[البقرة : 65] وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ
(ولقد) لام قسم (علمتم) عرفتم (الذين اعتدوا) تجاوزوا الحد (منكم في السبت) بصيد السمك وقد نهيناهم عنه وهم أهل إيلة (فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين) مبعدين فكانوا وهلكوا بعد ثلاثة أيام
قال أبو جعفر: يعني بقوله: "ولقد علمتم "، ولقد عرفتم. كقولك: قد علمت أخاك، ولم أكن أعلمه، يعني عرفته، ولم أكن أعرفه، كما قال جل ثناؤه: "وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم" (الأنفال: 60) يعني: لا تعرفونهم الله يعرفهم.
وقوله: "الذين اعتدوا منكم في السبت "، أي الذين تجاوزوا حدي، وركبوا ما نهيتهم عنه في يوم السبت، وعصوا أمري.
وقد دللت فيما مضى على أن الاعتداء، أصله تجاوز الحد في كل شيء، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
قال أبو جعفر: وهذه الآية وآيات بعدها تتلوها، مما عدد جل ثناؤه فيها على بني إسرائيل الذين كانوا بين خلال دور الأنصار زمان النبي صلى الله عليه وسلم، الذين ابتدأ بذكرهم في أول هذه السورة من نكث أسلافهم عهد الله وميثاقه ما كانوا يبرمون من العقود، وحذر المخاطبين بها أن يحل بهم بإصرارهم على كفرهم، ومقامهم على جحود نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وتركهم اتباعه والتصديق بما جاءهم به من عند ربه مثل الذي خل بأوائلهم من المسخ والرجف والصعق، وما لا قبل لهم به من غضب الله وسخطه. كالذي:حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشربن عمارة، عن أبي روق ، عن الضحاك، عن ابن عباس: ‎"ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت " يقول: ولقد عرفتم. وهذا تحذير لهم من المعصية. يقول: احذروا أن يصيبكم ما أصاب أصحاب السبت، إذ عصوني، اعتدوا يقول: اجترأوا في السبت. قال: لم يبعث الله نبيًا إلا أمره بالجمعة، وأخبره بفضلها وعظمها في السموات وعند الملائكة، وأن الساعة تقوم فيها. فمن اتبع الأنبياء فيما مضى،كما اتبعت أمة محمد صلى الله عليه وسلم محمدًا، قبل الجمعة وسمع وأطاع، وعرف فضلها وثبت عليها، كما أمر الله تعالى به نبيه صلى الله عليه وسلم. ومن لم يفعل ذلك، كان بمنزلة الذين ذكر الله في كتابه فقال: "ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين ". وذلك أن اليهود قالت لموسى حين أمرهم بالجمعة، وأخبرهم بفضلها: يا موسى، كيف تأمرنا بالجمعة وتفضلها على الأيام كلها، والسبت أفضل الأيام كلها، لأن الله خلق السموات والأرض والأقوات في ستة أيام، وسبت له كل شيء مطيعًا يوم السبت، وكان آخر الستة؟ قال: وكذلك قالت النصارى لعيسى ابن مريم حين أمرهم بالجمعة قالوا له: كيف تأمرنا بالجمعة وأول الأيام أفضلها وسيدها، والأول أفضل، والله واحد، والواحد الأول أفضل؟ فأوحى الله إلى عيسى: أن دعهم والأحد، ولكن ليفعلوا فيه كذا وكذا. مما أمرهم به. فلم يفعلوا، فقص الله تعالى قصصهم في الكتاب بمعصيتهم. قال: وكذلك قال الله لموسى حين قالت له اليهود ما قالوا في أمر السبت: أن دعهم والسبت، فلا يصيدوا فيه سمكاً ولا غيره، ولا يعملون شيئاً كما قالوا. قال: فكان إذا كان السبت ظهرت الحيتان على الماء، فهو قوله: "إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا" (الأعراف: 163) يقول: ظاهرة على الماء، ذلك لمعصيتهم موسى وإذا كان غير يوم السبت، صارت صيدًا كسائر الأيام فهو قوله: "ويوم لا يسبتون لا تأتيهم" ( الأعراف: 163). ففعلت الحيتان ذلك ما شاء الله. فلما رأوها كذلك، طمعوا في أخذها وخافوا العقوبة، فتناول بعضهم منها فلم تمتنع عليه، وحذر العقوبة التي حذرهم موسى من الله تعالى. فلما رأوا أن العقوبة لا تحل بهم، عادوا، وأخبر بعضهم بعضاً بأنهم قد أخذوا السمك ولم يصبهم شيء، فكثروا في ذلك، وظنوا أن ما قال لهم موسى كان باطلاً. وهو قول الله جل ثناؤه: "ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين " يقول: لهؤلاء الذين صادوا السمك فمسخهم الله قردة بمعصيتهم. يقول: إذا لم يحيوا في الأرض إلا ثلاثة أيام. قال: ولم يعش مسخ قط فوق ثلاثة أيام، ولم يأكل ولم يشرب ولم ينسل. وقد خلق الله القردة والخنازير وسائر الخلق في الستة الأيام التي ذكر الله في كتابه. فمسخ هؤلاء القوم في صورة القردة، وكذلك يفعل بمن شاء، كمايشاء، ويحوله كمايشاء.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل قال، حدثنا محمد بن إسحق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، مولى ابن عباس قال: قال ابن عباس: إن الله إنما افترض على بني إسرائيل اليوم الذي افترض عليكم في عيدكم يوم الجمعة. فخالفوا إلى السبت فعظموه، وتركوا ما أمروا به. فلما أبوا إلا لزوم السبت، ابتلاهم الله فيه، فحرم عليهم ما أحل لهم في غيره. وكانوا في قرية بين أيلة والطور يقال لها: مدين . فحرم الله عليهم في السبت الحيتان: صيدها وأكلها. وكانوا إذا كان يوم السبت أقبلت إليهم شرعًا إلى ساحل بحرهم، حتى إذا ذهب السبت ذهبن، فلم يروا حوتاً صغيرًا ولا كبيرًا. حتى إذا كان يوم السبت أزين إليهم شرعًا، حتى إذا ذهبت السبت ذهبن. فكانوا كذلك، حتى إذا طال عليهم الأمد وقرموا إلى الحيتان، عمد رجل منهم فأخذ حوتاً سرًا يوم السبت، فخزمه بخيط، ثم أرسله في الماء، وأوتد له وتدًا في الساحل فأوثقه، ثم تركه، حتى إذا كان الغد، جاء فأخذه أي: إني لم آخذه في يوم السبت ثم انطلق به فأكله. حتى إذا
كان يوم السبت الآخر، عاد لمثل ذلك، ووجد الناس ريح الحيتان، فقال أهل القرية: والله لقد وجدنا ريح الحيتان ثم عثروا على صنيع ذلك الرجل. قال: ففعلوا كما فعل، وأكلوا سرًا زماناً طويلاً، لم يعجل الله عليهم بعقوبة، حتى صادوها علانية وباعوها بالأسواق. وقالت طائفة منهم من أهل البقية : ويحكم! اتقوا الله! ونهوهم عما كانوا يصنعون. وقالت طائفة أخرى لم تأكل الحيتان، ولم تنه القوم عما صنعوا: "لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم" لسخطنا أعمالهم "ولعلهم يتقون" ( الأعراف: 164).
قال ابن عباس: فبينما هم على ذلك، أصبحت تلك البقية في أنديتهم ومساجدهم، وفقدوا الناس فلا يرونهم. فقال بعضهم لبعض: إن للناس لشأنا! فانظروا ما هو! فذهبوا ينظرون في دورهم، فوجدوها مغلقة عليهم، قد دخلوا ليلاص فغلقوها على أنفسهم، كما يغلق الناس على أنفسهم، فأصبحوا فيها قردة، وإنهم ليعرفون الرجل بعينه وإنه لقرد، والمرأة بعينها وإنها لقردة، والصبي بعينه وإنه لقرد. قال: يقول ابن عباس: فلولا ما ذكر الله أنه أنجى الذين نهوا عن السوء، لقلنا أهلك الجميع منهم. قالوا: وهي القرية التي قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم: "واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر" الآية ( الأعراف: 163).
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد بن زريع قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين ": أحلت لهم الحيتان، وحرمت عليهم يوم السبت بلاء من الله، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه. فصار القوم ثلاثة أصناف: فأما صنف فأمسك ونهى عن المعصية، وأما صنف فأمسك عن حرمة الله، وأما صنف فانتهك حرمة الله ومرد على المعصية. فلما أبوا إلا الاعتداء إلى ما نهوا عنه، قال الله لهم: "كونوا قردة خاسئين "، فصاروا قردة لها أذناب، تعاوى، بعدما كانوا رجالاً ونساء.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: "ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت "، قال: نهوا عن صيد الحيتان يوم السبت، فكانت تشرع إليهم يوم السبت، وبلوا بذلك، فاعتدوا فاصطادوها، فجعلهم الله قردة خاسئين.
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين " قال: فهم أهل أيلة، وهي القرية التي كانت حاضرة البحر، فكانت الحيتان إذا كان يوم السبت وقد حرم الله على اليهود أن يعملوا في السبت شيئاً لم يبق في البحر حوت إلا خرج، حتى يخرجن خراطيمهن من الماء. فإذا كان يوم الأحد لزمن سفل البحر، فلم ئر منهن شيء حتى يكون يوم السبت. فذلك قوله: "واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم" ( الأعراف: 163)، فاشتهى بعضهم السمك، فجعل الرجل يحفر الحفيرة ويجعل لها نهرًا إلى البحر. فإذا كان يوم السبت فتح النهر، فأقبل الموج بالحيتان يضربها حتى يلقيها في الحفيرة. ويريد الحوت أن يخرج، فلا يطيق من أجل قلة ماء النهر، فيمكث فيها،. فإذا كان يوم الأحد جاء فأخذه. فجعل الرجل يشوي السمك، فيجد جاره ريحه، فيسأله فيخبره، فيصنع مثل ما صنع جاره. حتى إذا فشا فيهم أكل السمك، قال لهم علماؤهم: ويحكم! إنما تصطادون السمك يوم السبت وهو لا يحل لكم! فقالوا: إنما صدناه يوم الأحد حين أخذناه! فقال الفقهاء: لا، ولكنكم صدتموه يوم فتحتم له الماء فدخل. فقالوا: لا! وعتوا أن ينتهوا. فقال بعض الذين نهوهم لبعض: "لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا" ( الأعراف: 164)، يقول: لم تعظونهم، وقد وعظتموهم فلم يطيعوكم؟ فقال بعضهم: "معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون" ( الأعراف: 164). فلما أبوا قال المسلمون: والله لا نساكنكم في قرية واحدة. فقسموا القرية بجدار، ففتح المسلمون باباً والمعتدون في السبت باباً، ولعنهم داود. فجعل المسلمون يخرجون من بابهم والكفار من بابهم. فخرج المسلمون ذات يوم، ولم يفتح الكفار بابهم. فلما أبطأوا عليهم، تسور المسلمون عليهم الحائط، فإذا هم قردة يثب بعضهم على بعض، ففتحوا عنهم، فذهبوا في الأرض. فذلك قول الله عز وجل: "فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين" (الأعراف: 166)، فذلك حين يقول: "لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم"(المائدة: 78)، فهم القردة.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: "الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين ". قال: لم يمسخوا، إنما هومثل ضربه الله لهم، مثل ما ضرب مثل الحمار يحمل أسفارًا.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين ". قال: مسخت قلوبهم، ولم يمسخوا قردة. وإنما هو مثل ضربه الله لهم، كمثل الحمار يحمل أسفارًا. قال أبوجعفر: وهذا القول الذي قاله مجاهد، قول لظاهر ما دل عليه كتاب الله مخالف. وذلك أن الله أخبر في كتابه أنه جعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت، كما أخبر عنهم أنهم قالوا لنبيهم: "أرنا الله جهرة" ( النساء: 153)، وأن الله تعالى ذكره أصعقهم عند مسألتهم ذلك ربهم، وأنهم عبدوا العجل فجعل توبتهم قتل أنفسهم، وأنهم أمروا بدخول الأرض المقدسة فقالوا لنبيهم: "اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون" ( المائدة: 24) فابتلاهم بالتيه. فسواء قائل قال: هم لم يمسخهم قردة، وقد أخبر جل ذكره أنه جعل منهم قردة وخنازير وآخر قال: لم يكن شيء مما أخبر الله عن بني إسرائيل أنه كان منهم من الخلاف على أنبيائهم، والنكال والعقوبات التي أحلها الله بهم. ومن أنكر شيئاً من ذلك وأقر بآخر منه، سئل البرهان على قوله، وعورض فيما أنكر من ذلك بما أقر به. ثم يسأل الفرق من خبر مستفيض أو أثر صحيح.
هذا مع خلاف قول مجاهد قول جميع الحجة التي لا يجوز عليها الخطأ والكذب فيما نقلته مجمعة عليه. وكفى دليلاً على فساد قول، إجماعها على تخطئته.
القول في تأويل قوله تعالى: "فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين ".
قال أبو جعفر: يعني بقوله: "فقلنا لهم " أي: فقلنا للذين اعتدوا في السبت يعني في يوم السبت.
وأصل السبت، الهدو والسكون في راحة ودعة، ولذلك قيل للنائم مسبوت لهدوه وسكون جسده واستراحته، كما قال جل ثناؤه: "وجعلنا نومكم سباتا" ( النبأ: 9) أي راحة لأجسادكم. وهو مصدر من قول القائل: سبت فلان يسبت سبتا.
وقد قيل: إنه سمي سبتا، لأن الله جل ثناؤه فرغ يوم الجمعة وهو اليوم الذي قبله من خلق جميع خلقه.
وقوله: "كونوا قردة خاسئين "، أي: صيروا كذلك.
والخاسىء المبعد المطرود، كما يخسأ الكلب يقال منه:خسأته أخسؤه خسأ وخسوءا، وهو يخسأ خسوءًا. قال: ويقال: خسأته فخسأ وانخسأ. ومنه قول الراجز:
كالكلب إن قلت له اخسأ انخسأ
يعني: إن طردته انطرد ذليلاً صاغرًا.
فكذلك معنى قوله: "كونوا قردة خاسئين " أي، مبعدين من الخير أذلاء صغراء، كما:حدثنا محمد بن بشار، قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: "كونوا قردة خاسئين " قال: صاغرين.
حدثنا أحمد بن إسحق قال، حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن رجل، عن مجاهدمثله.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
حدثني الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة: "خاسئين "، قال: صاغرين.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: "كونوا قردة خاسئين "، أي أذلة صاغرين.
وحدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: خاسئاً، يعني ذليلاً.
قوله تعالى : "ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين" .
فيه سبع مسائل :
الأولى : قوله تعالى : "ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت" علمتم معناه عرفتم أعيانهم . وقيل : علمتم أحكامهم . والفرق بينهما ان المعرفة متوجهة إلى ذات المسمى . والعلم متوجه إلى أحوال المسمى . فإذا قلت : عرفت زيداً ، فالمراد شخصه . وإذا قلت : علمت زيداً ، فالمراد به العلم بأحواله من فضل ونقص . فعلى الأول يتعدى الفعل إلى مفعول واحد ، وهو قول سيبويه : "علمتم" بمعنى عرفتم . وعلى الثاني إلى مفعولين . وحكى الأخفش : ولقد علمت زيداً ولم أكن أعلمه . وفي التنزيل : "لا تعلمونهم الله يعلمهم" . كل هذا بمعنى المعرفة ، فاعلم . "الذين اعتدوا منكم في السبت" صلة الذين . والاعتداء . التجاوز ، وقد تقدم .
الثانية : روى النسائي عن صفوان بن عسال قال :
"قال يهودي لصاحبه : اذهب بنا إلى هذا النبي . فقال له صاحبه . لا تقل نبي لو سمعك ! كان له أربع أعين . فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألاه عن تسع آيات بينات ، فقال لهم : لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا تمشوا ببريء إلى سلطان ولا تسحروا ولا تأكلوا الربا ولا تقذفوا المحصنة ولا تولوا يوم الزحف وعليكم خاصة يهود ألا تعدوا في السبت . فقبلوا يديه ورجليه وقالوا : نشهد أنك نبي . قال : فما يمنعكم أن تتبعوني ! . قالوا : إن داود دعا بألا يزال من ذريته نبي ، وإنا نخاف إن اتبعناك أن تقتلنا يهود" وخرجه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح . وسيأتي لفظه في سورة سبحان إن شاء الله تعالى .
الثالثة : "في السبت" معناه في يوم السبت ، ويحتمل أن يريد في حكم السبت . والأول قول الحسن وأنهم أخذوا فيه الحيتان على جهة الاستحلال . وروى اشهب بن مالك قال : زعم ابن رومان أنهم كانوا يأخذ الرجل منهم خيطاً ويضع فيه وهقة وألقاها في ذنب الحوت ، وفي الطرف الآخر من الخيط وتد وتركه كذلك إلى الأحد ، ثم تطرق الناس حين رأوا من صنع لا يبتلى ، حتى كثر صيد الحوت ومشي به في الأسواق ، وأعلن الفسقة بصيده . فقامت فرقة فنهت وجاهرت بالنهي واعتزلت . ويقال : إن الناهين قالوا : لا نساكنكم ، فقسموا القربة بجدار . فأصبح الناهون ذات يوم في مجالسهم ولم يخرج من المعتدين أحد ، فقالوا : إن للناس لشأنا ، فعلوا على الجدار فنظروا فإذا هم قردة ، ففتحوا الباب ودخلوا عليهم ، فعرفت القردة أنسابها من الإنس ، ولا يعرف الإنس أنسابهم من القردة ، فجعلت القردة تأتي نسيبها من الإنس فتشم ثيابه وتبكي ، فيقول : ألم ننهكم !فتقول برأسها نعم . قال قتادة : صار الشبان قردة ، والشيوخ خنازير ، فما نجا إلا الذين نهوا وهلك سائرهم . وسيأتي في الأعراف قول من قال : إنهم كانوا ثلاث فرق . وهو أصح من قول من قال : إنهم لم يفترقوا إلا فرقتين . والله أعلم .
والسبت مأخوذ من السبت وهو القطع ، فقيل : إن الأشياء فيه سبتت وتمت خلقتها . وقيل : هو مأخوذ من السبوت الذي هو الراحة والدعة .
واختلف العلماء في الممسوخ هل ينسل على قولين . قال الزجاج : قال قوم يجوز أن تكون هذه القردة منهم . واختاره القاضي أبو بكر العربي . وقال الجمهور : الممسوخ لا ينسل وإن القردة والخنازير وغيرهما كانت قبل ذلك ، والذين مسخهم الله قد هلكوا ولم يبق لهم نسل ، لأنه قد أصابهم السخط والعذاب ، فلم يكن لهم قرار في الدنيا بعد ثلاثة أيام . قال ابن عباس : لم يعش مسخ قط فوق ثلاثة أيام ، ولم يأكل ولم يشرب ولم ينسل . قال ابن عطية : وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم وثبت .
"أن الممسوخ لا ينسل" ولا يأكل ولا يشرب ولا يعيش أكثر من ثلاثة أيام .
قلت : هذا هو الصحيح من القولين . وأما ما احتج به ابن العربي وغيره على صحة القول الأول من قوله صلى الله عليه وسلم :
"فقدت أمة من بني إسرائيل لا يدري ما فعلت ولا أراها إلا الفأر ألا ترونها إذا وضع لها ألبان الإبل لم تشربه وإذا وضع لها ألبان الشاء شربته" . رواه أبو هريرة أخرجه مسلم ، وبحديث الضب رواه مسلم أيضاً عن ابي سعيد وجابر ، قال جابر :
"أتي النبي صلى الله عليه وسلم بضب فأبى أن يأكل منه ، وقال : لا أدري لعله من القرون التي مسخت" فمتأمل على ما يأتي . قال ابن العربي : وفي البخاري عن عمرو بن ميمون أنه قال :
" رأيت في الجاهلية قردة قد زنت فرجموها فرجمتها معهم " ثبت في بعض نسخ البخاري وسقط في بعضها ، وثبت في نص الحديث "قد زنت" وسقط هذا اللفظ عند بعضهم . قال ابن العربي : فإن قيل : وكأن البهائم بقيت فيهم معارف الشرائع حتى ورثوها خلفاً عن سلف إلى زمان عمرو؟ قلنا : نعم كذلك كان ، لأن اليهود غيروا الرجم فأراد الله أن يقيمه في مسوخهم حتى يكون أبلغ في الحجة على ما أنكروه من ذلك وغيروه ، حتى تشهد عليهم كتبهم وأحبارهم ومسوخهم ، حتى يعلموا أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون ، ويحصي ما يبدلون وما يغيرون ، ويقيم عليهم الحجة من حيث لا يشعرون ، وينصر نبيه عليه السلام وهم لا ينصرون .
قلت : هذا كلامه في الأحكام ، ولا حجة في شيء منه . وأما ما ذكره من قصة عمرو فذكر الحميدي في جمع الصحيحين : حكى أبو مسعود الدمشقي أن لعمرو بن ميمون الأودي في الصحيحين حكاية من رواية حصين عنه قال : رأيت في الجاهلية قردة اجتمع عليها قردة فرجموها فرجمتها معهم . كذا حكى أبو مسعود ولم يذكر في أي موضع أخرجه البخاري من كتابه ، فبحثنا عن ذلك فوجدناه في بعض النسخ لا في كلها ، فذكر في كتاب أيام الجاهلية . وليس في رواية النعيمي عن الفربري أصلاً شيء من هذا الخبر في القردة ، ولعلها من المقحمات في كتاب البخاري . والذي قال البخاري في التاريخ الكبير : قال لي نعيم بن حماد أخبرنا هشيم عن ابي بلج وحصين عن عمرو بن ميمون قال : رأيت في الجاهلية قردة اجتمع عليها قردو فرجموها فرجمتها معهم . وليس فيه قد زنت . فإن صحت هذه الرواية فإنما أخرجها البخاري دلالة على أن عمرو بن ميمون قد أدرك الجاهلية ولم يبال بظنه الذي ظنه في الجاهلية . وذكر أبو عمر في الإستيعاب عمرو بن ميمون وأن كنيته أبو عبد الله معدود في كبار التابعين من الكوفيين ، وهو الذي رأى الرجم في الجاهلية من القردة إن صح ذلك ، لأن رواته مجهولون . وقد ذكره البخاري عن نعيم عن هشيم عن حصين عن عمرو بن ميمون الأودي مختصراً قال : رأيت في الجاهلية قردة زنت فرجموها ـ يعني القردة ـ فرجمتها معهم . ورواه عباد بن العوام عن حصين كما رواه هشيم مختصراً . وأما القصة بطولها فإنها تدور على عبد الملك بن مسلم عن عيسى بن حطان ، وليسا ممن يحتج بهما . وهذا عند جماعة أهل العلم منكر إضافة الزنى إلى غير مكلف ، وإقامة الحدود في البهائم . ولو صح لكانوا من الجن ، لأن العبادات في الإنس والجن دون غيرهما . وأما قوله عليه السلام في حديث أبي هريرة : "ولا أراها إلا الفأر" وفي الضب : "لا أدري لعله من القرون التي مسخت" وما كان مثله ، فإنما كان ظناً وخوفاً لأن يكون الضب والفأر وغيرهما مما مسخ ، وكان هذا حدساً منه صلى الله عليه وسلم قبل أن يوحى إليه أن الله لم يجعل للمسخ نسلاً ، فلما أوحى إليه بذلك زال عنه ذلك التخوف ، وعلم أن الضب والفأر ليسا مما مسخ ، وعند ذلك أخبرنا بقوله صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن القردة والخنازير .
هي مما مسخ ؟ فقال : إن الله لم يهلك قوماً أو يعذب قوماً فيجعل لهم نسلاً وإن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك. وهذا نص صريح صحيح رواه عبد الله بن مسعود أخرجه مسلم في كتاب القدر . وثبتت النصوص بأكل الضب بحضرته وعلى مائدته ولم ينكر ، فدل على صحة ما ذكرنا . وبالله توفيقنا . وروي عن مجاهد في تفسير هذه الآية أنه إنما مسخت قلوبهم فقد ، وردت أفهامهم كأفهام القردة . ولم يقله غيره من المفسرين فيما أعلم . والله أعلم .
قوله تعالى : "فقلنا لهم كونوا قردة" قردة خبر كان . "خاسئين" نعت ، وإن شئت جعلته خبراً ثانياً لكان ، أو حالاً من الضمير في كونوا . ومعناه مبعدين . يقال :خسأته فخسأ وخسىء وانخسأ ، أي أبعدته فبعد . وقوله تعالى : "ينقلب إليك البصر خاسئا" أي مبعداً . وقوله : "اخسؤوا فيها" أي تباعدوا تباعد سخط . قال الكسائي : خسأ الرجل خسوءاً ، وخسأته خساً . ويكون الخاسىء بمعنى الصاغر القميء . يقال : قمؤ الرجل قماء صار قميئاً ، وهو الصاغر الذليل . وأقمأته : صغرته وذللته ، فهو قمىء على فعيل .
يقول تعالى: "ولقد علمتم" يا معشر اليهود ما أحل من البأس بأهل القرية التي عصت أمر الله وخالفوا عهده وميثاقه فيما أخذه عليهم من تعظيم السبت والقيام بأمره إذ كان مشروعاً لهم، فتحيلوا على اصطياد الحيتان في يوم السبت بما وضعوا لها من الشصوص والحبائل والبرك قبل يوم السبت فلما جاءت يوم السبت على عادتها في الكثرة نشبت بتلك الحبائل والحيل، فلم تخلص منها يومها ذلك، فلما كان الليل أخذوها بعد انقضاء السبت، فلما فعلوا ذلك، مسخهم الله إلى صورة القردة وهي أشبه شيء بالأناسي في الشكل الظاهر وليست بإنسان حقيقة فكذلك أعمال هؤلاء وحيلتهم لما كانت مشابهة للحق في الظاهر ومخالفة له في الباطن، كان جزاؤهم من جنس عملهم وهذه القصة مبسوطة في سورة الأعراف حيث يقول تعالى: "واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعاً ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون" القصة بكمالها، وقال السدي: أهل هذه القرية هم أهل أيله، وكذا قال قتادة، وسنورد أقوال المفسرين هناك مبسوطة إن شاء الله وبه الثقة، وقوله تعالى: "فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين" قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو حذيفة، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد "فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين" قال: مسخت قلوبهم ولم يمسخوا قردة. وإنما هو مثل ضربه الله "كمثل الحمار يحمل أسفاراً" ورواه ابن جرير عن المثنى، عن أبي حذيفة وعن محمد بن عمر الباهلي وعن أبي عاصم عن عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد به، وهذا سند جيد عن مجاهد، وقول غريب خلاف الظاهر من السياق في هذا المقام وفي غيره، قال الله تعالى: " قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت " الاية، وقال العوفي في تفسيره عن ابن عباس "فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين" فجعل الله منهم القردة والخنازير فزعم أن شباب القوم صاروا قردة وأن الشيخة صاروا خنازير وقال شيبان النحوي عن قتادة "فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين" فصار القوم قردة تعاوى، لها أذناب بعد ما كانوا رجالاً ونساءً وقال عطاء الخراساني: نودوا يا أهل القرية "كونوا قردة خاسئين" فجعل الذين نهوهم يدخلون عليهم فيقولون يا فلان ألم ننهكم؟ فيقولون برؤوسهم: أي بلى، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين حدثنا عبد الله بن محمد بن ربيعة بالمصيصية، حدثنا محمد بن مسلم، يعني الطائفي، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال إنما كان الذين اعتدوا في السبت فجعلوا قردة فواقاً، ثم هلكوا ما كان للمسخ نسل، وقال الضحاك، عن ابن عباس: فمسخهم الله قردة بمعصيتهم يقول إذ لا يحيون في الأرض إلا ثلاثة أيام، قال: ولم يعش مسخ قط فوق ثلاثة أيام، ولم يأكل ولم يشرب ولم ينسلوا وقد خلق الله القردة والخنازير وسائر الخلق في الستة الأيام التي ذكرها الله في كتابه، فمسخ هؤلاء القوم في صورة القردة، وكذلك يفعل بمن يشاء كما يشاء، ويحوله كما يشاء، وقال أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله "كونوا قردة خاسئين" قال: يعني أذلة صاغرين، وروي عن مجاهد وقتادة والربيع وأبي مالك نحوه، وقال محمد بن إسحاق عن داود بن أبي الحصين عن عكرمة، قال: قال ابن عباس: إن الله إنما افترض على بني إسرائيل اليوم الذي افترض عليكم في عيدكم يوم الجمعة فخالفوا إلى السبت فعظموه وتركوا ما أمروا به، فلما أبو إلا لزوم السبت ابتلاهم الله فيه، فحرم عليهم ما أحل لهم في غيره، وكانوا في قرية بين أيلة والطور، يقال لها: مدين، فحرم الله عليهم في السبت الحيتان صيدها وأكلها، وكانوا إذا كان يوم السبت، أقبلت إليهم شرعاً إلى ساحل بحرهم، حتى إذا ذهب السبت، ذهبن فلم يروا حوتاً صغيراً ولا كبيراً، حتى إذا كان يوم السبت أتين شرعاً، حتى إذا ذهب السبت، ذهبن فكانوا كذلك، حتى طال عليهم الأمد وقرموا إلى الحيتان، عمد رجل منهم فأخذ حوتاً سراً يوم السبت فحزمه بخيط ثم أرسله في الماء وأوتد له وتداً في الساحل فأوثقه ثم تركه، حتى إذا كان الغد جاء فأخذه أي إني لم آخذه في يوم السبت، فانطلق به فأكله، حتى إذا كان يوم السبت الاخر عاد لمثل ذلك، ووجد الناس ريح الحيتان، فقال أهل القرية: والله لقد وجدنا ريح الحيتان، ثم عثروا على صنيع ذلك الرجل، قال: ففعلوا كما فعل، وصنعوا سراً زماناً طويلاً لم يعجل الله عليهم العقوبة حتى صادوها علانية وباعوها في الأسواق، فقالت طائفة منهم من أهل البقية: ويحكم اتقوا الله ونهوهم عما كانوا يصنعون، فقالت طائفة أخرى لم تأكل الحيتان، ولم تنه القوم عما صنعوا، "لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً ؟ قالوا: معذرة إلى ربكم" بسخطنا أعمالهم "ولعلهم يتقون"، قال ابن عباس: فبينما هم على ذلك، أصبحت تلك البقية في أنديتهم ومساجدهم فقدوا الناس فلم يروهم، قال: فقال بعضهم لبعض: إن للناس شأناً، فانظروا ما هو فذهبوا ينظرون في دورهم، فوجدوها مغلقة عليهم، قد دخلوها ليلاً فغلقوها على أنفسهم كما يغلق الناس على أنفسهم، فأصبحوا فيها قردة، وإنهم ليعرفون الرجل بعينه وإنه لقرد، والمرأة وإنها لقردة، والصبي بعينه وإنه لقرد، قال : قال ابن عباس: فلولا ما ذكر الله أنه نجى الذين نهوا عن السوء لقد أهلك الله الجميع منهم، قال: وهي القرية التي قال جل ثناؤه لمحمد صلى الله عليه وسلم "واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر" الاية، وروى الضحاك عن ابن عباس نحواً من هذا، وقال السدي في قوله تعالى "ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين" قال: هم أهل أيلة، وهي القرية التي كانت حاضرة البحر ، فكانت الحيتان إذا كان يوم السبت، وقد حرم الله على اليهود أن يعملوا في السبت شيئاً، فلم يبق في البحر حوت إلا خرج حتى يخرجن خراطيمهن من الماء، فإذا كان يوم الأحد لزمن سفل البحر فلم ير منهن شيء حتى يكون يوم السبت، فذلك قوله تعالى "واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعاً ويوم لا يسبتون لا تأتيهم" فاشتهى بعضهم السمك، فجعل الرجل يحفر الحفيرة ويجعل لها نهراً إلى البحر، فإذا كان يوم السبت فتح النهر فأقبل الموج بالحيتان يضربها حتى يلقيها في الحفيرة، فيريد الحوت أن يخرج فلا يطيق من أجل قلة ماء النهر ، فيمكث فيها، فإذا كان يوم الأحد، جاء فأخذه، فجعل الرجل يشوي السمك، فيجد جاره روائحه، فيسأله فيخبره، فيصنع مثل ما صنع جاره حتى فشا فيهم أكل السمك، فقال لهم علماؤهم: ويحكم، إنما تصطادون يوم السبت وهو لا يحل لكم، فقالوا: إنما صدناه يوم الأحد حين أخذناه، قال الفقهاء: لا ولكنكم صدتموه يوم فتحتم له الماء فدخل، قال: وغلبوا أن ينتهوا. فقال بعض الذين نهوهم لبعض "لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً" يقول: لم تعظوهم وقد وعظتموهم فلم يطيعونكم ؟ فقال بعضهم "معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون" فلما أبوا، قال المسلمون: والله لا نساكنكم في قرية واحدة، فقسموا القرية بجدار وفتح المسلمون باباً والمعتدون في السبت باباً ولعنهم داود عليه السلام، فجعل المسلمون يخرجون من بابهم، والكفار من بابهم، فخرج المسلمون ذات يوم ولم يفتح الكفار بابهم فلما أبطؤوا عليهم، تسور المسلمون عليهم الحائط ، فإذا هم قردة يثب بعضهم على بعض، ففتحوا عنهم فذهبوا في الأرض، فذلك قول الله تعالى: " فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين " وذلك حين يقول " لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم " الاية: فهم القردة (قلت) والغرض من هذا السياق عن هؤلاء الأئمة، بيان خلاف ما ذهب إليه مجاهد رحمه الله، من أن مسخهم إنما كان معنوياً لا صورياً، بل الصحيح أنه معنوي وصوري، والله أعلم. وقوله تعالى: "فجعلناها نكالاً" قال بعضهم: الضمير في فجعلناها عائد على القردة وقيل على الحيتان وقيل على العقوبة وقيل على القرية حكاها ابن جرير والصحيح أن الضمير عائد على القرية، أي فجعل الله هذه القرية والمراد أهلها بسبب اعتدائهم في سبتهم "نكالاً" أي عاقبناهم عقوبة فجعلناها عبرة كما قال الله عن فرعون " فأخذه الله نكال الآخرة والأولى " وقوله تعالى "لما بين يديها وما خلفها" أي من القرى، قال ابن عباس: يعني جعلناها بما أحللنا بها من العقوبة عبرة لما حولها من القرى كما قال تعالى: " ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون " منه قوله تعالى " أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها " الاية، على أحد الأقوال، في المكان كما قال محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس لما بين يديها من القرى وما خلفها من القرى فالمراد لما بين يديها وما خلفها من القرى، وكذا قال سعيد بن جبير: لما بين يديها وما خلفها، قال: من بحضرتها من الناس يومئذ. وروي عن إسماعيل بن أبي خالد وقتادة وعطية العوفي "جعلناها نكالاً لما بين يديها" قال: ما قبلها من الماضين في شأن السبت، وقال أبو العالية والربيع وعطية: وما خلفها لما بقي بعدهم من الناس بني إسرائيل أن يعملوا مثل عملهم، وكان هؤلاء يقولون: المراد لما بين يديها وما خلفها في الزمان. وهذا مستقيم بالنسبة إلى من يأتي بعدهم من الناس أن تكون أهل تلك القرية عبرة لهم، وأما بالنسبة إلى من سلف قبلهم من الناس فكيف يصح هذا الكلام أن تفسر الاية به، وهو أن يكون عبرة لمن سبقهم ؟ وهذا لعل أحداً من الناس لا يقوله بعد تصوره فتعين أن المراد بما بين يديها وما خلفها في المكان، وهو ما حولها من القرى، كما قاله ابن عباس وسعيد بن جبير ، والله أعلم. وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية "فجعلناها نكالاً لما بين يديها وما خلفها" أي عقوبة لما خلا من ذنوبهم، وقال ابن أبي حاتم: وروي عن عكرمة ومجاهد والسدي والفراء وابن عطية. لما بين يديها من ذنوب القوم وما خلفها، لمن يعمل بعدها مثل تلك الذنوب، وحكى الرازي ثلاثة أقوال: أحدها: أن المراد بما بين يديها وما خلفها، من تقدمها من القرى بما عندهم من العلم بخبرها بالكتب المتقدمة ومن بعدها. والثاني: المراد بذلك من بحضرتها من القرى والأمم. والثالث: أنه تعالى، جعلها عقوبة لجميع ما ارتكبوه من قبل هذا الفعل وما بعده، وهو قول الحسن (قلت) وأرجح الأقوال المراد بما بين يديها وما خلفها، من بحضرتها من القرى، يبلغهم خبرها وما حل بها، كما قال تعالى "ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى" الاية، وقال تعالى: "ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة" الاية، وقال تعالى "أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها" فجعلهم عبرة ونكالاً لمن في زمانهم، وموعظة لمن يأتي بعدهم بالخبر المتواتر عنهم، ولهذا قال "وموعظة للمتقين" وقوله تعالى: "وموعظة للمتقين" قال محمد بن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس "وموعظة للمتقين" الذين من بعدهم إلى يوم القيامة، وقال الحسن وقتادة "وموعظة للمتقين" بعدهم فيتقون نقمة الله ويحذرونها، وقال السدي وعطية العوفي "وموعظة للمتقين" قال أمة محمد صلى الله عليه وسلم (قلت) المراد بالموعظة ههنا الزاجر أي جعلنا ما أحللنا بهؤلاء من البأس والنكال في مقابلة ما ارتكبوه من محارم الله، وما تحيلوا به من الحيل، فليحذر المتقون صنيعهم لئلا يصيبهم ما أصابهم، كما قال الإمام أبو عبد الله بن بطة: حدثنا أحمد بن محمد بن مسلم، حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا محمد بن عمر، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل" وهذا إسناد جيد، وأحمد بن محمد بن مسلم هذا، وثقة الحافظ أبو بكر البغدادي وباقي رجاله مشهورون على شرط الصحيح، والله أعلم.
65- "ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردةً خاسئين" والسبت في أصل اللغة: القطع، لأن الأشياء تمت فيه وانقطع العمل، وقيل: هو مأخوذ من السبوت، وهو الراحة والدعة. وقال في الكشاف: السبت مصدر سبتت اليهود: إذا عظمت يوم السبت انتهى. وقد ذكر جماعة من المفسرين أن اليهود افترقت فرقتين: ففرقة اعتدت في السبت: أي جاوزت ما أمرها الله به من العمل فيه فصادوا السمك الذي نهاهم الله عن صيده فيه، والفرقة الأخرى انقسمت إلى فرقتين: ففرقة جاهرت بالنهي واعتزلت وفرقة لم توافق المعتدين ولا صادوا معهم لكنهم جالسوهم ولم يجاهروهم بالنهي ولا اعتزلوا عنهم فمسخهم الله جميعاً ولم تنج إلا الفرقة الأولى فقط. وهذه من جملة المحن التي امتحن الله بها هؤلاء الذين بالغوا في العجرفة وعاندوا أنبياءهم، وما زالوا في كل موطن يظهرون من حماقاتهم وسخف عقولهم وتعنتهم نوعاً من أنواع التعسف، وشعباً من شعب التكلف، فإن الحيتان كانت في يوم السبت كما وصف الله سبحانه بقوله: "إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعاً ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم" فاحتالوا لصيدها، وحفروا الحفائر وشقوا الجداول، فكانت الحيتان تدخلها يوم السبت فيصيدونها يوم الأحد، فلم ينتفعوا بهذه الحيلة الباطلة. والخاسئ: المبعد، يقال: خسأته فخسأ وخسئ وانخسأ: أبعدته فبعد. ومنه قوله تعالى: "ينقلب إليك البصر خاسئاً" أي مبعداً. وقوله: " اخسؤوا فيها " أي تباعدوا تباعد سخط، ويكون الخاسئ بمعنى الصاغر. والمراد هنا: كونوا بين المصير إلى أشكال القردة مع كونهم مطرودين صاغرين، فقردة خبر الكون. وخاسئين خبر آخر، وقيل: إنه صفة لقردة والأول أظهر.
65. قوله تعالى: " ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت " أي جازوا الحد، وأصل السبت: القطع، قيل: سمي يوم السبت بذلك لأن الله تعالى قطع فيه الخلق، وقيل لأن اليهود أمروا فيه بقطع الأعمال، والقصة فيه: أنهم كانوا زمن داود عليه السلام بأرض يقال لها أيلة حرم الله عليهم صيد السمك يوم السبت، فكان إذا دخل السبت لم يبق حوت في البحر إلا اجتمع هناك حتى يخرجن خراطيمهن من الماء لأمنها، حتى لا يرى الماء من كثرتها، فإذا مضى السبت تغرقن ولزمن مقل البحر، فلا يرى شيء منها فذلك قوله تعالى " إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعاً ويوم لا يسبتون لا تأتيهم " (163-الأعراف).
ثم ان الشيطان وسوس إليهم وقال: إنما نهيتم عن أخذها يوم السبت، فعمد رجال فحفروا الحياض حول البحر، وشرعوا منها إليها الأنهار، فإذا كانت عشية الجمعة فتحوا تلك الأنهار، فأقبل الموج بالحيتان إلى الحياض، فلا يقدرن على الخروج لبعد عمقها وقلة مائها، فإذا كان يوم الأحد أخذوها، وقيل: كانوا يسوقون الحيتان إلى (الحياض) يوم السبت ولا يأخذونها ثم يأخذوها يوم الأحد، وقيل: كانوا ينصبون الحبائل والشخوص يوم الجمعة ويخرجونها يوم الأحد ففعلوا ذلك زماناً ولم تنزل عليهم عقوبة فتجرؤوا على الذنب وقالوا: ما نرى السبت إلا وقد أحل لنا فأخذوا وأكلوا وملحوا وباعوا واشتروا وكثر مالهم، فلما فعلوا ذلك صار أهل القرية، وكان نحواً من سبعين ألفاً، ثلاثة أصناف: صنف أمسك ونهى، وصنف أمسك ولم ينه، وصنف انتهك الحرمة، وكان الناهون اثني عشر ألفاً، فلما أبى المجرمون قبول نصحهم قالوا: والله لا نساكنكم في قرية واحدة فقسموا القرية بجدار وعبروا بذلك سنتين، فلعنهم داود عليه السلام، وغضب الله عليهم لإصرارهم على المعصية فخرج الناهون ذات يوم من بابهم ولم يخرج من المجرمين أحد ولم يفتحوا بابهم، فلما أبطؤوا تسوروا عليهم الحائط فإذا هم جميعاً قردة لها أذناب يتعاوون، قال قتادة : صار الشبان قردة والشيوخ خنازير فمكثوا ثلاثة أيام ثم هلكوا ولم يمكث مسخ ثلاثة أيام ولم يتوالدوا.
قال الله تعالى: " فقلنا لهم كونوا قردة " أمر تحويل وتكوين " خاسئين " مبعدين مطرودين، وقيل: فيه تقديم وتأخير أي كونوا خاسئين قردة ولذلك لم يقل خاسئات، والخسأ الطرد والإبعاد، وهو لازم ومتعد يقال: خسأته خسأً فخسأ خسوءاً مثل: رجعته رجعاً فرجع رجوعاً.
65-" ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت " اللام موطئة لقسم ، والسبت مصدر قولك سبتت اليهود إذا عظمت يوم السبت ، وأصله القطع أمروا بأن يجردوه للعبادة فاعتدى فيه ناس منهم في زمن داود عليه السلام ، واشتغلوا بالصيد ،وذلك أنهم كانوا يسكنون قرية على ساحل يقال لها أيلة ، وإذا كان يوم السبت لم يبق حوت في البحر إلا حضر هناك وأخرج خرطومه ، فإذا مضى تفرقت فحفروا حياضاً وشرعوا إليها الجداول وكانت الحيتان تدخلها يوم السبت فيصطادونها يوم الأحد . " فقلنا لهم كونوا قردةً خاسئين " جامعين بين صورة القردة والخسوء : وهو الصغار والطرد ، وقال مجاهد ما مسخت صورهم ولكن قلوبهم ، فمثلوا بالقردة كما مثلوا بالحمار في قوله تعالى : " كمثل الحمار يحمل أسفاراً " وقوله : " كونوا " ليس بأمر إذ لا قدرة لهم عليه ، وإنما المراد به سرعة التوكين ، وأنهم صاروا كذلك كما أراد بهم ، وقرئ قردة بفتح القاف وكسر الراء ، وخاسين بغير همزة .
65. And ye know of those of you who broke the Sabbath, bow We said unto them: Be ye apes, despised and hated!
65 - And well ye knew those amongst you how transgressed in the matter of Sabbath: we said to them: be ye apes, despited and rejected