[البقرة : 75] أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
(أفتطمعون) أيها المؤمنون (أن يؤمنوا لكم) أي اليهود (وقد كان فريق) طائفة (منهم) أحبارهم (يسمعون كلام الله) في التوراة (ثم يحرفونه) يغيرونه (من بعد ما عقلوه) فهموه (وهم يعلمون) أنهم مفترون والهمزة للإنكار أي لا تطعموا فلهم سابقة بالكفر
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"أفتطمعون" يا أصحاب محمد، أي: أفترجون يا معشر المؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم، والمصدقين ما جاءكم به من عند الله، أن يؤمن لكم يهود بني إسرائيل؟
ويعني بقوله: "أن يؤمنوا لكم"، أن يصدقوكم بما جاءكم به نبيكم صلى الله عليه وسلم محمد من عند ربكم، كما:
حدثت عن عمار بن الحسن، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: "أفتطمعون أن يؤمنوا لكم"، يعني أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، "أن يؤمنوا لكم"، يقول: أفتطمعون أن يؤمن لكم اليهود؟
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"أفتطمعون أن يؤمنوا لكم" الآية، قال: هم اليهود.
القول في تأويل قوله تعالى:"وقد كان فريق منهم".
قال أبو جعفر: أما الفريق فجمع، كالطائفة، لا واحد له من لفظه. وهو فعيل من التفرق، سمي به الجماع، كما سميت الجماعة بـ الحزب، من التحزب، وما أشبه ذلك. ومنه قول أعشى بني ثعلبة:
أجدوا، فلما خفت أن يتفرقوا فريقين، منهم مصعد ومصوب
يعني بقوله:"منهم"، من بني إسرائيل، وإنما جعل الله الذين كانوا على عهد موسى ومن بعدهم من بني إسرائيل، من اليهود الذين قال الله لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم:"أفتطمعون أن يؤمنوا لكم " لأنهم كانوا آباءهم وأسلافهم، فجعلهم منهم، إذ كانوا عشائرهم وفرطهم وأسلافهم، كما يذكر الرجل اليوم الرجل، وقد مضى على منهاج الذاكر وطريقته، وكان من قومه وعشيرته، فيقول:كان منا فلان، يعني أنه كان من أهل طريقته ومذهبه، أو من قومه وعشيرته. فكذلك قوله:"وقد كان فريق منهم".
القول في تأويل قوله تعالى:"يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون".
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في الذين عنى الله بقوله:"وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون". فقال بعضهم بما:
حدثني به محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: "أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون"، فالذين يحرفونه، والذين يكتمونه، هم العلماء منهم.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحوه.
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه"، قال: هي التوراة، حرفوها.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: "يسمعون كلام الله ثم يحرفونه"، قال: التوراة التي أنزلها عليهم، يحرفونها، يجعلون الحلال فيها حرامًا، والحرام فيها حلالاً، والحق فيها باطلاً، والباطل فيها حقًا، إذا جاءهم المحق برشوة أخرجوا له كتاب الله، وإذا جاءهم المبطل برشوة أخرجوا له ذلك الكتاب، فهو فيه محق. وإن جاء أحد يسألهم شيئًا ليس فيه حق ولا رشوة ولا شيء، أمروه بالحق. فقال لهم: "أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون" (البقرة:44).
وقال آخرون في ذلك بما:
حدثت عن عمار بن الحسن قال، أخبرنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون"، فكانوا يسمعون من ذلك كما يسمع أهل النبوة، ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق في قوله:"وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله" الآية، قال: ليس قوله:"يسمعون كلام الله"، يسمعون التوراة. كلهم قد سمعها، ولكنهم الذين سألوا موسى رؤية ربهم فأخذتهم الصاعقة فيها.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحق قال: بلغني عن بعض أهل العلم أنهم قالوا لموسى: يا موسى، قد حيل بيننا وبين رؤية الله عز وجل، فأسمعنا كلامه حين يكلمك. فطلب ذلك موسى إلى ربه فقال: نعم، فمرهم فليتطهروا، وليطهروا ثيابهم، ويصوموا. ففعلوا. ثم خرج بهم حتى أتى الطور، فلما غشيهم الغمام أمرهم موسى عليه السلام أ أن يسجدوا، فوقعوا سجودًا، وكلمه ربه فسمعوا كلامه، يأمرهم وينهاهم، حتى عقلوا ما سمعوا. ثم انصرف بهم إلى بني إسرائيل. فلما جاءوهم حرف فريق منهم ما أمرهم به، وقالوا حين قال موسى لبني إسرائيل: إن الله قد أمركم بكذا وكذا، قال ذلك الفريق الذين ذكرهم الله: إنما قال كذا وكذا خلافًا لما قال الله عز وجل لهم. فهم الذين عنى الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين اللذين ذكرت بالآية، وأشبههما بما دل عليه ظاهر التلاوة، ما قاله الربيع بن أنس، والذي حكاه ابن إسحاق عن بعض أهل العلم: من أن الله تعالى ذكره إنما عنى بذلك من سمع كلامه من بني إسرائيل، سماع موسى إياه منه، ثم حرف ذلك وبدل، من بعد سماعه وعلمه به وفهمه إياه. وذلك أن الله جل ثناؤه إنما أخبر أن التحريف كان من فريق منهم كانوا يسمعون كلام الله عز وجل، استعظامًا من الله لما كانوا يأتون من البهتان، بعد توكيد الحجة عليهم والبرهان، وإيذانًا منه تعالى ذكره عباده المؤمنين، قطع أطماعهم من إيمان بقايا نسلهم بما أتاهم به محمد من الحق والنور والهدى، فقال لهم: كيف تطمعون في تصديق هؤلاء اليهود إياكم، وإنما تخبرونهم بالذي تخبرونهم من الأنباء عن الله عز وجل عن غيب لم يشاهدوه ولم يعاينوه، وقد كان بعضهم يسمع من الله كلامه وأمره ونهيه، ثم يبدله ويحرفه ويجحده؟ فهؤلاء الذين بين أظهركم من بقايا نسلهم، أحرى أن يجحدوا ما أتيتموهم به من الحق، وهم لا يسمعونه من الله، وانما يسمعونه منكم وأقرب إلى أن يحرفوا ما في كتبهم من صفة نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم ونعته ويبدلوه، وهم به عالمون، فيجحدوه ويكذبوا من أوائلهم الذين باشروا كلام الله من الله جل ثناؤه، ثم حرفوه من بعد ما عقلوه وعلموه، متعمدين التحريف.
ولو كان تأويل الآية على ما قاله الذين زعموا أنه عنى بقوله: "يسمعون كلام الله"، يسمعون التوراة، لم يكن لذكر قوله: "يسمعون كلام الله" معنى مفهوم. لأن ذلك قد سمعه المحرف منهم وغير المحرف، فخصوص المحرف منهم بأنه كان يسمع كلام الله إن كان التأويل على ما قاله الذين ذكرنا قولهم دون غيرهم، ممن كان يسمع ذلك سماعهم، لا معنى له.
فإن ظن ظان أنه، إنما صلح أن يقال ذلك لقوله "يحرفونه"، فقد أغفل وجه الصواب في ذلك. وذلك أن ذلك لو كان كذلك لقيل: أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يحرفون كلام الله من بعد ما عقلوه وهم يعلمون. ولكنه جل ثناؤه أخبر عن خاص من اليهود، كانوا أعطوا من مباشرتهم سماع كلام الله ما لم يعطه أحد غير الأنبياء والرسل، ثم بدلوا وحرفوا ما سمعوا من ذلك. فلذلك وصفهم بما وصفهم به، للخصوص الذي كان خص به هؤلاء الفريق الذي ذكرهم في كتابه تعالى ذكره.
ويعني بقوله"ثم يحرفونه"، ثم يبدلون معناه وتأويله ويغيرونه. وأصله من انحراف الشيء عن جهته، وهو ميله عنها إلى غيرها. فكذلك قوله:"يحرفونه" أي يميلونه عن وجهه ومعناه الذي هو معناه، إلى غيره. فأخبر الله جل ثناؤه أنهم فعلوا ما فعلوا من ذلك، على علم منهم بتأويل ما حرفوا، وأنه بخلاف ما حرفوه إليه. فقال: "يحرفونه من بعد ما عقلوه"، يعني: من بعد ما عقلوا تأويله، "وهم يعلمون"، أي: يعلمون أنهم في تحريفهم ما حرفوا من ذلك مبطلون كاذبون.
وذلك إخبار من الله جل ثناؤه عن إقدامهم على البهت، ومناصبتهم العداوة له ولرسوله موسى صلى الله عليه وسلم، وأن بقاياهم من مناصبتهم العداوة لله ولرسوله محمد صلى الله عليه وسلم بغيًا وحسدًا على مثل الذي كان عليه أوائلهم من ذلك في عصر موسى عليه الصلاة والسلام.
قوله تعالى : "أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون" .
فيه أربع مسائل :
الأولى : قوله تعالى "أفتطمعون أن يؤمنوا لكم" هذا استفهام فيه معنى الإنكار ، كأنه أيأسهم من إيمان هذه الفرقة من اليهود ، أي إن كفروا فلهم سابقة في ذلك . والخطاب لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم . وذلك أن الأنصار كان لهم حرص على إسلام اليهود للحلف والجوار الذي كان بينهم . وقيل : الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة ، عن ابن عباس . أي لا تحزن على تكذيبهم إياك ، وأخبره أنهم من أهل السوء الذين مضوا . و أن في موضع نصب ، أي في أن يؤمنوا ، نصب بأن ، ولذلك حذفت منه النون .
يقال : طمع فيه طمعاً وطماعية ـ مخفف ـ هو طمع ، على وزن فعل . وأطمعه فيه غيره . ويقال في التعجب : طمع الرجل ـ بضم الميم ـ أي صار كثير الطمع . والطمع : رزق الجند ، يقال : أمر لهم الأمير بأطماعهم ، أي بأرزاقهم . وامرأة مطماع : تطمع ولا تمكن .
الثانية : قوله تعالى : "وقد كان فريق منهم" الفريق اسم جمع لا واحد له من لفظه ، وجمعه في أدنى العدد أفرقه ، وفي الكثير أفرقاء . "يسمعون" في موضع نصب خبر كان . ويجوز أن يكون الخبر منهم ، ويكون "يسمعون" نعتاً لفريق ، وفيه بعد . "كلام الله" قراءة الجماعة . وقرأ الأعمش كلم الله على جمع كلمة . قال سيبويه : وأعلم أن ناساً من ربيعة يقولون منهم بكسر الهاء اتباعاً لسر الميم ، ولم يكن المسكن حاجزاً حصيناً عندهم . كلام الله مفعول بـ يسمعون . والمراد السبعون الذين اختارهم موسى عليه السلام ، فسمعوا كلام الله فلم يمتثلوا أمره ، وحرفوا القول في إخبارهم لقومهم . هذا قول الربيع وابن إسحاق ، وفي هذا القول ضعف . ومن قال : إن السبعين سمعوا ما سمع موسى فقد أخطأ ، وأذهب بفضيلة موسى واختصاصه بالتكليم . وقد قال السدي وغيره : لم يطيقوا سماعه ، واختلطت أذهانهم ورغبوا أن يكون موسى يسمع ويعيده لهم ، فلما فرغوا وخرجوا بدلت طائفة منهم ما سمعت من كلام الله على لسان نبيهم موسى عليه السلام ، كما قال تعالى "وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله" .
فإن قيل : فقد روى الكلبي عن ابي صالح عن ابن عباس : أن قوم موسى سألوا موسى أن يسأل ربه أن يسمعهم كلامه ، فسمعوا صوتاً كصوت الشبور : إني أنا الله لا إلا أنا الحي القيوم أخرجتكم من مصر بيد رفيعة وذراع شديدة .
قلت : هذا حديث باطل لا يصح ، رواه ابن مروان عن الكلبي وكلاهما ضعيف لا يحتج به ، وإنما الكلام شيء خص به موسى من بين جميع ولد آدم ، فإن كان كلم قومه أيضاً حتى أسمعهم كلامه فما فضل موسى علهيم ، وقد قال وقوله الحق : "اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي" . وهذا واضح .
الثالثة : واختلف الناس بماذا عرف موسى كلام الله ولم يكن سمع قبل ذلك خطابه ، فمنهم من قال : إنه سمع كلاماً ليس بحروف وأصوات ، وليس فيه تقطيع ولا نفس ، فحينئذ علم أن ذلك ليس هو كلام الشر وإنما هو كلام رب العالمين . وقال آخرون : إنه لما سمع كلاماً لا من جهة ، وكلام البشر يسمع من جهة من الجهات الست ، علم أنه ليس من كلام البشر . وقيل : إنه صار جسده كله مسامع حتى سمع بها ذلك الكلام ، فعلم أنه كلام الله . وقيل فيه : إن المعجزة دلت على أن ما سمعه هو كلام الله ، وذلك أنه قيل له : ألق عصاك ، فألقاها فصارت ثعباناً ، فكان ذلك علامة له على صدق الحال ، وأن الذي يقول له : "إني أنا ربك" هو الله جل وعز . وقيل :إنه قد كان أضمر في نفسه شيئاً لا يقف عليه إلا علام الغيوب ، فأخبره الله تعالى في خطابه بذلك الضمير ، فعلم أن الذي يخاطبه هو الله جل وعز . وسيأتي في سورة القصص بيان معنى قوله تعالى :"نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة" إن شاء الله تعالى .
الرابعة : قوله تعالى : "ثم يحرفونه" قال مجاهد و السدي : هم علماء اليهود الذين يحرفون التوارة فيجعلون الحرام حلالاً والحلال حراماً اتباعاً لأهوائهم . "من بعد ما عقلوه" أي عرفوه وعلموه . وهذا توبيخ لهم ، أي إن هؤلاء اليهود قد سلفت لآبائهم أفاعيل سوء وعناد ، فهؤلاء على ذلك السنن ، فكيف تطمعون في إيمانهم ! .
ودل هذا الكلام أيضاً على أن العالم بالحق المعاند فيه بعيد من الرشد ، لأنه علم الوعد والوعيد ولم ينهه ذلك عن عناده .
يقول تعالى: "أفتطمعون" أيها المؤمنون "أن يؤمنوا لكم" أي ينقاد لكم بالطاعة هؤلاء الفرقة الضالة من اليهود الذين شاهد آباؤهم من الايات البينات ما شاهدوه، ثم قست قلوبهم من بعد ذلك: "وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه" أي يتأولونه على غير تأويله "من بعد ما عقلوه" أي فهموه على الجلية ومع هذا يخالفونه على بصيرة "وهم يعلمون" أنهم مخطئون فيما ذهبوا إليه من تحريفه وتأويله، وهذا المقام شبيه بقوله تعالى: "فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه" قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس، أنه قال: ثم قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ولمن معه من المؤمنين يؤيسهم منهم "أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله" وليس قوله: يسمعون التوراة كلهم قد سمعها، ولكن هم الذي سألوا موسى رؤية ربهم فأخذتهم الصاعقة فيها. وقال محمد بن إسحاق، فيما حدثني بعض أهل العلم: أنهم قالوا لموسى: يا موسى، قد حيل بيننا وبين رؤية ربنا تعالى فأسمعنا كلامه حين يكلمك، فطلب ذلك موسى إلى ربه تعالى، فقال: نعم، مرهم فليتطهروا وليطهروا ثيابهم ويصوموا، ثم خرج بهم حتى أتوا الطور، فلما غشيهم الغمام، أمرهم موسى أن يسجدوا، فوقعوا سجوداً، وكلمه ربه، فسمعوا كلامه يأمرهم وينهاهم حتى عقلوا منه ما سمعوا، ثم انصرف بهم إلى بني إسرائيل، فلما جاؤوهم، حرف فريق منهم ما أمرهم به، وقالوا: حين قال موسى لبني إسرائيل: إن الله قد أمركم بكذا وكذا، قال ذلك الفريق الذين ذكرهم الله: إنما قال كذا وكذا خلافاً لما قال الله عز وجل لهم فهم الذين عنى الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، وقال السدي: "وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه" قال: هي التوراة حرفوها، وهذا الذي ذكره السدي أعم مما ذكره ابن عباس وابن إسحاق، وإن كان قد اختاره ابن جرير لظاهر السياق، فإنه ليس يلزم من سماع كلام الله أن يكون منه كما سمعه الكليم موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام، وقد قال الله تعالى: "وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله" أي مبلغاً إليه، ولهذا قال قتادة في قوله: "ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون" قال: هم اليهود كانوا يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه ووعوه، وقال مجاهد: الذين يحرفونه والذين يكتمونه هم العلماء منهم، وقال أبو العالية: عمدوا إلى ما أنزل الله في كتابهم من نعت محمد صلى الله عليه وسلم فحرفوه عن مواضعه، وقال السدي "وهم يعلمون" أي أنهم أذنبوا، وقال ابن وهب: قال ابن زيد في قوله: "يسمعون كلام الله ثم يحرفونه" قال: التوراة التي أنزلها الله عليهم يحرفونها، يجعلون الحلال فيها حراماً والحرام فيها حلالاً، والحق فيها باطلاً والباطل فيها حقاً، إذا جاءهم المحق برشوة أخرجوا له كتاب الله، وإذا جاءهم المبطل برشوة أخرجوا له ذلك الكتاب فهو فيه محق، وإذا جاءهم أحد يسألهم شيئاً ليس فيه حق ولا رشوة ولا شيء أمروه بالحق، فقال الله لهم: "أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون".
وقوله تعالى: "وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض" الاية، قال محمد بن إسحاق: حدثنا محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، وعن ابن عباس "وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا" أي أن صاحبكم محمد رسول الله، ولكنه إليكم خاصة، وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا: لا تحدثوا العرب بهذا فإنكم قد كنتم تستفتحون به عليهم فكان منهم، فأنزل الله "وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم" أي تقرون بأنه نبي. وقد علمتم أنه قد أخذ له الميثاق عليكم باتباعه. وهو يخبرهم أنه النبي الذي كنا ننتظر ونجد في كتابنا، اجحدوه ولا تقروا به. يقول الله تعالى " أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون " وقال الضحاك عن ابن عباس: يعني المنافقين من اليهود، كانوا إذا لقوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قالوا: آمنا، وقال السدي: هؤلاء ناس من اليهود، آمنوا ثم نافقوا. وكذا قال الربيع بن أنس وقتادة وغير واحد من السلف والخلف حتى قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم فيما رواه ابن وهب عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال "لا يدخلن علينا قصبة المدينة إلا مؤمن" فقال رؤساؤهم من أهل الكفر والنفاق: اذهبوا فقولوا: آمنا واكفروا إذا رجعتم إلينا، فكانوا يأتون المدينة بالبكر ويرجعون إليهم بعد العصر . وقرأ قول الله تعالى "وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون" وكانوا يقولون إذا دخلوا المدينة: نحن مسلمون ليعلموا خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره، فإذا رجعوا رجعوا إلى الكفر ، فلما أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم قطع ذلك عنهم، فلم يكونوا يدخلون، وكان المؤمنون يظنون أنهم مؤمنون فيقولون: أليس قد قال الله لكم كذا وكذا، فيقولون: بلى، فإذا رجعوا إلى قومهم، يعني الرؤساء ، فقالوا: "أتحدثونهم بما فتح الله عليكم" الاية، وقال أبو العالية "أتحدثونهم بما فتح الله عليكم" يعني بما أنزل عليكم في كتابكم من نعت محمد صلى الله عليه وسلم، وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة "أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم" قال كانوا يقولون: سيكون نبي فخلا بعضهم ببعض، فقالوا "أتحدثونهم بما فتح الله عليكم" قول آخر في المراد بالفتح، قال ابن جريج: حدثني القاسم بن أبي بزة عن مجاهد في قوله تعالى: "أتحدثونهم بما فتح الله عليكم" قال: قام النبي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة تحت حصونهم، فقال: يا إخوان القردة والخنازير ، ويا عبدة الطاغوت، فقالوا: من أخبر بهذا الأمر محمداً ؟ ما خرج هذا القول إلا منكم "أتحدثونهم بما فتح الله عليكم" بما حكم الله للفتح ليكون لهم حجة عليكم، قال ابن جريج عن مجاهد: هذا حين أرسل إليهم علياً فآذوا محمداً صلى الله عليه وسلم، وقال السدي "أتحدثونهم بما فتح الله عليكم" من العذاب "ليحاجوكم به عند ربكم" هؤلاء ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا، فكانوا يحدثون المؤمنين من العرب بما عذبوا به، فقال بعضهم لبعض "أتحدثونهم بما فتح الله عليكم" من العذاب ليقولوا: نحن أحب إلى الله منكم، وأكرم على الله منكم. وقال عطاء الخراساني "أتحدثونهم بما فتح الله عليكم" يعني بما قضى لكم وعليكم. وقال الحسن البصري: هؤلاء اليهود كانوا إذا لقوا الذين آمنوا قالوا: آمنا، وإذا خلا بعضهم إلى بعض قال بعضهم: لا تحدثوا أصحاب محمد بما فتح الله عليكم مما في كتابكم ليحاجوكم به عند ربكم فيخصموكم. وقوله تعالى: " أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون " قال أبو العالية: يعني ما أسروا من كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وتكذيبهم به، وهم يجدونه مكتوباً عندهم، وكذا قال قتادة، وقال الحسن " أن الله يعلم ما يسرون " قال: كان ما أسروا أنهم كانوا إذا تولوا عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وخلا بعضهم إلى بعض، تناهوا أن يخبر أحد منهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بما فتح الله عليهم مما في كتابهم خشية أن يحاجهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بما في كتابهم عند ربهم "وما يعلنون" يعني حين قالوا لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: وآمنا. كذا قال أبو العالية والربيع وقتادة.
75- قوله: "أفتطمعون" هذا الاستفهام فيه معنى الإنكار، كأنه آيسهم من إيمان هذه الفرقة من اليهود. والخطاب لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أو له ولهم. و "يؤمنوا لكم" أي لأجلكم، أو على تضمين آمن معنى استجاب: أي أتطعمون أن يستجيبوا لكم. والفريق اسم جمع لا واحد له من لفظه. و "كلام الله" أي التوراة، وقيل: إنهم سمعوا خطاب الله لموسى حين كلمه، وعلى هذا فيكون الفريق هم السبعون الذين اختارهم موسى، وقرأ الأعمش كلم الله. والمراد من التحريف أنهم عمدوا إلى ما سمعوه من التوراة، فجعلوا حلاله حراماً أو نحو ذلك مما فيه موافقة لأهوائهم كتحريفهم صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإسقاط الحدود عن أشرافهم، أو سمعوا كلام الله لموسى فزادوا فيه ونقصوا، وهذا إخبار عن إصرارهم على الكفر وإنكار على من طمع في إيمانهم وحالهم هذه الحال: أي ولهم سلف حرفوا كلام الله وغيروا شرائعه وهم مقتدون بهم متبعون سبيلهم. ومعنى قوله: "من بعد ما عقلوه" أي من بعد ما فهموه بعقولهم مع كونهم يعلمون أن ذلك الذي فعلوه تحريف مخالف لما أمرهم الله به من تبليغ شرائعه كما هي، فهم وقعوا في المعصية عالمين بها، وذلك أشد لعقوبتهم وأبين لضلالهم.
75. قوله تعالى " أفتطمعون " أفترجون؟ يريد: محمداً وأصحابه " أن يؤمنوا لكم " تصدقكم اليهود بما تخبرونهم به " وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله " يعني التوراة " ثم يحرفونه " يغيرون ما فيها من الأحكام " من بعد ما عقلوه " علموه كما غيروا صفة محمد صلى الله عليه وسلم وآية الرجم " وهم يعلمون " أنهم كاذبون، هذا قول مجاهد و قتادة و عكرمة و السدي وجماعة، وقال ابن عباس و مقاتل : نزلت في السبعين الذين اختارهم موسى لميقات ربه، وذلك أنهم لما رجعوا - بعد ما سمعوا كلام الله - إلى قومهم رجع الناس إلى قولهم، وأما الصادقون منهم فأدوا كما سمعوا، وقالت طائفة منهم: سمعنا الله يقول في آخر كلامه إن استطعتم أن تفعلوا فافعلوا، وإن شئتم فلا تفعلوا، فهذا تحريفهم وهم يعلمون أنه الحق.


75-" أفتطمعون " الخطاب لرسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين " أن يؤمنوا لكم " أن يصدقوكم ، أو يؤمنوا لأجل دعوتكم . يعني اليهود . " وقد كان فريق منهم " طائفة من أسلافهم " يسمعون كلام الله " يعني التوراة . " ثم يحرفونه " كنعت محمد صلى الله عليه وسلم ، وآية الرجم . أو تأويله فيفسرونه بما يشتهون . وقيل هؤلاء من السبعين المختارون سمعوا كلام الله تعالى حين كلم موسى عليه السلام بالطور ، ثم قالوا سمعنا الله تعالى يقول في آخره : إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا وإن شئتم فلا تفعلوا . " من بعد ما عقلوه " أي فهموه بعقولهم ولم يبق فيه ريبة . " وهم يعلمون " أنهم مفترون مبطلون ، ومعنى الآية : أن أحبار هؤلاء ومقدميهم كانوا على هذه الحالة ، فما ظنك بسفلتهم وجهالهم ، وأنهم إن كفروا وحرفوا فلهم سابقة في ذلك .
75. Have ye any hope that they will be true to you when a party of them used to listen to the Word of Allah, then used to change it, after they had understood it knowingly?
75 - Can ye (o ye men of faith) entertain the hope that they will believe in you? seeing that a party of them heard the word of God, and perverted it knowingly after they understood it.