[البقرة : 71] قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ
(قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول) غير مذللة بالعمل (تثير الأرض) تقلبها للزراعة ، والجملة صفة ذلول داخلة في النهي (ولا تسقي الحرث) الأرض المهيأة للزراعة (مسَلَّمة) من العيوب وآثار العمل (لا شية) لون (فيها) غير لونها (قالوا الآن جئت بالحق) نطقت بالبيان التام فطلبوها فوجدوها عند الفتى البار بأمه فاشتروها بملء مَسكها ذهباً (فذبحوها وما كادوا يفعلون) لغلاء ثمنها وفي الحديث : "لو ذبحوا أي بقرة كانت لأجزأتهم ولكن شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم"
قال أبو جعفر: وتأويل ذلك: قال موسى: إن الله يقول إن البقرة التي أمرتكم بذبحها بقرة لا ذلول. ويعني بقوله: "لا ذلول "، أي لم يذللها العمل. فمعنى الآية: إنها بقرة لم تذللها إثارة الأرض بأظلافها، ولا سني عليها الماء فيسقى عليها الزرع. كما يقال للدابة التي قد ذللها الركوب أو العمل: دابة ذلول بينة الذل بكسر الذال. ويقال في مثله من بني آدم: رجل ذليل بين الذل والذلة .
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "إنها بقرة لا ذلول"، يقول: صعبة لم يذلها عمل، "تثير الأرض ولا تسقي الحرث ".
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض "، يقول: بقرة ليست بذلول يزرع عليها، وليست تسقي الحرث.
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية:"إنها بقرة لا ذلول "، أي لم يذللها العمل. "تثير الأرض " يعني: ليست بذلول فتثير الأرض.
"ولا تسقي الحرث "، يقول: ولا تعمل في الحرث.
حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: "إنها بقرة لا ذلول"، يقول: لم يذلها العمل، "تثير الأرض "، يقول: تثير الأرض بأظلافها، "ولا تسقي الحرث "، يقول: لا تعمل في الحرث.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال الأعرج، قال مجاهد، قوله: "لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث "، يقول: ليست بذلول فتفعل ذلك.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان، عن معمر، عن قتادة: ليست بذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث.
قال أبو جعفر: ويعني بقوله "تثير الأرض "، تقلب الأرض للحرث. يقال منه أثرت الأرض أثيرها إثارة، إذا قلبتها للزرع. وإنما وصفها جل ثناؤه بهذه الصفة، لأنها كانت فيما قيل وحشية. حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا جويبر، عن كثير بن زياد، عن الحسن قال: كانت وحشية.
القول في تأويل قوله تعالى: "مسلمة".
قال أبو جعفر: ومعنى "مسلمة" مفعلة من السلامة. يقال منه: سلمت تسلم فهي مسلمة .
ثم اختلف أهل التأويل في المعنى الذي سلمت منه، فوصفها الله بالسلامة منه. فقال مجاهد بما: حدثنا به محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح،
عن مجاهد: "مسلمة"، يقول: مسلمة من الشية، و"لا شية فيها"، لا بياض فيها ولا سواد.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهدمثله.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال مجاهد "مسلمة"، قال: مسلمة من الشية، "لا شية فيها"، لا بياض فيها ولا سواد.
وقال آخرون: مسلمة من العيوب. ذكر من قال ذلك:حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: "مسلمة لا شية فيها"،أي مسلمة من العيوب.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة: "مسلمة"، يقول: لا عيب فيها.
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: "مسلمة"، يعني: مسلمة من العيوب.
حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بمثله.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال ابن عباس قوله: "مسلمة"، لا عوار فيها.
قال أبو جعفر: والذي قاله ابن عباس وأبو العالية ومن قال بمثل قولهما في تأويل ذلك، أولى بتأويل الآية مما قاله مجاهد. لأن سلامتها لو كانت من سائر أنواع الألوان سوى لون جلدها، لكان في قوله: "مسلمة" مكتفى عن قوله: "لا شية فيها". وفي قوله "لا شية فيها"، ما يوضح عن أن معنى قوله: "مسلمة"، غير معنى قوله: "لا شية فيها"، وإذ كان ذلك كذلك، فمعنى الكلام: إنه يقول إنها بقرة لم تذللها إثارة الأرض وقلبها للحراثة، ولا السنو عليها للمزارع، وهي مع ذلك صحيحة مسلمة من العيوب.
القول في تأويل قوله تعالى: "لا شية فيها".
قال أبو جعفر: يعني بقوله: "لا شية فيها"، لا لون فيها يخالف لون جلدها. وأصله من وشي الثوب، وهو تحسين عيوبه التي تكون فيه، بضروب مختلفة من ألوان سداه ولحمته. يقال منه: وشيت الثوب فأنا أشيه شية ووشيا، ومنه قيل للساعي بالرجل إلى السلطان أو غيره: واش، لكذبه عليه عنده، وتحسينه كذبه بالأباطيل. يقال منه:وشيت به إلى السلطان وشاية ، ومنه قول كعب بن زهير:
تسعى الوشاة جنابيها وقولهم: إنك يا ابن أبي سلمى لمقتول
والوشاة جمع واش، يعني أنهم يتقولون بالأباطيل، ويخبرونه أنه إن لحق بالنبي صلى الله عليه وسلم قتله.
وقد زعم بعض أهل العربية أن الوشي ، العلامة. وذلك لا معنى له، إلا أن يكون أراد بذلك تحسين الثوب بالأعلام. لأنه معلوم أن القائل: اوشيت بفلان إلى فلان ، غير جائز أن يتوهم عليه أنه أراد: جعلت له عنده علامة.
وإنما قيل: "لا شية فيها"، وهي من وشيت، لأن الواو لما أسقطت من أولها أبدلت مكانها الهاء في آخرها. كما قيل: وزنته زنة ووسن سنة ووعدته عدة و وديته دية. وبمثل الذي قلنا في معنى قوله: "لا شية فيها"، قال أهل التأويل: حدثنا بشربن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: " لا شية فيها"، أي لا بياض فيها.
حدثنا الحسن قال، أخبرناعبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة مثله.
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: "لا شية فيها"، يقول: لا بياض فيها.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "لا شية فيها"، أي لا بياض فيها ولا سواد.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهدمثله.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس، عن أبيه، عن عطية: "لا شية فيها"، قال: لونها واحد، ليس فيها سوى لونها.
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط عن السدي: "لا شية فيها "، من بياض ولا سواد ولا حمرة.
حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: "لا شية فيها"، هي صفراء، ليس فيها بياض ولا سواد.
حدث عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: "لا شية فيها"، يقول: لا بياض فيها.
القول في تأويل قوله تعالى: "قالوا الآن جئت بالحق ".
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "قالوا الآن جئت بالحق ". فقال بعضهم: معنى ذلك: الآن بينت لنا الحق، فتبيناه، وعرفنا أية بقرة عنيت. وممن قال ذلك، قتادة: حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"قالوا الآن جئت بالحق "، أي الأن بينت لنا.
وقال بعضهم: ذلك خبر من الله جل ثناؤه عن القوم أنهم نسبوا نبي الله موسى صلوات الله عليه، إلى أنه لم يكن يأتيهم بالحق في أمر البقرة قبل ذلك. وممن روي عنه معنى هذا القول، عبد الرحمن بن زيد: حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: اضطروا إلى بقرة لا يعلمون على صفتها غيرها، وهي صفراء ليس فيها سواد ولا بياض، فقالوا: هذه بقرة فلان: "الآن جئت بالحق "، وقبل ذلك والله قد جاءهم بالحق.
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين عندنا بقوله "قالوا الآن جئت بالحق "، قول قتادة. وهو أن تأويله: الآن بينت لنا الحق في أمر البقر، فعرفنا أنها الواجب علينا ذبحها منها. لأن الله جل ثناؤه قد أخبر عنهم أنهم قد أطاعوه فذبحوها، بعد قيلهم هذا. مع غلظ مؤونة ذبحها عليهم، وثقل أمرها، فقال: "فذبحوها وما كادوا يفعلون "، وإن كانوا قد قالوا بقولهم: الآن بينت لنا الحق هراء من القول، وأتوا خطأ وجهلاً من الأمر. وذلك أن نبي الله موسى صلى الله عليه وسلم كان مبيناً لهم في كل مسألة سألوها إياه، ورد رادوه في أمر البقر الحق. وإنما يقال: الآن بينت لنا الحق ، لمن لم يكن مبيناً قبل ذلك، فأما من كان كل قيله فيما أبان عن الله تعالى ذكره حقاً وبياناً، فغير جائز أن يقال له، في بعض ما أبان عن الله في أمره ونهيه، وأدى عنه إلى عباده من فرائضه التي أوجبها عليهم، "الآن جئت بالحق "، كأنه لم يكن جاءهم بالحق قبل ذلك!
وقد كان بعض من سلف يزعم أن القوم ارتدوا عن دينهم وكفروا بقولهم لموسى: "الآن جئت بالحق "، ويزعم أنهم نفوا أن يكون موسى أتاهم بالحق في أمر البقرة قبل ذلك، وأن ذلك من فعلهم وقيلهم كفر.
وليس الذي قال من ذلك عندنا كما قال، لأنهم أذعنوا بالطاعة بذبحها، وإن كان قيلهم الذي قالوه لموسى جهلة منهم، وهفوة من هفواتهم.
القول في تأويل قوله تعالى: "فذبحوها وما كادوا يفعلون".
قال أبو جعفر: يعني بقوله: "فذبحوها"، فذبح قوم موسى البقرة، التي وصفها الله لهم وأمرهم بذبحها.
ويعني بقوله: "وما كادوا يفعلون "، أي: قاربوا أن يدعوا ذبحها، ويتركوا فرض الله عليهم في ذلك.
ثم اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله كادوا أن يضيعوا فرض الله عليهم، في ذبح ما أمرهم بذبحه من ذلك. فقال بعضهم: ذلك السبب كان غلاء ثمن البقرة التي أمروا بذبحها، وبينت لهم صفتها. ذكر من قال ذلك:حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا أبو معشر المدني، عن محمد بن كعب القرظي في قوله: "فذبحوها وما كادوا يفعلون " قال: لغلاء ثمنها.
حدثنا محمد بن عبدالله بن عبيد الهلالي قال، حدثنا عبد العزيز بن الخطاب قال، حدثنا أبو معشر، عن محمد بن كعب القرظي: "فذبحوها وما كادوا يفعلون "، قال: من كثرة قيمتها.
حدثنا القاسم قال، أخبرنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد وحجاج، عن أبي معشر ، عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس في حديث فيه طول، ذكر أن حديث بعضهم دخل في حديث بعض قوله: "فذبحوها وما كادوا يفعلون "، لكثرة الثمن، أخذوها بملء مسكها ذهبًا من مال المقتول، فكان سواء، لم يكن فيه فضل، فذبحوها.
حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: "فذبحوها وما كادوا يفعلون"، يقول: كادوا لا يفعلون، ولم يكن الذي أرادوا، لأنهم أرادوا أن لا يذبحوها. وكل شيء في القرآن (كاد) آو (كادوا) أو (لو)، فإنه لا يكون. وهو مثل قوله: "أكاد أخفيها" (طه: 20).
وقال آخرون: لم يكادوا أن يفعلوا ذلك خوف الفضيحة، إن أطلع الله على قاتل القتيل الذي اختصموا فيه إلى موسى.
قال أبو جعفر: والصواب من التأويل عندنا: أن القوم لم يكادوا يفعلون ما أمرهم الله به من ذبح البقرة، للخلتين كلتيهما: إحداهما: غلاء ثمنها، مع ما ذكر لنا من صغر خطرها وقلة قيمتها؟ والأخرى: خوف عظيم الفضيحة على أنفسهم، بإظهار الله نبيه موسى صلوات الله عليه وأتباعه على قاتله.
فأما غلاء ثمنها، فإنه قد روي لنا فيه ضروب من الروايات: فحدثني موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي، قال: اشتروها بوزنها عشر مرات ذهبًا، فباعهم صاحبها إياها وأخذ ثمنها.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا المعتمر بن سليمان قال، سمعت أيوب، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة قال: اشتروها بملء جلدها دنانير.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: كانت البقرة لرجل يبر أمه، فرزقه الله أن جعل تلك البقرة له، فباعها بملء جلدها ذهبًا.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل قال، حدثني خالد بن يزيد، عن مجاهد قال: أعطوا صاحبها ملء مسكها ذهبًا فباعها منهم.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا إسمعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد بن معقل، أنه سمع وهبا يقول: اشتروها منه على أن يملأوا له جلدها دنانير، ثم ذبحوها فعمدوا إلى جلد البقرة فملأوه دنانير، ثم دفعوها إليه.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: وجدوها عند رجل يزعم أنه ليس بائعها بمال أبدًا؟ فلم يزالوا به حتى جعلوا له أن يسلخوا له مسكها فيملأوه له دنانير، فرضي به، فأعطاهم إياها.
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية قال: لم يجدوها إلا عند عجوز، وإنها سألتهم أضعاف ثمنها، فقال لهم موسى: أعطوها رضاها وحكمها، ففعلوا، واشتروها فذبحوها.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، قال أيوب، عن ابن سيرين، عن عبيدة قال: لم يجدوا هذه البقرة إلا عند رجل واحد، فباعها بوزنها ذهبًا أو ملء مسكها ذهبًا فذبحوها.
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة السلماني، قال: وجدوا البقرة عند رجل، فقال: إني لا أبيعها إلا بملء جلدها ذهبًا. فاشتروها بملء جلدها ذهبًا.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: جعلوا يزيدون صاحبها حتى ملأوا له مسكها وهو جلدها ذهبًا.
وأما صغر خطرها وقلة قيمتها، فإن الحسن بن يحيى:حدثنا قال، حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة قال، حدثني محمد بن سوقة، عن عكرمة قال: ما كان ثمنها إلا ثلاثة دنانير.
وأما ما قلنا من خوفهم الفضيحة على أنفسهم، فإن وهب بن منبه كان يقول: إن القوم إذا مروا بذبح البقرة، إنما قالوا لموسى: ‌"أتتخذنا هزوا"، لعلمهم بأنهم سيفتضحون إذا ذبحت، فحادوا عن ذبحها.
حدثت بذلك عن إسمعيل بن عبد الكريم، عن عبد الصمد بن معقل، عن وهب بن منبه.
وكان ابن عباس يقول: إن القوم، بعد أن أحيا الله الميت فأخبرهم بقاتله، أنكرت قتلته قتله، فقالوا: والله ما قتلناه، بعد أن رأوا الآية والحق.
حدثني بذلك محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس.
قوله تعالى : "قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول" قرأ الجمهور لا ذلول بالرفع على الصفة لبقرة . قال الأخفش : "لا ذلول" نعته ولا يجوز نصبه . وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي "لا ذلول" بالنصب على النفي والخبر مضمر . ويجوز لا هي ذلول ، لا هي تسقي الحرث ، هي مسلمة . ومعنى "لا ذلول" لم يذللها العمل ، يقال :بقرة مذللة بينة الذل ( بكسر الذال ) . ورجل ذليل بين الذل ( بضم الذال ) . أي هي بقرة صعبة غير ريضة لم تذلل بالعمل .
قوله تعالى : "تثير الأرض" تثير في موضع رفع على الصفة للبقرة ، أي هي بقرة لا ذلول مثيرة . قال الحسن : وكانت تلك البقرة وحشية ، ولهذا وصفها الله تعالى بأنها لا تثير الأرض ولا تسقي الحرث ، أي لا يسنى بها لسقي الزرع ولا يسقى عليها . والوقف ها هنا حسن . وقال قول : ( تثير ) فعل مستأنف ، والمعنى إيجاب الحرث لها ، وأنها كانت تحرث ولا تسقي . والوقف على هذا التأويل ( لا ذلول ) . والقول الأول أصح لوجهين : أحدهما : ما ذكره النحاس عن علي بن سليمان أنه قال : لا يجوز أن يكون تثير مستأنفاً ، لأن بعده ( ولا تسقي الحرث ) ، فلو كان مستأنفاً لما جمع بين الواو و لا . الثاني : أنها لو كانت تثير الأرض لكانت الإثارة قد ذللتها ، والله تعالى قد نفى عنها الذل بقوله ( لا ذلول ) .
قلت : ويحتمل أن تكو ن تثير الأرض في غير العمل مرحاً ونشاطاً ، كما قال امرؤ القيس :
يهيل ويذري تربه ويثيره إثارة نبات الهواجر مخمس
فعلى هذا يكون تثير مستأنفاً ، ولا تسقي معطوف عليه ، فتأمله . وإثارة الأرض : تحريكها وبحثها ، ومنه الحديث :
أثيروا القرآن فإنه علم الأولين والآخرين وفي رواية أخرى : من أراد العلم فليثور القرآن وقد تقدم . وفي التنزيل : "وأثاروا الأرض" أي قلبوها للزراعة . والحرث : ما حرث وزرع . وسيأتي .
مسألة : في هذه الآية أدل دليل على حصر الحيوان بصفاته ، وإذا ضبط بالصفة وحصر بها جاز السلم فيه . وبه قال مالك وأصحابه و الأوزاعي و الليث و الشافعي . وكذلك كل ما يضبط بالصفة ، لوصف الله تعالى البقرة في كتابه وصفاً يقوم مقام التعيين ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"لا تصف المرأة المرأة لزوجها حتى كأنه ينظر إليها" . أخرجه مسلم . فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الصفة تقوم مقام الرؤية ، وجعل صلى الله عليه وسلم دية الخطأ في ذمة من أوجبها عليه ديناً إلى أجل ولم يجعلها على الحلول . وهو يرد قول الكوفيين أبي حنيفة وأصحابه و الثوري و الحسن بن صالح حيث قالوا : لا يجوز السلم في الحيوان . وروي عن ابن مسعود وحذيفة وعبد الرحمن بن سمرة ، لأن الحيوان لا يوقف على حقيقة صفته من مشي وحركة ، وكل ذلك يزيد في ثمنه ويرفع من قيمته . وسيأتي حكم السلم وشروطه في آخر السورة في آية الدين ، إن شاء الله تعالى .
قوله تعالى : "مسلمة" أي هي مسلمة . ويجوز أن يكون وصفاً ، أي أنها بقرة مسلمة من العرج وسائر العيوب ، قاله قتادة وأبو العالية . ولا يقال : مسلمة من العمل لنفي الله العمل عنها . وقال الحسن : يعني سليمة القوائم لا أثر فيها للعمل .
قوله تعالى : "لا شية فيها" أي ليس فيها لون يخالف معظم لونها ، وهي صفراء كلها لا بياض يها ولا حمرة ولا سواد ، كما قال : "فاقع لونها" . وأصل شية وشي ، حذفت الواو كما حذفت من يشي ، والأصل يوشي ، ونظيره الزنة والعدة والصلة .والشية مأخوذة من وشى الثوب إذا نسج على لونين مختلفين . وثور موشى :في وجهه وقوائمه سواد . قال ابن عرفة : الشية اللون . ولا يقال لمن نم : واش ، حتى يغير الكلام ويلونه فيجعله ضروبا ويزين منه ما شاء . والوشي : الكثرة . ووشى بنو فلان : كثروا . ويقال : فرس أبلق ، وكبش أخرج ، وتيس أبرق ، وغراب أبقع ، وثور أشيه . كل ذلك يمعنى البلقة ، هكذا نص اهل اللغة .
وهذه الأوصاف في البقرة سببها أنهم شددوا فشدد الله عليهم ، ودين الله يسر ، والتعمق في سؤال الأنبياء وغيرهم من العلماء مذموم ، نسأل الله العافية . وروي في قصص هذه البقرة روايات تلخيصها : أن رجلاً من بني إسرائيل ولد له ابن ، وكانت له عجلة فأرسلها في غيضة وقال :اللهم إني استودعك هذه العجلة لهذا الصبي . ومات الرجل ، فلما كبر الصبي قالت له أمه ـ وكان براً بها ـ : إن أباك استودع الله عجلة لك فأذهب فخذها ،فذهب فلما رأته البقرة جاءت إليه حتى أخذ بقرنيها ـ وكانت مستوحشة ـ فجعل يقودها نحو أمة ، فلقيه بنو إسرائيل ووجدوا بقرة على الصفة التي أمروا بها ، فساموه فاشتط عليهم . وكان قيمتها على ما روي عن عكرمة ثلاثة دنانير ، فأتوا به موسى عليه السلام وقالوا : إن هذا اشتط علينا ، فقال لهم : أرضوه في ملكه ، فاشتروها منه بوزنها مرة ،قاله عبيدة . السدي : بوزنها عشر مرات . وقيل : بملء مسكها دنانير . وذكر مكي : أن هذه البقرة نزلت من السماء ولم تكن من بقر الأرض . فالله أعلم .
قوله تعالى : "قالوا الآن جئت بالحق" أي بينت الحق ، قاله قتادة . وحكى الأخفش : قالوا الآن قطع ألف الوصل ، كما يقال : يا الله . وحكى وجهاً آخر قالوا لان بإثبات الواو . نظيره قراءة أهل المدينة وابي عمرو عاداً لولي . وقرأ الكوفيون قالوا الآن بالهمز . وقراءة أهل المدينة قال لان بتخفيف الهمز مع خذف الواو لالتقاء الساكنين . قال الزجاج : الآن مبني على الفتح لمخالفته سائر ما فيه الألف واللام ، لأن الألف واللام دخلتا لغير عهد ، تقول : أنت إلى الآن هنا ، فالمعنى إلى هذا الوقت . فبنيت كما بني هذا ، وفتحت النون لالتقاء الساكنين . وهو عبارة عما بين الماضي والمستقبل .
قوله تعالى : "وما كادوا يفعلون" أجاز سيبويه : كاد أن يفعل ، تشبيهاً بعسى . وقد تقدم أول السورة . وهذا إخبار عن تثبيطهم في ذبحها وقلة مبادرتهم إلى أمر الله . وقال القرظي محمد بن كعب : لغلاء ثمنها . وقيل :خوفاً من الفضيحة على أنفسهم في معرفة القاتل منهم ، قاله وهب بن منبه .
أخبر تعالى عن تعنت بني إسرائيل وكثرة سؤالهم لرسولهم، لهذا لما ضيقوا على أنفسهم ضيق الله عليهم، ولو أنهم ذبحوا أي بقرة كانت لوقعت الموقع عنهم، كما قال ابن عباس وعبيدة وغير واحد، ولكنهم شددوا فشدد عليهم فقالوا: "ادع لنا ربك يبين لنا ما هي" أي ما هذه البقرة وأي شيء صفتها، قال ابن جرير، حدثنا أبو كريب، حدثنا ثمام بن علي، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لو أخذوا أدنى بقرة لاكتفوا بها، ولكنهم شددوا فشدد عليهم ـ اسناد صحيح ـ وقد رواه غير واحد عن ابن عباس، وكذا قال عبيدة والسدي ومجاهد وعكرمة وأبو العالية وغير واحد ، وقال ابن جريج : قال لي عطاء: لو أخذوا أدنى بقرة لكفتهم، قال ابن جريج: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما أمروا بأدنى بقرة ولكنهم لما شددوا شدد الله عليهم وايم الله لو أنهم لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الأبد" قال: "إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر" أي لا كبيرة هرمة ولا صغيرة لم يلحقها الفحل، كما قاله أبو العالية والسدي ومجاهد وعكرمة وعطية العوفي وعطاء الخراساني ووهب بن منبه والضحاك والحسن وقتادة، وقاله ابن عباس أيضاً، وقال الضحاك عن ابن عباس: عوان بين ذلك، يقول نصف بين الكبير والصغيرة، وهي أقوى ما يكون من الدواب والبقر ، وأحسن ما تكون، وروي عن عكرمة ومجاهد وأبي العالية والربيع بن أنس وعطاء الخراساني والضحاك نحو ذلك، وقال السدي: العوان: النصف التي بين ذلك التي قد ولدت وولد ولدها، وقال هشيم، عن جويبر ، عن كثير بن زياد، عن الحسن في البقرة: كانت بقرة وحشية، وقال ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس: من لبس نعلاً صفراء لم يزل في سرور ما دام لا بسها، وذلك قوله تعالى: "تسر الناظرين" وكذا قال مجاهد ووهب ابن منبه: كانت صفراء، وعن ابن عمر: كانت صفراء الظلف، وعن سعيد بن جبير : كانت صفراء القرن والظلف، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا نصر بن علي، حدثنا نوح بن قيس، أنبأنا أبو رجاء عن الحسن في قوله تعالى: "بقرة صفراء فاقع لونها" قال سوداء شديدة السواد، وهذا غريب، والصحيح الأول ولهذا أكد صفرتها بأنه "فاقع لونها" وقال عطية العوفي "فاقع لونها" تكاد تسود من صفرتها، وقال سعيد بن جبير "فاقع لونها" قال: صافية اللون. وروي عن أبي العالية والربيع بن أنس والسدي والحسن وقتادة نحوه، وقال شريك عن معمر عن ابن عمر "فاقع لونها" قال: صاف، وقال العوفي في تفسيره عن ابن عباس "فاقع لونها" تكاد تسود من صفرتها، وقال سعيد بن جبير "فاقع لونها" صافية اللون، وروي عن أبي العالية والربيع بن أنس والسدي والحسن وقتادة نحوه، وقال شريك عن معمر عن ابن عمر "فاقع لونها" شديدة الصفرة، تكاد من صفرتها تبيض، وقال السدي "تسر الناظرين" أي تعجب الناظرين، وكذا قال أبو العالية وقتادة والربيع بن أنس. وقال وهب بن منبه: إذا نظرت إلى جلدها تخيلت أن شعاع الشمس يخرج من جلدها. وفي التوارة: أنها كانت حمراء ، فلعل هذا خطأ في التعريب، أو كما قال الأول: إنها كانت شديدة الصفرة تضرب إلى حمرة وسواد، والله أعلم. وقوله تعالى: "إن البقر تشابه علينا" أي لكثرتها، فميز لنا هذه البقرة وصفها وحلها لنا "وإنا إن شاء الله" إذا بينتها لنا "لمهتدون" إليها، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن يحيى الأودي الصوفي، حدثنا أبو سعيد أحمد بن داود الحداد، حدثنا سرور بن المغيرة الواسطي بن أخي منصور بن زاذان، عن عباد بن منصور، عن الحسن، عن أبي رافع، عن أبي هريرة: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لولا أن بني إسرائيل قالوا "وإنا إن شاء الله لمهتدون" ما أعطوا أبداً، ولو أنهم اعترضوا بقرة من البقر فذبحوها لأجزأت عنهم، ولكن شددوا، فشدد الله عليهم" وهذا حديث غريب من هذا الوجه، وأحسن أحواله أن يكون من كلام أبي هريرة كما تقدم مثله على السدي، والله أعلم، "قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث" أي إنها ليست مذللة بالحراثة ولا معدة للسقي في الساقية، بل هي مكرمة، حسنة، وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة مسلمة يقول لا عيب فيها، وكذا قال أبو العالية والربيع، وقال مجاهد: مسلمة من الشية، وقال عطاء الخراساني مسلمة القوائم والخلق لا شية فيها، قال مجاهد: لا بياض ولا سواد ، وقال أبو العالية والربيع والحسن وقتادة ليس فيها بياض، وقال عطاء الخراساني: لا شية فيها، قال لونها واحد بهيم، وروي عن عطية العوفي ووهب بن منبه وإسماعيل بن أبي خالد نحو ذلك، وقال السدي: لا شية فيها من بياض ولا سواد ولا حمرة، وكل هذه الأقوال متقاربة في المعنى، وقد زعم بعضهم أن المعنى في ذلك قوله تعالى: "إنها بقرة لا ذلول" ليست بمذللة بالعمل، ثم استأنف فقال: "تثير الأرض" أي يعمل عليها بالحراثة، لكنها لا تسقي الحرث، وهذا ضعيف لأنه فسر الذلول التي لم تذلل بالعمل بأنها لا تثير الأرض ولا تسقي الحرث، كذا قرره القرطبي وغيره: " قالوا الآن جئت بالحق " قال قتادة: الان بينت لنا، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وقبل ذلك والله قد جاءهم الحق "فذبحوها وما كادوا يفعلون" قال الضحاك، عن ابن عباس: كادوا أن لا يفعلوا ولم يكن ذلك الذي أرادوا، لأنهم أرادوا أن لا يذبحوها، يعني أنهم مع هذا البيان وهذه الأسئلة والأجوبة والإيضاح ما ذبحوها إلا بعد الجهد، وفي هذا ذم لهم، وذلك أنه لم يكن غرضهم إلا التعنت، فلهذا ما كادوا يذبحونها. وقال محمد بن كعب ومحمد بن قيس: فذبحوها وما كادوا يفعلون لكثرة ثمنها، وفي هذا نظر ، لأن كثرة الثمن لم يثبت إلا من نقل بني إسرائيل كما تقدم من حكاية أبي العالية والسدي، ورواه العوفي عن ابن عباس، وقال عبيدة ومجاهد وهب بن منبه وأبو العالية وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: أنهم اشتروها بمال كثير ، وفيه اختلاف، ثم قد قيل في ثمنها غير ذلك، وقال عبد الرزاق: أنبأنا ابن عيينة، أخبرني محمد بن سوقة عن عكرمة، قال: ما كان ثمنها إلا ثلاثة دنانير ، وهذا إسناد جيد عن عكرمة والظاهر أنه نقله عن أهل الكتاب أيضاً، وقال ابن جرير ، وقال آخرون: لم يكادوا أن يفعلوا ذلك خوف الفضيحة إن اطلع الله على قاتل القتيل الذي اختصموا فيه ولم يسنده عن أحد ، ثم اختار أن الصواب في ذلك أنهم لم يكادوا يفعلوا ذلك لغلاء ثمنها وللفضيحة، وفي هذا نظر بل الصواب، والله أعلم، ما تقدم من رواية الضحاك عن ابن عباس على ما وجهناه، وبالله التوفيق.
(مسألة) استدل بهذه الاية في حصر صفات هذه البقرة حتى تعينت أو تم تقييدها بعد الإطلاق على صحة السلم في الحيوان، كما هو مذهب مالك والأوزاعي والليث والشافعي وأحمد وجمهور من العلماء سلفاً وخلفاً بدليل ما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تنعت المرأة المرأة لزوجها كأنه ينظر إليها" وكما وصف النبي صلى الله عليه وسلم، إبل الدية في قتل الخطأ، وشبه العمد بالصفات المذكورة بالحديث، وقال أبو حنيفة والثوري والكوفيون: لا يصح السلم في الحيوان لأنه لا تنضبط أحواله، وحكي مثله عن ابن مسعود وحذيفة بن اليمان وعبد الرحمن بن سمرة وغيرهم.
والذلول: التي لم يذللها العمل: أي هي غير مذللة بالعمل ولا ريضة به. وقوله: 71- "تثير" في موضع رفع على الصفة للبقرة: أي هي بقرة لا ذلولة مثيرة، وكذلك قوله: "ولا تسقي الحرث" في محل رفع لأنه وصف لها: أي ليست من النواضح التي يسنى عليها لسقي الزروع، وحرف النفي الآخر توكيد للأول: أي هي بقرة غير مذللة بالحرث ولا بالنضح، ولهذا قال الحسن: كانت البقرة وحشية. وقال قوم: إن قوله: تثير فعل مستأنف. والمعنى: إيجاب الحرث لها والنضح بها. والأول أرجح، لأنها لو كانت مثيرة ساقية لكانت مذللة ريضة، وقد نفى الله ذلك عنها، وقوله: "مسلمة" مرتفع على أنه من أوصاف البقرة، ويجوز أن يكون مرتفعاً على أنه خبر لمبتدأ محذوف: أي هي مسلمة. والجملة في محل رفع على أنها صفة، والمسلمة: هي التي لا عيب فيها، وقيل: مسلمة من العمل، وهو ضعيف لأن الله سبحانه قد نفى ذلك عنها، والتأسيس خير من التأكيد، والإفادة أولى من الإعادة. والشية أصلها وشية حذفت الواو كما حذفت من يشي، وأصله يوشي، ونظيره الزنة والعدة والصلة، وهي مأخوذة من وشى الثوب: إذا نسج على لونين مختلفين، وثور موشى في وجهه وقوائمه سواد. والمراد أن هذه البقرة خالصة الصفرة ليس في جسمها لمعة من لون آخر. فلما سمعوا هذه الأوصاف التي لا يبقى بعدها ريب ولا يخالج سامعها شك، ولا تحتمل الشركة بوجه من الوجوه، أقصروا من غوايتهم، وانتبهوا من رقدتهم وعرفوا بمقدار ما أوقعهم فيه تعنتهم من التضييق عليهم "قالوا الآن جئت بالحق" أي أوضحت لنا الوصف، وبينت لنا الحقيقة التي يجب الوقوف عندها، فحصلوا تلك البقرة الموصوفة بتلك الصفات "فذبحوها" وامتثلوا الأمر الذي كان يسراً فعسروه، وكان واسعاً فضيقوه "وما كادوا يفعلون" ما أمروا به لما وقع منهم من التثبط والتعنت وعدم المبادرة، فكان ذلك مظنة للاستبعاد، ومحلاً للمجيء بعبارة مشعرة بالتثبط الكائن منهم، وقيل: إنهم ما كادوا يفعلون لعدم وجدان البقرة المتصفة بهذه الأوصاف، وقيل: لارتفاع ثمنها، وقيل: لخوف انكشاف أمر المقتول، والأول أرجح. وقد استدل جماعة من المفسرين والأصوليين بهذه الآية على جواز النسخ قبل إمكان الفعل.
وليس ذلك عندي بصحيح الوجهين: الأول: أن هذه الأوصاف المزيدة بسبب تكرر السؤال هي من باب التقييد للمأمور به لا من باب النسخ، وبين البابين بون بعيد كما هو مقرر في علم الأصول. الثاني: أنا لو سلمنا أن هذا من باب النسخ لا من باب التقييد لم يكن فيه دليل على ما قالوه، فإن قد كان يمكنهم بعد الأمر الأول أن يعمدوا إلى بقرة من عرض البقر فيذبحوها، ثم كذلك بعد الوصف بكونها جامعة بين الوصف بالعوان والصفراء، ولا دليل على أن هذه المحاورة بينهم وبين موسى عليه السلام واقعة في لحظة واحدة، بل الظاهر أن هذه الأسئلة المتعنتة كانوا يتواطأون عليها، ويديرون الرأي بينهم في أمرها ثم يوردونها، وأقل الأحوال الاحتمال القادح في الاستدلال.
وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن عبيدة السلماني قال: كان رجل من بني إسرائيل عقيماً لا يولد له وكان له مال كثير، وكان ابن أخيه وارثه، فقتله ثم احتمله ليلاً فوضعه على باب رجل منهم، ثم أصبح يدعيه عليهم حتى تسلحوا وركب بعضهم إلى بعض، فقال ذو الرأي منهم: علام يقتل بعضكم بعضاً، وهذا رسول الله فيكم؟ فأتوا موسى فذكروا ذلك له، فقال: "إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة" الآية، فلو لم يعترضوا لأجزأت عنهم أدنى بقرة، ولكنهم شددوا فشدد عليهم حتى انتهوا إلى البقرة التي أمروا بذبحها، فوجدوها عند رجل ليس له بقرة غيرها، فقال: والله لا أنقصها من ملء جلدها ذهباً، فأخذوها بملء جلدها ذهباً، فذبحوها فضربوه ببعضها، فقام فقالوا: من قتلك؟ فقال: هذا، لابن أخيه ثم مال ميتاً، فلم يعط من ماله شيئاً، ولم يورث قاتل بعده. وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب من عاش بعد الموت عن ابن عباس أن القتيل وجد بين قريتين، وأن البقرة كانت لرجل كان يبر أباه فاشتروها بوزنها ذهباً. وأخرج ابن جرير عنه نحواً من ذلك، ولم يذكر ما تقدم في البقرة. وقد روي في هذا قصص مختلفة لا يتعلق بها كثير فائدة. وأخرج البزار عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن بني إسرائيل لو أخذوا أدنى بقرة لأجزأهم أو لأجزأت عنهم". وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لولا أن بني إسرائيل قالوا: "وإنا إن شاء الله لمهتدون" ما أعطوا أبداً، ولو أنهم اعترضوا بقرة من البقر فذبحوها لأجزأت عنهم، ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم". وأخرج نحوه الفريابي وسعيد بن منصور وابن المنذر عن عكرمة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرجه ابن جرير عن ابن جريج يرفعه. وأخرجه ابن جرير عن قتادة يرفعه أيضاً. وهذه الثلاثة مرسلة. وأخرج نحوه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس قال: الفارض الهرمة، والبكر الصغيرة، والعوان النصف. وأخرج نحوه عن مجاهد. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "عوان بين ذلك" قال: بين الصغيرة والكبيرة، وهي أقوى ما يكون وأحسنه. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: "صفراء فاقع لونها" قال: شديدة الصفرة تكاد من صفرتها تبيض. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر في قوله: "صفراء" قال: صفراء الظلف "فاقع لونها" قال: صافي. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن قتادة قال: "فاقع لونها" أي صاف "تسر الناظرين" أي تعجب. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير عن الحسن في قوله: "صفراء فاقع لونها" قال: سوداء شديدة السواد. وأخرج ابن جرير عن أبي العالية في قوله: "لا ذلول" أي لم يذلها العمل "تثير الأرض" يعني ليست بذلول فتثير الأرض "ولا تسقي الحرث" يقول: ولا تعمل في الحرث "مسلمة" قال: من العيوب. وأخرج نحوه عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد. وقال: "لا شية فيها" لا بياض فيها ولا سواد. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس "مسلمة" لا عوار فيها. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة "قالوا الآن جئت بالحق" قالوا: الآن بينت لنا "فذبحوها وما كادوا يفعلون". وأخرج ابن جرير عن محمد بن كعب في قوله: "وما كادوا يفعلون" لغلاء ثمنها.
71. " قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول " مذللة بالعمل يقال: رجل ذلول بين الذل، ودابة ذلول بينة الذل " تثير الأرض " تقلبها للزراعة " ولا تسقي الحرث " أي ليست بساقية " مسلمة" بريئة من العيوب " لا شية فيها " لا لون لها سوى لون جميع جلدها قال عطاء : لاعيب فيها، وقال مجاهد : لا بياض فيها ولا سواد " قالوا: الآن جئت بالحق " أي بالبيان التام الشافي الذي لا إشكال فيه، وطلبوها فلم يجدوا بكمال وصفها إلا مع الفتى فاشتروها بملء مسكها ذهباً، " فذبحوها وما كادوا يفعلون " من غلاء ثمنها وقال محمد بن كعب: وما كادوا يجدونها باجتماع أوصافها، وقيل " وما كادوا يفعلون " من شدة اضطرابهم واختلافهم فيها.
71-" قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث" أي لم تذلل لكراب الأرض وسقي الحرث ، و" لا ذلول " صفة لبقرة بمعنى غير ذلول ، ولا الثانية مزيدة لتأكيد الأولى والفعلان صفتا ذلول كأنه قيل : لا ذلول مثيرة وساقية ، وقرئ لا ذلول بالفتح أي حيث هي ، كقولك مررت برجل لا بخيل ولا جبان ، أي حيث هو ، وتسقي من أسقى . " مسلمة" سلمها الله تعالى من العيوب ، أو أهلها من العمل ، أو أخلص لونها ، من سلم له كذا إذا خلص له " لا شية فيها " لا لون فيها يخالف لون جلدها ، وهي في الأصل مصدر ، وشاه وشياً وشية إذا خلط بلونه لوناً آخر . " قالوا الآن جئت بالحق " أي بحقيقة وصف البقرة وحققتها لنا ، وقرئ " الآن " بالمد على الاستفهام ،ولان بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على السلام . " فذبحوها " فيه اختصار ، والتقدير : فحصلوا البقرة المنعوتة فذبحوها . " وما كادوا يفعلون " لتطويلهم وكثرة مراجعاتهم ، أو لخوف الفضيحة في ظهور القاتل ، أو لغلاء ثمنها . إذ روي : أن شيخاً صالحاً منهم كان له عجلة ، فأتى بها الغيضة وقال : اللهم إني استودعكم لابني حتى يكبر ، فشبت وكانت وحيدة بتلك الصفات ، فساوموها من اليتيم وأمه حتى اشتروها بملء مسكها ذهباً ،وكانت البقرة إذ ذاك بثلاثة دنانير . وكاد من أفعال المقاربة وضع لدنو الخبر حصولاً ، فإذا دخل عليه النفي قيل معناه الإثبات مطلقاً . وقيل ماضياً ، والصحيح أنه كسائر الأفعال ولا ينافي قوله : " وما كادوا يفعلون " قوله " فذبحوها " لاختلاف وقتيهما ، إذ المعنى أنهم ما قاربوا أن يفعلوا حتى انتهت سؤالاتهم ، وانقطعت تعللاتهم ، ففعلوا كالمضطر الملجأ إلى الفعل .
71. (Moses) answered: Lo! He saith: Verily she is a cow unyoked; she plougheth not the soil nor watereth the tilth; whole and without mark. They said: Now thou bringest the truth. So they sacrificed her, though almost they did not.
71 - He said: he says: a heifer not trained to till the soil or water the fields; sound and without blemish. they said: now hast thou brought the truth. then they offered her in sacrifice, but not with good will.