[البقرة : 90] بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنَزَلَ اللّهُ بَغْياً أَن يُنَزِّلُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ
(بئسما اشتروا) باعوا (به أنفسهم) أي حظها من الثواب ، وما : نكرة بمعنى شيئا تمييز لفاعل بئس والمخصوص بالذم (أن يكفروا) أي كفرهم (بما أنزل الله) من القرآن (بغيا) مفعول له ليكفروا : أي حسدا على (أن ينزل الله) بالتخفيف والتشديد (من فضله) الوحي (على من يشاء) للرسالة (من عباده فباؤوا) رجعوا (بغضب) من الله بكفرهم بما أنزل والتنكير للتعظيم (على غضب) استحقوه من قبل بتصنيع التوراة والكفر بعيسى (وللكافرين عذاب مهين) ذو إهانة
قال أبو جعفر ومعنى قوله جل ثناؤه: "بئسما اشتروا به أنفسهم ": ساء ما اشتروا به أنفسهم.
وأصل بئس بئس من البؤس، سكنت همزتها، ثم نقلت حركتها إلى الباء، كما قيل في ظللت ظلت ، وكما قيل للكبد، كبد فنقلت حركة الباء إلى الكاف ، لما سكنت الباء.
وقد يحتمل أن تكون بئس، وإن كان أصلها بئس، من لغة الذين ينقلون حركة العين من فعل إلى الفاء، إذا كانت عين الفعل أحد حروف الحلق الستة، كما قالوا من لعب العب ومن سئم إسئم ، وذلك فيما يقال لغة فاشية في تميم.
ثم جعلت دالة على الذم والتوبيخ، ووصلت بـ ما.
واختلف أهل العربية في معنى "ما" التي مع بئسما. فقال بعض نحوي البصرة: هي وحدها اسم، و أن يكفروا، تفسير له، نحو: نعم رجلاً زيدًا، و أن ينزل الله بدل من "أنزل الله". وقال بعض نحوي الكوفة: معنى ذلك: بئس الشيء اشتروا به أنفسهم أن يكفروا. فـ أما اسم بئس ، و" أن يكفروا " الاسم الثاني. وزعم أن: "أن يكفروا" إن شئت جعلت، أن في موضع رفع، وان شئت في موضع خفض. أما الرفع: فبئس الشيء هذا أن يفعلوه. وأما الخفض: فبئس الشيء اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيًا. قال: وقوله " لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم" (المائدة: 80) كمثل ذلك. والعرب تجعل ما وحدها في هذا الباب، بمنزلة الاسم التام، كقوله: "فنعما هي" ( البقرة: 271)، و بئسما أنت، واستشهد لقوله ذلك برجز بعض الرجاز:
لا تعجلا في السيروادلوها لبئسما بطء ولا نرعاها
قال أبو جعفر: والعرب تقول لبئسما تزويج ولا مهر، فيجعلون ما وحدها اسمًا بغير صلة.
وقائل هذه المقالة لا يجيز أن يكون الذي يلي بئس معرفة موقتة، وخبره معرفة موقتة. وقد زعم أن بئسما، بمنزلة: بئس الشيء اشتروا به أنفسهم. فقد صارت ما بصلتها اسمًا موقتاً، لأن اشتروا فعل ماض من صلة ما ، في قول قائل هذه المقالة. وإذا وصلت بماض من الفعل، كانت معرفة موقتة معلومة، فيصير تأويل الكلام حينئذ: بئس شراؤهم كفرهم. وذلك عنده غير جائز. فقد تبين فساد هذا القول.
وكان آخر منهم يزعم أن أن في موضع خفض إن شئت، ورفع إن شئت. فأما الخفض: فأن ترده على الهاء التي في به ، على التكرير على كلامين. كأنك قلت: اشتروا أنفسهم بالكفر. وأما الرفع: فأن يكون مكرورًا على موضع ما التي تلي بئس. قال: ولا يجوز أن يكون رفعًا على قولك: بئس الرجل عبدالله .
وقال بعضهم: "بئسما" شيء واحد يرافع ما بعده. كما حكي عن العرب: بئسما تزويج ولا مهر. فرافع تزويج بئسما، كما يقال: بئسما زيد، وبئس ما عمرو، فيكون "بئسما" رفعًا، بما عاد عليها من الهاء. كأنك قلت: بئس شيء الشيء اشتروا به أنفسهم، وتكون "أن " مترجمة عن "بئسما".
وأولى هذه الأقوال بالصواب، قول من جعل "بئسما" مرفوعًا بالراجع من الهاء في قوله: "اشتروا به "، كما رفعوا ذلك بـ عبدالله إذ قالوا: بئسما عبدالله ، وجعل "أن يكفروا" مترجمة عن "بئسما". فيكون معنى الكلام حينئذ: بئس الشيء باع اليهود به أنفسهم، كفرهم بما أنزل الله بغيًا وحسدًا أن ينزل الله من فضله. وتكون "أن " التي في قوله: "أن ينزل الله "، في موضع نصب. لأنه يعني به "أن يكفروا بما أنزل الله ": من أجل أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده. موضع "أن " جزاء. وكان بعض أهل العربية من الكوفيين يزعم أن "أن" في موضع خفض بنية الباء. وإنما اخترنا فيها النصب لتمام الخبر قبلها، ولا خافض معها يخفضها. والحرف الخافض لا يخفض مضمرًا.
وأما قوله: "اشتروا به أنفسهم "، فإنه يعني به: باعوا أنفسهم، كما:حدثني موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "بئسما اشتروا به أنفسهم"، يقول: باعوا أنفسهم "أن يكفروا بما أنزل الله بغيا".
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسن قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال مجاهد: "بئسما اشتروا به أنفسهم "، يهود، شروا الحق بالباطل، وكتمان ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بأن يبينوه.
قال أبوجعفر: والعرب تقول: شريته ، بمعنى بعته. و اشتروا، في هذا الموضع، "تعالوا" من شريت . وكلام العرب فيما بلغنا أن يقولوا: شريت بمعنى: بعت، و اشتريت بمعنى: ابتعت. وقيل: إنما سمي الشاري، شارياً، لأنه باع نفسه ودنياه بآخرته. ومن ذلك قول يزيد بن مفرغ الحميري:
‌‌‌وشريت بردا، ليتني من قبل برد كنت هامه
ومنه قول المسيب بن علس:
يعطى بها ثمنا فيمنعها ويقول صاحبها: ألا تشري؟
يعني به: بعت بردًا. وربما استعمل اشتريت بمعنى: بعت، وشريت في معنى: ابتعت. والكلام المستفيض فيهم هو ما وصفت.
وأما معنى قوله: بغياً، فإنه يعني به: تعديًا وحسدًا، كما:حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد، قال، حدثنا سعيد، عن قتادة بغيا لم، قال: أي حسدًا، وهم اليهود.
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو، قال، حدثنا أسباط، عن السدي: بغيا، قال: بغوا على محمد صلى الله عليه وسلم وحسدوه، وقالوا: إنما كانت الرسل من بني إسرائيل، فما بال هذا من بني إسمعيل؟ فحسدوه أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده.
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: بغياً، يعني: حسدا أًن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده، وهم اليهود، كفروا بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم.
حدثت عن عماربن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
قال أبو جعفر: فمعنى الآية: بئس الشيء باعوا به أنفسهم، الكفر بالذي أنزل الله في كتابه على موسى من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، والأمر بتصديقه واتباعه من أجل أن أنزل الله من فضله، وفضله: حكمته واياته ونبوته، على من يشاء من عباده يعني به: على محمد صلى الله عليه وسلم بغيًا وحسدًا لمحمد صلى الله عليه وسلم، من أجل أنه كان من ولد إسمعيل، ولم يكن من بني إسرائيل.
فإن قال قائل: وكيف باعت اليهود أنفسها بالكفر، فقيل: "بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله "؟ وهل يشترى بالكفر شيء؟
قيل: إن معنى: الشراء و البيع عند العرب، هو إزالة مالك ملكه إلى غيره، بعوض يعتاضه منه. ثم تستعمل العرب ذلك في كل معتاض من عمله عوضاً، شرًا أو خيرًا. فتقول: نعم ما باع به فلان نفسه وبئس ما باع به فلان نفسه ، بمعنى: نعم الكسب أكسبها، وبئس الكسب أكسبها إذا أورثها بسعيه عليها خيرًا أو شرًا. فكذلك معنى قوله جل ثناؤه: "بئسما اشتروا به أنفسهم " لما أوبقوا أنفسهم بكفرهم بمحمد كون فأهلكوها، خاطبهم الله والعرب بالذي يعرفونه في كلامهم، فقال: "بئسما اشتروا به أنفسهم"، يعني بذلك: بئس ما أكسبوا أنفسهم بسعيهم، وبئس العوض اعتاضوا، من كفرهم بالله في تكذيبهم محمدًا، إذ كانوا قد رضوا عوضاً من ثواب الله وما أعد لهم لوكانوا آمنوا بالله وما أنزل على أنبيائه بالنار وما أعد لهم بكفرهم بذلك.
وهذه الأية وما أخبر الله فيها عن حسد اليهود محمداً صلى الله عليه وسلم وقومه من العرب، من أجل أن الله جعل النبوة والحكمة فيهم دون اليهود من بني إسرائيل، حتى دعاهم ذلك إلى الكفر به، مع علمهم بصدقه، وأنه لله نبي مبعوث ورسول مرسل نظيرة الآية الأخرى في سورة النساء، وذلك قوله: "ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا * أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا * أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا * أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما" ( النساء: 51- 54).
القول في تأويل قوله: "أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده ".
قال أبو جعفر: قد ذكرنا تأويل ذلك وبينا معناه، ولكنا نذكر الرواية بتصحيح ما قلنا فيه:حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحق، عن عاصم بن عمربن قتادة الأنصاري، عن أشياخ منهم، قوله: "بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده"، أي أن الله تعالى جعله في غيرهم.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: هم اليهود. ولما بعث الله نبيه محمداًصلى الله عليه وسلم كفرو فرأوا أنه بعث من غيرهم، كفروا به حسدًا للعرب وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة.
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية مثله.
حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: قالوا: إنما كانت الرسل من بني إسرائيل، فما بال هذا من بني إسمعيل؟
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن علي الأزدي، قال: نزلت في اليهود.
القول في تأويل قوله تعالى: "فباءوا بغضب على غضب "
قال أبو جعفر: يعني بقوله: "فباءوا بغضب على غضب"، فرجعت اليهود من بني إسرائيل بعد الذي كانوا عليه من الاستنصار بمحمد صلى الله عليه وسلم والاستفتاح به، وبعد الذي كانوا يخبرون به الناس من قبل مبعثه أنه نبي مبعوث مرتدين على أعقابهم حين بعثه الله نبيًا مرسلاً، فباؤوا بغضب من الله، استحقوه منه بكفرهم بمحمد حين بعث، وجحودهم نبوته، وإنكارهم إياه أن يكون هو الذي يجدون صفته في كتابهم، عنادًا منهم له وبغيًا، وحسدًا له وللعرب، على غضب سالف، كان من الله عليهم قبل ذلك، سابق غضبه الثاني، لكفرهم الذي كان قبل عيسى ابن مريم، أو لعبادتهم العجل، أو لغير ذلك من ذنوب كانت لهم سلفت، يستحقون بها الغضب من الله، كما:حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل: قال، حدثني ابن إسحق، عن
محمد بن أبي محمد، فيما روي عن سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس: "فباءوا بغضب على غضب"، فالغضب على الغضب، غضبه عليهم فيما كانوا ضيعوا من التوراة وهي معهم، وغضب بكفرهم بهذا النبي الذي أحدث الله إليهم.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد وعبد الرحمن قالا، حدثنا سفيان، عن أبي بكير، عن عكرمة: "فباءوا بغضب على غضب " قال: كفر بعيسى، وكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يحيى بن يمان قال، حدثنا سفيان عن أبي بكير، عن عكرمة: "فباءوا بغضب على غضب"، قال: كفرهم بعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن أبي بكير، عن عكرمة مثله.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي قال: الناس يوم القيامة على أربعة منازل: رجل كان مؤمناً بعيسى وآمن بمحمد صلى الله عليهما، فله أجران. ورجل كان كافراً بعيسى فآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، فله أجر. ورجل كان كافراً بعيسى، فكفر بمحمد، فباء بغضب على غضب. ورجل كان كافرًا بعيسى من مشركي العرب، فمات بكفره قبل محمد صلى الله عليه وسلم، فباء بغضب.
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: " فباءوا بغضب على غضب "، غضب الله عليهم بكفرهم بالإنجيل وبعيسى، وغضب عليهم بكفرهم بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "فباءوا بغضب"، اليهود، بما كان من تبديلهم التوراة قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم، "على غضب"، جحودهم النبي صلى الله عليه وسلم، وكفرهم بما جاء به.
حدثنا المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: "فباءوا بغضب على غضب "، يقول: غضب الله عليهم بكفرهم بالإنجيل وعيسى، ثم غضبه عليهم بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن.
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "فباءوا بغضب على غضب "، أما الغضب الأول فهو حين غضب الله عليهم في العجل؟ وأما الغضب الثاني فغضب عليهم حين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج وعطاء وعبيد بن عمير قوله: "فباءوا بغضب على غضب"، قال: غضب الله عليهم فيما كانوا فيه من قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم من تبديلهم وكفرهم ثم غضب عليهم في محمد صلى الله عليه وسلم إذ خرج، فكفروا به. قال أبو جعفر: وقد بينا معنى الغضب من الله على من غضب عليه من خلقه واختلاف المختلفين في صفته فيما مضى من كتابنا هذا، بما أغنى عن إعادته.
القول في تأويل قوله تعالى:‎" وللكافرين عذاب مهين ".
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: "وللكافرين عذاب مهين"، وللجاحدين نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من الناس كلهم، عذاب من الله، إما في الآخرة، وإما في الدنيا والآخرة، "مهين" هو المذل صاحبه، المخزي، الملبسه هواناً وذلة.
فإن قال قائل: وأي عذاب هو غير مهين صاحبه، فيكون للكافرين المهين منه؟
قيل: إن المهين هو الذي قد بينا أنه المورث صاحبه ذلة وهوانا، الذي يخلد فيه صاحبه، لا ينتقل من هوانه إلى عز وكرامة أبدًا. وهو الذي خص الله به أهل الكفر به وبرسله. وأما الذي هو غير مهين صاحبه، فهو ما كان تمحيصًا لصاحبه. وذلك هو كالسارق من أهل الإسلام، يسرق ما يجب عليه به القطع فتقطع يده، والزاني منهم يزني فيقام عليه الحد، وما أشبه ذلك من العذاب والنكال الذي جعله الله كفارات للذنوب التي عذب بها أهلها، وكأهل الكبائر من أهل الإسلام الذين يعذبون في الآخرة بمقادير أجرامهم التي ارتكبوها، ليمحصوا من ذنوبهم، ثم يدخلون الجنة. فإن كل ذلك، وان كان عذابًا، فغير مهين من عذب به. إذ كان تعذيب الله إياه به ليمحصه من آثامه، ثم يورده معدن العز والكرامة، ويخلده في نعيم الجنان.
قوله تعالى : "بئسما اشتروا" بئس في كلام العرب مستوفية للذم ، كما أن نعم مستوفية للمدح . وفي كل واحد منها أربع لغات : بئس بئس بئس بئس . نعم نعم نعم نعم . ومذهب سيبويه أن ما فاعلة بئس ، ولا تدخل إلا على أسماء الأجناس والنكرات . وكذا نعم ، فتقول نعم الرجل زيد ، ونعم رجلاً زيد ، فإذا كان معها اسم بغير ألف ولام فهو نصب أبداً ، فإذا كان فيه ألف ولا فهو رفع أبداً ، ونصب رجل على التمييز . وفي نعم مضمر على شريطة التفسير ، وزيد مرفوع على وجهين : على خبر ابتداء محذوف ، كأنه قيل من الممدوح ؟ قلت هو زيد ، والآخر على الابتداء وما قبله خبره . وأجاز أبو علي أن تليها ما موصولة وغير موصولة من حيث كانت مبهمة تقع على الكثرة ولا تخص واحداً بعينه ، والتقدير عند سيبويه : بئس الشيء اشتروا به أنفسهم أن يكفروا . فـ أن يكفروا في موضع رفع بالابتداء وخبره فيما قبله ، قولك : بئس الرجل زيد ، و ما على هذا القول موصولة . وقال الأخفش : ما في موضع نصب على التمييز ، كقولك : بئس رجلاً زيد ، فالتقدير بئس شيئاً أن يكفروا . فـ اشتروا به أنفسهم على هذا القول صفة ما . وقال الفراء : بئسما بجملته شيء واحد رب كحبذا . وفي هذا القول اعتراض ، لأنه يبقى فعل بلا فاعل . وقال الكسائي : ما و اشتروا بمنزلة اسم واحد قائم بنفسه ، والتقدير بئس اشتراؤهم أن يكفروا . وهذا مردود ، فإن نعم وبئس لا يدخلان على اسم معين معرف ، والشراء قد تعرف بإضافته إلى الضمير . قال النحاس : وأبين هذه الأقوال قول الأخفش و سيبويه . قال الفراء و الكسائي : أن يكفروا إن شئت كانت أن في موضع خفض رداً على الهاء في به . قال الفراء : أي اشتروا أنفسهم بأن يكفروا بما أنزل الله . فاشترى بمعنى باع وبمعنى ابتاع ، والمعنى : بئس الشيء الذي اختاروا لأنفسهم حيث استبدلوا الباطل بالحق ، والكفر بالإيمان .
قوله تعالى : "بغيا" معناه حسدا ، قاله قتادة و السدي وهو مفعول من أجله ، وهو على الحقيقة مصدر . الأصمعي : وهو مأخوذ من قولهم قد بغى الجرح إذا فسد . وقيل : أصله الطلب ، ولذلك سميت الزانية بغياً . "أن ينزل الله" في موضع نصب ، أي لأن ينزل ، أي لأجل إنزال الله الفضل على نبيه صلى الله عليه وسلم . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وابن محيصن أن ينزل مخففاً ، وكذلك سائر ما في القرآن ، إلا "وما ننزله" في الحجر ، وفي الأنعام "على أن ينزل آية" .
قوله تعالى : "فباءوا" أي رجعوا ، وأكثر ما يقال في الشر ، وقد تقدم . "بغضب على غضب" تقدم معنى غضب الله عليهم ، وهو عقابه ، فقيل : الغضب الأول لعبادتهم العجل ، والثاني لكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن عباس . وقال عكرمة : لأنهم كفروا بعيسى ثم كفروا بمحمد ، يعني اليهود . وروى سعيد عن قتادة : الأول لكفرهم بالإنجيل ، والثاني لكفرهم بالقرآن . وقال قوم : التأييد وشدة الحال عليهم ، لا أنه أراد غضبين معللين بمعصيتين . و "مهين" مأخوذ من الهوان ، وهو ما اقتضى الخلود في النار دائماً بخلاف خلود العصاة من المسلمين ، فإن ذلك تمحيص لهم وتطهير ، كرجم الزاني وقطع يد السارق ، عى ما يأتي بيانه في سورة النساء من حديث ابي سعيد الخدري ، إن شاء الله تعالى .
قال مجاهد "بئسما اشتروا به أنفسهم" يهود شروا الحق بالباطل وكتمان ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بأن يبينوه، وقال السدي "بئسما اشتروا به أنفسهم" يقول: باعوا به أنفسهم، يقول: بئسما اعتاضوا لأنفسهم فرضوا به وعدلوا إليه من الكفر بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم عن تصديقه وموازرته ونصرته، وإنما حملهم على ذلك البغي والحسد والكراهية لـ "أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده" ولا حسد أعظم من هذا، قال ابن إسحاق، عن محمد، عن عكرمة أو سعيد، عن ابن عباس "بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغياً أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده" أي أن الله جعله من غيرهم "فباءوا بغضب على غضب" قال ابن عباس: في الغضب على الغضب، فغضب عليهم فيما كانوا ضيعوا من التوراة وهي معهم، وغضب بكفرهم بهذا النبي الذي بعث الله إليهم (قلت) ومعنى "باءوا" استوجبوا واستحقوا واستقروا بغضب على غضب، وقال أبو العالية: غضب الله عليهم بكفرهم بالإنجيل وعيسى، ثم غضب الله عليهم بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن، وعن عكرمة وقتادة مثله، قال السدي: أما الغضب الأول، فهو حين غضب عليهم في العجل، وأما الغضب الثاني، فغضب عليهم حين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وعن ابن عباس مثله. وقوله تعالى: "وللكافرين عذاب مهين" لما كان كفرهم سببه البغي والحسد، ومنشأ ذلك التكبر، قوبلوا بالإهانة والصغار في الدنيا والاخرة، كما قال تعالى: "إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين" أي صاغرين حقيرين ذليلين راغمين، وقد قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى، حدثنا ابن عجلان، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الناس يعلوهم كل شيء من الصغار حتى يدخلوا سجناً في جهنم يقال له بولس تعلوهم نار الأنيار يسقون من طينة الخبال عصارة أهل النار" .
وما في قوله: 90- "بئسما" موصولة أو موصوفة: أي بئس الشيء أو شيئاً "اشتروا به أنفسهم" قال سيبويه. وقال الأخفش: ما في موضع نصب على التمييز كقولك: بئس رجلاً زيد. وقال الفراء: بئسما بجملته شيء واحد ركب كحبذا. وقال الكسائي: ما واشتروا بمنزلة اسم واحد قائم بنفسه، والتقدير: بئس اشتراؤهم أن يكفروا. وقوله: "أن يكفروا" في موضع رفع على الابتداء عند سيبويه وخبره ما قبله. وقال الفراء والكسائي: إن شئت كان في موضع خفض بدلاً من الهاء في به: أي اشتروا أنفسهم بأن يكفروا. وقال في الكشاف: إن ما نكرة منصوبة مفسرة لفاعل بئس، بمعنى شيئاً اشتروا به أنفسهم، والمخصوص بالذم أن يكفروا، واشتروا بمعنى باعوا. وقوله: "بغياً" أي حسداً. قال الأصمعي: البغي مأخوذ من قولهم قد بغى الجرح: إذا فسد، وقيل: أصله الطلب ولذلك سميت الزانية بغيا. وهو علة لقوله: "اشتروا" وقوله: "أن ينزل" علة لقوله: "بغيا" أي لأن ينزل. والمعنى: أنهم باعوا أنفسهم بهذا الثمن البخس حسداً ومنافسة "أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده" وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وابن محيصن أن ينزل بالتخفيف. "فباءوا" أي رجعوا وصاروا أحقاء "بغضب على غضب" وقد تقدم معنى باءوا ومعنى الغضب، قيل: الغضب، الأول لعبادتهم العجل، والثاني لكفرهم بمحمد، وقيل: كفرهم بعيسى ثم كفرهم بمحمد، وقيل: كفرهم بمحمد ثم البغي عليه، وقيل: غير ذلك. والمهين مأخوذ من الهوان، قيل: وهو ما اقتضى الخلود في النار.
90. " بئسما اشتروا به أنفسهم " بئس ونعم: فعلان ماضيان وضعا للمدح والذم، لا يتصرفان تصرف الأفعال، معناه: بئس الذي اختاروا لأنفسهم حين استبدلوا الباطل بالحق.
وقيل: الاشتراء هاهنا بمعنى البيع والمعنى بئس ما باعوا به حظ أنفسهم أي حين اختاروا الكفر (وبذلوا أنفسهم للنار) " أن يكفروا بما أنزل الله " يعني القرآن " بغياً " أي حسداً وأصل البغي: الفساد ويقال بغى الجرح إذا فسد والبغي: الظلم، وأصله الطلب، والباغي طالب الظلم، والحاسد يظلم المحسود جهده، طلباً لإزالة نعمة الله تعالى عنه " أن ينزل الله من فضله " أي النبوة والكتاب " على من يشاء من عباده " محمد صلى الله عليه وسلم، قرأ أهل مكة والبصرة ينزل بالتخفيف إلا ( في سبحان الذي ) في موضعين " وننزل من القرآن " (93-الإسراء) و " حتى تنزل " (93-الإسراء) فإن ابن كثير يشددهما، وشدد البصريون في الأنعام " على أن ينزل آية " (37-الأنعام) زاد يعقوب تشديد (بما ينزل) في النحل ووافق حمزة و الكسائي في تخفيف (وينزل الغيث) في سورة لقمان وحم وعسق، والآخرون يشددون الكل، ولم يختلفوا في تشديد " وما ننزله إلا بقدر " في الحجر (21) " وباءوا بغضب " أي رجعوا بغضب " على غضب " قال ابن عباس و مجاهد : الغضب الأول بتضييعهم التوراة وتبديلهم، والثاني بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن، وقال قتادة : الأول بكفرهم بعيسى والإنجيل، والثاني بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن، وقال السدي : الأول بعبادة العجل والثاني بالكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم " وللكافرين ": الجاحدين بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم من الناس كلهم " عذاب مهين " مخز يهانون فيه.
90-" بئسما اشتروا به أنفسهم " ما نكرة بمعنى شئ مميزة لفاعل بئس المستكن ، واشتروا صفته ومعناه باعوا ، أو اشتروا بحسب ظنهم ، فإنهم ظنوا أنهم خلصوا أنفسهم من العقاب بما فعلوا . " أن يكفروا بما أنزل الله " هو المخصوص بالذم " بغياً " طلباً لما ليس لهم وحسداً ، وهو علة " أن يكفروا " دون " اشتروا " للفصل . " أن ينزل الله " لأن ينزل ، أي حسدوه على أن ينزل الله . وقرأ ابن كثير و أبو عمرو و سهل و يعقوب بالتخفيف . " من فضله " يعني الوحي . " على من يشاء من عباده " على من اختاره للرسالة " فباءوا بغضب على غضب " للكفر والحسد على من هو أفضل الخلق . وقيل : لكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد عيسى عليه السلام ، أو بعد قولهم عزير ابن الله " وللكافرين عذاب مهين " يراد به إذلالهم ، بخلاف عذاب العاصي فإنه طهرة لذنوبه .
90. Evil is that for which they sell their souls: that they should disbelieve in that which Allah hath revealed, grudging that Allah should reveal of His bounty unto whom He will of His bondmen. They have incurred anger upon anger. For disbelievers is a shameful doom.
90 - Miserable is the price for which they have sold their souls, in that they deny (the revelation) which God has sent down, in insolent envy that God of his grace should send it to any of his servants he pleases: thus have they drawn on themselves wrath upon wrath. and humiliating is the punishment of those who reject faith.