[البقرة : 6] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
إن الذين كفروا) كأبي جهل وأبي لهب ونحوهما (سواء عليهم أأنذرتهم) بتحقيق الهمزتين وإبدال الثانية ألفا وتسهيلها وإدخال ألف بين المُسَهَّلَة والأخرى وتركه (أم لم تنذرهم لا يؤمنون) لعلم الله منهم ذلك فلا تطمع في إيمانهم ، والإنذار إعلام مع تخويف
اختلف أهل التأويل فيمن عني بهذه الآية، وفيمن نزلت. فكان ابن عباس يقول، كما:
حدثنا به محمد بن حميد، قال حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: "إن الذين كفروا"، أي بما أنزل إليك من ربك، وإن قالوا إنا قد آمنا بما قد جاءنا من قبلك.
وكان ابن عباس يرى أن هذه الآية نزلت في اليهود الذين كانوا بنواحي المدينة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، توبيخًا لهم في جحودهم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وتكذيبهم به، مع علمهم به ومعرفتهم بأنه رسول الله إليهم والى الناس كافة.
وقد حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أن صدر سورة البقرة إلى المئة منها، نزل في رجال سماهم بأعيانهم وأنسابهم من أحبار يهود، من المنافقين من الأوس والخزرج، كرهنا تطويل الكتاب بذكر أسمائهم.
وقد روي عن ابن عباس في تأويل ذلك قول آخر، وهو ما:
حدثنا به المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا عبدالله بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله:"إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون"، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى، فأخبره الله جل ثناؤه أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادة في الذكر الأول، ولا يضل إلا من سبق له من الله الشقاء في الذكر الأول.
وقال آخرون بما: حدثت به عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبدالله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، قال: آيتان في قادة الأحزاب: "إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون * ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم"، قال: وهم الذين ذكرهم الله في هذه الآية: "ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار * جهنم يصلونها وبئس القرار" (إبراهيم: 28- 29)، قال: فهم الذين قتلوا يوم بدر.
وأولى هذه التأويلات بالآية تأويل ابن عباس الذي ذكره محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير عنه. وإن كان لكل قول مما قاله الذين ذكرنا قولهم في ذلك مذهب.
فأما مذهب من تأول في ذلك ما قاله الربيع بن أنس، فهو أن الله تعالى ذكره لما أخبر عن قوم من أهل الكفر بأنهم لا يؤمنون، وأن الإنذار غير نافعهم، ثم كان من الكفار من قد نفعه الله بإنذار النبي صلى الله عليه وسلم إياه، لإيمانه بالله وبالنبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله بعد نزول هذه السورة لم يجز أن تكون الآية نزلت إلا في خاص من الكفار. وإذ كان ذلك كذلك وكانت قادة الأحزاب لا شك أنهم ممن لم ينفعه الله عز وجل بإنذار النبي صلى الله عليه وسلم إياه، حتى قتلهم الله تبارك وتعالى بأيدي المؤمنين يوم بدر علم أنهم ممن عنى الله جل ثناؤه بهذه الآية.
وأما علتنا في اختيارنا ما اخترنا من التأويل في ذلك، فهي أن قول الله جل ثناؤه "إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون"، عقيب خبر الله جل ثناؤه عن مؤمني أهل الكتاب، وعقيب نعتهم وصفتهم وثنائه عليهم بإيمانهم به وبكتبه ورسله. فأولى الأمور بحكمة الله، أن يتلي ذلك الخبر عن كفارهم ونعوتهم، وذم أسبابهم وأحوالهم، وإظهار شتمهم والبراءة منهم. لأن مؤمنيهم ومشركيهم وإن اختلفت أحوالهم في اختلاف أديانهم فإن الجنس يجمع جميعهم بأنهم بنو إسرائيل.
وإنما احتج الله جل ثناؤه بأول هذه السورة لنبيه صلى الله عليه وسلم على مشركي اليهود من أحبار بني إسرائيل، الذين كانوا مع علمهم بنبوته منكرين نبوته بإظهار نبيه صلى الله عليه وسلم على ما كانت تسره الأحبار منهم وتكتمه، فيجهله عظم اليهود وتعلمه الأحبار منهم ليعلموا أن الذي أطلعه على علم ذلك، هو الذي أنزل الكتاب على موسى. إذ كان ذلك من الأمور التي لم يكن محمد صلى الله عليه وسلم ولا قومه ولا عشيرته يعلمونه ولا يعرفونه من قبل نزول الفرقان على محمد صلى الله عليه وسلم، فيمكنهم ادعاء اللبس في أمره عليه السلام أنه نبي، وأن ما جاء به فمن عند الله. وأنى يمكن ادعاء اللبس في صدق أمي نشأ بين أميين لا يكتب ولا يقرأ ولا يحسب، فيقال قرأ الكتب فعلم، أو حسب فنجم انبعث على أحبار قراء كتبة قد درسوا الكتب ورأسوا الأمم يخبرهم عن مستور عيوبهم، ومصون علومهم، ومكتوم أخبارهم، وخفيات أمورهم التي جهلها من هو دونهم من أحبارهم. إن أمر من كان كذلك لغير مشكل، وان صدقه لبين.
ومما ينبىء عن صحة ما قلنا من أن الذين عنى الله تعالى ذكره بقوله: "إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون" هم أحبار اليهود الذين قتلوا على الكفر وماتوا عليه اقتصاص الله تعالى ذكره نبأهم، وتذكيره اياهم ما أخذ عليهم من العهود والمواثيق في أمر محمد عليه السلام، بعد اقتصاصه تعالى ذكره ما اقتص من أمر المنافقين، واعتراضه بين ذلك بما اعترض به من الخبر عن إبليس وآدم في قوله: "يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم" الآيات (البقرة: 40 وما بعدها)، واحتجاجه لنبيه عليهم، بما احتج به عليهم فيها بعد جحودهم نبوته. فإذ كان الخبر أولاً عن مؤمني أهل الكتاب، وآخرًا عن مشركيهم، فأولى أن يكون وسطًا عنهم. إذ كان الكلام بعضه لبعض تبع، إلا أن تأتيهم دلالة واضحة بعدول بعض ذلك عما ابتدأ به من معانيه، فيكون معروفًا حينئذ انصرافه عنه.
وأما معنى الكفر في قوله "إن الذين كفروا" فإنه الجحود. وذلك أن الأحبار من يهود المدينة جحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وستروه عن الناس وكتموا أمره، وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم.
وأصل الكفر عند العرب: تغطية الشيء، ولذلك سموا الليل كافرًا، لتغطية ظلمته ما لبسته، كما قال الشاعر:
فتذكرا ثقلاً رثيدًا، بعدما ألقت ذكاء يمينها في كافر
وقال لبيد بن ربيعة:
في ليلة كفر النجوم غمامها
يعني غطاها. فكذلك الأحبار من اليهود غطوا أمر محمد صلى الله عليه وسلم وكتموه الناس مع علمهم بنبوته، ووجودهم صفته في كتبهم فقال الله جل ثناؤه فيهم: "إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون" (البقرة: 159)، وهم الذين أنزل الله عز وجل فيهم: "إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون".
وتأويل "سواء": معتدل. مأخوذ من التساوي، كقولك: متساو هذان الأمران عندي، وهما عندي سواء، أي هما متعادلان عندي، ومنه قول الله جل ثناؤه: "فانبذ إليهم على سواء" (الأنفال: 58)، يعني: أعلمهم وآذنهم بالحرب، حتى يستوي علمك وعلمهم بما عليه كل فريق منهم للفريق الآخر. فكذلك قوله "سواء عليهم ": معتدل عندهم أي الأمرين كان منك إليهم، الإنذار أم ترك الإنذار لأنهم لا يؤمنون، وقد ختمت على قلوبهم وسمعهم. ومن ذلك قول عبدالله بن قيس الرقيات:
تغذ بي الشهباء نحو ابن جعفر سواء عليها ليلها ونهارها
يعني بذلك: معتدل عندها في السير الليل والنهار، لأنه لا فتور فيه. ومنه قول الآخر:
وليل يقول المرء من ظلماته سواء صحيحات العيون وعورها
لأن الصحيح لا يبصر فيه إلا بصرًا ضعيفًا من ظلمته.
وأما قوله: "أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون"، فإنه ظهر به الكلام ظهور الاستفهام وهو خبر، لأنه وقع موقع أي كما تقول: لا نبالي أقمت أم قعدت، وأنت مخبر لا مستفهم، لوقوع ذلك موقع أي . وذلك أن معناه إذا قلت ذلك: ما نبالي أي هذين كان منك. فكذلك ذلك في قوله: "سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم"، لما كان معنى الكلام: سواء عليهم أي هذين كان منك إليهم حسن في موضعه مع سواء: أفعلت أم لم تفعل.
وكان بعض نحوي البصرة يزعم أن حرف الاستفهام إنما دخل مع "سواء"، وليس باستفهام، لأن المستفهم إذا استفهم غيره فقال: أزيد عندك أم عمرو مستثبت صاحبه أيهما عنده. فليس أحدهما أحق بالاستفهام من الآخر. فلما كان قوله: "سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم " بمعنى التسوية، أشبه ذلك الاستفهام، إذ أشبهه في التسوية. وقد بينا الصواب في ذلك.
فتأويل الكلام إذًا: معتدل يا محمد على هؤلاء الذين جحدوا نبوتك من أحبار يهود المدينة بعد علمهم بها، وكتموا بيان أمرك للناس بأنك رسولي إلى خلقي، وقد أخذت عليهم العهد والميثاق أن لا يكتموا ذلك، وأن يبينوه للناس، ويخبروهم أنهم يجدون صفتك في كتبهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم، فإنهم لا يؤمنون، ولا يرجعون إلى الحق، ولا يصدقون بك وبما جئتهم به كما:
حدثنا محمد بن حميد قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: "سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون"، أي أنهم قد كفروا بما عندهم من العلم من ذكر، وجحدوا ما أخذ عليهم من الميثاق لك، فقد كفروا بما جاءك، وبما عندهم مما جاءهم به غيرك، فكيف يسمعون منك إنذارًا وتحذيرًا، وقد كفروا بما عندهم من علمك؟
قوله تعالى : "إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون" .
لما ذكر المؤمنين وأحوالهم ذكر الكافرين ومآلهم . والكفر ضد الإيمان وهو المراد في الآية . وقد يكون بمعنى جحود النعمة والإحسان ، ومنه قوله عليه السلام في النساء في حديث الكسوف :
"ورأيت النار فلم أر منظراً كاليوم قط أفظع ورأيت أكثر أهلها النساء قيل : بم يا رسول الله ؟ قال : بكفرهن ، قيل أيكفرون بالله ؟ قال : يكفرون العشير ويكفرن الإحسان لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله ثم رأت منك شيئاً قالت ما رأيت منك خيراً قط" أخرجه البخاري وغيره .
وأصل الكفر في كلام العرب : الستر والتغطية ، ومنه قول الشاعر :
في ليلة كفر النجوم غمامها
أي سترها . ومنه سمي الليل كافراً ، لأنه يغطي كل شيء بسواده ، قال الشاعر :
فتذكر ثقلا وثيدا بعدما ألقت ذكاء يمينها في كافر
ذكاء ( بضم الذال والمد ) : اسم للشمس ، ومنه قول الآخر :
فوردت قبل انبلاج الفجر وابن ذكاء كامن في كفر
أي في ليل : والكافر أيضاً : البحر والنهر العظيم . والكافر : الزارع ، والجمع كفار ، قال الله تعالى : "كمثل غيث أعجب الكفار نباته" يعني الزراع لأنهم يغطون الحب . ورماد مكفور : سفت الريح عليه التراب . والكافر من الأرض : ما بعد عن الناس لا يكاد ينزله ولا يمر به أحد ، ومن حل بتلك المواضع فهم أهل الكفور . ويقال الكفور : القرى .
قوله تعالى : "سواء عليهم" معناه معتدل عندهم الإنذار وتركه ، أي سواء عليهم هذا . وجيء بالاستفهام من أجل التسوية ، ومثله قوله تعالى : "سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين" . وقال الشاعر :
وليل يقول الناس من ظلماته سواء صحيحات العيون وعورها
قوله تعالى : "أأنذرتهم" الإنذار الإبلاغ والإعلام ، ولا يكاد يكون إلا في تخويف يستع زمانه لاحتراز ، فإن لم يتسع زمانه لاحتراز كان إشعاراً ولم يكن إنذاراً ، قال الشاعر :
أنذرت عمراً وهو في مهل قبل الصباح فقد عصى عمرو
وتناذر بنو فلان هذا الأمر إذا خوفه بعضهم بعضاً .
واختلف العلماء في تأويل هذه الآية ، فقيل : هي عامة ومعناها الخصوص فيمن حقت عليه كلمة العذاب ، وسبق في علم الله أنه يموت على كفره . أراد الله تعالى أن يعلم أن في الناس من هذه حالة دون أن يعين أحداً . وقال ابن عباس والكلبي : نزلت في رؤساء اليهود ، منهم حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف ونظراؤهما . وقال الربيع بن أنس : نزلت فيمن قتل يوم بدر من قادة الأحزاب ، والأول أصح ، فإن من عين أحداً فإنما مثل بمن كشف الغيب عنه بموته على الكفر ، وذلك داخل في ضمن الآية .
وقوله تعالى : "لا يؤمنون" موضعه رفع خبر إن أي إن الذين كفروا لا يؤمنون . وقيل : خبر إن سواء وما بعده يقوم مقام الصلة ، قاله ابن كيسان . وقال محمد بن يزيد : سواء رفع بالابتداء ، "أأنذرتهم أم لم تنذرهم" الخبر ، والجملة خبر إن . قال النحاس : أي إنهم تبالهوا فلم تغن فيهم النذارة شيئاً . واختلف القراء في قراءة "أأنذرتهم" فقرأ أهل المدينة وأبو عمرو والأعمش وعبد الله بن أبي إسحاق : آنذرتهم بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية ، واختارها الخليل وسيبويه ، وهي لغة قريش وسعد بن بكر ، وعليها قول الشاعر :
أيا ظبية الوعساء بين جلاجل وبين النقا آنت أم أم سالم
هجاء آنت ألف واحدة . وقال آخر :
تطاللت فاستشرفته فعرفته فقلت له آنت زيد الأرانب
وروي عن ابن محيصن أنه قرأ : أنذرتهم أم لم تنذرهم بهمزة لا ألف بعدها ، فحذف لالتقاء الهمزتين ، أو لأن أم تدل على الاستفهام ، كما قال الشاعر :
تروح من الحي أم تبتكر وماذا يضيرك لو تنتظر
أراد : أتروح ، فاكتفى بأم من الألف . وروي عن ابن ابي إسحاق أنه قرأ أأنذرتهم فحقق الهمزتين وأدخل بينهم ألفاً لئلا يجمع بينهما . قال أبو حاتم : ويجوز أن تدخل بينهما ألفا وتخفف الثانية ، وأبو عمرو ونافع يفعلان ذلك كثيراً . وقرأ حمزة وعاصم والكسائي بتحقيق الهمزتين : "أأنذرتهم" وهو اختيار أبي عبيد ، وذلك بعيد عند الخليل . وقال سيبويه : يشبه في الثقل ضننوا . قال الأخفش : ويجوز تخفيف الأولى من الهمزتين وذلك رديء ، لأنهم إنما يخففون بعد الاستثقال ، وبعد حصول الواحدة . قال أبو حاتم : ويجوز تخفيف الهمزتين جميعاً . فهذه سبعة أوجه من القراءات ، ووجه ثامن يجوز غير القرآن ، لأنه مخالف للسواد . قال الأخفش سعيد : تبدل من الهمزة هاء تقول : هأنذرتهم ، كما يقال هياك وإياك ، وقال الأخفش في قوله تعالى : "ها أنتم أولاء" إنما هو أاأنتم .
يقول تعالى: "إن الذين كفروا" أي غطوا الحق وستروه وقد كتب الله تعالى عليهم ذلك سواء عليهم إنذارك وعدمه فإنهم لا يؤمنون بما جئتهم به. كما قال تعالى : " إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون * ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم " وقال تعالى في حق المعاندين من أهل الكتاب "ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك" الاية، أي إن من كتب الله عليه الشقاوة فلا مسعد له ومن أضله فلا هادي له فلا تذهب نفسك عليهم حسرات وبلغهم الرسالة فمن استجاب لك فله الحظ الأوفر ومن تولى فلا تحزن عليهم ولا يهمنك ذلك " فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب " " إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل " وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: "إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون" قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى فأخبره الله تعالى أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادة في الذكر الأول ولا يضل إلا من سبق له من الله الشقاوة في الذكر الأول، وقال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس "إن الذين كفروا" أي بما أنزل إليك وإن قالوا إنا قد آمنا بما جاءنا قبلك "سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون" أي إنهم قد كفروا بما عندهم من ذكرك وجحدوا ما أخذ عليهم من الميثاق وقد كفروا بما جاءك وبما عندهم مما جاءهم به غيرك فكيف يسمعون منك إنذاراً وتحذيراً وقد كفروا بما عندهم من علمك، قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية قال نزلت هاتان الايتان في قادة الأحزاب وهم الذين قال الله فيهم: "ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار * جهنم يصلونها" والمعنى الذي ذكرناه أولاً وهو المروي عن ابن عباس في رواية علي بن أبي طلحة أظهر، ويفسر ببقية الايات التي في معناها، والله أعلم.
وقد ذكر ابن أبي حاتم ههنا حديثاً فقال: حدثنا أبي حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح المصري حدثنا ابن لهيعة حدثني عبد الله بن المغيرة عن أبي الهيثم عن عبد الله بن عمرو وقال قيل يا رسول الله (إنا نقرأ من القرآن فنرجو ونقرأ فنكاد أن نيأس) فقال: ألا أخبركم ثم قال: "إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون" هؤلاء أهل النار قالوا لسنا منهم يا رسول الله، قال أجل وقوله تعالى: "لا يؤمنون" محله من الإعراب أنه جملة مؤكدة للتي قبلها "سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم" أي هم كفار في كلا الحالين فلهذا أكد ذلك بقوله تعالى: "لا يؤمنون" ويحتمل أن يكون لا يؤمنون خبراً لأن تقديره إن الذين كفروا لا يؤمنون ويكون قوله تعالى: "سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم" جملة معترضة، والله أعلم.
ذكر سبحانه فريق الشر بعد الفراغ من ذكر فريق الخير قاطعاً لهذا الكلام عن الكلام الأول، معنوناً له بما يفيد أن شأن جنس الكفرة عدم إجداء الإنذار لهم، وأنه لا يترتب عليهم ما هو المطلوب منهم من الإيمان، وأن وجود ذلك كعدمه. 6- و"سواء" اسم بمعنى الاستواء وصف به كما يوصف بالمصادر، والهمزة وأم مجردتان لمعنى الاستواء غير مراد بهما ما هو أصلهما من الاستفهام، وصح الابتداء بالفعل والإخبار عنه بقوله: "سواء"، هجراً لجانب اللفظ إلى جانب المعنى، كأنه قال: الإنذار وعدمه سواء، كقولهم: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه: أي سماعك. وأصل الكفر في اللغة: الستر والتغطية، قال الشاعر:
في ليلة كفر النجوم غمامها
أي سترها، ومنه سمي الكافر كافراً لأنه يغطي بكفره ما يجب أن يكون عليه من الإيمان. والإنذار: الإبلاغ والإعلام.
قال القرطبي: واختلف العلماء في تأويل هذه الآية، فقيل: هي عامة ومعناها الخصوص فيمن سبقت عليه كلمة العذاب، وسبق في علم الله أنه يموت على كفره. أراد الله تعالى أن يعلم الناس أن فيهم من هذا حاله دون أن يعين أحداً. وقال ابن عباس والكلبي: نزلت في رؤساء اليهود حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف ونظرائهما. وقال الربيع بن أنس: نزلت فيمن قتل يوم بدر من قادة الأحزاب، والأول أصح، فإن من عين أحداً فإنما مثل بمن كشف الغيب بموته على الكفر انتهى. وقوله: "لا يؤمنون" خبر مبتدأ محذوف: أي هم لا يؤمنون، وهي جملة مستأنفة لأنها جواب سؤال مقدر كأنه قيل: هؤلاء الذي استوى حالهم مع الإنذار وعدمه ماذا يكون منهم؟ فقيل: "لا يؤمنون": أي هم لا يؤمنون: وقال في الكشاف: إنها جملة مؤكدة للجملة الأولى، أو خبر لأن والجملة قبلها اعتراض انتهى. والأولى ما ذكرناه، لأن المقصود الإخبار عن عدم الاعتداد بإنذارهم، وأنه لا يجدي شيئاً بل بمنزلة العدم، فهذه الجملة هي التي وقعت خبراً لأن، وما بعدها من عدم الإيمان متسبب عنها لا أنه المقصود. وقد قال بمثل قول الزمخشري والقرطبي. وقال ابن كيسان: إن خبر إن سواء، وما بعده يقوم مقام الصلة. وقال محمد بن يزيد المبرد: سواء رفع بالابتداء، وخبره "أأنذرتهم أم لم تنذرهم"، والجملة خبر إن، والختم: مصدر ختمت الشيء، ومعناه: التغطية على الشيء والاستيثاق منه حتى لا يدخله شيء، ومنه ختم الكتاب والباب وما يشبه ذلك حتى لا يوصل إلى ما فيه ولا يوضع فيه غيره. والغشاوة: الغطاء، ومنه غاشية السرج، والمراد بالختم والغشاوة هنا هما المعنويان لا الحسيان: أي لما كانت قلوبهم غير واعية لما وصل إليها، والأسماع غير مؤدية لما يطرقها من الآيات البينات إلى العقل على وجه مفهوم، والأبصار غير مهدية للنظر في مخلوقاته وعجائب مصنوعاته جعلت بمنزلة الأشياء المختوم عليها ختماً حسياً، والمستوثق منها استيثاقاً حقيقياً، والمغطاة بغطاء مدرك استعارة أو تمثيلاً، وإسناد الختم إلى الله قد احتج به أهل السنة على المعتزلة، وحاولوا دفع هذه الحجة بمثل ما ذكره صاحب الكشاف، والكلام على مثل هذا متقرر في مواطنه.
6.قوله " إن الذين كفروا " يعني مشركي العرب قال الكلبي : يعني اليهود. والكفر هو الجحود وأصله من الكفر وهو الستر ومنه سمي الليل كافراً لأنه يستر الأشياء بظلمته وسمي الزارع كافراً لأنه يستر الحب بالتراب والكافر يستر الحق بجحوده.
والكفر على أربعة أنحاء: كفر إنكار، وكفر جحود، وكفر عناد، وكفر نفاق. فكفر الإنكار: أن لا يعرف الله أصلاً ولا يعترف به، وكفر الجحود هو: أن يعرف الله تعالى بقلبه ولا يقر بلسانه ككفر إبليس (وكفر) اليهود. قال الله تعالى: " فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به " (89-البقرة) وكفر العناد هو: أن يعرف الله بقلبه ويعترف بلسانه ولا يدين به ككفر أبي طالب حيث يقول:
ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً
وأما كفر النفاق: فهو أن يقر بلسانه ولا يعتقد بالقلب، وجميع هذه الأنواع سواء في أن من لقي الله تعالى بواحد منها لا يغفر له.
قوله " سواء عليهم " أي: متساو لديهم " أأنذرتهم " خوفتهم وحذرتهم والإنذار إعلام مع تخويف وتحذير وكل منذر معلم وليس كل معلم منذراً وحقق ابن عامر و عاصم و حمزة و الكسائي الهمزتين في ((أأنذرتهم)) وكذلك كل همزتين تقعان في أول الكلمة والآخرون يلينون الثانية "أم" حرف عطف على الاستفهام "لم" حرف جزم لا تلي إلا الفعل لأن الجزم يختص بالأفعال "تنذرهم لا يؤمنون" وهذه الآية في أقوام حقت عليهم الشقاوة في سابق علم الله ثم ذكر سبب تركهم الإيمان فقال
6- " إن الذين كفروا " لما ذكر خاصة عبادة ، وخلاصة أولياء بصفاتهم التي أهلتهم للهدى والفلاح ، عقبهم بأضدادهم العتاة المردة ، الذين لا ينفع فيهم الهدى ولا تغني عنهم الآيات والنذر ، ولم يعطف قصتهم على قصة المؤمنين كما عطف في قوله تعالى ، " إن الأبرار لفي نعيم * وإن الفجار لفي جحيم " لتباينهم في الغرض ، فإن الأولى سيقت لذكر الكتاب وبيان شأنه والأخرى مسوقة لشرح تمردهم ، وانهماكهم في الضلال ، و (إن ) من الحروف التي تشابه الفعل في عدد الحروف والبناء على الفتح ولزوم الأسماء وإعطاء معانيه ، والمتعدي خاصة في دخولها على اسمين . ولذلك أعلمت عمله الفرعي وهو نصب الجزء الأول ورفع الثاني إيذاناً بأنه فرع في العمل دخيل فيه .
وقال الكوفيين : الخبر قبل دخولها كان مرفوعاً بالخبرية ، وهي بعد باقية مقتضية للرفع قضية للاستصحاب فلا يرفعه الحرف . وأجيب بأن اقتضاء الخبرية الرفع مشروط بالتجرد لتخلفه عنها في خير كان ، وقد زال بدخولها فتعين أعمال الحرف . وفأئدتها تأكيد النسبة وتحقيقها ، ولذلك يتلقى بها القسم ويصدر بها الأجوبة ، وتذكر في معرض الشك مثل قوله تعالى : " ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا * إنا مكنا له في الأرض " ، " وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين " قال المبرد ( قولك : عبدالله قائم ، إخبار عن قيامه ، وإن عبدالله قائم ، جواب سائل عن قيامه ، وإن عبدالله لقائم ، جواب منكر لقيامه ) . وتعريف الموصول : إما للعهد ، والمراد به ناس بأعيانهم كأبي لهب ، وأبي جهل ، والوليد بن المغيرة ، وأحبار اليهود ، أو للجنس ، متناولاً من صمم على الكفر ، وغيرهم ، فخص منهم غير المصرين بما أسند إليه . والكفر لغة : ستر النعمة ، وأصله الكفر بالفتح وهو الستر ، ومنه قيل للزارع ولليل كافر ، ولكمام الثمرة كافور . وفي الشرع : إنكار ما علم بالضرورة مجيئ الرسول صلى الله عليه وسلم به ، وإنما عد لبس الغيار وشد الزنار ونحوهما كفراً لأنها تدل على التكذيب ، فإن من صدق الرسول صلى الله عليه وسلم لا يجترئ عليها ظاهراً لا أنها كفر في أنفسها .
واحتجت المعتزلة بما جاء في القرآن بلفظ الماضي على حدوثه لاستدعائه سابقة المخبر عنه ، وأجيب بأنه مقتضى التعليق وحدوثه لا يستلزم حدوث الكلام كما في العلم .
" سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم " خبر إن وسواء اسم بمعنى الاستواء ، نعت به كما نعت بالمصادر قال الله تعالى : " تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم " رفع بأنه خبر إن وما بعده مرتفع به على الفاعلية كأنه قيل : إن الذين كفروا مستوا عليهم إنذارك وعدمه ، أو بأنه خبر لما بعده بمعنى : إنذارك وعدمه سيان عليهم ، وبالفعل إنما يمتنع الإخبار عنه إذا أريد به تمام ما وضع له ، أما لو أطلق وأريد به اللفظ ، أو مطلق الحدث المدلول عليه ضمناً على الاتساع فهو كالاسم في الإضافة ، والإسناد إليه كقوله تعالى : " وإذا قيل لهم آمنوا " وقوله : " يوم ينفع الصادقين صدقهم " وقولهم : تسمع بالمعيدي خير من أن تراه .
وإنما عدل ههنا عن المصدر إلى الفعل لما فيه من إيهام التجدد وحسن دخول الهمزة ، وأم عليه لتقرير معنى الاستواء وتأكيده ، فإنهما جردتا عن معنى الاستفهام لمجرد الاستواء ، كما جردت حروف النداء عن الطلب لمجرد التخصيص في قولهم : اللهم اغفر لنا أيتها العصابة .
والإنذار : التخويف أريد به التخويف من عذاب الله ، وإنما اقتصر عليه دون البشارة لأنه أوقع في القلب وأشد تأثيراً في النفس ، من حيث دفع الضر أهم من جلب النفع ، فإذا لم ينفع فيهم كانت البشارة بعدم النفع أولى ، وقرئ " أأنذرتهم " بتحقيق الهمزتين وتخفيف الثانية بين بين ، وقلبها ألفاً وهو لحن لأن المتحركة لا تقلب ، ولأنه يؤدي إلى جمع الساكنين على غير حده ، وبتوسط ألف بينهما محققتين ، وبتوسيطها والثانية بين بين وبحذف الاستفهامية ، وبحذفها وإلقاء حركتها على الساكن قبلها .
" لا يؤمنون " جملة مفسرة لإجمال ما قبلها فيما فيه الاستواء فلا محل لها أو حال مؤكدة . أو بدل عنه . أو خبر إن والجملة قبلها اعتراض بما هو علة الحكم .
و الآية مما احتج به من جوز تكليف ما لا يطاق ، فإنه سبحانه وتعالى أخبر عنهم بأنهم لا يؤمنون وأمرهم بالإيمان ، فلو آمنوا انقلب خبره كذباً . وشمل إيمانهم الإيمان بأنهم لا يؤمنون فيجتمع الضدان ، والحق أن التكليف بالمممتع لذاته وإن جاز عقلاً من حيث إن الأحكام لا تستدعي غرضاً سيما الامتثال ، لكنه غير واقع للاستقراء ، والإخبار بوقوع الشئ أة عدمه لا ينفي القدرة عليه كإخباره تعالى عما يفعله هو أو العبد باختياره ، وفائدة الإنذار بعد العلم بأنه لا ينجح إلزام الحجة ، وحيازة الرسول فضل الإبلاغ ، ولذلك قال " سواء عليهم " ولم يقل سواء عليك . كما قال لعبدة الأصنام " سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون " . وفي الآية إخبار بالغيب على ما هو به أن أريد بالموصول أشخاص بأعيانهم فهي من المعجزات .
6. As for the disbelievers, whether thou warn them or thou warn them not it is all one for them; they believe not.
6 - As to those who reject Faith, It is the same to them Whether thou warn them Or do not warn them; They will not believe.