله عني ، أتيتموني غضابا ، رهبتم قبل أن تسترهبوا ، و بكيتم من قبل أن تضربوا ، كيف بي لو قلت لكم : تصدقوا عني بأموالكم ، لعل الله أن يخلصني ، أو قربوا عني قربانا ، لعل الله أن يتقبله مني ، ويرضى عني ؟ إذا استيقظت تمنيت النوم ، رجاء أن أستريح ، فإذا نمت كادت تحود نفسي ، تقطعت أصابعي ، فإني لأرفع اللقمة من الطعام بيدي جميعا ، فما تبلغان فمي إلا على الجهد مني ، تساقطت لهواتي ، و نخر رأسي ، فما بين أذني من سداد ، حتى إن إحداهما لترى من الأخرى ، و إن دماغي ليسيل من فمي ، تساقط شعري عني فكأنما حرق بالنار وجهي ، وحدقتاي هما متدليتان على خدي ، ورم لساني حتى ملأ فمي ، فما أدخل فيه طعاما إلا غصني ، وورمت شفتاى حتى غطت العليا أنفي ، و السفلى ذقني ، تقطعت أمعائي في بطني ، فإني لأدخل الطعام فيخرج كما دخل ، ما أحسه ولا ينفعني ، ذهبت قوة رجلي ، فكأنهما قربتا ماء ملئتا ، لا أطيق حملهما ، أحمل لحافي بيدي و أسناني ، فما أطيق حمله ، حتى يحمله معي غيري ، ذهب المال فصرت أسأل بكفي ، فيطعمني من كنت أعوله اللقمة الواحدة ، فيمنها على و يعيرني ، هلك بني و بناتي ، و لو بقى منهم أحد أعانني على بلائي و نفعني ، و ليس العذاب بعذاب الدنيا ، إنه يزول عن أهلها و يموتون عنه ، و لكن طوبى لمن كانت له راحة في الدار التي لا يموت أهلها ، ولا يتحولون عن منازلهم ، السعيد من سعد هنالك ، و الشقي من شقي فيها .
قال بلدد : كيف يقوم لسانك بهذا القول ، و كيف تفصح به ، أتقول إن العدل يجور ، أم تقول إن القوي يضعف ؟ ابك على خطيئتك ، و تضرع إلى ربك عسى أن يرحمك ، و يتجاوز عن ذنبك ، و عسى إن كنت بريئا أن يجعل هذا لك ذخرا في آخرتك ، و إن كان قلبك قد قسا ، فإن قولنا لن ينفعك ، و لن يأخذ كيف يرجو أن يمنعه ، نو من جحد الحق كيف يرجو أن يوفي حقه ؟
قال أيوب : إني لأعلم أن هذا هو الحق ، لن يفلج العبد على ربه ، ولا يطيق أن يخاصمه ، فأي كلام لي معه , إن كان إلي القوة ؟ هو الذي سمك السماء فأقامها وحده ، وهو الذي يكشطها إذا شاء ، فتنطوي له ، و هو الذي سطح الأرض ، فدحاها وحده ، و نصب فيه الجبال الراسيات ، ثم هو الذي يزلزلها من أصولها حتى تعود أسافلها أعاليها ، و إن كان في الكلام ، فأي كلام لي معه ؟ من خلق العرش العظيم بكلمة واحدة ، فحشاه السماوات و الأرض و ما فيهما من الخلق ، فوسعه و هو في سعة واسعة ، و هو الذي كلم البحار ففهمت قوله ، و أمرها فلم تعد أمره ، و هو الذي يفقه الحيتان و الطير و كل دابة ، و هو الذي يكلم الموتى فيحييهم قوله ، و يكلم الحجارة فتفهم قوله ، و يأمرها فتطيعه .
قال أليفز : عظيم ما تقول يا أيوب ، إن الجلود لتقشعر من ذكر ما تقول ، إن ما أصابك ما أصابك بغير ذنب أذنبته ، مثل هذه الحدة و هذا القول أنزلك هذه المنزلة ، عظمت خطيئتك ، و كثر طلابك ، و غصبت أهل الأموال على أموالهم ، فلبست وهم عراة ، و أكلت وهم جياع ، و حبست عن الضعيف بابك ، و عن الجائع طعامك ، و عن المحتاج معروفك ، و أسررت ذلك و أخفيته في بيتك ، و أظهرت أعمالا كنا نراك تعملها ، فظننت أن الله لا يجزيك على ما ظهر منك ، و ظننت أن الله لا يطلع على ما غيبت في بيتك ، و كيف لا يطلع على ذلك و هو يعلم ما غيبت الأرضون ، و ما تحت الظلمات و الهواء ؟
قال أيوب صلى الله عليه و سلم : إن تكلمت لم ينفعني الكلام ، و إن سكت لم تعذروني ، قد وقع علي كيدي ، و أسخطت ربي بخطيئتي ، و أشمت أعدائي ، و أمكنتهم من عنقي ، و جعلتني للبلاء غرضا ، و جعلتني للفتنة نصبا ، لم تنفسني مع ذلك ، و لكن أتبعني ببلاء على إثر بلاء ، ألم أكن للغريب دارا ، و للمسكين قرارا ، و لليتيم وليا ، و للأرملة قيما ؟ ما رأيت غريبا إلا كنت له دارا مكان داره ، و قرارا مكان قراره ، ولا رأيت أيما إلا كنت لها قيما ترضى قيامه ، و أنا عبد ذليل ، إن أحسنت لم يكن لي كلام بإحسان ، لأن المن لربي و ليس لي ، و إن أسأت فبيده عقوبتي ، و قد وقع علي بلاء لو سلطته على جبل ضعف عن حمله ، فكيف يحمله ضعفي ؟
قال أليفز : أتحاج الله يا أيوب في أمره ، أم تريد أن تناصفه و أنت خاطىء ، أو تبرئها و أنت غير بريء ؟ خلق السماوات و الأرض بالحق ، و أحصى ما فيهما من الخلق ، فكيف لا يعلم ما أسررت ، و كيف لا يعلم ما عملت ، فيجزيك به ؟ وضع الله ملائكة صفوفا حول عرشه ، و على أرجاء سماواته ، ثم احتجب بالنور ، فأبصاره عنه كليلة ، و قوتهم عنه ضعيفة ، و عزيزهم عنه ذليل ، و أنت تزعم أن لو خاصمك ، و أدلى إلى الحكم معك ، و هل تراه فتناصفه ؟ أم هل تسمعه فتحاوره ؟ قد عرفنا فيك قضاءه ، إنه من أراد أن يرتفع و ضعه ، و من اتضع له رفعه .
قال أيوب صلى الله عليه و سلم : إن أهلكني فمن ذا الذي يعرض له في عبده ، و يسأله عن أمره ، لا يرد غضبه شيء إلا رحمته ، و لا ينفع عبده إلا التضرع له ، قال : رب أقبل علي برحمتك ، و أعلمني ما ذنبي الذي أذنبت ، أو لأي شيء صرفت وجهك الكريم عني ، و جعلتني لك مثل العدو ، و قد كنت تكرمن ؟ ليس يغيب عنك شيء ، تحصي قطر الأمطار ، وورق الأشجار ، و ذر التراب ، أصبح جلدي كالثوب العفن ، بأيه أمسكت سقط في يدي ، فهب لي قربانا من عندك ، و فرجا من بلائي ، بالقدرة التي تبعث موتى العباد ، و تنشر بها ميت البلاد ، و لا تهلكني بغير أن تعلمني ما ذنبي ، و لا تفسد عمل يديك ، و إن كنت غنيا عني ، ليس ينبغي في حكمك ظلم ، ولا في نقمتك عجل ، و إنما يحتاج إلى الظلم الضعيف ، و إنما يعجل من يخاف الفوت ، ولا تذكرني خطئي و ذنوبي ، اذكر كيف خلقتني من طين ، فجعلت مضغة ، ثم خلقت المضغة عظاما ، و كسوت العظام لحما و جلدا ، و جعلت العصب و العروق لذلك قواما و شدة ، وربيتني صغيرا ، و رزقتني كبيرا ، ثم حفظت عهدك ، و فعلت أمرك ، فإن أخطأت فبين لي ، و لا تهلكني غما نو أعلمني ذنبقي ، فإن لم أرضك ، فأنا أهل أن تعذبني ، و إن كنت من بين خلقك تحصي علي عملي ، و أستغفرك فلا تغفر لي ، إن أحسنت لم أرفع رأسي ، و إن أسأت لم تبلعني ريقي ،و لم تقلني عثرتي ،و قد ترى ضعفي تحتك ،و تضرعي لك ، فلم خلقتني ؟ أولم أخرجتني من بطن أمي ؟ لو كنت كمن لم يكن لكان خيرا لي ، فليست الدنيا عندي بخطر لغضبك ، و ليس جسدي يقوم بعذابك ، فارحمني و أذقني طعم العافية ، من قبل أن أصير إلى ضيق القبر ، و ظلمة الأرض ، غم الموت .
قال صافر : قد تكلمت يا أيوب ، و ما يطيق أحد أن يحبس فمك ، تزعم انك بريء ، فهل ينفعك إن كنت بريئا ، و عليك من يحصي عملك ؟ و تزعم أنك تعلم أن الله يغفر لك ذنوبك ، هل تعلم سمك السماء كم بعده ؟ أم هل تعلم عمق الهواء كم بعده ؟ أم هل تعلم أي الأرض أعرضه ا؟ أم عندك لها من مقدار تقدرها به ؟ أم هل تعلم أي البحر أعمقه ؟ أم هل تعلم بأي تحبشه ؟ فإن كنت تعلم هذا العلم و إن كنت لا تعلمه ، فإن الله خلقه و هو يحصيه ، لو تركت كثرة الحديث ، و طلبت إلى ربك ، رجوت أن يرحمك ، فبذلك تستخرج رحمته ، و إن كنت تقيم على خطيئتك ، و ترفع إلى الله يديك عند الحاجة ، و أنت مصر على ذنبك إصرار الماء الجاري في صبب لا يستطاع إحباسه ، فعند طلب الحاجات إلى الرحمن تسود وجوه الأشرار ، و تظلم عيونهم ، و عند ذلك يسر بنجاح حوائجهم ، الذين تركوا الشهوات تزينا بذلك عند ربهم ، و تقدموا في التضرع ، ليستحقوا بذلك الرحمة حين يحتاجون إليها ، و هم الذين كابدوا الليل ، و اعتزلوا الفرش ، و انتظروا الأسجار .
قال أيوب : أنتم قوم قد أعجبتكم أنفسكم ، و قد كنت فيما خلا و الرجال يوقرونني ، و أنا معروف حقي ، منتصف من خصمي ، قاهر لمن هو اليوم يقهرني ، يسألني عن علم غيب الله لا أعلمه ، و يسألني ، فلعمري ما نصح الأخ لأخيه حين نزل به البلاء كذلك ، و لكنه يبكي معه ، و إن كنت جادا فإن عقلي يقصر عن الذي تسألني عنه ، فسل طير السماء هل تخبرك ؟ و سل وحوش الأرض هل ترجع إليك ؟ و سل سباع البرية هل تجيبك ؟ و سل حيتان البحر هل تصف لك كل ما عددت ؟ تعلم أن صنع هذا بحكمته ، و هيأه بلطفه ، أما يعلم ابن آدم من الكلام ما سمع بأذنيه ، و ما طعم بفيه ، و ما شم بأنفه ، و أن العلم الذي سألت عنه لا يعلمه إلا الله الذي خلقه ، له الحكمة و الجبروت ، و له العظمة و اللطف ، و له الجلال و القدرة ، إن أفسد فمن ذا الذي يصلح ؟ و إن أعجم فمن ذا الذي يفصح ؟ إن ننظر إلى البحار يبست من خوفه ، و إن أذن له ابتلعت الأرض ، فإنما يحملها بقدرته هو الذي تبهت الملوك عند ملكه ، و تطيش العلماء عند علمه ،نو تعيا الحكماء عند حكمته ، و يخسأ المبطلون عند سلطانه ، هو الذي يذكر المنسي ، و ينسى المذكور ، ويجري الظلمات و النور هذا علمي ، و خلقه أعظم من أن يحصيه عقلي ، و عظمته أعظم من أن يقدرها مثلي .
قال بلدد : إن المنافق يجزى بما أسر من نفاقه ، و تضل عنه العلانية التي خادع بها ، و توكل على الجزاء بها الذي عملها ،و يهلك ذكره من الدنيا ، و يظلم نوره في الآخرة ، و يوحش سبيله ،و توقعه في الأحبولة سريرته ، و ينقطع اسمه من الأرض ، فلا ذكر فيها و لا عمران ، لا يرثه ولد مصلحون من بعده ، ولا يبقى له أصل يعرف به ،و يبهت من يراه ، و تقف الأشعار عند ذكره .
قال أيوب : إن أكن غويا فعلي غواي ، و إن أكن بريا فأي منعة عندي ؟ إن صرخت فمن ذا الذي يصرخني ، و إن سكت فمن ذا الذي يعذرني ، ذهب رجائي و انقضت أحلامي ، وتنكرت لي معارفي ، دعوت غلامي ، فلم يجبني ، و تضرعت لأمتي فلم ترحمني ،وقع علي البلاء فرفضوني ،أنتم كنتم أشد علي من مصيبتي ،انظروا و ابهتوا من العجائب التي في جسدي ،أما سمعتم بما أصابني ، و ما شغلكم عني ما رأيتم بي ؟ لو كان عبد يخاصم ربه ، رجوت أن أتغلب عند الحكم ، و لكن لي ربا جبارا تعالى فوق سماواته ، و ألقاني ها هنا ، و هنت عليه ، لا هن عذرني بعذري ، ولا هن أدناني ، فأخاصم عن نفسي . يسمعني و لا أسمعه ، و يراني ولا أراه ، و هو محيط بي ، و لو تجلى لي لذابت كليتاي ، و صعق روحي ، ولو نفسني فأتكلم بملء فمي ، و نزع الهيبة مني ، علمت بأي ذنب عذبني . نودي فقيل : يا أيوب ، قال : لبيك ، قال : أنا هذا قد دنوت منك ، فقم فاشدد إزارك ، و قم مقام جبار ، فإنه لا ينبغي لي أن يخاصمني إلا جبار مثلي ، و لا ينبغي أن يخاصمني إلا من يجعل الزمام في فم الأسد ، والسخال في فم العنقاء ، و اللحم في فم التنين ، و يكيل مكيالا من النور ، ويزن مثقالا من الريح ، و يصر صرة من الشمس ،نو يرد أمس لغد ، لقد منتك نفسك أمرا ما يبلغ بمثل قوتك ، و لو كنت إذ منتك نفسك ذلك و دعتك إليه ، تذكرت أي مرام رامت بك ، أردت أن تخاصمني بغيك ، أم أردت أن تحاجني بخطئك ، أم أردت أن تكاثرني بضعفك ، أين كنت مني يوم خلقت الأرض فوضعتها على أساسها هل علمت بأي مقدار قدرتها ؟ أم كنت معي تمر بأطرافها ؟ أم تعلم ما بعد زواياها ؟ أم على أي شيء وضعت أكنافها ؟ أبطاعتك حمل الماء الأرض ؟ أم بحكمتك كانت الأرض للماء غطاء ؟ أين كنت مني يوم رفعت السماء سقفا ف الهواء لا بعلائق ثبتت من فوقها ، و لا يحملها دعائم من تحتها ؟ هل يبلغ من حكمتك أن تجري نورها ، أو تسير نجومها ، أو يختلف بأمرك ليلها و نهارها ، أين كنت مني يوم سجرت البحار و أنبعت الأنهار أقدرتك حبست أمواج البحار على حدودها ، أم قدرتك فتحت الأرحام حين بلغت مدتها ؟ أين أنت مني يوم صببت الماء على التراب و نصبت شوامخ الجبال ، هل لك من ذراع تطيق حملها ؟ أم هل تدري كم من مثقال فيها ؟ أم أين الماء الذي أنزل من السماء ؟ هل تدري أم تلده ؟ أحكمتك أحصت القطر ، و قسمت الأرزاق ، أم قدرتك تثير السحاب ، و تغشيه الماء ؟ هل تدري ما أصوات الرعود ؟ أم من أي شيء لهب البروق ؟ هل رأيت عمق البحور ؟ أم هل تدري ما بعد الهواء ؟ أم هل خزنت أرواح الأموات ؟ أم هل تدري أين خزانة الثلج ، أو أين خزائن البرد ؟ أم أين جبال البرد ؟ أم هل تدري أين خزانة الليل بالنهار ، و أين خزانة النهار بالليل ، و أين طريق النور ؟ و بأي لغة تتكلم الأشجار ؟ و أين خزانة الريح ، و كيف تحبسه الأغلاق ؟ ومن جعل العقول ف أجواف الرجال ؟ و من شق الأسماع و الأبصار و من ذلك الملائكة لملكه ؟ و قهر الجبارين بجبروته ؟ و قسم أرزاق الدواب بحكمته ؟ و من قسم للأسد أرزاقها ؟ و عرف الطير معايشها ، و عطفها على أفراخها ؟ من أعتق الوحش من الخدمة ؟ و جعل مساكنها البرية ؟ لا تستأنس بالأصوات ، و لا تهاب المسلطين ؟ أمن حكمتك تفرعت أفراخ الطير و أولاد لأمهاتها ؟ أم من حكمتك عطفت أمهاتها عليها ، حتى أخرجت لهه الطعام من بطونها ، و آثرتها بالعيش على نفوسها ؟ أم من حكمتك يبصر العقاب ، فأصبح في أماكن القتلى ؟ أين أنت مني يوم خلقت بهموت ، مكانه في منقطع التراب ، و الوتينان يحملان الجبال و القرى و العمران ، آذانهما كأنها شجر الصنوبر الطوال ، رؤوسهما كأنها آكام الجبال ، و عروق أفخاذهما كأنها أوتاد الحديد ، و كأن جلودهما فلق الصخور ، و عظامهما كأنها عمد النحاس ، هما رأسا خلقي الذين خلقت للقتال ، أأنت ملأت جلودهما لحما ؟ أم أنت ملأت رؤوسهما دماغا ؟ أم هل لك في خلقهما من شرك ؟ أم لك بالقوة التي عملتها يدان ؟ أو هل يبلغ من قوتك أن تخطم على أنوفهما ، أو تضع يدك على رؤوسهما ، أو تقعد لهما على طريق فتحبسهما ، أو تصدهما عن قوتهما ؟ أين أنت يوم خلقت التنين و رزقه في البحر ، و مسكنه في السحاب ، عيناه توقدان نارا ، و منخراه يثوران دخانا ، أدناه مثل قوس السحاب ، يثور منهما لهب كأنه إعصار العجاج ، جوفه يحترق ، و نفسه يلتهب ، و زبده كأمثال الصخور ، و كأن صريف أسنانه صوت الصواعق ، و كأن نظر عينيه لهب البرق ، أسراره لا تدخله الهموم ، تمر به الجيوش و هو متكىء ،لا يفزعه شيء ليس فيه مفصل زبر الحديد عنده مثل التبن ، و النحاس عنده مثل الخيوط ، لا يفزع من النشاب ، و لا يحس وقع الصخور على جسده ، و يضحك من النيازك ، و يسير في الهواء كأنه عصفور ، و يهلك كل شيء يمر به ملك الوحوش ، و إياه آثرت بالقوة على خلقي ،هل أنت آخذه بأحبولتك فرابطه بلسانه ؟ أو واضع اللجام في شدقه ؟ أتظنه يوفي بعهدك ؟ أو يسبح من خوفك ؟ هل تحصي عمره ؟ أم هل تدري أجله ؟ أو تفوت رزقه ؟ أم هل تدري ماذا خرب من الأرض ؟ أم ماذا يخرب فيما بقي من عمره ؟ أتطيق غضبه حين يغضب ؟ أم تأمره فيطيعك ؟ تبارك الله تعالى .
قال أيوب صلى الله عليه و سلم : قصرت عن هذا الأمر الذي تعرض لي ، ليت الأرض انشقت بي ، فذهبت في بلائي ، و لم أتكلم بشيء يسخط ربي ، اجتمع على البلاء ، إلهي جعلتني لك مثل العدو ، و قد كنت تكرمني ، و تعرف نصحي ، و قد علمت أن الذي ذكرت صنع يديك ، و تدبير حكمتك ، و أعظم من هذا ما شئت عملت ، لا يعجزك شيء ، ولا يخفى عليك خافية ، و لا تغيب عنك غائبة ، من هذا الذي يظن أن شئت عملت ، لا يعجز شيء ، ولا يخفى عليك خافية ، ولا تغيب عنك غائبة ، من هذا الذي يظن أن يسر عنك سرا ، وأنت تعلم ما يخطر على القلوب ، وقد علمت منك في بلائي هذا ما لم أكن أعلم ، وخفت حين بلوت أمرك أكثر مما كنت أخاف ، إنما كنت أسمع بسطوتك سمعا ، فأما الآن فهو بصر العين ، إنما تكلمت حين تكلمت لتعذرني ، وسكت حين سكت لترحمني كلمة زلت فلن أعود ، قد وضعت يدي على فمي ، وعضضت على لساني ، وألصقت بالتراب خدي ، ودست وجهي لصغاري ن وسكت كما أسكتتني خطيئتي ، فاغفر لي ما قلت فلن أعود لشيء تكرهه مني .
قال الله تبارك وتعالى : يا أيوب نفذ فيك علمي ، وبحلمي صرفت عنك غضبي ، إذ خطئت فقد غفرت لك ، ورددت عليك أهلك ومالك ومثلهم معهم ، فاغتسل بهذا الماء ، فإن فيه شفاءك ، وقرت عن صحابتك قربانا ، واستغفر لهم ، فإنهم قد عصوني فيك .

قوله تعالى: " وأيوب إذ نادى ربه " أي واذكر أيوب إذ نادى ربه. " أني مسني الضر " أي نالني في بدني ضر وفي مالي وأهلي. قال ابن عباس: سمي أيوب لأنه آب عظيم إلى الله تعالى في كل حال. وروي أن أيوب عليه السلام كان رجلاً من الروم ذا مال عظيم، وكان براً تقياً رحيماً بالمساكين، يكفل الأيتام والأرامل، ويكرم الضيف، ويبلغ ابن السبيل، شاكراً لأنعم الله تعالى، وأنه دخل مع قومه على جبار عظيم فخاطبوه في أمره، فجعل أيوب يلين له في القول من أجل زرع كان له فامتحنه الله بذهاب ماله وأهله، وبالضر في جسمه حتى تناثر لحمه وتدود جسمه، حتى أخرجه أهل قريته إلى خارج القرية، وكانت امرأته تخدمه. قال الحسن : مكث بذلك تسع سنين وستة أشهر. فلما أراد الله أن يفرج عنه قال الله تعالى له: " اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب " [ص: 42] فيه شفاؤك، وقد وهبت لك أهلك ومالك وولدك ومثلهم معهم. وسيأتي في ((ص)) ما للمفسرين في قصة أيوب من تسليط الشيطان عليه، والرد عليهم إن شاء الله تعالى. واختلف في قول أيوب: " مسني الضر " على خمسة عشر قولاً: الأول: أنه وثب ليصلي فلم يقدر على النهوض فقال: " مسني الضر " إخبار عن حاله، لا شكوى لبلائه، رواه أنس مرفوعاً. الثاني: أنه إقرار بالعجز فلم يكن منافياً للصبر. الثالث: أنه سبحانه أجراه على لسانه ليكون حجة لأهل البلاء بعده في الإفصاح بما ينزل بهم. الرابع: أجراه على لسانه إلزاماً في صفة الآدمي في الضعف عن تحمل البلاء. الخامس: أنه انقطع الوحي عنه أربعين يوماً فخاف هجران ربه فقال: " مسني الضر ". وهذا قول جعفر بن محمد. السادس: أن تلامذته الذين كانوا يكتبون عنه لما أفضت حاله إلى ما انتهت إليه محوا ما كتبوا عنه، وقالوا: ما لهذا عند الله قدر، فاشتكى الضر في ذهاب الوحي والدين من أيدي الناس. وهذا مما لم يصح سنده. والله أعلم، قاله ابن العربي. السابع: أن دودة سقطت من لحمه فأخذها وردها في موضعها فعقرته فصاح " مسني الضر " فقيل: أعلينا تتصبر. قال ابن العربي: وهذا بعيد جداً مع أنه يفتقر إلى نقل صحيح، ولا سبيل إلى وجوده. الثامن: أن الدود كان يتناول بدنه فصبر حتى تناولت دودة قلبه وأخرى لسانه، فقال: " مسني الضر " لاشتغاله عن ذكر الله. قال ابن العربي: وما أحسن هذا لو كان له سند ولم تكن دعوى عريضة. التاسع: أنه أبهم عليه جهة أخذ البلاء له هل هو تأديب، أو تعذيب، أو تخصيص، أو تمحيص، أو ذخر أو طهر، فقال: " مسني الضر " أي ضر الإشكال في جهة أخذ البلاء. قال ابن العربي : وهذا غلو لا يحتاج إليه. العاشر: أنه قيل له سل الله العافية فقال: أقمت في النعيم سبعين سنة وأقيم في البلاء سبع سنين وحينئذ أسأله فقال: " مسني الضر ". قال ابن العربي : وهذا ممكن ولكنه لم يصح في إقامته مدةً خبر ولا في هذه القصة. الحادي عشر: أن ضره قول إبليس لزوجه اسجدي لي فخاف ذهاب الإيمان عنها فتهلك ويبقى بغير كافل. الثاني عشر: لما ظهر به البلاء قال قومه: قد أضربنا كونه معنا وقذره فليخرج عنا، فأخرجته امرأته إلى ظاهر البلد، فكانوا إذا خرجوا رأوه وتطيروا به وتشاؤموا برؤيته، فقالوا: ليبعد بحيث لا نراه. فخرج إلى بعد من القرية، فكانت امرأته تقوم عليه وتحمل قوته إليه. فقالوا: إنها تتناوله وتخالطنا فيعود بسببه ضره إلينا. فأرادوا قطعها عنه، فقال: " مسني الضر ". الثالث عشر: قال عبد الله بن عبيد بن عمير: كان لأيوب أخوان فأتياه فقاما من بعيد لا يقدران أن يدنوا منه من نتن ريحه، فقال أحدهما: لو علم الله في أيوب خيراً ما ابتلاه بهذا البلاء، فلم يسمع شيئاً أشد عليه من هذه الكلمة، فعند ذلك قال: " مسني الضر " ثم قال: ((اللهم إن كنت تعلم أني لم أبت شبعان قط وأنا أعلم مكان جائع فصدقني)) فنادى مناد من السماء ((أن صدق عبدي))وهما يسمعان فخرا ساجدين. الرابع عشر: أن معنى " مسني الضر " من شماتة الأعداء، ولهذا قيل له: ما كان أشد عليك في بلائك؟ قال شماتة الأعداء. قال ابن العربي : وهذا ممكن فإن الكليم قد سأله أخوه العافية من ذلك فقال: " إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء " [الأعراف: 150]. الخامس عشر: أن امرأته كانت ذات ذوائب فعرفت حين منعت أن تتصرف لأحد بسببه ما تعود به عليه، فقطعت ذوائبها واشترت بها ممن يصلها قوتاً وجاءت به إليه، وكان يستعين بذوائبها في تصرفه وتنقله، فلما عدمها وأراد الحركة في تنقله لم يقدر قال: " مسني الضر ". وقيل: إنها لما اشترت القوت بذوائبها جاءه إبليس في صفة رجل وقال له: إن أهلك بغت فأخذت وحلق شعرها. فحلف أيوب أن يجلدها، فكانت المحنة على قلب المرأة أشد من المحنة على قلب أيوب.
قلت: وقول سادس عشر: ذكره ابن المبارك : أخبرنا يونس بن يزيد عن عقيل عن ابن شهاب " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر يوماً أيوب النبي صلى الله عليه وسلم وما أصابه من البلاء، الحديث. وفيه: أن بعض إخوانه ممن صابره ولازمه قال: يا نبي الله لقد أعجبني أمرك وذكرته إلى أخيك وصاحبك، أنه قد ابتلاك بذهاب الأهل والمال وفي جسدك، منذ ثماني عشرة سنة حتى بلغت ما ترى، ألا يرحمك فيكشف عنك! لقد أذنبت ذنباً ما أظن أحداً بلغه! فقال أيوب عليه السلام: ((ما أدري ما يقولان غير أن ربي عز وجل يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتزاعمان وكل يحلف بالله - أو على النفر يتزاعمون - فأنقلب إلى أهلي فأكفر عن أيمانهم إرادة ألا يأثم أحد ذكره ولا يذكره أحد إلا بالحق)) فنادى ربه " أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين " وإنما كان دعاؤه عرضاً عرضه على الله تبارك وتعالى يخبره بالذي بلغه، صابراً لما يكون من الله تبارك وتعالى فيه ". وذكر الحديث. وقول سابع عشر: سمعته ولم أقف عليه أن دودة سقطت من جسده فطلبها ليردها إلى موضعها فلم يجدها فقال: " مسني الضر " لما فقد من أجر ألم تلك الدودة، وكان أراد أن يبقى له الأجر موفراً إلى وقت العافية، وهذا حسن إلا أنه يحتاج إلى سند. قال العلماء: ولم يكن قوله " مسني الضر " جزعا، لأن الله تعالى قال: " إنا وجدناه صابرا " [ص: 44] بل كان ذلك دعاء منه، والجزع في الشكوى إلى الخلق لا إلى الله تعالى، والدعاء لا ينافي الرضا. قال الثعلبي سمعت أستاذنا أبا القاسم بن حبيب يقول: حضرت مجلساً غاصاً بالفقهاء والأدباء في دار السلطان، فسئلت عن هذه الآية بعد إجماعهم على أن قول أيوب كان شكاية وقد قال الله تعالى، " إنا وجدناه صابرا " [ص: 44]
يذكر تعالى عن أيوب عليه السلام, ما كان أصابه من البلاء في ماله وولده وجسده, وذلك أنه كان له من الدواب والأنعام والحرث شيء كثير وأولاد ومنازل مرضية, فابتلى في ذلك كله وذهب عن آخره, ثم ابتلي في جسده, يقال: بالجذام في سائر بدنه, ولم يبق منه سليم سوى قلبه ولسانه, يذكر بهما الله عز وجل, حتى عافه الجليس, وافرد في ناحية من البلد, ولم يبق أحد من الناس يحنو عليه سوى زوجته كانت تقوم بأمره, ويقال: إنها احتاجت, فصارت تخدم الناس من أجله, وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أشد الناس بلاء الأنبياء, ثم الصالحون, ثم الأمثل فالأمثل" وفي الحديث الاخر "يبتلى الرجل على قدر دينه, فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه" وقد كان نبي الله أيوب عليه السلام غاية في الصبر. وبه يضرب المثل في ذلك. وقال يزيد بن ميسرة : لما ابتلى الله أيوب عليه السلام بذهاب الأهل والمال والولد, ولم يبق شيء له أحسن الذكر, ثم قال: أحمدك رب الأرباب, الذي أحسنت إلي, أعطيتني المال والولد فلم يبق من قلبي شعبة إلا قد دخله ذلك, فأخذت ذلك كله مني, وفرغت قلبي, فليس يحول بيني وبينك شيء, ولو يعلم عدوي إبليس بالذي صنعت حسدني. قال: فلقي إبليس من ذلك منكراً. قال: وقال أيوب عليه السلام: يا رب إنك أعطيتني المال والولد, فلم يقم على بابي أحد يشكوني لظلم ظلمته, وأنت تعلم ذلك, وأنه كان يوطأ لي الفراش فأتركها, وأقول لنفسي يا نفس إنك لم تخلقي لوطء الفراش ما تركت ذلك إلا ابتغاء وجهك. رواه ابن أبي حاتم .
وقد روي عن وهب بن منبه في خبره قصة طويلة, ساقها ابن جرير وابن أبي حاتم بالسند عنه, وذكرها غير واحد من متأخري المفسرين, وفيها غرابة تركناها لحال الطول, وقد روي أنه مكث في البلاء مدة طويلة ثم اختلفوا في السبب المهيج له على هذا الدعاء, فقال الحسن وقتادة : ابتلي أيوب عليه السلام سبع سنين وأشهراً, ملقى على كناسة بني إسرائيل, تختلف الدواب في جسده, ففرج الله عنه وأعظم له الأجر وأحسن عليه الثناء. وقال وهب بن منبه : مكث في البلاء ثلاث سنين, لا يزيد ولا ينقص وقال السدي : تساقط لحم أيوب حتى لم يبق إلا العصب والعظام, فكانت امرأته تقوم عليه وتأتيه بالرماد يكون فيه, فقالت له امرأته لما طال وجعه: يا أيوب لو دعوت ربك يفرج عنك, فقال: قد عشت سبعين سنة صحيحاً, فهو قليل لله أن أصبر له سبعين سنة, فجزعت من ذلك, فخرجت فكانت تعمل للناس بالأجر وتأتيه بما تصيب فتطعمه, وإن إبليس انطلق إلى رجلين من أهل فلسطين, كانا صديقين له وأخوين, فأتاهما فقال: أخوكما أيوب أصابه من البلاء كذا وكذا, فأتياه وزوراه, واحملا معكما من خمر أرضكما, فإنه إن شرب منه برىء, فأتياه فلما نظرا إليه بكيا, فقال: من أنتما ؟ فقالا: نحن فلان وفلان, فرحب بهما وقال: مرحباً بمن لا يجفوني عند البلاء, فقالا: يا أيوب لعلك كنت تسر شيئاً وتظهر غيره, فلذلك ابتلاك الله ؟ فرفع رأسه إلى السماء فقال: هو يعلم, ما أسررت شيئاً أظهرت غيره, ولكن ربي ابتلاني لينظر أصبر أم أجزع. فقالا له: يا أيوب اشرب من خمرنا, فإنك إن شربت منه برأت. قال: فغضب, وقال: جاءكما الخبيث فأمركما بهذا ؟ كلامكما وطعامكما وشرابكما علي حرام, فقاما من عنده, وخرجت امرأته تعمل للناس, فخبزت لأهل بيت لهم صبي, فجعلت لهم قرصاً, وكان ابنهم نائماً, فكرهوا أن يوقظوه فوهبوه لها, فأتت به إلى أيوب فأنكره وقال: ما كنت تأتيني بهذا, فما بالك اليوم ؟ فأخبرته الخبر, قال: فلعل الصبي قد استيقظ فطلب القرص فلم يجده فهو يبكي على أهله, فانطلقي به إليه, فأقبلت حتى بلغت درجة القوم, فنطحتها شاة لهم, فقالت: تعس أيوب الخطاء, فلما صعدت وجدت الصبي قد استيقظ وهو يطلب القرص ويبكي على أهله لا يقبل منهم شيئاً غيره, فقالت: رحمه الله, يعني أيوب, فدفعت إليه القرص ورجعت, ثم إن إبليس أتاها في صورة طبيب, فقال لها: إن زوجك قد طال سقمه, فإن أراد أن يبرأ فليأخذ ذبابا فليذبحه باسم صنم بني فلان, فإنه يبرأ ويتوب بعد ذلك, فقالت ذلك لأيوب, فقال: قد أتاك الخبيث, لله علي إن برأت أن أجلدك مائة جلدة, فخرجت تسعى عليه, فحظر عنها الرزق, فجعلت لا تأتي أهل بيت فيريدونها, فلما اشتد عليها ذلك وخافت على أيوب الجوع حلقت من شعرها قرناً فباعته من صبية من بنات الأشراف, فأعطوها طعاماً طيباً كثيراً, فأتت به إلى أيوب, فلما رآه أنكره وقال: من أين لك هذا ؟ قالت: عملت لأناس فأطعموني, فأكل منه, فلما كان الغد خرجت فطلبت أن تعمل فلم تجد, فحلقت أيضاً قرنا فباعته من تلك الجارية, فأعطوها أيضاً من ذلك الطعام, فأتت به أيوب فقال: والله لا أطعمه حتى أعلم من أين هو, فوضعت خمارها, فلما رأى رأسها محلوقاً جزع جزعاً شديداً, فعند ذلك دعا الله عز وجل, فقال: "نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين".
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي , حدثنا موسى بن إسماعيل , حدثنا حماد , حدثنا أبو عمران الجوني عن نوف البكالي أن الشيطان الذي عرج في أيوب كان يقال له مبسوط, قال: وكانت امرأة أيوب تقول: ادع الله فيشفيك, فجعل لا يدعو حتى مر به نفر من بني إسرائيل, فقال بعضهم لبعض: ما أصابه ما أصابه إلا بذنب عظيم أصابه, فعند ذلك قال: "نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين". وحدثنا أبي , حدثنا أبو سلمة , حدثنا جرير بن حازم عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال: كان لأيوب عليه السلام أخوان, فجاءا يوماً فلم يستطيعا أن يدنوا منه من ريحه, فقاما من بعيد, فقال أحدهما للاخر: لو كان الله علم من أيوب خيراً ما ابتلاه بهذا, فجزع أيوب من قولهما جزعاً لم يجزع من شيء قط, فقال: اللهم إن كنت تعلم أني لم أبت ليلة قط شبعان وأنا أعلم مكان جائع, فصدقني, فصدق من السماء وهما يسمعان, ثم قال: اللهم إن كنت تعلم أني لم يكن لي قميصان قط, وأنا أعلم مكان عار, فصدقني, فصدق من السماء وهما يسمعان, ثم قال: اللهم بعزتك, ثم خر ساجداً, فقال: اللهم بعزتك لا أرفع رأسي أبداً حتى تكشف عني, فما رفع رأسه حتى كشف عنه.
وقد رواه ابن أبي حاتم من وجه آخر مرفوعاً بنحو هذا, فقال: أخبرنا يونس بن عبد الأعلى , أخبرنا ابن وهب , أخبرني نافع بن يزيد عن عقيل عن الزهري عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن نبي الله أيوب لبث به بلاؤه ثماني عشرة سنة, فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه كانا من أخص إخوانه له, كانا يغدوان إليه ويروحان, فقال أحدهما لصاحبه: تعلم والله لقد أذنب أيوب ذنباً ما أذنبه أحد من العالمين, فقال له صاحبه: وما ذاك ؟ قال: منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه الله فيكشف ما به, فلما راحا إليه لم يصبر الرجل حتى ذكر له, فقال أيوب عليه السلام: ما أدري ما تقول, غير أن الله عز وجل يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان فيذكران الله, فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما كراهية أن يذكرا الله إلا في حق, قال: وكان يخرج في حاجته فإذا قضاها أمسكت امرأته بيده حتى يبلغ, فلما كان ذات يوم أبطأت عليه, فأوحى الله إلى أيوب في مكانه أن " اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب " " رفع هذا الحديث غريب جداً. وروى ابن أبي حاتم : حدثنا أبي , حدثنا موسى بن إسماعيل , حدثنا حماد , أخبرنا علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس قال: وألبسه الله حلة من الجنة, فتنحى أيوب فجلس في ناحية, وجاءت امرأته فلم تعرفه, فقالت: يا عبد الله أين ذهب هذا المبتلى الذي كان ههنا لعل الكلاب ذهبت به أو الذئاب, فجعلت تكلمه ساعة. فقال: ويحك أنا أيوب. قالت: أتسخر مني يا عبد الله ؟ فقال: ويحك أنا أيوب قد رد الله علي جسدي, وبه قال ابن عباس , ورد عليه ماله وولده عياناً ومثلهم معهم. وقال وهب بن منبه : أوحى الله إلى أيوب قد رددت عليك أهلك ومالك, ومثلهم معهم. فاغتسل بهذا الماء فإن فيه شفاءك وقرب عن صحابتك قرباناً, واستغفر لهم فإنهم قد عصوني فيك. رواه ابن أبي حاتم .
وقال أيضاً: حدثنا أبو زرعة , حدثنا عمرو بن مرزوق , حدثنا همام عن قتادة عن النضر بن أنس عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لما عافى الله أيوب أمطر عليه جراداً من ذهب, فجعل يأخذ منه بيده ويجعله في ثوبه, قال: فقيل له: يا أيوب أما تشبع ؟ قال: يا رب ومن يشبع من رحمتك" أصله في الصحيحين وسيأتي في موضع آخر.
وقوله: "وآتيناه أهله ومثلهم معهم" قد تقدم عن ابن عباس أنه قال: ردوا عليه بأعيانهم, وكذا رواه العوفي عن ابن عباس أيضاً, وروي مثله عن ابن مسعود ومجاهد , وبه قال الحسن وقتادة , وقد زعم بعضهم أن اسم زوجته رحمة, فإن كان أخذ ذلك من سياق الاية فقد أبعد النجعة, وإن كان أخذه من نقل أهل الكتاب وصح ذلك عنهم, فهو مما لا يصدق ولا يكذب, وقد سماها ابن عساكر في تاريخه رحمه الله تعالى: قال: ويقال اسمها ليا بنت منشا بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم, قال: ويقال ليا بنت يعقوب عليه السلام زوجة أيوب كانت معه بأرض الثنية, وقال مجاهد : قيل له: يا أيوب إن أهلك لك في الجنة, فإن شئت أتيناك بهم, وإن شئت تركناهم لك في الجنة وعوضناك مثلهم ؟ قال: لا بل اتركهم لي في الجنة, فتركوا له في الجنة وعوض مثلهم في الدنيا. وقال حماد بن زيد عن أبي عمران الجوني عن نوف البكالي قال: أوتى أجرهم في الاخرة وأعطي مثلهم في الدنيا. قال: فحدثت به مطرفاً, فقال: ما عرفت وجهها قبل اليوم, وكذا روي عن قتادة والسدي وغير واحد من السلف, والله أعلم. قوله: "رحمة من عندنا" أي فعلنا به ذلك رحمة من الله به "وذكرى للعابدين" أي وجعلناه في ذلك قدوة لئلا يظن أهل البلاء أنما فعلنا بهم ذلك لهوانهم علينا, وليتأسوا به في الصبر على مقدورات الله وابتلائه لعباده بما يشاء, وله الحكمة البالغة في ذلك.
83- "وأيوب إذ نادى ربه" معطوف على ما قبله، والعامل فيه: إما المذكور أو المقدر كما مر، والعامل في الظرف وهو إذ نادى ربه هو العامل في أيوب " أني مسني الضر " أي بأني مسني الضر. وقرئ بكسر إني.
واختلف في الضر الذي نزل به ماذا هو فقيل إنه قام ليصلي فلم يقدر على النهوض، وقيل إنه أقر بالعجز، فلا يكون ذلك منافياً للصبر، وقيل انقطع الوحي عنه أربعين يوماً، وقيل إن دودة سقطت من لحمه، فأخذها وردها في موضعها فأكلت منه، فصاح مسني الضر، وقيل كان الدود تناول بدنه فيصبر حتى تناولت قلبه، وقيل إن ضره قول إبليس لزوجته اسجدي لي، فخاف ذهاب إيمانها، وقيل إنه تقذره قومه، وقيل أراد بالضر الشماتة، وقيل غير ذلك. ولما نادى ربه متضرعاً إليه وصفه بغاية الرحمة فقال: "وأنت أرحم الراحمين".
83. قوله عز وجل: " وأيوب إذ نادى ربه "، أي دعا ربه، قال وهب بن منبه : كان أيوب عليه السلام رجلاً من الروم وهو أيوب بن أموص بن رازح بن روم بن عيسى بن إسحق بن إبراهيم، وكانت أمه من أولاد لوط بن هاران، وكان الله قد اصطفاه ونبأه وبسط عليه الدنيا، وكانت له البثنية من أرض الشام، كلها سهلها وجبلها، وكان له فيها من أصناف المال كله، من البقر والإبل والغنم والخيل والحمر ما لا يكون لرجل أفضل منه في العدة والكثرة، وكان له خمسمائة فدان، يتبعها خمسمائة عبد، لكل عبد امرأة وولد ومال، ويحمل آلة كل فدان أتان لكل أتان ولد من اثنين وثلاثو أربعة وخمسة، وفوق ذلك، وكان الله عز وجل أعطاه أهلاً وولداً من رجال ونساء، وكان براً تقياً رحيماً بالمساكين، يطعم المساكين ويكفل الأرامل والأيتام، ويكرم الضيف ويبلغ ابن السبيل، وكان شاكراً لأنعم الله مؤدياً لحق الله، قد امتنع من عدو الله إبليس أن يصيب منه ما يصيب من أهل الغنى من الغرة والغفلة والتشاغل عن أمر الله بما هو فيه من الدنيا، وكان معه ثلاثة نفر قد آمنوا به وصدقوه رجل من أهل اليمن يقال له اليقن، ورجلان من أهل بلدة يقال لأحدهما يلدد والآخر صافر وكانوا كهولاً، وكان إبليس لا يحجب عن شيء من السموات، وكان يقف فيهن حيث ما أراد حتى رفع الله عيسى فحجب عن أربع سموات، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم حجب من الثلاث الباقية، فسمع إبليس تجاوب الملائكة بالصلاة على أيوب، وذلك حين ذكره الله وأثنى عليه، فأدركه البغي والحسد، فصعد سريعاً حتى وقف من السماء موقفاً كان يقفه، فقال إلهي نظرت في أمر عبدك أيوب فوجدته عبداً أنعمت عليه فشكرك وعافيته فحمدك، ولو ابتليته بنزع ما أعطيته لحال عما هو عليه من شكرك وعبادتك، ولخرج من طاعتك، قال الله تعالى: انطلق فقد سلطتك على ماله فانقض عدو الله إبليس حتى وقع إلى الأرض، ثم جمع عفاريت الجن ومردة الشياطين، وقال لهم: ماذا عندكم من القوة؟ فإني قد سلطت على مال أيوب، وهي المصيبة الفادحة والفتنة التي لا يصبر عليها الرجال، فقال عفريت من الشياطين أعطيت من القوة ما إذا شئت تحولت إعصاراً من نار وأحرقت كل شيء آتي عليه، قال له إبليس: فأت الإبل ورعاءها، فأتى الإبل حين وضعت رؤوسها وثبتت في مراعيها، فلم يشعر الناس حتى ثار من تحت الأرض إعصار من نار لا يدنو منها أحد إلا احترق فأحرق الإبل ورعاءها، حتى أتى على آخرها، ثم جاء عدو الله إبليس في صورة قبيحة على قعود إلى أيوب فوجده قائماً يصلي، فقال: يا أيوب أقبلت نار حتى غشيت إبلك فأحرقتها ومن فيها غيري، فقال أيوب: الحمد لله الذي أعطاها وهو أخذها، وقديماً ما وطنت مالي ونفسي على الفناء، فقال إبليس: فإن ربك أرسل عليها ناراً من السماء فاحترقت فتركت الناس مبهوتين يتعجبون منها، منهم من يقول ما كان أيوب يعبد شيئاً وما كان إلا في غرور، ومنهم من يقول لو كان إله أيوب يقدر على أن يصنع شيئاً لمنع [وليه]، ومنهم من يقول: بل هو الذي فعل ليشمت به عدوه ويفجع صديقه.
قال أيوب: الحمد لله حين أعطاني وحين نزع مني، عرياناً خرجت من بطن أمي، وعرياناً أعود في التراب، وعرياناً أحشر إلى الله، ليس لك أن تفرح حين أعارك وتجزع حين قبض عاريته منك، الله أولى بك وبما أعطاك، ولو علم الله فيك أيها العبد خيراً لنقل روحك مع تلك الأرواح وصرت شهيداً، ولكنه علم منك شراً فأخرك، فرجع إبليس إلى أصحابه [خائباً] خاسئاً ذليلاً فقال لهم: ماذا عندكم من القوة؟ فإني لم أكلم قلبه، قال عفريت: عندي من القوة ما شئت صحت صيحة لا يسمعها ذو روح إلا خرجت مهجة نفسه، قال إبليس فأتي الغنم ورعاتها، فانطلق حتى توسطها ثم صاح صيحة فتجثمت أمواتاً عن آخرها ومات رعاؤها، ثم جاء إبليس متمثلاً بقهرمان الرعاة إلى أيوب وهو يصلي، فقال له مثل القول الأول، فرد عليه أيوب مثل الرد الأول ثم رجع إبليس إلى أصحابه فقال: ماذا عندكم من القوة فإني لم أكلم قلب أيوب، فقال عفريت عندي من القوة ما إذا شئت تحولت ريحاً عاصفاً تنسف كل شيء تأتي عليه، قال فأت الفدادين والحرث فانطلق ولم يشعروا حتى هبت ريح عاصف، فنسفت كل شيء من ذلك حتى كأنه لم يكن، ثم جاء إبليس متمثلاً بقهرمان الحرث إلى أيوب وهو قائم يصلي، فقال له مثل القول الأول، فرد عليه أيوب مثل رده الأول كلما انتهى إليه هلاك مال من أمواله حمد الله وأحسن الثناء عليه، ورضي منه بالقضاء، ووطن نفسه بالصبر على البلاء، حتى لم يبق له مال.
فلما رأى إبليس أنه قد أفني ماله صعد [إلى السماء] فقال إلهي إن أيوب يرى أنك ما متعته بولده فأنت معطيه المال فهل مسلطي على ولده، فإنها المصيبة التي لا تقوم لها قلوب الرجال، قال الله تعالى: انطلق فقد سلطتك على ولده، فانقض عدو الله حتى جاء بني أيوب وهم في قصرهم فلم يزل يزلزل بهم حتى تداعى من قواعده، ثم جعل يناطح جدره بعضها ببعض ويرميهم بالخشب والجندل، حتى إذا مثل بهم كل مثلة رفع القصر فقلبه فصاروا منكسين، وانطلق إلى أيوب متمثلاً والجندل، حتى إذا مثل بهم كل مثلة رفع القصر فقلبه فصاروا منكسين، وانطلق إلى أيوب متمثلاً بالمعلم الذي كان يعلمهم الحكمة وهو جريح مخدوش الوجه يسيل دمه ودماغه فأخبره، وقال: لو رأيت بنيك كيف عذبوا وقلبوا فكانوا منكسين على رؤوسهم تسيل دماؤهم ودماغهم، ولو رأيت كيف شقت بطونهم وتناثرت أمعاؤهم لقطع قلبك، فلم يزل يقول هذا ونحوه حتى رق أيوب فبكي وقبض قبضة من التراب فوضعها على رأسه، وقال: ليت أمي لم تلدني، فاغتنم إبليس ذلك فصعد سريعاً بالذي كان من جزع أيوب مسروراً به، ثم لم يلبث أيوب أن فاء وأبصر واستغفر، وصعد قرناؤه من الملائكة بتوبته فسبقت توبته إلى الله وهو أعلم، فوقف إبليس ذليلاً فقال: يا إلهي إنما هون على أيوب المال والولد أنه يرى منك أنك ما متعته بنفسه فأنت تعيد له المال والولد فهل أنت مسلطي على جسده؟ فقال الله عز وجل: انطلق فقد سلطتك على جسده، ولكن ليس لك سلطان على لسانه ولا على قلبه، وكان الله عز وجل أعلم به لم يسلطه عليه إلا رحمة له ليعظم له الثواب ويجعله عبرة للصابرين، وذكرى للعابدين في كل بلاء نزل بهم، ليتأسوا به في الصبر ورجاءً للثواب، فانقض عدو الله سريعاً فوجد أيوب ساجداً فعجل قبل أن يرفع رأسه فأتاه من قبل وجوهه فنفخ في منخره نفخة اشتعل منها [جميع] جسده، فخرج من قرنه إلى قدمه تآليل مثل آليات الغنم فيه حكة فحك بأظفاره حتى سقطت كلها ثم حكها بالمسوح الخشنة حتى قطعها، ثم حكها بالفخار والحجارة الخشنة، فلم يزل يحكها حتى نغل لحمه، وتقطع وتغير وأنتن، وأخرجه أهل القرية فجعلوه على كناسة، وجعلوا له عريشاً، فرفضه خلق الله كلهم غير امرأته، وهي رحمة بنت أفراثيم بن يوسف بن يعقوب كانت تختلف إليه بما يصلحه وتلزمه، فلما رأى الثلاثة من أصحابه وهم: يقن ويلدد وصافر ما ابتلاه الله به اتهموه ورفضوه من غير أن يتركوا دينه، فلما طال به البلاء انطلقوا إليه فبكتوه ولاموه وقالوا له: تب إلى الله منالذنب الذي عوقبت به، قال: وحضره معهم فتى حديث السن قد آمن به وصدقه، فقال لهم: إنكم تكلمتم أيها الكهول، وكنتم أحق بالكلام مني لأسنانكم، ولكن قد تركتم من القول أحسن من الذي قلتم، ومن الرأي أصوب من الذي رأيتم، ومن الأمر أجمل من الذي أتيتم، وقد كان لأيوب عليكم من الحق والذمم أفضل من الذي وصفتم، فهل تدرون أيها الكهول حق من انتقصتم وحرمة من انتهكتم، ومن الرجل الذي عبتم واتهمتم؟ ألم تعلموا أن أيوب نبي الله وخيرته من خلقه وصفوته من أهل الأرض إلى يومكم هذا، ثم لم تعلموا ولم يطلعكم الله من أمره على أنه قد سخط عليه شيئاً من أمره منذ آتاه الله ما آتاه إلى يومكم هذا، ولا على أنه نزع منه شيئاً من الكرامة التي أكرمه بها، ولا أن أيوب قال على الله غير الحق في طول ما صحبتموه إلى يومكم هذا، فإن كان البلاء هو الذي أزرى به عندكم ووضعه في أنفسكم فقد علمتم أن الله يبتلي المؤمنين والصديقين والشهداء والصالحين، وليس بلاؤه لأولئك بدليل على سخطه عليهم ولا لهوانه لهم، ولكنها كرامة وخيرة لهم، ولو كان أيوب ليس من الله بهذه المنزلة إلا أنه أخ أحببتموه على وجه الصحبة لكان لا يجمل بالحليم أن [يعذل] أخاه عند البلاء، ولا يعيره بالمصيبة، ولا يعيبه بما لا يعلم وهو مكروب حزين، ولكنه يرحمه ويبكي معه، ويستغفر له، ويحزن لحزنه، ويدله على مراشد أمره، وليس بحليم ولا رشيد من جهل هذا، فالله الله أيها الكهول وقد كان في عظمة الله وجلاله، وذكر الموت ما يقطع ألسنتكم، ويكسر قلوبكم، ألم تعلموا أن لله عباداً أسكتتهم خشيته من غير عي ولا بكم، وأنهم لهم الفصحاء البلغاء النبلاء الألباء العالمون بالله، ولكنهم إذا ذكروا عظمة الله انقطعت ألسنتهم، واقشعرت جلودهم، وانكسرت قلوبهم، وطاشت عقولهم إعظاماً وإجلالاً لله عز وجل، فإذا استفاقوا من ذلك استبقوا إلى الله عز وجل بالأعمال الزاكية يعدون أنفسهم مع الظالمين والخاطئين، وإنهم لأبرار برءاء، ومع المقصرين والمفرطين، وأنهم لأكياس أقوياء، فقال أيوب: إن الله عز وجل يزرع الحكمة بالرحمة في قلب الصغير والكبير، فمتى نبتت في القلب يظهرها الله على اللسان، وليست تكون الحكمة من قبل السن والشيبة ولا طول التجربة، وإذا جعل الله العبد حكيماً في الصبا لم تسقط منزلته عند الحكماء وهم يرون من الله سبحانه عليه نور الكرامة، ثم أعرض عنهم أيوب وأقبل على ربه مستغيثاً به متضرعاً إليه، فقال رب لأي شيء خلقتني ليتني إذ كرهتني لم تخلقني يا ليتني قد عرفت الذنب الذي أذنبت، والعمل الذي عملت، فصرفت وجهك الكريم عني، لو كنت أمتني فألحقتني بآبائي الكرام، فالموت كان أجمل بي ألم أكن للغريب داراً، وللمسكين قراراً، ولليتيم ولياً، وللأرملة قيماً، إلهي أنا عبدك إن أحسنت فالمن لك، وإن أسأت فبيدك عقوبتي، جعلتني عرضاً، وللفتنة نصباً، وقد وقع على بلاء لو سلطته على جبل ضعف عن حمله، فكيف يحمله ضعفي وإن قضاءك هو الذي أذلني، وإن سلطانك هو الذي أسقمني وأنحل جسمي، ولو أن ربي نزع الهيبة التي في صدري وأطلق لساني حتى أتكلم بملء فمي بما كان ينبغي للعبد أن يحاج عن نفسه لرجوت أن يعافيني عند ذلك مما بي، ولكنه ألقاني وتعالى عني فهو يراني ولا أراه ويسمعني ولا أسمعه، لا نظر إلي فرحمني، ولا دنا مني ولا أدناني فأدلي بعذري وأتكلم ببراءتي وأخاصم عن نفسي، فلما قال ذلك أيوب وأصحابه عنده أظله غمام حتى ظن أصحابه أنه عذاب أليم، ثم نودي يا أيوب إن الله عز وجل يقول: ها أنا قد دنوت منك ولم أزل منك قريباً قم فأدل بعذرك، وتكلم ببراءتك، وخاصم عن نفسك، واشدد إزرك، وقم مقام جبار يخاصم جباراً إن استطعت، فإنه لا ينبغي أن يخاصمني إلا جبار مثلي، لقد منتك نفسك يا أيوب أمراً ما تبلغ بمثل قوتك، أين أنت مني يوم خلقت الأرض فوضعتها على أساسها، هل كنت معي تمد بأطرافها؟ هل علمت بأي مقدار قدرتها أم على أي شيء وضعت أكنافها؟ أبطاعتك حمل الماء الأرض أم بحكمتك كانت الأرض للماء غطاءً؟ أين كنت مني يوم رفعت السماء سقفاً في الهواء لا تعلق بسبب من فوقها ولا يقلها دعم من تحتها؟ هل تبلغ من حكمتك أن تجري نورها أو تسير نجومها أو يختلف بأمرك ليلها ونهارها؟ أين أنت مني يوم نبعث الأنهار وسكرت البحار، أسلطانك حبس أمواج البحار على حدودها؟ أم قدرتك فتحت الأرحام حين بلغت مدتها؟ أين أنت مني يوم صببت الماء على التراب ونصبت شوامخ الجبال؟ هل تدري من أي شيء أرسيتها؟ وبأي مثقال وزنتها؟ أم هل لك من ذراع تطيق حملها؟ أم هل تدري من أين الماء الذي أنزلت من السماء؟ أم هل تدري من أي شيء أنشيء السحاب؟ أم هل تدري أين خزائن الثلج؟ أم أين جبال البرد أن أين خزانة الليل بالنهار [وخزانة النهار بالليل]؟ وأين خزانة الريح؟ وبأي لغة تتكلم الأشجار؟ ومن جعل العقول في أجواف الرجال؟ ومن شق الأسماع والأبصار؟ ومن ذلت الملائكة لملكه وقهر الجبارين بجبروته؟ وقسم الأرزاق بحكمته؟ في كلام كثير من آثار قدرته ذكرها لأيوب، فقال أيوب: صغر شأني وكل لساني وعقلي ورائي وضعفت قوتي عن هذا الأمر الذي تعرض لي يا إلهي، قد علمت أن كل الذي ذكرت صنع يديك وتدبير حكمتك وأعظم من ذلك وأعجب لو شئت عملت، لا يعجزك شيء ولا يخفى عليك خافية إذ لقيني البلاء، يا إلهي فتكلمت ولم أملك لساني وكان البلا ء هو الذي أنطقني، فليت الأرض انشقت لي فذهبت فيها ولم أتكلم بشيء يسخط ربي، وليتني مت بغمي في أشد بلائي قبل ذلك، إنما تكلمت حين تكلمت لتعذرني، وسكت حين سكت لترحمني، كلمة زلت مني فلن أعود، قد وضعت يدي على فمي وعضضت على لساني، وألصقت بالتراب خدي، أعوذ بك اليوم منك واستجيرك من جهد البلاء فأجرني، وأستغيث بك من عقابك فأغثني، وأستعين بك على أمري فأعني، وأتوكل عليك فاكفني، وأعتصم بك فاعصمني، وأستغفرك فاغفر لي، فلن أعود لشيء تكرهه مني، قال الله تعالى: يا أيوب نفذ فيك علمي وسبقت رحمتي غضبي فقد غفرت لك، ورددت عليك أهلك ومالك ومثلهم معهم لتكون لمن خلفك آية، وتكون عبرة لأهل البلاء وعزاء للصابرين، فاركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب فيه شفاؤك وقرب عن أصحابك قرباناً فاستغفر لهم فإنهم قد عصوني فيك، فركض برجله فانفجرت له عين فدخل فيها فأذهب الله عنه كل ما كان به من البلاء، ثم خرج فجلس فأقبلت امرأته تلتمسه في مضجعه فلم تجده فقامت كالوالهة متلددة، ثم قالت: يا عبد الله هل لك علم بالرجل المبتلى الذي كان هاهنا؟ قال لها: هل تعرفينه إذا رأيته؟ قالت: نعم ومالي لا أعرفه، فتبسم وقال: أنا هو فعرفته بضحكه فاعتنقته. قال ابن عباس: فوالذي نفس عبد الله بيده ما فارقته من عناقه حتى مر بهما كل مال لهما وولد، فذلك قوله تعالى: " وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر "، واختلفوا في وقت ندائه والسبب الذي قال لأجله: أني مسني الضر، وفي مدة بلائه.
روى ابن شهاب عن أنس يرفعه أن أيوب لبث في بلائه ثماني عشرة سنة.
وقال وهب : لبث أيوب في البلاء ثلاث سنين لم يزد يوماً.
وقال كعب: كان أيوب في بلائه سبع سنين وسبعة أشهر وسبع أيام.
وقال الحسن : مكث أيوب مطروحاً على كناسة في مزبلة لبني إسرائيل سبع سنين وأشهراً تختلف فيه الدواب لا يقربه أحد غير رحمة صبرت معه بصدق وتأتيه بطعام وتحمد الله معه إذا حمد، وأيوب على ذلك لا يفتر عن ذكر الله والصبر على ابتلائه، فصرخ إبليس صرخة جمع فيها حنوده من أقطار الأرض، فلما اجتمعوا إليه قالوا: ما حزنك؟ قال أعياني هذا العبد الذي لم أدع له مالاً ولا ولداً فلم يزد إلا صبراً، ثم سلطت على جسده فتركته قرحة ملقاة على كناسة لا يقربه إلا امرأته، فاستعنت بكم لتعينوني عليه، فقالوا له أين مكرك الذي أهلكت به من مضى؟ قال: بطل ذلك كله في أيوب فأشيروا على قالوا نشير عليك، من أين أتيت آدم حين أخرجته من الجنة؟ قال من قبل امرأته قالوا فشأنك بأيوب من قبل امرأته فإنه لا يستطيع أن يعصيها وليس لأحد أن يقربه غيرها، قال: أصبتم، فانطلق حتى أتى امرأته وهي تصدق فتمثل لها في صورة رجل فقال: أين بعلك يا أمة الله؟ قالت هو ذاك يحك قروحه وتتردد الدواب في جسده، فلما سمعها طمع أن تكون كلمة جزع فوسوس إليها وذكرها ما كانت فيه من النعم والمال، وذكرها جمال أيوب وشبابه وما هو فيه من الضر وأن ذلك لا ينقطع عنهم أبداً، قال الحسن فصرخت فلما صرخت علم أن قد جزعت فأتاها بسخلة وقال ليذبح هذه لي أيوب ويبرأ، فجاءت تصرخ يا أيوب حتى متى يعذبك ربك، أين المال، أين الولد، أين الصديق، أين لونك الحسن، أين جسمك [الحسن]، اذبح هذه السخلة واسترح، قال أيوب أتاك عدو الله فنفخ فيك ويلك أرأيت ما تبكين عليه من المال والولد والصحة من أعطانيه؟ قالت الله، قال فكم متعنا به؟ قالت ثمانين سنة، قال فمنذ مك ابتلانا؟ قالت منذ سبع سنين وأشهر، قال ويلك ما أنصفت ألا صبرت في البلاء ثمانين سنة كما كنا في الرخاء ثمانين سنة، والله لئن شفاني الله لأجلدنك مائة جلدة آمرتيني أن أذبح لغير الله طعامك وشرابك الذي أتيتني به علي حرام [أو حرام علي] أن أذوق شيئاً مما تأتيني به بعد إذ قلت لي هذا، فاغربي عني، فلا أراك فطردها فذهبت، فلما نظر أيوب وليس عنده طعام ولا شراب ولا صديق خر ساجداً وقال: رب " أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين "، فقيل له: ارفع رأسك فقد استجيب لك اركض برجلك فركض برجله فنبعت عين فاغتسل منها فلم يبق عليه من دائه شيء ظاهر إلا سقط وعاد إليه شبابه وجماله أحسن ما كان، ثم ضرب برجله فنبعت عين أخرى فشرب منها فلم يبق في جوفه داء إلا خرج فقام صحيحاً وكسي حلة، قال: فجعل يلتفت فلا يرى شيئاً مما كان له من أهل ومال إل وقد أضعفه الله حتى والله ذكر لنا أن الماء الذي اغتسل منه تطاير على صدره جراداً من ذهب فجعل يضمه بيده، فأوحى الله إليه يا أيوب ألم أغنك؟ قال: بلى ولكنها بركتك فمن يشبع منها، قال فخرج حتى جلس على مكان مشرف، ثم إن امرأته قالت أرأيتك إن كان طردني إلى من أكله؟ أدعه يموت جوعاً ويضيع فتأكله السباع لأرجعن إليه فلا كناسة ترى ولا تلك الحالة التي كانت، وإذا الأمور قد تغيرت فجعلت تطوف حيث كانت الكناسة وتبكي وذلك بعين أيوب، وهابت صاحب الحلة أن تأتيه فتسأله عنه، فدعاها أيوب فقال: ما تريدين يا أمة الله؟ فبكت وقالت: أردت ذلك المبتلي الذي كان منبوذاً على الكناسة لا أدري أضاع أم ما فعل، فقال أيوب: ما كان منك فبكت، وقالت: بعلي، قال: فهل تعرفينه إذا رأيتيه؟ فقالت: هل يخفى على أحد رآه؟ ثم جعلت تنظر إليه وهي تهابه، ثم قالت: أما أنه أشبه خلق الله بك إذ كان صحيحاً، قال فإني أنا أيوب الذي أمرتني أن أذبح لإبليس، وإني أطعت الله عصيت الشيطان ودعوت الله سبحانه فرد على ما ترين.
وقال وهب : لبث أيوب في البلاء ثلاث سنين فلما غلب أيوب إبليس ولم يستطع منه شيئاً اعترض امرأته في هيئة ليست كهيئة بني آدم في العظم والجسم والجمال على مركب ليس [من] مراكب الناس له عظم وبهاء وكمال، فقال لها: أنت صاحبة أيوب هذا الرجل المبتلى؟ قالت: نعم، قال فهل تعرفيني؟ قالت: لا قال: أنا إله الأرض، وأنا الذي صنعت بصاحبك ما صنعت لأنه عبد. إله السماء وتركني فأغضبني، ولو سجد لي سجدة واحدة رددت عليه وعليك كل ما كان لكما من مال وولد، فإنه عندي ثم أراها إياهم ببطن الوادي الذي لقيها فيه، قال وهب : وقد سمعت أنه إنما قال لها لو أن صاحبك ولم يسم الله عليه لعوفي مما به من البلاء، والله أعلم. وفي بعض الكتب: إن إبليس قال لها: اسجدي لي سجدة حتى أرد عليك المال والأولاد وأعافي زوجك، فرجعت إلى أيوب فأخبرته بما قال لها [وما أراها] قال لقد أتاك عدو الله ليفتنك عن دينك، ثمك أقسم [إن عافاهالله] ليضربنها مائة جلدة، وقال عند ذلك: مسني الضر من طمع إبليس في سجود حرمتي له، ودعائه إياها وإياي إلى الكفر، ثم إن الله عز وجل رحم [رحمة] امرأة أيوب بصبرها معه على البلاء، وخفف عليها وأراد أن يبر يمين أيوب، فأمره أن يأخذ ضغثاً يشتمل على مائة عود صغار فيضربها به ضربة واحدة كما قال الله تعالى: " وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث " (ص:44)، وروى أن إبليس اتخذ تابوتاً وجعل فيه أدوية وقعد على طريق امرأته يداوي الناس فمرت به امرأة أيوب فقال [ياشيخ] إن لي مريضاً أفتداويه؟ قال نعم [والله] لا أريد شيئاً إلا أن يقول إذا شفيته أنت شفيتني، فذكرت ذلك لأيوب فقال: هو إبليس قد خدعك، وحلف إن شفاه الله أن يضربها مائة جلدة.
وقا ل وهب وغيره: كانت امرأة أيوب تعمل للناس وتجيئه بقوته، فلما طال عليه البلاء وسئمها الناس فلم يستعملها أحد التمست له يوماً من الأيام ما تطعمه فما وجدت شيئاً فجزت قرناً من رأسها، فباعته رغيف فأتته به، فقال لها: أين قرنك؟ فأخبرته فحينئذ قال: " مسني الضر ".
وقال قوم: إنما قال ذلك حين قصدت الدود إلى قلبه ولسانه فخشي أن يفتر عن الذكر والفكر.
وقال حبيب بن أبي ثابت: لم يدع الله بالكشف عنه حتى ظهرت له ثلاثة أشياء أحدها: قدم عليه صديقان حين بلغهما خبره فجاءا إليه ولم يبق له إلا عيناه ورأيا أمراً عظيماً فقالا: لو كان لك عند الله منزلة ما أصابك هذا. والثاني: أن امرأته طلبت طعاماً فلم تجد ما تطعمه فباعت ذؤابتها وحملت إليه طعاماً. والثالث: قول إبليس إني أداويه على أن يقول أنت شفيتني.
وقيل: إن إبليس وسوس إليه أن امرأتك زنت فقطعت ذؤابتها فحينئذ عيل صبره، فدعا وحلف ليضربنها مائة جلدة. وقيل: معناه مسني الضر من شماتة الأعداء. حتى روى أنه قيل له [بعدما عوفي] ما كان أشد عليك في بلائك قال: شماتة الأعداء. وقيل: قال ذلك حين وقعت دودة من فخذه فردها إلى موضعها.
وقال كلي: قد جعلني الله طعامك فعضته عضة زاد ألمها على جميع ما قاسى من عض الديدان. فإن قيل: إن الله سماه صابراً وقد أظهر الشكوى والجزع، بقوله: " أني مسني الضر "، و " مسني الشيطان بنصب " (ص:41)، قيل: ليس هذا شكاية إنما دعاء بدليل قوله تعالى: " فاستجبنا له "، على أن الجزع إنما هو في الشكوى إلى الخلق فأما الشكوى إلى الله عز وجل فلا يكون جزعاً ولا ترك صبر كما قال يعقوب: " إنما أشكو بثي وحزني إلى الله " (يوسف:86). قال سفيان بن عيينة : وكذلك من أظهر الشكوى إلى الناس وهو راض بقضاء الله لا يكون ذلك جزعاً كما روي "أن جبريل دخل على النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه فقال: كيف تجدك؟ قال: أجدني مغموماً وأجدني مكروباً ".
" وقال لعائشة حين قالت وارأساه، بل أنا وارأساه ".


83ـ " وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر " باني مسني الضر ، وقرئ بالكسر على إضمار القول أو تضمين النداء معناه و " الضر " بالفتح شائع في كل ضرر ، وبالضم خاص بما في النفس كمرض وهزال . " وأنت أرحم الراحمين " وصف ربه بغاية الرحمة بعدما ذكر نفسه بما يوجبها واكتفى بذلك عن عرض المطلوب لطفاً في السؤال ، وكان رومياً من ولد عيص بن إسحاق استنبأه الله وكثر أهله وماله فابتلاه الله بهلاك أولاده بهدم بيت عليهم وذهاب أمواله ، والمرض في بدنه ثماني عشرة سنة أو ثلاث عشرة سنة أو سبعاً وسبعة أشهر وسبع ساعات . روي أن امرأته ماخير بنت ميشا بن يوسف ، أو رحمة بنت إفراثيم بن يوسف قالت له يوماً : لو دعوت الله فقال : كم كانت مدة الرخاء فقالت ثمانين سنة فقال : أستحيي من الله أن أدعوه وما بلغت مدة بلائي مدة رخائي .
83. And Job, when he cried unto his Lord, (saying): Lo! adversity afflicteth me, and Thou art Most Merciful of all who show mercy.
83 - And (remember) Job, when He cried to his Lord, truly distress has seized me, but thou art the Most Merciful of those that are Merciful.