[البقرة : 8] وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ
ونزل في المنافقين : (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر) أي يوم القيامة لأنه آخر الأيام (وما هم بمؤمنين) روعي فيه معنى من ، وفي ضمير يقول لفظها
قال أبو جعفر: أما قوله: "ومن الناس"، فإن في "الناس " وجهين:أحدهما: أن يكون جمعًا لا واحد له من لفظه، وإنما واحدهم إنسان، وواحدتهم إنسانة.
والوجه الآخر: أن يكون أصله أناس أسقطت الهمزة منها لكثرة الكلام بها، ثم دخلتها الألف واللام المعرفتان، فأدغمت اللام التي دخلت مع الألف فيها للتعريف في النون، كما قيل في "لكنا هو الله ربي" (الكهف: 38) على ما قد بينا في اسم الله الذي هو الله. وقد زعم بعضهم أن الناس لغة غير أناس، وأنه سمع العرب تصغره نويس من الناس، وأن الأصل لو كان أناس لقيل في التصغير: انيس، فرد إلى أصله.
وأجمع جميع أهل التأويل على أن هذه الآية نزلت في قوم من أهل النفاق، وأن هذه الصفة صفتهم.
ذكر من قال ذلك من أهل التأويل بأسمائهم:حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: "ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين "، يعني المنافقين من الأوس والخزرج ومن كان على أمرهم. وقد سمي في حديث ابن عباس هذا أسماؤهم عن أبي بن كعب، غير أني تركت تسميتهم
كراهة إطالة الكتاب بذكرهم.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أنبأنا عبد الرزاق، قال: أنبأنا معمر، عن قتادة في قوله: "ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين "، حتى بلغ: "فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين " قال: هذه في المنافقين.
حدثنا محمد بن عمرو الباهلي، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميمون، قال: حدثنا عبدالله بن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: هذه الآية إلى ثلاث عشرة، في نعت المنافقين.
حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثنا سفيان، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد، مثله.
حدثني موسى بن هرون، قال: حدثنا عمروبن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن إسمعيل السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: "ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين " هم المنافقون.
حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحق، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، في قوله: "ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر" إلى "فزادهم الله مرضاً ولهم عذاب أليم" ( البقرة: 10) قال: هؤلاء أهل النفاق.
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، في قوله: "ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين،" قال: هذا المنافق، يخالف قوله فعله، وسره علانيته، ومدخله مخرجه، ومشهده مغيبه.
وتأويل ذلك: أن الله جل ثناؤه لما جمع لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم أمره في دار هجرته، واستقر بها قراره، وأظهر الله بها كلمته، وفشا في دور أهلها الإسلام، وقهر بها المسلمون من فيها من أهل الشرك من عبدة الأوثان، وذل بها من فيها من أهل الكتاب أظهر أحبار يهودها لرسول الله صلى الله عليه وسلم الضغائن، وأبدوا له العداوة والشنآن، حسدًا وبغيًا، إلا نفراً منهم هداهم الله للإسلام فأسلموا، كما قال جل ثناؤه: "ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارًا حسدًا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق" ( البقرة: 109) وطابقهم سرًا على معاداة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وبغيهم الغوائل، قوم من أراهط الأنصار الذين آووا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصروه وكانوا قد عسوا في شركهم وجاهليتهم قد سموا لنا بأسمائهم، كرهنا تطويل الكتاب بذكر أسمائهم وأنسابهم، وظاهروهم على ذلك في خفاء غير جهار، حذار القتل على أنفسهم، والسباء من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وركونا إلى اليهود لما هم عليه من الشرك وسوء البصيرة بالإسلام. فكانوا إذا لقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل الإيمان به من أصحابه قالوا لهم حذارًا على أنفسهم: إنا مؤمنون بالله وبرسوله وبالبعث، وأعطوهم بألسنتهم كلمة الحق، ليدرأوا عن أنفسهم حكم الله فيمن اعتقد ما هم عليه مقيمون من الشرك، لو أظهروا بألسنتهم ما هم معتقدوه من شركهم. وإذا لقوا إخوانهم من اليهود وأهل الشرك والتكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، فخلوا بهم "قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون" (البقرة: 14). فإياهم عنى جل ذكره بقوله: "ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين "، يعني بقوله تعالى خبرًا عنهم: آمنا بالله: صدقنا بالله.
وقد دللنا على أن معنى الإيمان: التصديق، فيما مضى قبل من كتابنا هذا.
وقوله: "وباليوم الآخر"، يعني: بالبعث يوم القيامة، وإنما سمي يوم القيامة اليوم الآخر،لأنه آخريوم، لا يوم بعده سواه.
فإن قال قائل: وكيف لا يكون بعده يوم، ولا انقطاع للآخرة ولا فناء ولا زوال؟
قيل: إن اليوم عند العرب إنما سمي يومًا بليلته التي قبله، فإذا لم يتقدم النهار ليل لم يسم يوماً. فيوم القيامة يوم لا ليل بعده، سوى الليلة التي قامت في صبيحتها القيامة، فذلك اليوم هوآخر الأيام. لذلك سماه الله جل ثناؤه اليوم الآخر، ونعته بالعقيم. ووصفه بأنه يوم عقيم، لأنه لا ليل بعده.
وأما تأويل قوله: "وما هم بمؤمنين "، ونفيه عنهم جل ذكره اسم الإيمان، وقد أخبر عنهم أنهم قد قالوا بألسنتهم: آمنا بالله وباليوم الآخر فإن ذلك من الله جل وعز تكذيب لهم فيما أخبروا عن اعتقادهم من الإيمان والإقرار بالبعث، وإعلام منه نبيه صلى الله عليه وسلم أن الذي يبدونه له بأفواههم خلاف ما في ضمائر قلوبهم، وضد ما في عزائم نفوسهم.
وفي هذه الآية دلالة واضحة على بطول ما زعمته الجهمية: من أن الإيمان هو التصديق بالقول، دون سائر المعاني غيره. وقد أخبر الله جل ثناؤه عن الذين ذكرهم في كتابه من أهل النفاق، أنهم قالوا بألسنتهم: "آمنا بالله وباليوم الآخر"، ثم نفى عنهم أن يكونوا مؤمنين، إذ كان اعتقادهم غير مصدق قيلهم ذلك.
وقوله "وما هم بمؤمنين "، يعني بمصدقين، فيما يزعمون أنهم به مصدقون.
قوله تعالى : "ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين" .
وفيه سبع مسائل :
الأولى : روى ابن جريج عن مجاهد قال : نزلت أربع آيات من سورة البقرة في المؤمنين ، واثنتان في نعت الكافرين ، وثلاث عشرة في المنافقين . وروى أسباط عن السد في قوله : ومن الناس قال : هم المنافقون . وقال علماء الصوفية :الناس اسم جنس ، واسم الجنس لا يخاطب به الأولياء .
الثانية : واختلف النحاة في لفظ الناس ، فقيل : هو اسم من أسماء الجموع ، جمع إنسان وإنسانة ، على غير اللفظ ، وتصغيره نويس . فالناس من النوس وهو الحركة ، يقال : ناس ينوس أي تحرك ، ومنه حديث أن زرع :
أناس من حلي أذني . وقيل : اصله من نسى ، فأصل ناس نسى قلب فصار نيس تحركت الياء فانفتح ما قبلها فانقلبت ألفاً ، ثم دخلت الألف واللام فقيل : الناس . قال ابن عباس نسي آدم عهد الله فسمي إنساناً . وقال عليه السلام :
"نسي آدم فنسيت ذريته" . وفي التنزيل : "ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي" وسيأتي . وعلى هذا فالهمزة زائدة ، قال الشاعر :
لا تنسين تلك العهود فإنما سميت إنساناً لأنك ناسي
وقال آخر :
فإن نسيت عهودا منك سالفة فاغفر فأول ناس أول الناس
وقيل : سمي إنساناً لأنسه بحواء . وقيل : لأنسه بربه ، فالهمزة أصلية ، قال الشاعر :
وما سمي الإنسان إلا لأنسه ولا القلب إلا أنه يتقلب
الثالثة لما ذكر الله جل وتعالى المؤمنين أولا ، وبدأ بهم لشرفهم وفضلهم ، ذكر الكافرين في مقابلتهم ، إذ الكفر والإيمان طرفان . ثم ذكر المنافقين بعدهم وألحقهم بالكافرين قبلهم ، لنفي الإيمان عنهم بقوله الحق : "وما هم بمؤمنين" . ففي هذا رد على الكرامية حيث قالوا : إن الإيمان قول باللسان وإن لم يعتقد بالقلب ، واحتجوا بقوله تعالى : "فأثابهم الله بما قالوا" ولم يقل : بما قالوا وأضمروا ، وبقوله عليه السلام :
"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم" . وهذا منهم قصور وجمود ، وترك نظر لما نطق به القرآ، والسنة من العمل مع القول والاعتقاد ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"الإيمان معرفة بالقلب وقول باللسان وعمل بالأركان" . اخرجه ابن ماجة في سننه ، فما ذهب إليه محمد بن كرام السجستاني وأصحابه هو النفاق وعين الشقاق ، ونعوذ بالله من الخذلان وسوء الاعتقاد .
الرابعة : :قال علماؤنا رحمة الله عليهم : المؤمن ضربان : مؤمن يحبه الله ويواليه ، ومؤن لا يحبه الله ولا يواليه ، بل يبغضه ويعاديه ، فكل من علم الله أنه يوافي بالإيمان ، فالله محب له ، موال له ، راض عنه . وكل من علم الله أنه يوافي بالكفر ، فالله مبغض له ، ساخط عليه ، معاد له ، لا لأجل إيمانه ، ولكن لكفره وضلاله الذي يوافي به . والكافر ضربان : كفر يعاقب لا محالة ، وكافر لا يعاقب . فالذي يعاقب هو الذي يوافي بالكفر ، فالله ساخط عيه معاد له . والذي لا يعاقب هو الموافي بالإيمان ، فالله غير ساخط على هذا ولا مبغض له ، بل محب له موال ، لا لكفره لكن لإيمانه الموافى به . فلا يجوز أن يطلق القول وهي :
الخامسة : بأن المؤمن يستحق الثواب ، والكافر يستحق العقاب ، بل يجب تقييده بالموافاة . ولأجل هذا قلنا : أن الله راض عن عمر في الوقت الذي كان يعبد الأصنام ، ومريد لثوابه ودخوله الجنة ، لا لعبادته الصنم ، لكن لإيمانه الموافي به . وإن الله تعالى ساخط على إبليس في حال عبادته ، لكفره الموافي به .
وخالفت القدرية في هذا وقالت : إن الله لم يكن ساخطاً على إبليس وقت عبادته ، ولا راضياً عن عمر وقت عبادته للصنم . وهذا فاسد ، لما ثبت أن الله سبحانه عالم بما يوافى به إبليس لعنه الله ، وبما يوافى به عمر رضي الله عنه فيما لم يزل ، فثبت أنه كان ساخطاً على إبليس محباً لعمر . ويدل عليه إجماع الأمة على أن الله سبحانه وتعالى غير محب لمن علم أنه من أهل النار ، بل هو ساخط عليه ، وأنه محب لمن علم أنه من أهل الجنة ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"وإنما الأعمال بالخواتيم" ولهذا قال علماء الصوفية : ليس الإيمان ما يتزين به العبد قولاً وفعلاً ، لكن الإيمان جري السعادة في سوابق الأزل ، وأما ظهوره على الهياكل فربما يكون عارياً ، وربما يكون حقيقة .
قلت :هذا كما ثبت في صحيح مسلم وغيره " عن عبد الله بن مسعود قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق : إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك ثم يرسل الله الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها" . فإن قيل وهي :
السادسة : فقد خرج الإمام الحافظ أبو محمد عبد الغني بن سعيد المصري من حديث محمد بن سعيد الشامي المصلوب في الزندقة ، وهو محمد بن أبي قيس ، عن سليمان بن موسى وهو الأشدق ، عن مجاهد بن جبر " عن ابن عباس أخبرنا أبو رزين العقيلي قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : لأشربن أنا وأنت يا أبا رزين من لبن لم يتغير طعمه قال قلت : كيف يحيي الله الموتى ؟ قال : أما مررت بأرض لك مجدبة ثم مررت بها مخصبة ثم مررت بها جدبة ثم مررت بها خصبة ، قلت : بلى . قال : كذلك النشور قال قلت : كيف لي أن أعلم أني مؤمن ؟ قال : ليس أحد من هذه الأمة ـ قال ابن ابي قيس : أو قال من أمتي ـ عمل حسنة وعلم أنها حسنة وأن الله جازية بها خيراً أو عمل سيئة وعلم أنها سيئة وأن الله جازية بها شراً أو يغفرها إلا مؤمن " .
قلت : وهذا الحديث وإن كان سنده ليس بالقوي فإن معناه صحيح وليس بمعارض لحديث ابن مسعود ، فإن ذلك موقوف على الخاتمة ، كما قال عليه السلام :
"وإنما الأعمال بالخواتيم" . وهذا إنما يدل على أنه مؤمن في الحال ، والله أعلم .
السابعة : قال علماء اللغة : إنما سمي المنافق منافقاً لإظهاره غير ما يضمر ، تشبيهاً باليربوع ، له جحر يقال له : النافقاء ، وآخر يقال له : القاصعاء . وذلك أنه يخرق الأرض حتى إذا كاد يبلغ ظاهر الأرض أرق التراب ، فإذا رابه ريب جفع ذلك التراب برأسه فخرج ، فظاهر جحره تراب ، وباطنه حفر . وكذلك المنافق ظاهره إيمان ، وباطنه كفر ، وقد تقدم هذا المعنى .

النفاق هو إظهار الخير وإسرار الشر، وهو أنواع: اعتقادي، وهو الذي يخلد صاحبه في النار . وعملي وهو من أكبر الذنوب كما سيأتي تفصيله في موضعه إن شاء الله تعالى، وهذا كما قال ابن جريج: المنافق يخالف قوله فعله، وسره علانيته، ومدخله مخرجه، ومشهده مغيبه، وإنما نزلت صفات المنافقين في السور المدنية لأن مكة لم يكن فيها نفاق بل كان خلافه من الناس من كان يظهر الكفر مستكرهاً وهو في الباطن مؤمن، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وكان بها الأنصار من الأوس والخزرج وكانوا في جاهليتهم يعبدون الأصنام على طريقة مشركي العرب، وبها اليهود من أهل الكتاب على طريقة أسلافهم وكانوا ثلاث قبائل بنو قينقاع حلفاء الخزرج وبنو النضير وبنوقريظة حلفاء الأوس فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وأسلم من أسلم من الأنصار من قبيلتي الأوس والخزرج وقل من أسلم من اليهود إلا عبد الله بن سلام رضي الله عنه ولم يكن إذ ذاك نفاق أيضاً لأنه لم يكن للمسلمين بعد شوكة تخاف، بل قد كان عليه الصلاة والسلام وادع اليهود وقبائل كثيرة من أحياء العرب حوالي المدينة فلما كانت وقعة بدر وأظهر الله كلمته وأعز الإسلام وأهله قال عبد الله بن أبي بن سلول وكان رأساًفي المدينة وهو من الخزرج وكان سيد الطائفتين في الجاهلية، وكانوا قد عزموا على أن يملكوه عليهم فجاءهم الخير وأسلموا واشتغلوا عنه فبقي في نفسه من الإسلام وأهله، فلما كانت وقعت بدر قال: هذا. أمر الله قد توجه فأظهر الدخول في الإسلام ودخل معه طوائف ممن هو على طريقته ونحلته وآخرون من أهل الكتاب فمن ثم وجد النفاق في أهل المدينة ومن حولها من الأعراب فأما المهاجرون فلم يكن فيهم أحد نافق لأنه لم يكن أحد يهاجر مكرهاً بل يهاجر فيترك ماله وولده وأرضه رغبة فيما عند الله في الدار الاخرة. قال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس " ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين " يعني المنافقين من الأوس والخزرج ومن كان على أمرهم وكذا فسرها بالمنافقين من الأوس والخزرج أبو العالية والحسن وقتادة والسدي ولهذا نبه الله سبحانه على صفات المنافقين لئلا يغتر بظاهر أمرهم المؤمنون فيقع بذلك فساد عريض من عدم الاحتراز منهم ومن اعتقاد إيمانهم وهم كفار في نفس الأمر وهذا من المحذورات الكبار أن يظن بأهل الفجور خير فقال تعالى: " ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين " أي يقولون ذلك قولاً ليس وراءه شيء آخر كما قال تعالى: "إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله" أي إنما يقولون ذلك إذا جاؤوك فقط لا في نفس الأمر، ولهذا يؤكدون في الشهادة بإن ولام التأكيد في خبرها. أكدوا أمرهم قالوا: آمنا بالله وباليوم الاخر وليس الأمر كذلك كما كذبهم الله في شهادتهم وفي خبرهم هذا بالنسبة إلى اعتقادهم بقوله تعالى: "والله يشهد إن المنافقين لكاذبون" وبقوله: "وما هم بمؤمنين".
وقوله تعالى: "يخادعون الله والذين آمنوا" أي بإظهارهم ما أظهروه من الإيمان مع إسرارهم الكفر يعتقدون بجهلهم أنهم يخدعون الله بذلك، وأن ذلك نافعهم عنده، وأنه يروج عليه كما قد يروج على بعض المؤمنين كما قال تعالى: " يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون " ولهذا قابلهم على اعتقادهم ذلك بقوله: " وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون " يقول وما يغرون بصنيعهم هذا ولا يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون بذلك من أنفسهم كما قال تعالى: "إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم" ومن القراء من قرأ "وما يخدعون إلا أنفسهم" وكلا القراءتين ترجع إلى معنى واحد وقال ابن جرير فإن قال قائل: كيف يكون المنافق لله وللمؤمنين مخادعاً وهو لا يظهر بلسانه خلاف ما هو له معتقد إلا تقية ؟ قيل: لا تمتنع العرب أن تسمي من أعطى بلسانه غير الذي في ضميره تقية لينجو مما هو له خائف مخادعاً، فكذلك المنافق سمي مخادعاً لله وللمؤمنين بإظهاره ما ظهر بلسانه تقية بما يخلص به من القتل والسبي والعذاب العاجل وهو لغير ما أظهره مستبطن وذلك من فعله وإن كان خداعاً للمؤمنين في عاجل الدنيا فهو لنفسه بذلك من فعله خادع، لأنه يظهر لها بفعله ذلك بها أنه يعطيها أمنيتها ويسقيها كأس سرورها، وهو موردها حياض عطبها، ومجرعها به كأس عذابها، ومذيقها من غضب الله وأليم عقابه ما لا قبل لها به، فذلك خديعته نفسه ظناً منه مع إساءته إليها في أمر معادها أنه إليها محسن كما قال تعالى: "وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون" إعلاماً منه عباده المؤمنين أن المنافقين بإساءتهم إلى أنفسهم في إسخاطهم عليها ربهم يكفرهم وشكهم وتكذيبهم غير شاعرين ولا دارين، ولكنهم على عمى أمرهم مقيمين. وقال ابن أبي حاتم: أنبأنا علي بن المبارك فيما كتب إلي حدثنا زيد بن المبارك حدثنا محمد بن ثور عن ابن جريج في قوله تعالى يخادعون الله قال: يظهرون لا إله إلا الله يريدون أن يحرزوا بذلك دماءهم وأموالهم وفي أنفسهم غير ذلك. وقال سعيد عن قتادة " ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين * يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون " نعت المنافق عند كثير: خنع الأخلاق يصدق بلسانه وينكر بقلبه ويخالف بعمله ويصبح على حال ويمسي على غيره، ويمسي على حال ويصبح على غيره، ويتكفأ تكفؤ السفينة كلما هبت ريح هبت معها.
8- " ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين " ذكر سبحانه وتعالى في أول هذه السورة المؤمنين الخلص، ثم ذكر بعدهم الكفرة الخلص، ثم ذكر ثالثاً المنافقين وهم الذين لم يكونوا من إحدى الطائفتين، بل صاروا فرقة ثالثة لأنهم وافقوا في الظاهر الطائفة الأولى وفي الباطن الطائفة الثانية، ومع ذلك فهم أهل الدرك الأسفل من النار. وأصل ناس حذفت همزته تخفيفاً، وهو من النوس وهو الحركة، يقال: ناس ينوس: أي تحرك، وهو من أسماء الجموع جمع إنسان وإنسانة على غير لفظه، واللام الداخلة عليه للجنس، ومن تبعيضية، أي بعض الناس، ومن موصوفة: أي ومن الناس ناس يقول. والمراد باليوم الآخر: الوقت الذي لا ينقطع، بل هو دائم أبداً.
8. قوله: " ومن الناس من يقول آمنا بالله " نزلت في المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول، ومعتب بن قشير، وجد بن قيس وأصحابهم حيث أظهروا كلمة الإسلام ليسلموا من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه واعتقدوا خلافها وأكثرهم من اليهود، والناس جمع انسان سمي به لأنه عهد إليه فنسي كما قال الله تعالى " ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي " (115-طه) وقيل لظهوره من قولهم آنست أي أبصرت، وقيل لأنه يستأنس به " وباليوم الآخر " أي بيوم القيامة. قال الله تعالى: " وما هم بمؤمنين " أي يخالفون الله.
8-" ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر " لما افتتح سبحانه وتعالى بشرح حال الكتاب وساق لبيانه ، ذكر المؤمنين الذين أخلصوا دينهم لله تعالى وواطأت فيه قلوبهم ألسنتهم ، وثنى بأضدادهم الذين محضوا ظاهراً وباطناً ولم يلتفتوا لفتة رأساً ، ثلث بالقسم الثالث المذبذب بين القسمين ، وهم الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم تكميلاً للقسم ، وهم أخبث وأبغضهم إلى الله لأنهم الكفر وخلصوا به خداعاً واستهزاءً ، ولذلك طول في بيان خبثهم وجعلهم واستهزأ بهم ، وتهكم بأفعالهم وسجل على عمههم وطغيانهم ، وضرب لهم الأمثال وأنزل فيهم " إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار " وقصتهم عن آخرها معطوفة على قصة المصريين .
والناس أصله أناس لقولهم : إنسان وأنس وأناسي فحذفت الهمزة حذفها في لوقة وعوض عنها حرف التعريف ولذلك لا يكاد يجمع بينهما . وقوله :
إن المنايا يطلعن على الإناس الآمنينا
شاذ . وهو اسم جمع كرجال ، إذ لم يثبت في أبنية الجمع . مأخوذ من أنس لأنهم يستأنسون بأمثالهم . أو آنس لأنهم ظاهرون مبصرون ، ولذلك سموا بشراً كنا سمي الجن جناً لاجتنابهم . واللام فيه للجنس ، ومن موصولة إذ لا عهد فكأنه قال : ومن الناس ناس يقولون . أو للعهد والمعهود : هم الذين كفروا ، ومن موصولة مراد بها ابن أبي وأصحابه ونظراؤه ، فإنهم من حيث إنهم صمموا على النفاق دخلوا في عداد الكفار المختوم على قلوبهم ، واختصاصهم بزيادات زادوها على الكفر لا يأبى دخولهم تحت هذا الجنس ، فإن الأجناس إنما تتنوع بزيادات يختلف فيها أبعاضها فعلى هذا تكون الآية تقسيماً للقسم الثاني .
واختصاص الإيمان بالله وباليوم الآخر بالذكر ، تخصيص لما هو المقصود الأعظم من الإيمان وادعاء بأنهم اجتازوا الإيمان من جانبيه وأحاطوا بقطريه ، وإيذان بأنهم منافقون فيما يظنون أنهم مخلصون فيه ، فكيف بما يقصدون به النفاق ، لأن القوم كانوا يهوداً وكانوا يؤمنون بالله وباليوم الآخر إيماناً كلا إيمان ، لاعتقادهم التشبيه واتخاذ الولد ، وإن الجنة لا يدخلها غيرهم ، وأن النار لا تمسهم إلا أياماً معدودة وغيرها ، ويرون المؤمنين أنهم آمنوا مثل إيمانهم . وبيان لتضاعف خبثهم وإفراطهم في كفرهم ، لأن ما قالوه لو صدر عنهم لا على وجه الخداع والنفاق وعقيدتهم لم يكن إيماناً ، فكيف وقد قالوه تمويهاً على المسلمين وتهكماً بهم . وفي تكرار الباء ادعاء الإيمان بكل واحد على الأصالة والاستحكام .
والقول هو التلفظ بما يفيد ، ويقال بمعنى المقول ، وللمعنى المتصور في النفس المعبر عنه باللفظ وللرأي والمذهب مجازاً . والمراد باليوم الآخر من وقت الحشر إلى ما لا ينتهي . أو إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار لأنه آخر الأوقات المحدودة .
" وما هم بمؤمنين " إنكار ما ادعوه ونفي ما انتحلوا إثباته ، وكان أصله وما آمنوا ليطابق قولهم في التصريح بشأن الفعل دون الفاعل لكنه عكس تأكيداً . أو مبالغة في التكذيب ، لأن إخراج ذواتهم من عداد المؤمنين أبلغ من نفي الإيمان عنهم في ماضي الزمان ، ولذلك أكد النفي بالباء وأطلق الإيمان على معنى أنهم ليسوا من الإيمان في شئ ويحتمل أن يقيد بما قيدوا به لأنه جوابه .
والآية تدل على أن من ادعى الإيمان وخالف قلبه لسانه بالاعتقاد لم يكن مؤمناً . لأن من تفوه بالشهادتين فارغ القلب عما يوافقه أو ينافيه لم يكن مؤمناً . والخلاف مع الكراهية في الثاني فلا ينهض حجة عليهم .
8. And of mankind are some who say: We believe in Allah and the Last Day, when they believe not.
8 - Of the people there are some Who say: We believe in God and the Last Day; But they do not (really) believe.