[البقرة : 58] وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَـذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ
(وإذ قلنا) لهم بعد خروجهم من التيه (ادخلوا هذه القرية) بيت المقدس أو أريحا (فكلوا منها حيث شئتم رغداً) واسعاً لا حجْر فيه (وادخلوا الباب) أي بابها (سجدا) منحنين (وقولوا) مسألتنا (حِطَّة) أي أن تحط عنا خطايانا (نغفر) وفي قراءة بالياء والتاء مبينا للمفعول فيهما (لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين) بالطاعة ثوابا
و "القرية" التي أمرهم الله جل ثناؤه أن يدخلوها، فيأكلوا منها رغدًا حيث شاءوا فيما ذكر لنا: بيت المقدس. ذكر الرواية بذلك:
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أنبأنا عبد الرزاق، قال، أنبأنا معمر، عن قتادة في قوله: "ادخلوا هذه القرية"، قال: بيت المقدس.
حدثني موسى بن هرون قال، حدثني عمروبن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية"، أما القرية، فقرية بيت المقدس.
حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا عبدالله بن أبي جعفر ، عن أبيه، عن الربيع:"وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية"، يعني بيت المقدس.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، قال: سألته يعني ابن زيد عن قوله: "ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم " ، قال: هي أريحا، وهي قريبة من بيت المقدس.
القول في تأويل قوله تعالى: ‎"فكلوا منها حيث شئتم رغدا".
يعني بذلك: فكلوا من هذه القرية حيث شئتم عيشًا هنيًا واسعًا بغير حساب. وقد بينا معنى الرغد فيما مضى من كتابنا، وذكرنا أقوال أهل التأويل فيه.
القول في تأويل قوله تعالى ذكره: " وادخلوا الباب سجدا".
أما الباب الذي أمروا أن يدخلوه، فإنه قيل: هو باب الحطة من بيت المقدس. ذكر من قال ذلك:حدثني محمد بن عمرو الباهلي قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "ادخلوا الباب سجدا"، قال: باب الحطة، من باب إيلياء، من بيت المقدس.
حدثني المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
حدثني موسى بن هرون قال، حدثنا عمروبن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "وادخلوا الباب سجدا"، أما الباب، فباب من أبواب بيت المقدس.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: "وادخلوا الباب سجدا" أنه أحد أبواب بيت المقدس، وهو يدعى باب حطة. وأما قوله: "سجدا"، فإن ابن عباس كان يتأوله بمعنى الركع.
حدثني محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: "ادخلوا الباب سجدا"، قال: ركعًا من باب صغير.
حدثنا الحسن بن الزبرقان النخعي قال، حدثنا أبو أسامة، عن سفيان، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد، عن ابن عباس في قوله: "ادخلوا الباب سجدا"، قال: أمروا أن يدخلوا ركعًا.
قال أبو جعفر: وأصل السجود إلانحناء لمن سجد له معظمًا بذلك. فكل منحن لشيء تعظيمًا له فهو ساجد. ومنه قول الشاعرة
بجمع تضل البلق في حجراته ترى الأكم منه سجدًا للحوافر
يعني بقوله: "سجدا" خاشعة خاضعة. ومن ذلك قول أعشى بني قيس بن ثعلبة:
يراوح من صلوات المليك، طورًا سجودًا وطورًا جؤارا
فذلك تأويل ابن عباس قوله: "سجدا" ركعًا. لأن الراكع منحن وإن كان الساجد أشد انحناء منه.
القول في تأويل قوله تعالى: " وقولوا حطة".
وتأويل قوله: "حطة"، فعلة، من قول القائل: حط الله عنك خطاياك فهويحطها حطة، بمنزلة الردة والحدة والمدة، من حددت ومددت.
واختلف أهل التأويل في تأويله. فقال بعضهم بنحو الذي قلنا في ذلك. ذكر من قال ذلك:حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر: "وقولوا حطة"، قال: قال الحسن وقتادة: أي احطط عنا خطايانا.
حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: "وقولوا حطة"، يحط الله بها عنكم ذنبكم وخطيئتكم.
حدثنا القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال ابن عباس: "قولوا حطة" قال: يحط عنكم خطاياكم.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قوله: "حطة"‎، مغفرة.
حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله: "حطة"، قال: يحط عنكم خطاياكم.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، أخبرني حجاج، عن ابن جريج قال: قال لي عطاء في قوله: "وقولوا حطة"، قال: سمعنا أنه: يحط عنهم خطاياهم.
وقال آخرون: معنى ذلك: قولوا لا إله إلا الله ، كأنهم وجهوا تأويله: قولوا الذي يحط عنكم خطاياكم، وهو قول لا إله إلا الله. ذكر من قال ذلك:حدثني المثنى بن إبراهيم وسعد بن عبدالله بن عبد الحكم المصري قالا، أخبرنا حفص بن عمر، قال حدثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة: "وقولوا حطة "، قال: قولوا، لا إله إلا الله .
وقال آخرون بمثل معنى قول عكرمة، إلا أنهم جعلوا القول الذي أمروا بقيله: الاستغفار. ذكر من قال ذلك : حدثنا الحسن بن الزبرقان النخعي، حدثنا أبو أسامة، عن سفيان، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: "وقولوا حطة"، قال: أمروا أن يستغفروا.
وقال آخرون نظير قول عكرمة، إلا أنهم قالوا: القول الذي أمروا أن يقولوه، هو أن يقولوا: هذا الأمر حق كما قيل لكم. ذكر من قال ذلك: حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: " وقولوا حطة"، قال: قولوا: هذا الأمر حق كما قيل لكم.
واختلف أهل العربية في المعنى الذي من أجله رفعت الحطة.
فقال بعض نحوي البصرة: رفعت الحطة بمعنى قولوا ليكن منك حطة لذنوبنا، كما يقول للرجل: سمعك.
وقال آخرون منهم: هي كلمة أمرهم الله أن يقولوها مرفوعة، وفرض عليهم قيلها كذلك.
وقال بعض نحوي الكوفيين: رفعت الحطة بضمير هذه ، كأنه قال: وقولوا: هذه حطة.
وقال آخرون منهم: هي مرفوعة بضمير معناه الخبر، كأنه قال: قولوا ما هو حطة. فتكون حطة حينئذ خبرًا لى ما.
قال أبو جعفر: والذي هو أقرب عندي في ذلك إلى الصواب، وأشبه بظاهر الكتاب: أن يكون رفع حطة بنية خبر محذوف قد دل عليه ظاهر التلاوة، وهو: دخولنا الباب سجدًا حطة، فكفى من تكريره بهذا اللفظ، ما دل عليه الظاهر من التنزيل، وهو قوله: "وادخلوا الباب سجدًا"، كما قال جل ثناؤه: " وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قومًا الله مهلكهم أو معذبهم عذابًا شديدًا قالوا معذرة إلى ربكم" (الأعراف: 164)، يعني: موعظتنا إياهم معذرة إلى ربكم. فكذلك عندي في تأويل قوله: "وقولوا حطة"، يعني بذلك: وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية، وادخلوا الباب سجدًا، وقولوا: دخولنا ذلك سجدًا حطة لذنوبنا. وهذا القول على نحو تأويل الربيع بن أنس وابن جريج وابن زيد، الذي ذكرناه آنفاً.
قال أبو جعفر: وأما على تأويل قول عكرمة، فإن الواجب أن تكون القراءة بالنصب في حطة، لأن القوم إن كانوا امروا أن يقولوا: لا إله إلا الله، أو أن يقولوا: نستغفر الله ، فقد قيل لهم: قولوا هذا القول، فـ قولوا واقع حينئذ على الحطة، لأن الحطة على قول عكرمة هي قول لا إله إلا الله . وإذا كانت هي قول لا إله إلا الله ، فالقول عليها واقع، كما لو أمر رجل رجلاً بقول الخير فقال له: قل خيرًا نصبًا، ولم يكن صوابًا أن يقول له: قل خير، إلا على استكراه شديد.
وفي إجماع القرأة على رفع الحطة بيان واضح على خلاف الذي قاله عكرمة من التأويل في قوله: "وقولوا حطة". وكذلك الواجب على التأويل الذي رويناه عن الحسن وقتادة في قوله: "وقولوا حطة"، أن تكون القراءة في حطة نصبًا. لأن من شأن العرب إذا وضعوا المصادر مواضع الأفعال، وحذفوا الأفعال أن ينصبوا المصادر. كما قال الشاعر:
ابيدوا بأيدي عصبة، وسيوفهم على أمات الهام ضربًا شآميا
وكقول القائل للرجل: سمعًا وطاعة بمعنى: أسمع سمعًا وأطيع طاعة، وكما قال جل ثناؤه: "معاذ الله" (يوسف: 23، 79)، بمعنى: نعوذ بالله.
القول في تأويل قوله تعالى: " نغفر لكم".
يعني بقوله "نغفر لكم " نتغمد لكم بالرحمة خطاياكم، ونسترها عليكم، فلا نفضحكم بالعقوبة عليها وأصل الغفر التغطية والستر، فكل ساتر شيئًا فهو غافره. ومن ذلك قيل للبيضة من الحديد التي تتخذ جنة للرأس: مغفر، لأنها تغطي الرأس وتجنه. ومثله غمد السيف ، وهو ما تغمده فواراه. ولذلك قيل لزئبر الثوب: غفرة، لتغطيته الثوب، وحوله بين الناظر والنظر إليه. ومنه قول أوس بن حجر:
فلا أعتب ابن العم إن كان جاهلاً واغفر عنه الجهل إن كان أجهلا
يعني بقوله: وأغفرعنه الجهل ، أسترعليه جهله بحملي عنه.
القول في تأويل قوله تعالى: "خطاياكم".
والخطايا جمع خطية بغير همز، كما المطايا جمع مطية، و الحشايا جمع حشية.
وإنما ترك جمع الخطايا بالهمز، لأن ترك الهمز في خطيئة أكثر من الهمز، فجمع على خطايا، على أن واحدتها غير مهموزة. ولو كانت الخطايا مجموعة على خطيئة بالهمز، لقيل: خطائي، على مثل قبيلة وقبائل، وصحيفة وصحائف. وقد تجمع خطيئة بالتاء، فيهمز فيقال خطيئات . و الخطيئة فعيلة، من خطىء الرجل يخطأ خطأ، وذلك إذا عدل عن سبيل الحق. ومنه قول الشاعر:
وإن مهاجرين تكنفاه لعمر الله قد خطئا وخابا
يعني: أضلا الحق وأثما.
القول في تأويل قوله تعالى ذكره: "وسنزيد المحسنين ".
وتأويل ذلك ما روي لنا عن ابن عباس، وهو ما:حدثنا به القاسم بن الحسن قال: حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال ابن عباس: "وسنزيد المحسنين " ، من كان منكم محسنًا زيد في إحسانه، ومن كان مخطئًا نغفرله خطيئته.
فتأويل الآية: وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية مباحًا لكم كل ما فيها من الطيبات، موسعًا عليكم بغير حساب؟ وادخلوا الباب سجداً، وقولوا: سجودنا هذا لله حطة من ربنا لذنوبنا يحط به آثامنا، نتغمد لكم ذنوب المذنب منكم فنسترها عليه، ونحط أوزاره عنه، وسنزيد المحسن منكم إلى إحساننا السالف عنده إحساناً. ثم أخبر الله جل ثناؤه عن عظيم جهالتهم، وسوء طاعتهم ربهم، وعصيانهم لأنبيائهم، واستهزائهم برسله مع عظيم آلاء الله عز وجل عندهم، وعجائب ما أراهم من آياته وعبره؟ موبخاً بذلك أبناءهم الذين خوطبوا بهذه الآيات، ومعلمهم أنهم إن تعدوا في تكذيبهم محمدًا صلى الله عليه وسلم، وجحودهم نبوته، مع عظيم إحسان الله بمبعثه فيهم إليهم، وعجائب ما أظهر على يديه من الحجج بين أظهرهم أن يكونوا كأسلافهم الذين وصف صفتهم، وقص علينا أنباءهم في هذه الآيات، فقال جل ثناؤه: "فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء" الآية.
فيه تسع مسائل :
الأولى : قوله تعالى : "وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية" حذفت الألف من قلنا : لسكونها وسكون الدال بعدها ، والألف التي يبتدأ بها قبل الدال ألف وصل ، لأنه من يدخل .
الثانية : قوله تعالى : "هذه القرية" أي المدينة ، سميت بذلك لأنها تقرت أي اجتمعت ، ومنه قريت الماء في الحوض ، أي جمعته ، واسم ذلك الماء قرى ( بكسر القاف ) مقصور . وكذلك ما قريء به الضيف ، قاله الجوهري . والمقراة للحوض . والقري لمسيل الماء . والقرا للظهر ، ومنه قوله :
لاحق بطن بقرا سمين
والمقاري : الجفان الكبار ، قال :
عظام المقاري ضيفهم لا يفزع
وواحد المقاري مقراة ، وكله بمعنى الجمع غير مهموز . والقرية ( بكسر القاف ) لغة اليمن . واختلف في تعيينها ، فقال الجمهور : هي بيت المقدس . وقيل : أريحاء من بيت المقدس . قال عمر بن شبة : كانت قاعدة ومسكن ملوك . ابن كيسان : الشام . الضحاك : الرملة والأردن وفلسطين وتدمر . وهذه نعمة أخرى ، وهي أنه أباح لهم دخول البلدة وأزال عنهم التيه .
الثالثة : قوله تعالى : "فكلوا" إباحة . و "رغدا" كثيراً واسعاً ، وهو نعت لمصدر محذوف ، أي أكلاً رغداً .
ويجوز أن يكون في موضع الحال ، على ما تقدم . وكانت أرضاً مباركة عظيمة الغلة ، فلذلك قال : رغداً .
الرابعة قوله تعالى : "وادخلوا الباب سجدا" الباب يجمع أبواباً ، وقد قالوا : أبويه للازدواج ، قال الشاعر :
هتاك أخبية ولاج أبويه يخلط بالبر منه الجد واللينا
ولو أفرده لم يجز . ومثله قوله عليه السلام :
"مرحبا بالقوم ـ أو بالوفد ـ غير خزايا ولا ندامى" . وتبوبت بوابا اتخذته . وأبواب مبوبة ، كما قالوا : أصناف مصنفة . وهذا شيء من بابتك ، أي يصلح لك . وقد تقدم معنى السجود فلا معنى لإعادته .والحمد لله .
والباب الذي أمروا بدخلوه هو باب في بيت المقدس يعرف اليوم بـ ـباب حطة ، عن مجاهد و غيره . وقيل : باب القبة التي كان يصلي إليها موسى وبنو إسرائيل . و سجدا قال ابن عباس : منحنين ركوعا . وقيل : متواضعين خضوعاً لا على هئية متعينة .
الخامسة :قوله تعالى : "وقولوا" عطف على ادخلوا . و "حطة" بالرفع قراءة الجمهور ، على إضمار مبتدأ ، أي مسألتنا حطة ، أو يكون حكاية . قال الأخفش : وقرئت حطة بالنصب ، على معنى احطط عنا ذنوبنا حطة . قال النحاس : جاء الحديث عن ابن عباس أنه قيل لهم : قولوا لا إله إلا الله ، وفي حديث آخر عنه قيل لهم : قولوا مغفرة ـ تفسير للنصب ، أي قولوا شيئاً يحط ذنوبكم ، كما يقال :قل خيراً . والأئمة من القراء على الرفع . وهو أولى في اللغة ، لما حكي عن العرب في معنى بدل ، قال أحمد بن يحيى :يقال بدلته ، أي غيرته ولم أزل عينه . وأبدلته أزلت عينه وشخصه ، كما قال :
عزل الأمير للأمير المبدل
وقال الله عز وجل : "قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله" . وحديث ابن مسعود قالوا : حطة تفسير على الرفع . هذا كله قول النحاس . وقال الحسن و عكرمة : حطة بمعنى حط ذنوبنا ، أمروا أن يقولوا : لا إله إلا الله ليحط بها ذنوبهم . وقال ابن جبير : معناه الاستغفار . أبان بن تغلب : التوبة ، قال الشاعر :
فاز بالحطة التي جعل اللـ ـه ذنب عبده مغفورا
وقال ابن فارس في المجمل : حطة كملة أمر بها بنو إسرائيل لو قالوها لحطت أوزارهم . وقاله الجوهري أيضاً في الصحاح .
قلت : يحتمل أن يكونوا تعبدوا بهذا اللفظ بعينه ، وهو الظاهر من الحديث . روى مسلم عن ابي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"قيل لبني إسرائيل ادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة يغفر لكم خطاياكم فبدلوا فدخلوا الباب يزحفون على أستاههم وقالوا حبة في شعرة" . وأخرجه البخاري وقال : "فبدلوا وقالوا حطة حبة في شعرة" في غير الصحيحين : "حنطة في شعر" . وقيل : قالوا هطا سمهاثا . وهي لفظة عبرانية ، تفسيرها : حنطة حمراء ، حكاها ابن قتيبة ، وحكاه الهروي عن السدي و مجاهد . وكان قصدهم خلاف ما أمرهم الله به فعصوا وتمردوا واستهزءوا ، فعاقبهم الله بالرجز وهو العذاب . وقال ابن زيد : كان طاعونا أهلك منهم سبعين ألفاً . وروي أن الباب جعل قصيراً ليدخلوه ركعاً فدخلوه متوركين على استاهم . والله أعلم .
السادسة : استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن تبديل الأقوال المنصوص عليها في الشريعة لا يخلو أن يقع التعبد بلفظها أو بمعناها ، فإن كان التعبد وقع بلفظها فلا يجوز تبديلها ، لذم الله تعالى من بدل ما أمره بقوله . وإن وقع بمعناها جاز تبديلها بما يؤدي إلى ذلك المعنى ، ولا يجوز تبديلها بما يخرج عنه .
وقد اختلف العلماء في هذا المعنى ، فحكي عن مالك و الشافعي و ابي حنيفة واصحابهم أنه يجوز للعالم بمواقع الخطاب البصير بآحاد كلماته نقل الحديث بالمعنى لكن بشرط المطابقة للمعنى بكماله ، وهو قول الجمهور . ومنع ذلك جمع كثير من العلماء منهم ابن سيرين و القاسم بن محمد و رجاء بن حيوة وقال مجاهد : انقص من الحديث إن شئت ولا تزد فيه . وكان مالك بن انس يشدد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في التاء والياء ونحو هذا . وعلى هذا جماعة من أئمة الحديث لا يرون إبدال اللفظ ولا تغييره حتى إنهم يسمعون ملحوناً ويعلمون ذلك ولا يغيرونه . وروى ابو مجلز عن قيس بن عباد قال : قال عمر بن الخطاب : من سمع حديثاً فحدث به كما سمع فقد سلم . وروي نحوه عن عبدالله بن عمرو وزيد بن أرقم . وكذا الخلاف في التقديم والتأخير والزيادة والنقصان ، فإن منهم من يعتد بالمعنى ولا يعتد باللفظ ، ومنهم من يشدد في ذلك ولا يفارق اللفظ . وذلك هو الأحوط في الدين والأتقى والأولى ، ولكن أكثر العلماء على خلافه . والقول بالجواز هو الصحيح إن شاء الله تعالى ، وذلك أن المعلوم من سيرة الصحابة رضي الله عنهم هو أنهم كانوا يروون الوقائع المتحدة بألفاظ مختلفة ، وما ذاك إلا أنهم كانوا يصرفون عنايتهم للمعاني ولم يلتزموا التكرار على الأحاديث ولا كتبها . وروي عن واثلة بن الأسقع أنه قال : ليس كل ما أخبرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم نقلناه إليكم ، حسبكم المعنى . وقال قتادة عن زرارة بن أوفى : لقيت عدة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فاختلفوا علي في اللفظ واجتمعوا في المعنى . وكان النخعي و الحسن و الشعبي رحمهم الله يأتون بالحديث على المعاني . وقال الحسن : إذا أصبت المعنى أجزأك . وقال سفيان الثوري رحمه الله : إذا قلت لكم إني أحدثكم كما سمعت فلا تصدقوني ، إنما هو المعنى . وقال وكيع رحمه الله : إن لم يكن المعنى واسعاً فقد هلك الناس . واتفق العلماء على جواز نقل الشرع للمعجم بلسانهم وترجمته لهم ، وذلك هو النقل بالمعنى . وقد فعل الله ذلك في كتابه فيما قص من أنباء ما قد سلف ، فقص قصصاً ذكر بعضها في مواضع بألفاظ مختلفة والمعنى واحد ، ونقلها من ألسنتهم إلى اللسان العربي وهو مخالف لها في التقديم والتأخير ، والحذف والإلغاء ، والزيادة والنقصان . وإذا جاز إبدال العربية بالعجمية فلأن يجوز بالعربية أولى . احتج بهذا المعنى الحسن و الشافعي ، وهو الصحيح في الباب .
فإن قيل : فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :
"نضر الله امرأ سمع مقالتي فبلغها كما سمعها" وذكر الحديث . وما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أمر رجلاً أن يقول عند مضجعه في دعاء علمه :
آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت ، فقال الرجل : ورسولك الذي أرسلت ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ونبيك الذي أرسلت . قالوا : أفلا ترى أنه لم يسوغ لمن علمه الدعاء مخالفة اللفظ وقال : فأداها كما سمعها . قيل لهم : أما قوله : "فأداها كما سمعها" فالمراد حكمها لا لفظها ، لأن اللفظ غير معتد ، به . ويدلك على أن المراد من الخطاب حكمه قوله :"فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه" . ثم إن هذا الحديث بعينه قد نقل بألفاظ مختلفة والمعنى واحد ، وإن أمكن أن يكون جميع الألفاظ قول النبي صلى الله عليه وسلم في أوقات مختلفة ، لكن الأغلب أنه حديث واحد نقل بألفاظ مختلفة ، وذلك أدل دليل على الجواز . وأما رده عليه السلام الرجل من قوله :"ورسولك" ـ إلى قوله ـ "ونبيك" ، لأن لفظ النبي صلى الله عليه وسلم أمدح ، ولكل نعت من هذيه النعتين موضع . ألا ترى أن اسم الرسول يقع على الكافة ، واسم النبي لا يستحقه إلا الأنبياء عليهم السلام ! وإنما فضل المرسلون من الأنبياء لأنهم جمعوا النبوة والرسالة . فلما قال : "ونبيك" ، جاء بالنعت الأمدح ، ثم قيده بالرسالة بقوله : "الذي أرسلت" . وأيضاً فإن نقله من قوله : "ورسولك" ـ إلى قوله ـ "ونبيك" ليجمع بين النبوة والرسالة . ومستقبح في الكلام أن تقول : هذا رسول فلان الذي ارسله ، وهذا قتيل زيد الذي قتله ، لأن تجتزىء بقولك : رسول فلان ، وقتيل فلان عن إعادة المرسل والقاتل ، إذ كنت لا تفيد به إلا المعنى الأول . وإنما يحسن أن تقول : هذا رسول عبد الله الذي أرسله إلى عمرو ، وهذا قتيل زيد الذي قتله بالأمس أو في وقعة كذا . والله ولي التوفيق .
فإن قيل : إذا جاز للراوي الأول تغيير ألفاظ الرسول عليه السلام جاز للثاني تغيير ألفاظ الأول ، ويؤدي ذلك إلى طمس الحديث بالكلية لدقة الفروق وخفائها . قيل له : الجواز مشروط بالمطابقة والمساواة كما ذكرنا ، فإن عدمت لم يجز . قال ابن العربي : الخلاف في هذه المسألة إنما يتصور بالنظر إلى عصر الصحابة والتابعين لتساويهم في معرفة اللغة الجبلية الذوقية ، وأما من بعدهم فلا نشك في أن ذلك لا يجوز ، إذ الطباع قد تغيرت ، والفهوم قد تباينت ، والعوائد قد اختلفت ، وهذا هو الحق . والله أعلم .
قال بعض علمائنا : لقد تعاجم ابن العربي رحمه الله ، فإن الجواز إذا كان مشروطاً بالمطابقة فلا فرق بين زمن الصحابة والتابعين وزمن غيرهم ، ولهذا لم يفصل أحد من الأصوليين ولا أهل الحديث هذا التفصيل . نعم ، لو قال : المطابقة في زمنه أبعد كان أقرب ، والله أعلم .
السابعة : قوله تعالى : "نغفر لكم خطاياكم" قراءة نافع بالياء مع ضمها . وابن عامر بالتاء مع ضمها ، وهي قراءة مجاهد . وقرأها الباقون بالنون مع نصبها ، وهي أبينها ، لأن قبلها "وإذ قلنا ادخلوا" فجرى "نغفر" على الإخبار عن الله تعالى ، والتقدير وقلنا ادخلوا الباب سجداً نغفر ، ولأن بعده "وسنزيد" بالنون . و "خطاياكم" اتباعاً للسواد وأنه على بابه . ووجه من قرأ بالتاء أنه أنث لتأنيث لفظ الخطايا ، لأنها جمع خطيئة على التكسير . ووجه القراءة بالياء أنه ذكر لما حال بين المؤنث وبين فعله ، على ما تقدم في قوله "فتلقى آدم من ربه كلمات" . وحسن الياء والتاء وإن كان قبله إخبار عن الله تعالى في قوله : "وإذ قلنا" لأنه قد علم أن ذنوب الخاطئين لا يغفرها إلا الله تعالى ، فاستغنى عن النون ورد الفعل إلى الخطايا المغفورة .
الثامنة : واختلف في أصل خطايا جمع خطيئة بالهمزة ، فقال الخليل : الأصل في خطايا ان يقول : خطايىء . ثم قلب فقيل : خطائي بهمزة بعدها ياء ، ثم تبدل من الياء ألفاً بدلاً لازماً فتقول : خطاءاً ، فلما اجتمعت ألفان بينهما همزة والهمزة من جنس الألف صرت كأنك جمعت بين ثلاث ألفات ، فأبدلت من الهمزة ياء فقلت : خطايا . وأما سيبويه فمذهبه أن الأصل مثل الأول خطايىء ، ثم وجب بهذه أن تهمز الياء كما همزتها في مدائن فتقول : خطائىء ، ولا تجتمع همزتان في كلمة ، فأبدلت من الثانية ياء فقلت : خطائىء ، ثم عملت كما عملت في الأول . وقال الفراء : خطايا جمع خطية بلا همز ، كما تقول : هدية وهدايا . قال الفراء : ولو جمعت خطيئة مهموزة لقلت :خطاءا . وقال الكسائي : لو جمعتها مهموزة أدغمت الهمزة في الهمزة ، كما قلت : دواب .
التاسعة : قوله تعالى : "وسنزيد المحسنين" أي في إحسان من لم يعبد العجل . ويقال : يغفر خطايا من رفع المن والسلوى للغد ، وسنزيد في إحسان من لم يرفع للغد . ويقال : يغفر خطايا من هو عاص ، وسيزيد في إحسان من هو محسن ، أي نزيدهم إحساناً على الإحسان المتقدم عندهم . وهو اسم فاعل من أحسن . والمحسن : من صحح عقد توحيده ، وأحسن سياسة نفسه ، وأقبل على أداء فرائضه ، وكفى المسلمين شره . وفي حديث جبريل عليه السلام : "ما الإحسان ؟ قال : أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك . قال : صدقت " . خرجه مسلم .

يقول تعالى لائماً على نكولهم عن الجهاد ودخولهم الأرض المقدسة لما قدموا من بلاد مصر صحبة موسى عليه السلام فأمروا بدخول الأرض المقدسة التي هي ميراث لهم عن أبيهم إسرائيل وقتال من فيها من العماليق الكفرة فنكلوا عن قتالهم وضعفوا واستحسروا فرماهم الله في التيه عقوبة لهم كما ذكره تعالى في سورة المائدة، ولهذا كان أصح القولين أن هذه البلدة هي بيت المقدس كما نص على ذلك السدي والربيع بن أنس وقتادة وأبو مسلم الأصفهاني وغير واحد وقد قال الله تعالى حاكياً عن موسى "يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا" الايات. وقال آخرون هي أريحاء، ويحكى عن ابن عباس وعبد الرحمن بن زيد وهذا بعيد لأنها ليست على طريقهم وهم قاصدون بيت المقدس لا أريحاء ، وأبعد من ذلك قول من ذهب إلى أنها مصر ، حكاه الرازي في تفسيره، والصحيح الأول أنها بيت المقدس، وهذا كان لما خرجوا من التيه بعد أربعين سنة مع يوشع بن نون عليه السلام وفتحها الله عليهم عشية جمعة وقد حبست لهم الشمس يومئذ قليلاً حتى أمكن الفتح، ولما فتحوها أمروا أن يدخلوا الباب باب البلد "سجداً" أي شكراً لله تعالى على ما أنعم به عليهم من الفتح والنصر ورد بلدهم عليهم وإنقاذهم من التيه والضلال، قال العوفي في تفسيره عن ابن عباس أنه كان يقول في قوله تعالى "وادخلوا الباب سجداً" أي ركعاً، وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن بشار حدثنا أبو أحمد الزبيري حدثنا سفيان عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله "وادخلوا الباب سجداً" قال ركعاً من باب صغير، رواه الحاكم من حديث سفيان به، ورواه ابن أبي حاتم من حديث سفيان وهو الثوري به وزاد فدخلوا من قبل أستاههم، وقال الحسن البصري: أمروا أن يسجدوا على وجوههم حال دخولهم واستبعده الرازي، وحكي عن بعضهم أن المراد ههنا بالسجود الخضوع لتعذر حمله على حقيقته، وقال خصيف: قال عكرمة قال ابن عباس: كان الباب قبل القبلة، وقال ابن عباس ومجاهد والسدي وقتادة والضحاك هو باب الحطة من باب إيلياء بيت المقدس، وحكى الرازي عن بعضهم أنه عني بالباب جهة من جهات القبلة، وقال خصيف قال عكرمة قال ابن عباس فدخلوا على شق، وقال السدي عن أبي سعيد الأزدي عن أبي الكنود عن عبد الله بن مسعود قيل لهم ادخلوا الباب سجداً فدخلوا مقنعي رؤوسهم أي رافعي رؤوسهم خلاف ما أمروا، وقوله تعالى: "وقولوا حطة" قال الثوري عن الأعمش عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس "وقولوا حطة" قال مغفرة استغفروا، وروي عن عطاء والحسن وقتادة والربيع بن أنس نحوه، وقال الضحاك عن ابن عباس "وقولوا حطة" قال: قولوا هذا الأمر حق كما قيل لكم، وقال عكرمة قولوا "لا إله إلا الله" وقال الأوزاعي: كتب ابن عباس إلى رجل قد سماه فسأله عن قوله تعالى "وقولوا حطة" فكتب إليه أن أقروا بالذنب، وقال الحسن وقتادة أي أحطط عنا خطايانا "نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين" وقال: هذا جواب الأمر أي إذا فعلتم ما أمرناكم غفرنا لكن الخطيئات وضاعفنا لكم الحسنات وحاصل الأمر أنهم أمروا أن يخضعوا لله تعالى عند الفتح بالفعل والقول وأن يعترفوا بذنوبهم ويستغفروا منها والشكر على النعمة عندها والمبادرة إلى ذلك من المحبوب عند الله تعالى كما قال تعالى: " إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا * فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا " فسره بعض الصحابة بكثرة الذكر والاستغفار عند الفتح والنصر ، وفسره ابن عباس بأنه نعى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أجله فيها وأقره على ذلك عمر رضي الله عنه، ولا منافاة بين أن يكون قد أمر بذلك عند ذلك ونعى إليه روحه الكريمة أيضاً، ولهذا كان عليه الصلاة والسلام يظهر عليه الخضوع جداً عند النصر كما روى أنه كان يوم الفتح فتح مكة داخلاً إليها من الثنية العليا وأنه لخاضع لربه حتى أن عثنونه ليمس مورك رحله شكراً لله على ذلك، ثم لما دخل البلد اغتسل وصلى ثماني ركعات وذلك ضحى، فقال بعضهم: هذه صلاة الضحى، وقال آخرون بل هي صلاة الفتح فاستحبوا للإمام وللأمير إذا فتح بلداً أن يصلي فيه ثماني ركعات عند أول دخوله كما فعل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لما دخل إيوان كسرى صلى فيه ثماني ركعات والصحيح أنه يفصل بين كل ركعتين بتسليم، وقيل يصليها كلها بتسليم واحد ، والله أعلم.
وقوله تعالى: "فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم" قال البخاري حدثني محمد حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن ابن المبارك عن معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قيل لبني اسرائيل ادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة ـ فدخلوا يزحفون على أستاههم فبدلوا وقالوا حبة في شعرة" ورواه النسائي عن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم عن عبد الرحمن به موقوفاً وعن محمد بن عبيد بن محمد عن ابن المبارك ببعضه مسنداً في قوله تعالى: "حطة" قال: فبدلوا وقالوا حبة، وقال عبد الرزاق أنبأنا معمر عن همام بن منبه أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله لبني إسرائيل: "ادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم" فبدلوا ودخلوا الباب يزحفون على أستاههم فقالوا حبة في شعرة" وهذا حديث صحيح رواه البخاري عن إسحاق بن نصر ومسلم عن محمد بن رافع والترمذي عن عبد بن حميد كلهم عن عبد الرازق به، وقال الترمذي: حسن صحيح، وقال محمد بن إسحاق: كان تبديلهم كما حدثني صالح بن كيسان عن صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة وعمن لا أتهم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "دخلوا الباب ـ الذي أمروا أن يدخلوا فيه سجداً ـ يزحفون على أستاههم وهم يقولون حنطة في شعيرة" وقال أبو داود حدثنا أحمد بن صالح وحدثنا سليمان بن سليمان بن داود حدثنا عبد الله بن وهب حدثنا هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "قال الله لبني إسرائيل "ادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم" " ثم قال أبو داود حدثنا أحمد بن مسافر حدثنا ابن أبي فديك عن هشام بمثله، هكذا رواه منفرداً به في كتاب الحروف مختصراً، وقال ابن مردويه حدثنا عبد الله بن جعفر حدثنا إبراهيم بن مهدي حدثنا أحمد بن المنذر القزاز حدثنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري، قال: سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان من آخر الليل أجزنا في ثنية يقال لها ذات الحنظل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما مثل هذه الثنية الليلة إلا كمثل الباب الذي قال الله لبني إسرائيل ادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم" وقال سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن البراء: "سيقول السفهاء من الناس" قال اليهود: قيل لهم ادخلوا الباب سجداً قال: ركعاً، وقولوا حطة أي مغفرة، فدخلوا على أستاههم وجعلوا يقولون حنطة حمراء فيها شعيرة، فذلك قول الله تعالى: "فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم" وقال الثوري عن السدي عن أبي سعد الأزدي عن أبي الكنود عن ابن مسعود وقولوا حطة، فقالوا حنطة، حبة حمراء فيها شعيرة، فأنزل الله: "فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم" وقال أسباط عن السدي عن مرة عن ابن مسعود أنه قال: إنهم قالوا هطا سمعاتا أزبة مزبا، فهي بالعربية حبة حنطة حمراء مثقوبة فيها شعرة سوداء فذلك قوله تعالى: "فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم" وقال الثوري عن الأعمش عن المنهال عن سعيد عن ابن عباس في قوله تعالى: "ادخلوا الباب سجداً" قال ركعاً من باب صغير ، فدخلوا من قبل أستاههم وقالوا حنطة، فذلك قوله تعالى: "فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم" وهكذا روي عن عطاء ومجاهد وعكرمة والضحاك والحسن وقتادة والربيع بن أنس ويحيى بن رافع. وحاصل ما ذكره المفسرون وما دل عليه السياق أنهم بدلوا أمر الله لهم من الخضوع بالقول والفعل فأمروا أن يدخلوا سجداً فدخلوا يزحفون على أستاههم من قبل أستاههم رافعي رؤوسهم وأمروا أن يقولوا حطة أي أحطط عنا ذنوبنا وخطايانا، فاستهزؤوا فقالوا حنطة في شعيرة، وهذا في غاية ما يكون من المخالفة والمعاندة ولهذا أنزل الله بهم بأسه وعذابه بفسقهم وهو خروجهم عن طاعته. ولهذا قال: "فأنزلنا على الذين ظلموا رجزاً من السماء بما كانوا يفسقون" وقال الضحاك عن ابن عباس: كل شيء في كتاب الله من الرجز يعني به العذاب، وهكذا روي عن مجاهد وأبي مالك والسدي والحسن وقتادة أنه العذاب وقال أبو العالية الرجز الغضب، وقال الشعبي: الرجز إما الطاعون وإما البرد، وقال سعيد بن جبير هو الطاعون، وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا وكيع عن سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن إبراهيم بن سعد يعني ابن أبي وقاص عن سعد بن مالك وأسامة بن زيد وخزيمة بن ثابت رضي الله عنهم، قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الطاعون رجز عذاب عذب به من كان قبلكم" وهكذا رواه النسائي من حديث سفيان الثوري به، وأصل الحديث في الصحيحين من حديث حبيب بن أبي ثابت "إذا سمعتم الطاعون بأرض فلا تدخلوها" الحديث، قال ابن جرير أخبرني يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب عن يونس عن الزهري، قال أخبرني عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أسامة بن زيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن هذا الوجع والسقم رجز عذب به بعض الأمم قبلكم" وهذا الحديث أصله مخرج في الصحيحين من حديث مالك عن محمد بن المنكدر وسالم بن أبي النضر عن عامر بن سعد بنحوه.
قال جمهور المفسرين: القرية هي بيت المقدس، وقيل: إنها أريحاء قرية من قرى بيت المقدس، وقيل: من قرى الشام. وقوله: 58- "كلوا" أمر إباحة- "رغداً" كثيراً واسعاً، وهو نعت لمصدر محذوف: أي أكلاً رغداً، ويجوز أن يكون في موضع الحال، وقد تقدم تفسيره. والباب الذي أمروا بدخوله هو باب في بيت المقدس يعرف اليوم بباب حطة، وقيل: هو باب القبة التي كان يصلي إليها موسى وبنو إسرائيل. والسجود قد تقدم تفسيره وقيل: هو هنا الانحناء، وقيل: التواضع والخضوع، واستدلوا على ذلك بأنه لو كان المراد بالسجود الحقيقي الذي هو وضع الجبهة على الأرض لامتنع الدخول المأمور به، لأنه لا يمكن الدخول حال السجود الحقيقي. وقال في الكشاف: إنهم أمروا بالسجود عند الانتهاء إلى الباب شكراً لله وتواضعاً. واعترضه أبو حيان في النهر الماد فقال: لم يؤمروا بالسجود، بل هو قيد في وقوع المأمور به وهو الدخول، والأحوال نسب تقييدية، والأوامر نسب إسنادية انتهى. ويجاب عنه بأن الأمر بالمقيد أمر بالقيد، فمن قال اخرج مسرعاً فهو آمر بالخروج على هذه الهيئة، فلو خرج غير مسرع كان عند أهل اللسان مخالفاً للأمر. ولا ينافي هذا كون الأحوال نسباً تقييدية، فإن اتصافها بكونها قيوداً مأموراً بها هو شيء زائد على مجرد التقييد، وقوله: "حطة" بالرفع في قراءة الجمهور على إضمار مبتدأ، قال الأخفش: وقرئت حطة نصباً على معنى احطط عنا ذنوبنا حطة، وقيل: معناها الاستغفار، ومنه قول الشاعر:
فاز بالحطة التي أمر الله بها ذنب عبده مغفورا
وقال ابن فارس في المجمل: "حطة" كلمة أمروا بها ولو قالوها لحطت أوزارهم. قال الرازي في تفسيره: أمرهم بأن يقولوا ما يدل على التوبة، وذلك لأن التوبة صفة القلب فلا يطلع الغير عليها، وإذا اشتهر وأخذ بالذنب ثم تاب بعده لزمه أن يحكي توبته لمن شاهد منه الذنب، لأن التوبة لا تتم إلا به. انتهى. وكون التوبة لا تتم إلا بذلك لا دليل عليه، بل مجرد عقد القلب عليها يكفي سواء اطلع الناس على ذنبه أم لا، وربما كان التكتم بالتوبة على وجه لا يطلع عليها إلا الله عز وجل أحب إلى الله وأقرب إلى مغفرته. وأما رفع ما عند الناس من اعتقادهم بقاءه على المعصية فذلك باب آخر. وقوله: "يغفر لكم" قرأه نافع بالياء التحتية المضمومة، وقرأه ابن عامر بالتاء الفوقية المضمومة وقرأه الباقون بالنون وهي أولى. والخطايا جمع خطيئة بالهمز، وقد تكلم علماء العربية في ذلك بما هو معروف في كتب الصرف. وقوله: "وسنزيد المحسنين" كأي نزيدهم إحساناً على إحسانهم المتقدم، وهو اسم فاعل من أحسن. وقد ثبت في الصحيح "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الإحسان فقال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك".
58. " وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية " سميت القرية لأنها تجمع أهلها، ومنه المقراة: للحوض، لأنها تجمع الماء، قال ابن عباس رضي الله عنهما: هي أريحا وهي قرية الجبارين كان فيها قوم من بقية عاد يقال لهم العمالقة ورأسهم عوج بن عنق، وقيل: بلقاء، وقال مجاهد : بيت المقدس، وقال الضحاك : هي الرملة والأردن وفلسطين وتدمر، وقال مقاتل : إليا، وقال ابن كيسان : الشام " فكلوا منها حيث شئتم رغداً " موسعاً عليكم " وادخلوا الباب " يعني باباً من أبواب القرية وكان لها سبعة أبواب " سجداً " أي ركعاً خضعاً منحنين، وقال وهب : فإذا دخلتموه فاسجدوا شكراً لله تعالى " وقولوا حطة " قال قتادة : حط عنا خطايانا، أمروا بالاستغفار، قال ابن عباس: لا إله إلا الله، لأنها تحط الذنوب، ورفعها على تقدير: قولوا مسألتنا حطة " نغفر لكم خطاياكم " من الغفر وهو الستر، فالمغفرة تستر الذنوب، وقرأ أهل المدينة و نافع بالياء وضمها وفتح الفاء، وقرأها ابن عامر بالتاء وضمها وفتح الفاء، وفي الأعراف قرأ جميعاً و يعقوب بالتاء وضمها، وقرأ الآخرون فيهما بنصب النون وكسر الفاء " وسنزيد المحسنين " ثواباً من فضلنا.
58-" وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية" يعني بيت المقدس ، وقيل أريحا أمروا به بعد التيه.
" فكلوا منها حيث شئتم رغداً " واسعاً ، ونصبه على المصدر ، أو الحال من الواو .
" وادخلوا الباب " أي باب القرية ، أو القبة التي كانوا يصلون إليها ،فإنهم لم يدخلوا بيت المقدس في حياة موسى عليه الصلاة والسلام .
" سجداً " متطامنين مخبتين ، أو ساجدين لله شكراً على إخراجهم من التيه .
" وقولوا حطة " أي مسألتنا ، أو أمرك حطة وهي فعلة من الحط كالجلسة ، وقرئ بالنصب على الأصل بمعنى : حط عنا ذنوبنا حطة ، أو على أنه مفعول " قولوا " أي قولوا هذه الكلمة . وقيل معناه أمرنا حطة أي : أن نحط في هذه القرية ونقيم بها .
" نغفر لكم خطاياكم " بسجودكم . وقرأ نافع بالياء و ابن عامر بالتاء على البناء للمفعول . وخطايا أصله خطايئ كخطايع ، فعند سيبويه أنه أبدلت الياء الزائدة همزة لوقوعها بعد الألف ، واجتمعت همزتان فأبدلت الثانية ياء ثم قلبت ألفاً ،وكانت الهمزة بين الألفين فأبدلت ياء . وعند الخليل قدمت الهمزة على الياء ثن فعل بهما ما ذكر .
" وسنزيد المحسنين " ثواباً ، جعل الامتثال توبة للمسيء وسبب زيادة الثواب للمحسن ، وأخرجه عن صورة الجواب إلى الوعد إيهاماً بأن المحسن بصدد ذلك وإن لم يفعله ، فكيف إذا فعله ، وأنه تعالى يفعل لا محالة .
58. And when We said: Go into this township and eat freely of that which is therein, and enter the gate prostrate, and say: "Repentance." We will forgive you your sins and increase (reward) for the right-doers.
58 - And remember we said: enter this town, and eat of ye wish; but enter the gate with humility, in posture and in words, and we shall forgive you your faults and increase (the portion of) those who do good.