[طه : 128] أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى
128 - (أفلم يهد) يتبين (لهم) لكفار مكة (كم) خبرية مفعول (أهلكنا) أي كثيرا إهلاكنا (قبلهم من القرون) أي الأمم الماضية لتكذيب الرسل (يمشون) حال من ضمير لهم (في مساكنهم) في سفرهم إلى الشام وغيرها فيعتبروا وما ذكر من أخذ إهلاك من فعله الخالي عن حرف مصدري لرعاية المعنى لا مانع منه (إن في ذلك لآيات) لعبرا (لأولي النهى) لذوي العقول
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : أفلم يهد لقومك المشركين بالله ، ومعنى يهد: يبين. يقول : أفلم يبين لهم كثرة ما أهلكنا قبلهم من الأمم التي سلكت قبلها التي يمشون في مساكنهم ودورهم ، ويرون آثار عقوباتنا التي أحللناها بهم سوء مغبة ما هم عليه مقيمون من الكفر بآياتنا، ويتعظوا بهم ، ويعتبروا، وينيبوا إلى الإذعان ، ويؤمنوا بالله ورسوله ، خوفاً أن يصيبهم بكفرهم بالله مثل ما أصابهم.
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك ، قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال : ثنا يزيد، قال : ثنا سعيد، عن قتادة، قوله : "كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم" لأن قريشاً كانت تتجر إلى الشام ، فتمر بمساكن عاد وثمود ومن أشبههم ، فترى آثار وقائع الله تعالى بهم ، فلذلك قال لهم : فلم يحذرهم ما يرون من فعلنا بهم بكفرهم بنا نزول مثله بهم ، وهم على مثل فعلهم مقيمون. وكان الفراء يقول : لا يجوز في كم هذا الموضع أن يكون إلا نصباً بأهلكنا، وكان يقول : وهو وإن لم يكن إلا نصباً، فإن جملة الكلام رفع بقوله : "يهد لهم" ويقول : ذلك مثل قول القائل : قد تبين لي أقام عمرو أم زيد في الاستفهام ، وكقوله "سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون" [الأعراف : 193] ويزعم أن فيه شيئاً يرفع سواء لا يظهر مع الاستفهام ، قال : ولو قلت : سواء عليكم صمتكم ودعاؤكم تبين ذلك الرفع الذي في الجملة. وليس الذي قال الفراء من ذلك ، كما قال : لأن كم وإن كانت من حروف الاستفهام فإنها لم تجعل في هذا الموضع للاستفهام ، بل هي واقعة موقع الأسماء الموصوفة. ومعنى الكلام ما قد ذكرنا قبل وهو:أفلم يبين لهم كثرة إهلاكنا قبلهم القرون التي يمشون في مساكنهم ، أو أفلم تهدهم القرون الهالكة. وقد ذكر أن ذلك في قراءة عبد الله أفلم يهد لهم من أهلكنا فكم واقعة موقع من في قراءة عبد الله ، هي في موضع رفع بقوله : "يهد لهم" وهو أظهر وجوهه ، وأصح معانيه ، وإن كان للذي قاله وجه ومذهب على بعد.
وقوله : "إن في ذلك لآيات لأولي النهى" يقول تعالى ذكره : إن فيما يعاين هؤلاء ويرون من آثار وقائعنا بالأمم المكذبة رسلها قبلهم ، وحلوك مثلاتنا بهم لكفرهم بالله "لآيات" يقول : لدلالات وعبراً وعظات "لأولي النهى" يعني : لأهل الحجى والعقول ، ومن ينهاه عقله وفهمه ودينه عن مواقعة ما يضره.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : "لأولي النهى" يقول : التقى.
حدثنا بشر، قال : ثنا يزيد، قال : ثنا سعيد، عن قتادة: "إن في ذلك لآيات لأولي النهى" أهل الورع.
قوله تعالى: " أفلم يهد لهم " يريد أهل مكة، أي أفلم يتبين لهم خبر من أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إذا سافروا وخرجوا في التجارة طلب المعيشة، فيرون بلاد الأمم الماضية، والقرون الخالية خاوية، أي أفلا يخافون أن يحل بهم مثل ما حل بالكفار قبلهم. وقرأ ابن عباس والسلامي وغيرهما نهد لهم بالنون وهي أبين. و " يهد " بالياء مشكل لأجل الفاعل، فقال الكوفيون: " كم " الفاعل، النحاس وهذا خطأ، لأن " كم " استفهام فلا يعمل فيها ما قبلها. وقال الزجاج : المعنى أولم يهد لهم الأمر بإهلاكنا من أهلكنا. وحقيقة " يهد " يدل على الهدى، فالفاعل هو الهدى تقديره: أفلم يهد الهدي لهم. قال الزجاج : " كم " في موضع نصب بـ" أهلكنا ".
يقول تعالى: "أفلم يهد" لهؤلاء المكذبين بما جئتهم به يا محمد كم أهلكنا من الأمم المكذبين بالرسل قبلهم, فبادوا فليس لهم باقية ولا عين ولا أثر, كما يشاهدون ذلك من ديارهم الخالية التي خلفوهم فيها يمشون فيها " إن في ذلك لآيات لأولي النهى " أي العقول الصحيحة والألباب المستقيمة, كما قال تعالى: "أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور" وقال في سورة الم السجدة: " أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم " الاية, ثم قال تعالى: "ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاماً وأجل مسمى" أي لولا الكلمة السابقة من الله وهو أنه لايعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه, والأجل المسمى الذي ضربه الله تعالى لهؤلاء المكذبين إلى مدة معينة, لجاءهم العذاب بغتة, ولهذا قال لنبيه مسلياً له: "فاصبر على ما يقولون" أي من تكذيبهم لك "وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس" يعني صلاة الفجر "وقبل غروبها" يعني صلاة العصر, كما جاء في الصحيحين عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: " كنا جلوساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر, فقال: إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر, لا تضامون في رؤيته, فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا" ثم قرأ هذه الاية.
وقال الإمام أحمد : حدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير عن عمارة بن رؤيبة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها" رواه مسلم من حديث عبدالملك بن عمير به, وفي المسند والسنن عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أدنى أهل الجنة منزلة من ينظر في ملكه مسيرة ألفي سنة, ينظر الى أقصاه كما ينظر الى أدناه, وإن أعلاهم منزلة لمن ينظر إلى الله تعالى في اليوم مرتين".
وقوله: "ومن آناء الليل فسبح" أي من ساعاته فتهجد به, وحمله بعضهم على المغرب والعشاء, "وأطراف النهار" في مقابلة آناء الليل "لعلك ترضى" كما قال تعالى: "ولسوف يعطيك ربك فترضى" وفي الصحيح "يقول الله تعالى ياأهل الجنة, فيقولون: لبيك ربنا وسعديك, فيقول: هل رضيتم ؟ فيقولون: ربنا وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك, فيقول: إني أعطيكم أفضل من ذلك, فيقولون: وأي شىء أفضل من ذلك ؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً" وفي الحديث الاخر "يا أهل الجنة, إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه: فيقولون: وما هو ؟ ألم يبيض وجوهنا ويثقل موازيننا ويزحزحنا عن النار ويدخلنا الجنة, فيكشف الحجاب فينظرون إليه, فو الله ما أعطاهم خيراً من النظر إليه, وهي الزيادة" .
قوله: 128- "أفلم يهد لهم" الاستفهام للتقريع والتوبيخ، والفاء للعطف على مقدر، كما مر غير مرة، والجملة مستأنفة لتقرير ما قبلها وفاعل يهد هو الجملة المذكورة بعدها، والمفعول محذوف، وأنكر البصريون مثل هذا لأن الجمل لا تقع فاعلاً، وجوزه غيرهم. قال القفال: جعل كثرة ما أهلك من القرون مبيناً لهم. قال النحاس: وهذا خطأ لأن كم استفهام، فلا يعمل فيها ما قبلها. وقال الزجاج: المعنى أو لم يهد لهم الأمر بإهلاكنا من أهلكناه، وحقيقته تدل على الهدى، فالفاعل هو الهدى، وقال "كم" في موضع نصب بأهلكنا وقيل إن فاعل يهد ضمير لله أو للرسول، والجملة بعده تفسره، ومعنى الآية على ما هو الظاهر: أفلم يتبين لأهل مكة خبر من "أهلكنا قبلهم من القرون" حال كون القرون "يمشون في مساكنهم" ويتقلبون في ديارهم، أو حال كون هؤلاء يمشون في مساكن القرون اللذين أهلكناهم عند خروجهم للتجارة وطلب المعيشة، فيرون بلاد الأمم الماضية، والقرون الخالية خاوية حاربة من أصحاب الحجر وثمود وقرى قوم لوط فإن ذلك مما يوجب اعتبارهم لئلا يحل بهم مثل ما حل بأولئك. وقرأ ابن عباس والسلمي نهد بالنون، والمعنى على هذه القراءة واضح، وجملة "إن في ذلك لآيات لأولي النهى" تعليل للإنكار وتقرير للهداية، والإشارة بقوله ذلك إلى مضمون كم أهلكنا إلى آخره. والنهي: جمع نهية، وهي العقل: أي لذوي العقول التي تنهي أربابها عن القبيح.
128. " أفلم يهد لهم "، يبين لهم القرآن، يعني: كفار مكة، " كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم "، ديارهم ومنازلهم إذا سافروا. والخطاب لقريش كانوا يسافرون إلى الشام فيرون ديار المهلكين من أصحاب الحجر وثمود وقريات لوط.
" إن في ذلك لآيات لأولي النهى "، لذوي العقول.
128ـ " أفلم يهد لهم " مسند إلى الله تعالى أو الرسول أو ما دل عليه . " كم أهلكنا قبلهم من القرون " أي إهلاكنا إياهم أو الجملة بمضمونها ، والفعل على الأولين معلق يجري مجرى أعلم ويدل عليه القراءة بالنون . " يمشون في مساكنهم " ويشاهدون آثار هلاكهم . " إن في ذلك لآيات لأولي النهى " لذوي العقول الناهية عن التغافل والتعامي .
128. Is it not a guidance for them (to know) how many a generation We destroyed before them, amid whose dwellings they walk? Lo! therein verily are signs for men of thought.
128 - Is it not a warning to such men (to call to mind) how many generations before them We destroyed, in whose haunts they (now) move? verily, In this are Signs for men endued with understanding.