[البقرة : 73] فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
(فقلنا اضربوه) أي القتيل (ببعضها) فضرب بلسانها أو عجب ذنبها فحيي وقال : قتلني فلان وفلان لابني عمه ومات فحُرما الميراث وقُتلا ، قال تعالى : (كذلك) الإحياء (يحيي الله الموتى ويريكم آياته) دلائل قدرته (لعلكم تعقلون) تتدبرون فتعلموا أن القادر على إحياء نفس واحدة قادر على إحياء نفوس كثيرة فتؤمنون
قال أبو جعفر: يعني جل ذكره بقوله: "فقلنا"، فقلنا لقوم موسى الذين ادارؤا فى القتيل الذي قد تقدم وصفنا أمره: اضربوا القتيل، و الهاء التي في قوله: "اضربوه "، من ذكر القتيل؟ "ببعضها" أي: ببعض البقرة التي أمرهم الله بذبحها فذبحوها.
ثم اختلف العلماء في البعض الذي ضرب به القتيل من البقرة، وأي عضو كان ذلك منها.
فقال بعضهم: ضرب بفخذ البقرة القتيل. ذكر من قال ذلك:حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: ضرب بفخذ البقرة فقام حيًا فقال: قتلني فلان. ثم عاد في ميتته.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: ضرب بفخذ البقرة، ثم ذكر مثله.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح، عن النضر بن عربي، عن عكرمة: "فقلنا اضربوه ببعضها"، قال : بفخذها، فلما ضرب بها عاش، وقال: قتلني فلان. ثم عاد إلى حاله.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن خالد بن يزيد، عن مجاهد قال: ضرب بفخذها الرجل، فقام حيًا فقال قتلني فلان. ثم عاد في ميتته.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، قال أيوب، عن ابن سيرين، عن عبيدة: ضربوا المقتول ببعض لحمها وقال معمر، عن قتادة: ضربوه بلحم الفخذ فعاش، فقال: قتلني فلان.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أنهم ضربوه بفخذها، فأحياه الله فأنبأ بقاتله الذي قتله، وتكلم ثم مات.
وقال آخرون: الذي ضرب به منها، هو البضعة التي بين الكتفين. ذكر من قال ذلك:حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "فقلنا اضربوه ببعضها"، فضربوه بالبضعة التي بين الكتفين فعاش، فسألوه: من قتلك؟ فقال لهم: ابن أخي. وقال آخرون: الذي أمروا أن يضربوه به منها، عظم من عظامها. ذكر من قال ذلك:حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية قال: أمرهم موسى أن يأخدوا عظمًا منها فيضربوا به القتيل. ففعلوا، فرجع إليه روحه، فسمى لهم قاتله، ثم عاد ميتًا كما كان. فأخذ قاتله، وهو الذي أتى موسى فشكا إليه، فقتله الله على أسوإ عمله.
وقال آخرون بما:حدثني به يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: ضربوا الميت ببعض آرابها فإذا هو قاعد قالوا: من قتلك؟ قال: ابن أخي. قال: وكان قتله وطرحه على ذلك السبط، أراد أن يأخذ ديته.
قال أبو جعفر: والصواب من القول عندنا في تأويل قوله: "فقلنا اضربوه ببعضها"، أن يقال: أمرهم الله جل ثناؤه أن يضربوا القتيل ببعض البقرة ليحيا المضروب. ولا دلالة في الآية، ولا في خبر تقوم به حجة، على أي أبعاضها التي أمر القوم أن يضربوا القتيل به. وجائز أن يكون الذي أمروا أن يضربوه به هو الفخذ، وجائز أن يكون ذلك الذنب وغضروف الكتف، وغير ذلك من أبعاضها. ولا يضر الجهل بأي ذلك ضربوا القتيل، ولا ينفع العلم به، مع الإقرار بأن القوم قد ضربوا القتيل ببعض البقرة بعد ذبحها فأحياه الله.
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: وما كان معنى الأمر بضرب القتيل ببعضها؟ قيل: ليحيا فينبىء نبي الله موسى صلى الله عليه وسلم والذين ادارؤا فيه من قاتله.
فإن قال: وأين الخبر عن أن الله جل ثناؤه أمرهم بذلك لذلك؟
قيل: ترك ذلك اكتفاء بدلالة ما ذكر من الكلام الدال عليه نحو الذي ذكرنا من نظائر ذلك فيما مضى. ومعنى الكلام: فقلنا اضربوه ببعضها ليحيا، فضربوه فحيي: كما قال جل ثناؤه: (‎"أن اضرب بعصاك البحر فانفلق" ( الشعراء: 63)، والمعنى: فضرب فانفلق دل على ذلك قوله: "كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون ".
القول في تأويل قوله تعالى:‎" كذلك يحيي الله الموتى".
قال أبو جعفر: وقوله: "كذلك يحيي الله الموتى "، مخاطبة من الله عباده المؤمنين، واحتجاج منه على المشركين المكذبين بالبعث، وأمرهم بالاعتبار بما كان منه جل ثناؤه من إحياء قتيل بني إسرائيل بعد مماته في الدنيا. فقال لهم تعالى ذكره: أيها المكذبون بالبعث بعد الممات، اعتبروا بإحيائي هذا القتيل بعد مماته، فإني كما أحييته في الدنيا، فكذلك أحيي الموتى بعد مماتهم، فأبعثهم يوم البعث.
وإنما احتج جل ذكره بذلك على مشركي العرب، وهم قوم أميون لا كتاب لهم، لأن الذين كانوا يعلمون علم ذلك من بني إسرائيل كانوا بين أظهرهم، وفيهم نزلت هذه الآيات. فأخبرهم جل ذكره بذلك، ليتعرفوا علم من قبلهم.
القول في تأويل قوله تعالى: " ويريكم آياته لعلكم تعقلون".
قال أبو جعفر: يعني جل ذكره: ويريكم الله أيها الكافرون المكذبون بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به من عند الله من آياته. وآياته: أعلامه وحججه الدالة على نبوته، لتعقلوا وتفهموا أنه محق صادق، فتؤمنوا به وتتبعوه.
قوله تعالى "فقلنا اضربوه ببعضها" قيل : باللسان لأنه آلة الكلام . وقيل : بعجب الذنب ، إذ فيه يركب خلق الإنسان . وقيل : بالفخذ . وقيل : بعظم من عظامها ، والمقطوع به عضو من أعضائها ، فلما ضرب به حيي وأخبر بقاتله ثم عاد ميتاً كما كان .
مسألة : استدل مالك رحمه الله في رواية ابن وهب وابن القاسم على صحة القول بالقسامة بقول المقتول : دمي عند فلان ، أو فلان قتلني . ومنعه الشافعي وجمهور العلماء ، قالوا : وهو الصحيح ، لأن قول المقتول دمي عند فلان ، أو فلان قتلني ، خبر يحتمل الصدق والكذب . ولا خلاف أن دم المدعى عليه معصوم ممنوع إباحته إلا بيقين ، ولا يقين مع الاحتمال ، فبطل اعتبار قول المقتول دمي عند فلان . وأما قتيل بني إسرائيل فكانت معجزة وأخبر تعالى أنه يحييه ، وذلك يتضمن الإخبار بقاتله خبراً جزماً لا يدخله احتمال ، فافترقا . قال ابن العربي : المعجزة كانت في إحيائه ، فلما صار حياً كان كلامه كسائر كلام الناس كلهم في القبول والرد . وهذا فن دقيق من العلم لم يتفطن له إلا مالك ، وليس في القرآن أنه إذا أخبر وجب صدقة ، فلعله أمرهم بالقسامة معه . واستبعد ذلك البخاري و الشافعي وجماعة من العلماء فقالوا : كيف يقبل قوله في الدم وهو لا يقبل قوله في درهم .
مسألة : اختلف العلماء في الحكم بالقسامة ، فروي عن سالم وأبي قلابة وعمر بن عبد العزيز والحكم بن عتيبة التوقف في الحكم بها . وإليه مال البخاري ، لأنه أتى بحديث القسامة في غير موضعه . وقال الجمهور : الحكم بالقسامة ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم اختلفوا في كيفية الحكم به ، فقالت طائفة :يبدأ فيها المدعون بالإيمان فإن حلفوا استحقوا ، وإن نكلوا حلف المدعى عليهم خمسين يميناً وبرأوا . هذا قول أهل المدينة و الليث و الشافعي و أحمد و أبي ثور . وهو مقتضى حديث حويصة ومحيصة ، خرجه الأئمة مالك وغيره . وذهبت طائفة إلى أنه يبدأ بالإيمان المدعى عليهم فيحلفون ويبرأون . روي هذا عن عمر بن الخطاب و الشعبي و النخعي ، وبه قال الثوري و الكوفيون ، واحتجوا بحديث سعيد بن عبيد عن بشير بن يسار ، وفيه :فبدأ بالإيمان المدعى عليهم وهم اليهود . وبما رواه أبو داود عن الزهري عن ابي سلمة بن عبد الرحمن عن رجال من الأنصار "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لليهود وبدأ بهم : أيحلف منكم خمسون رجلا . فأبوا ، فقال للأنصار : استحقوا . فقالوا : نحلف على الغيب يا رسول الله ! فجعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم دية على يهود ، لأنه وجد بين أظهرهم" . وبقوله عليه السلام :
"ولكن اليمين على المدعى عليه" فعينوا . قالوا : وهذا هو الأصل المقطوع به في الدعاوى الذي نبه الشرع على حكمته بقوله عليه السلام :
"لو يعطي الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه" . رد عليهم أهل المقالة الأولى فقالوا :
حديث سعيد بن عبيد في تبدية اليهود وهم عند أهل الحديث ، وقد أخرجه النسائي وقال : ولم يتابع سعيد في هذه الرواية فيما أعلم ، وقد أسند حديث بشير عن سهل .
أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بالمدعين يحيى بن سعيد و ابن عيينة وحماد بن زيد وعبد الوهاب الثقفي وعيسى بن حماد وبشر ين المفضل ، فهؤلاء سبعة . وإن كان أرسله مالك فقد وصله جماعة الحفاظ ، وهو أصح من حديث سعيد بن عبيد . قال أبو محمد الأصيلي : :فلا يجوز أن يعترض بخبر واحد على خبر جماعة ، مع أن سعيد بن عبيد قال في حديثه : فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة من إبل الصدقة ، والصدقة لا تعطى في الديات ولا يصالح بها عن غير أهلها ، وحديث أبي داود مرسل فلا تعارض به الأحاديث الصحاح المتصلة ، وأجابوا عن التمس بالأصل بأن هذا الحكم أصل بنفسه لحرمة الدماء . قال ابن المنذر . ثبت " ان رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه" ، والحكم بظاهر ذلك يجب ، إلا أن يخص الله في كتابه أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم حكماً في شيء من الأشياء فيستثنى من جملة هذا الخبر . فمما دل عليه الكتاب إلزام القاذف حد المقذوف إذا لم يكن معه أربعة شهداء يشهدون له على صدق ما رمى به المقذوف . وخص من رمى زوجته بأن أسقط عنه الحد إذا شهد أربع شهادات . ومما خصته السنة حكم النبي صلى الله عليه وسلم بالقسامة . وقد روى ابن جريج عن عطاء عن ابي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
"البينة على من ادعى واليمين على من أنكر إلا في القسامة" . خرجه الدار قطني . وقد احتج مالك لهذه المسألة في موطئه بما فيه الكفاية ، فتأمله هناك .
مسألة : واختلفوا أيضاً في وجوب القود بالقسامة ، فأوجبت طائفة القود بها ، وهو قول مالك و الليث و أحمد و أبي ثور ، "لقوله عليه السلام لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن :
أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم" . وروى أبو داود عن عمرو بن شعيب عن ابيه عن جده .
"أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل رجلاً بالقسامة من بني نضر بن مالك" . قال الدار قطني نسخة عمرو بن شعيب عن ابيه عن جده صحيحة ، وكذلك أبو عمر بن عبد البر يصحح حديث عمرو بن شعيب ويحتج به . وقال البخاري : رأيت علي بن المديني و أحمد بن حنبل و الحميديو إسحاق بن راهوية يحتجون به ،قاله الدار قطني في السنن . وقالت طائفة لا قود بالقسامة ، وإنما توجب الدية . روي هذا عن عمر وابن عباس ، وهو قول النخعي و الحسن ، وإليه ذهب الثوري والكوفيون و الشافعي و إسحاق ، واحتجوا بما رواه مالك عن ابن أبي ليلى بن عبد الله عن سهل بن أبي حثمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله للأنصار .
"إما أن يدوا صاحبكم وإما أن يؤذنوا بحرب" . قالوا :وهذا يدل على الدية لا على القود ، قالوا : ومعنى قوله عليه السلام : "وتستحقون دم صاحبكم" دية دم قتيلكم ، لأن اليهود ليسوا بأصحاب لهم ، ومن استحق دية صاحبه فقد استحق دمه ، لأن الدية قد تؤخذ في العمد فيكون ذلك استحقاقاً للدم .
مسألة : الموجب للقسامة اللوث ولا بد منه . واللوث : أمارة تغلب على الظن صدق مدعي القتل ، كشهادة العدل الواحد على رؤية القتل ، أو يرى المقتول يتشحط في دمه ، والمتهم نحوه أو قربه عليه أثار القتل . وقد اختلف في اللوث والقول به ، فقال مالك : هو قول المقتول دمي عند فلان . والشاهد العدل لوث . كذا في رواية ابن القاسم عنه . وروى أشهب عن مالك أنه يقسم مع الشاهد غير العدل ومع المرأة . وروى ابن وهب أن شهادة النساء لوث . وذكر محمد عن ابن القاسم أن شهادة المرأتين لوث دون شهادة المرأة الواحدة . قال القاضي أبو بكر بن العربي : اختلف في اللوث اختلافاً كثيراً ، مشهور المذهب أنه الشاهد العدل . وقال محمد : هو أحب إلي . قال وأخذ به ابن القاسم وابن عبد الحكم . وروي عن عبد الملك بن مروان : أن المجروح أو المضروب إذا قال دمي عند فلان ومات كانت القسامة . وبه قال مالك و الليث بن سعد . واحتج مالك بقتيل بني إسرائيل أنه قال : قتلني فلان . وقال الشافعي : اللوث الشاهد العدل ، أو يأتي ببينة وإن لم يكونوا عدولاً . وأوجب الثوري و الكوفيون القسامة بوجود القتيل فقط ، واستغنوا عن مراعاة قول المقتول وعن الشاهد ، قالوا : إذا وجد قتيل في محلة قوم وبه أثر حلف أهل ذلك الموضع أنهم لم يقتلوه ويكون عقله عليهم ، وإذا لم يكن به أثر لم يكن على العاقلة شيء إلا أن تقوم البينة على واحد . وقال سفيان : وهذا مما أجمع عليه عندنا ، وهو قول ضعيف خالفوا فيه أهل العلم ، ولا سلف لهم فيه ، وهو مخالف للقرآن والسنة ، ولأن فيه الزام العاقلة مالا بغير بينة ثبتت عليهم ولا إقرار منهم . وذهب مالك و الشافعي إلى أن القتيل إذا وجد في محلة قوم أنه هدر ، لا يؤخذ به أقرب الناس داراً ، لأن القتيل قد يقتل ثم يلقى على باب قوم ليلطخوا به ، فلا يؤاخذ بمثل ذلك حتى تكون الأسباب التي شرطوها في وجوب القسامة . وقد قال عمر بن عبد العزيز : هذا مما يؤخر فيه القضاء حتى يقضي الله فيه يوم القيامة .
مسألة : قال القاسم بن مسعدة قلت لـ لسنائي : لا يقول مالك بالقسامة إلا باللوث ، فلم أورد حديث القسامة ولا لوث فيه ؟ قال النسائي : أنزل مالك العدواة التي كانت بينهم وبني اليهود بمنزلة اللوث ، وأنزل اللوث أو قول الميت بمنزلة العداوة . قال ابن ابي زيد : وأصل هذا في قصة بني إسرائيل حين أحيا الله الذي ضرب ببعض البقرة فقال : قتلني فلان ، وبأن العدواة لوث . قال الشافعي : ولا نرى قول المقتول لوثاً ، كما تقدم . قال الشافعي : إذا كان بين قوم وقوم عداوة ظاهرة كالعداوة التي كانت بين الأنصار واليهود ، ووجد قتيل في أحد الفريقين ولا يخالطهم غيرهم وجبت القسامة فيه .
مسألة : واختلفوا في القتيل يوجد في المحلة التي أكراها أربابها ، فقال أصحاب الرأي : هو على أهل الخطة وليس على السكان شيء ، فإن باعوا دورهم ثم وجد قتيل فالدية على المشتري وليس على السكان شيء ، وإن كان أرباب الدور غيباً وقد أكروا دورهم فالقسامة والدية على أرباب الدور الغيب وليس على السكان الذي وجد القتيل بين أظهرهم شيء .
ثم رجع يعقوب من بينهم عن هذا القول فقال القسامة والدية على السكان في الدور . وحكى هذا القول عن ابن أبي ليلى ، واحتج بأن أهل خيبر كانوا عمالا سكانا يعملون فوجد القتيل فيهم . قال الثوري ونحن نقول : هو على أصحاب الأصل ، يعني أهل الدور . وقال أحمد القول قول ابن أبي ليلى في القسامة لا في الدية . وقال الشافعي : وذلك كله سواء ، ولا عقل ولا قود إلا ببينة تقوم ، أو ما يوجب القسامة فيقسم الأولياء . قال ابن المنذر : وهذا أصح .
مسألة : ولا يحلف في القسامة أقل من خمسين يميناً ، لقوله عليه السلام في حديث حويصة ومحيصة : "يقسم خمسين منكم على رجل منهم" . فإن كان المستحقون خمسين حلف كل واحد منهم يمنياً واحدة ، فإن كانوا أقل من ذلك أو نكل منهم من لا يجوز عفوه ردت الإيمات عليهم بحسب عددهم . ولا يحلف في العمد أقل من اثنين من الرجال ، لا يحلف فيه الواحد من الرجال ولا النساء يحلف الأولياء ومن يستعين بهم الأولياء من العصبة خمسين يميناً . هذا مذهب مالك و الليث و الثوري و الأوزاعي وأحمد و داود . وروى مطرف عن مالك أنه لا يحلف مع المدعى عليه أحد ويحلف هم أنفسهم ـ كما لو كانوا واحداً فأكثر ـ خمسين يميناً يبرئون بها أنفسهم ، وهو قول الشافعي . قال الشافعي : لا يقسم إلا وارث ، ان القتل عمداً أو خطأ . ولا يحلف على مال ويستحقه إلا من له الملك لنفسه أو من جعل الله له الملك من الورثة ، والورثة يقسمون على قدر مواريثهم . وبه قال أبو ثور واختاره ابن المنذر وهو الصحيح ، لأن من لم يدع عليه لم يكن له سبب يتوجه عليه فيه يمين . ثم مقصوده هذه الأيمان البراءة من الدعوى ومن لم يدع عليه برىء . وقال مالك في الخطأ : يحلف فيها الواحد من الرجال والنساء فمهما كملت خمسين يميناً من واحد أو أكثر استحق الحالف ميراثه ، ومن نكل لم يستحق شيئاً ، فإن جاء من غاب حلف من الأيمان ما كان يجب عليه لو حضر بحسب ميراثه . هذا قول مالك المشهور عنه ، وقد روي عنه أنه لا يرى في الخطأ قسامة .
وتتميم مسائل القسامة وفروعها وأحكامها مذكور في كتب الفقه والخلاف . وفيما ذكرناه كفاية ، والله الموفق .
مسألة : في قصة البقرة هذه دليل على أن شرع من قبلنا شرع لنا ، وقال به طوائف من المتكلمين وقوم من الفقهاء ، واختاره الكرخي ونص عليه ابن بكير القاضي من علمائنا ، وقال القاضي أبو محمد عبد الوهاب : هو الذي تقتضيه أصول مالك ومنازعه في كتبه ، وإليه مال الشافعي ، وقد قال "فبهداهم اقتده" على ما يأتي إن شاء الله تعالى .
قوله تعالى : "كذلك يحيي الله الموتى" أي كما أحيا هذا بعد موته كذلك يحيي الله كل من مات . فالكاف في موضع نصب ، لأنه نعت لمصدر محذوف . "ويريكم آياته" أي علاماته وقدرته . "لعلكم تعقلون" كي تعقلوا . وقد تقدم . أي تمتنعون من عصيانه . وعقلت نفسي عن كذا أي منعتها منه . والمعاقل : الحصون .
قال البخاري: "فادارأتم فيها" اختلفتم وهكذا قال مجاهد قال فيما رواه ابن أبي حاتم، عن أبيه، عن أبي حذيفة، عن شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، إنه قال في قوله تعالى: "وإذ قتلتم نفساً فادارأتم فيها" اختلفتم، وقال عطاء الخراساني والضحاك: اختصمتم فيها، وقال ابن جريج "وإذ قتلتم نفساً فادارأتم فيها" قال: بعضهم: أنتم قتلتموه، وقال آخرون: بل أنتم قتلمتموه، وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم "والله مخرج ما كنتم تكتمون" قال مجاهد: ما تغيبون، وقال ابن حاتم: حدثنا عمرو بن مسلم البصري، حدثنا محمد بن الطفيل العبدي، حدثنا صدقة بن رستم، سمعت المسيب بن رافع يقول: ما عمل رجل حسنة في سبعة أبيات إلا أظهرها الله، وما عمل رجل سيئة في سبعة أبيات إلا أظهرها الله، وتصديق ذلك في كلام الله "والله مخرج ما كنتم تكتمون * فقلنا اضربوه ببعضها" هذا البعض أي شيء كان من أعضاء هذه البقرة، فالمعجزة حاصلة به، وخرق العادة به كائن، وقد كان معيناً في نفس الأمر، فلو كان في تعيينه لنا فائدة تعود علينا في أمر الدين أو الدنيا لبينه الله تعالى لنا، ولكنه أبهمه ولم يجئ من طريق صحيح عن معصوم بيانه، فنحن نبهمه كما أبهمه الله، ولهذا قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان حدثنا عفان بن مسلم حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال إن أصحاب بقرة بني إسرائيل طلبوها أربعين سنة حتى وجدوها عند رجل في بقر له وكانت بقرة تعجبه، قال: فجعلوا يعطونه بها فيأبى حتى أعطوه ملء مسكها دنانير، فذبحوها، فضربوه ـ يعني القتيل ـ بعضو منها، فقام تشخب أوداجه دماً، فقالوا له من قتلك ؟ قال: قتلني فلان، وكذا قال الحسن وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: أنه ضرب ببعضها، وفي رواية عن ابن عباس أنه ضرب بالعظم الذي يلي الغضروف وقال عبد الرزاق أنبأنا معمر، قال: أيوب عن ابن سيرين، عن عبيدة: ضربوا القتيل ببعض لحمها، قال معمر : قال قتادة: ضربوه بلحم فخذها فعاش، فقال: قتلني فلان، وقال وكيع بن الجراح في تفسيره: حدثنا النضر بن عربي عن عكرمه "فقلنا اضربوه ببعضها" فضرب بفخذها، فقام فقال: قتلني فلان، قال ابن أبي حاتم: وروي عن مجاهد وقتادة وعكرمة نحو ذلك. وقال السدي: فضربوه بالبضعة التي بين الكتفين، فعاش، فسألوه فقال: قتلني ابن أخي، وقال أبو العالية: أمرهم موسى عليه السلام، أن يأخذوا عظماً من عظامها فيضربوا به القتيل، ففعلوا فرجع إليه روحه، فسمى لهم قاتله، ثم عاد ميتاً كما كان، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: فضربوه ببعض آرابها وقيل: بلسانها وقيل بعجب ذنبها وقوله تعالى: " كذلك يحيي الله الموتى " أي فضربوه فحيي، ونبه تعالى على قدرته وإحيائه الموتى بما شاهدوه من أمر القتيل، جعل تبارك وتعالى ذلك الصنيع حجة لهم على المعاد، وفاصلاً ما كان بينهم من الخصومة والعناد، والله تعالى قد ذكر في هذه السورة مما خلقه من إحياء الموتى في خمسة مواضع "ثم بعثناكم من بعد موتكم" وهذه القصة، وقصة الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، وقصة الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها، وقصة إبراهيم عليه السلام والطيور الأربعة، ونبه تعالى بإحياء الأرض بعد موتها على إعادة الأجسام بعد صيرورتها رميماً، كما قال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبه، أخبرني يعلى بن عطاء ، قال سمعت وكيع بن عدس يحدث عن أبي رزين العقيلي رضي الله عنه، "قال: قلت يا رسول الله، كيف يحيي الله الموتى ؟ قال: أما مررت بواد ممحل، ثم مررت به خضراً ؟ قال بلى. قال: كذلك النشور أو قال: كذلك يحيي الله الموتى" وشاهد هذا قوله تعالى: " وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون * وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون * ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون ".
(مسألة) استدل لمذهب الإمام مالك في كون قول الجريح: فلان قتلني لوثاً بهذه القصة، لأن القتيل لما حيي سئل عمن قتله، فقال فلان قتلني، فكان ذلك مقبولاً منه، لأنه لا يخبر حينئذ إلا بالحق، ولا يتهم والحالة هذه، ورجحوا ذلك لحديث أنس أن يهودياً قتل جارية على أوضاح لها، فرضخ رأسها بين حجرين، فقيل: من فعل بك هذا، أفلان ؟ أفلان ؟ حتى ذكروا اليهودي، فأومأت برأسها، فأخذ اليهودي، فلم يزل به حتى اعترف، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرض رأسه بين حجرين، وعن مالك إذا كان لوثاً، حلف أولياء القتيل قسامة، وخالف الجمهور في ذلك، ولم يجعلوا قول القتيل في ذلك لوثاً.
واختلف في تعيين البعض الذي أمروا بأن يضربوا القتيل به، ولا حاجة إلى ذلك مع ما فيه من القول بغير علم، ويكفينا أن نقول: أمرهم الله بأن يضربوه ببعضها، فأي بعض ضربوا به فقد فعلوا ما أمروا به، وما زاد على هذا فهو من فضول العلم إذا لم يرد به برهان. قوله 73- : "كذلك يحيي الله الموتى" في الكلام حذف، والتقدير "فقلنا اضربوه ببعضها" فأحياه الله "كذلك يحيي الله الموتى" أي إحياء كمثل هذا الإحياء. "ويريكم آياته" أي علاماته ودلائله الدالة على كمال قدرته، وهذا يحتمل أن يكون خطاباً لمن حضر القصة، ويحتمل أن يكون خطاباً للموجودين عند نزول القرآن.
73. " فقلنا اضربوه " يعني القتيل " ببعضها " أي ببعض البقرة، واختلفوا في ذلك البعض، قال ابن عباس رضي الله عنه وأكثر المفسرين: ضربوه بالعظم الذي يلي الغضروف وهو المقتل، وقال مجاهد و سعيد بن جبير : بعجب الذنب لأنه أول ما يخلق وآخر ما يبلى، ويركب عليه الخلق، وقال الضحاك : بلسانها، وقال الحسين بن الفضل : هذا أدل بها لأنه آلة الكلام، وقال الكلبي و عكرمة : بفخذها الأيمن، وقيل: بعضو منها لا بعينه، ففعلوا ذلك فقام القتيل حياً بإذن الله تعالى وأوداجه، أي عروق العنق، تشخب دماً وقال قتلني فلان، ثم سقط ومات مكانه فحرم قاتله الميراث، وفي الخبر: (( ما ورث قاتل بعد صاحب البقرة )) وفيه إضمار تقديره: فضرب فحيي " كذلك يحيي الله الموتى " كما أحيا عاميل، " ويريكم آياته لعلكم تعقلون " قيل تمنعون أنفسكم من المعاصي.
أما حكم هذه المسألة في الإسلام: إذا وجد قتيل في موضع ولا يعرف قاتله فإن كان ثم ( لوث ) على إنسان - واللوث: أن يغلب على القلب صدق المدعي، بأن اجتمع جماعة في بيت أو صحراء فتفرقوا عن قتيل يغلب على القلب أن القاتل فيهم، أو وجد قتيل في محلة أو قرية كلهم أعداء للقتيل لا يخالطهم غيرهم، فيغلب على القلب أنهم قتلوه - فادعى الولي على بعضهم، يحلف المدعي خمسين يميناً على من يدعي عليه، وإن كان الأولياء جماعة توزع الأيمان عليهم، ثم بعدما حلفوا أخذوا الدية من عاقلة المدعى عليه إن ادعوا قتل خطأ، وإن ادعوا قتل عمد فمن ماله، ولا قود على قول الأكثرين وذهب بعضهم إلى وجوب القود، وهو قول عمر بن عبد العزيز وبه قال مالك و أحمد ، وإن لم يكن على المدعى عليه لوث فالقول قول المدعى عليه مع يمينه ثم هل يحلف يميناً واحدة أم خمسين يميناً؟ فيه قولان: (أحدهما) يميناً واحدة كما في سائر الدعاوي ( والثاني) يحلف خمسين يميناً تغليظاً لأمر الدم، وعند أبي حنيفة رضي الله عنه: لا حكم للوث [ولا يزيد بيمين المدعي] وقال: إذا وجد قتيل في محلة يختار الإمام خمسين رجلاً من صلحاء أهلها فيحلفهم أنهم ما قتلوه ولا عرفوا له قاتلاً، ثم يأخذ الدية من سكانها، والدليل على أن البداية بيمين المدعي عند وجود اللوث:
[ ما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم أنا الربيع أنا الشافعي أنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي عن يحيى بن سعيد عن بشير ابن يسار ] عن سهل بن أبي حثمة "أن عبد الله بن سهل ومحيصة بن مسعود خرجا إلى خيبر لحاجتهما فقتل عبد الله بن سهل فانطلق هو وعبد الرحمن / أخو المقتول وحويصة بن مسعود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له قتل عبد الله بن سهل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تحلفون خمسين يميناً وتستحقون دم صاحبكم أو قاتلكم فقالوا يا رسول الله لم نشهد ولم نحضر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فتبرئكم يهود بخمسين يميناً فقالوا يارسول الله كيف نقبل أيمان قوم كفار؟ فعزم النبي صلى الله عليه وسلم عقله من عنده "[ وفي لفظ آخر فزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم عقله من عنده ] قال بشير بن يسار: قال سهل لقد ركضتني فريضة تلك الفرائض في مربد لنا، وفي رواية: لقد ركضتني ناقة حمراء من تلك الفرائض في مربد لنا )) أخرجه مسلم عن محمد بن المثنى عن عبد الوهاب .
وجه الدليل من الخبر: أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بأيمان المدعين لتقوي جانبهم باللوث، وهو أن عبد الله بن سهل وجد قتيلاً في خيبر، وكانت العداوة ظاهرة بين الأنصار وأهل خيبر، وكان يغلب على القلب أنهم قتلوه،ن واليمين أبداً تكون حجة لمن يقوى جانبه وعند عدم اللوث يقوى جانب المدعى عليه من حيث أن الأصل براءة ذمته وكان القول قوله مع يمينه.
73-" فقلنا اضربوه " عطف على ادارأتم وما بينها اعتراض ، والضمير للنفس والتذكير على تأويل الشخص أو القتيل " ببعضها " أي بعض كان وقيل : بأصغريها . وقيل بلسانها . وقيل بفخذها اليمنى وقيل بالأذن . وقيل بالعجب " كذلك يحيي الله الموتى " يدل على ما حذف وهو فضربوه فحيي ، والخطاب مع من حضر حياة القتيل ، أو نزول الآية " ويريكم آياته " دلائله على كمال قدرته . " لعلكم تعقلون " لكي يكمل عقلكم وتعلموا أن من قدر على إحياء نفس قدر على إحياء الأنفس كلها ، أو تعملوا على قضيته . ولعله تعالى إنما لم يحيه ابتداء وشرط فيه ما شرط لما فيه من التقرب وأداء الواجب ، ونفع اليتيم والتنبيه على بركة التوكل والشفقة على الأولاد ، وأن من حق الطالب أن يقدم قربة ، والمتقرب أن يتحرى الأحسن ويغالي بثمنه ، كما روي عن عمر رضي الله تعالى عنه : أنه ضحى بنجيبة اشتراها بثلاثمائة دينار . وأن المؤثر في الحقيقة هو الله تعالى ، والأسباب أمارات لا إثر لها ، وأن من أراد أن يعرف أعدى عدوه الساعي في إماتته الموت الحقيقي ، فطريقة أن يذبح بقرة نفسه التي هي القوة الشهرية حين زال عنها شره الصبا ، ولم يلحقها ضعف الكبر ، وكانت معجبة رائقة المنظر غير مذللة في طلب الدنيا ، مسلمة عن دنسها لا سمة بها من مقابحها بحيث يصل أثره إلى نفسه ، فتحيا حياة طيباً ، وتعرب عما به ينكشف الحال ، ويرتفع ما بين العقل والوهم من التدارؤ والنزاع .
73. And We said: Smite him with some of it. Thus Allah bringeth the dead to life and showeth you His portents so that ye may understand.
73 - So we said: strike the (body) with a piece of the (heifer). thus God bringeth the dead to life and showeth you his signs: perchance ye may understand.