[البقرة : 55] وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ
(وإذ قلتم) وقد خرجتم مع موسى لتعتذروا إلى الله من عبادة العجل وسمعتم كلامه (يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة) عَيانا (فأخذتكم الصاعقة) الصيحة فَمُتُّم (وأنتم تنظرون) ما حل بكم
قال أبو جعفر: وتأويل ذلك: واذكروا أيضاً إذ قلتم يا موسى لن نصدقك ولن نقر بما جئتنا به،حتى نرى الله جهرة عياناً برفع الساتر بيننا وبينه، وكشف الغطاء دوننا ودونه، حتى ننظر إليه بأبصارنا، كما تجهر الركية، وذلك إذا كان ماؤها قد غطاه الطين، فنقي ما قد غطاه حتى ظهر الماء وصفا. يقال منه: قد جهرت الركية أجهرها جهرًا وجهرة. ولذلك قيل: قد جاهر فلان بهذا الأمر مجاهرة وجهارًا، إذا أظهره لرأي العين وأعلنه، كما قال الفرزدق بن غالب:
من اللائي يظل الألف منه منيخاً من مخافته جهارًا
وكما حدثنا به القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: "حتى نرى الله جهرة"، قال: علانية.
وحدثت عن عماربن الحسن، قال: ثنا عبدالله بن أبي جعفر ، عن أبيه، عن الربيع:"حتى نرى الله جهرة"، يقول: عياناً.
وحدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: "حتى نرى الله جهرة"، حتى يطلع إلينا.
حدثنا بشربن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: "حتى نرى الله جهرة"، أي عياناً.
فذكرهم بذلك جل ذكره اختلاف آبائهم، وسوء استقامة أسلافهم لأنبيائهم، مع كثرة معاينتهم من آيات الله جل وعز وعبره ما تثلج بأقلها الصدور، وتطمئن بالتصديق معها النفوس. وذلك مع تتابع الحجج عليهم، وسبوغ النعم من الله لديهم، وهم مع ذلك مرة يسألون نبيهم أن يجعل لهم إلهًا غير الله. ومرة يعبدون العجل من دون الله. ومرة يقولون: لا نصدقك حتى نرى الله جهرة. وأخرى يقولون له، إذا دعوا إلى القتال: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون. ومرة يقال لهم: قولوا حطة وادخلوا الباب سجدًا نغفر لكم خطاياكم، فيقولون: حنطة في شعيرة! ويدخلون الباب من قبل أستاههم، مع غير ذلك من أفعالهم التي آذوا بها نبيهم عليه السلام، التي يكثر إحصاؤها. فأعلم ربنا تبارك وتعالى ذكره الذين خاطبهم بهذه الآيات من يهود بني إسرائيل، الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنهم لن يعدوا أن يكونوا في تكذيبهم محمدًا صلى الله عليه وسلم، وجحودهم نبوته، وتركهم الإقرار به وبما جاء به، مع علمهم به، ومعرفتهم بحقيقة أمره كأسلافهم وآبائهم الذين فصل عليهم قصصهم، في ارتدادهم عن دينهم مرة بعد أخرى، وتوثبهم على نبيهم موسى صلوات الله وسلامه عليه تارة بعد أخرى، مع عظيم بلاء الله جل وعز عندهم، وسبوغ آلائه عليهم. القول في تأويل قوله تعالى: " فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون "
اختلف أهل التأويل في صفة الصاعقة التي أخذتهم. فقال بعضهم بما:حدثنا به الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: "فأخذتكم الصاعقة"، قال: ماتوا.
وحدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا عبدالله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: "فأخذتكم الصاعقة"، قال: سمعوا صوتاً فصعقوا، يقول: فماتوا.
وقال آخرون بما:حدثني موسى بن هرون الهمداني قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "فأخذتكم الصاعقة"، والصاعقة نار.
وقال آخرون بما:حدثنا به ابن حميد، قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق قال: أخذتهم الرجفة، وهي الصاعقة، فماتوا جميعاً.
وأصل ‌"الصاعقة"، كل أمر هائل رآه المرء أو عاينه أو أصابه حتى يصير من هوله وعظيم شأنه إلى هلاك وعطب، وإلى ذهاب عقل وغمور فهم، أو فقد بعض آلات الجسم صوتاً كان ذلك أو نارًا أو زلزلة أو رجفاً. ومما يدل على أنه قد يكون مصعوقاً وهو حي غير ميت، قول الله عزوجل: "وخر موسى صعقا" (الأعراف: 143)، يعني: مغشيًا عليه، ومنه قول جريربن عطية:
وهل كان الفرزدق غير قرد أصابته الضواعق فاستدارا؟
فقد علم أن موسى لم يكن حين غشي عليه وصعق ميتاً، لأن الله جل وعز أخبرعنه لما أفاق قال: "تبت إليك" (الأعراف: 143) ولا شبه جرير الفرزدق وهو حي بالقرد ميتاً. ولكن معنى ذلك ما وصفنا.
ويعني بقوله: "وأنتم تنظرون "، وأنتم تنظرون إلى الصاعقة التي أصابتكم، يقول: أخذتكم الصاعقة عياناً جهارًا وأنتم تنظرون إليها.
فيه خمس مسائل :
الأولى : قوله تعالى : "وإذ قلتم " معطوف . "يا موسى" نداء مفرد . "لن نؤمن لك" أي نصدقك . "حتى نرى الله جهرة" قيل : هم السبعون الذين اختارهم موسى ، وذلك أنهم لما أسمعهم كلام الله تعالى قالوا له بعد ذلك : "لن نؤمن لك" . والإيمان بالأنبياء واجب بعد ظهور معجزاتهم . فأرسل الله عليهم ناراً من السماء فأحرقهم ، ثم دعا موسى ربه فأحياهم ، كما قال تعالى : "ثم بعثناكم من بعد موتكم" . وستأتي قصة السبعين في الأعراف إن شاء الله تعالى . قال ابن فورك : يحتمل أن تكون معاقبتهم لإخراجهم طلب الرؤية عن طريقه بقولهم لموسى : "أرنا الله جهرة" وليس ذلك من مقدور موسى عليه السلام .
وقد اختلف في جواز رؤية الله تعالى ، فأكثر المبتدعة على إنكارها في الدنيا والآخرة . وأهل السنة والسلف على جوازها فيهما ووقوعها في الآخرة ، فعلى هذا لم يطلبوا من الرؤية محالاً ، وقد سألها موسى عليه السلام . وسيأتي الكلام في الرؤية في الأنعام والأعراف إن شاء الله تعالى .
الثانية : قوله تعالى :"جهرة" مصدر في موضع الحال ، ومعناه علانية . وقيل عيانا ، قاله ابن عباس . واصل الجهر الظهور ، ومنه الجهر بالقراءة إنما هو إظهارها . والمجاهرة بالمعاصي : المظاهرة بها . ورأيت الأمير جهاراً وجهرة ، أي غير مستتر بشيء . وقرأ ابن عباس جهرة بفتح الهاء . وهما لغتان ، مثل زهرة وزهرة . وفي الجهر وجهان : أحدهما : أنه صفة لخطابهم لموسى أنهم جهروا به وأعلنوا ، فيكون في الكلام تقديم وتأخير ، والتقدير : وإذ قلتم جهرة يا موسى . الثاني : أنه صفة لما سألوه من رؤية الله تعالى أنه يروه جهرة وعيانا ، فيون الكلام على نسقه لا تقديم فيه ولا تأخير . وأكد بالجهر فرقاً بين رؤية العيان ورؤية المنام .
الثالثة : قوله تعالى : "فأخذتكم الصاعقة" قد تقدم في أول السورة معنى الصاعقة . وقرأ عمر وعثمان وعلي الصعقة وهي قراءة ابن محيصن في جميع القرآن . "وأنتم تنظرون" جملة في موضع الحال. ويقال : كيف يموتون وهم ينظرون ؟ فالجواب أن العرب تقول : دور آل فلان تراءى ، أي يقابل بعضها بعضاً . وقيل : المعنى تنظرون أي إلى حالكم وما نزل بكم من الموت وآثار الصعقة .
يقول تعالى: واذكروا نعمتي عليكم في بعثي لكم بعد الصعق إذا سألتم رؤيتي جهرة عياناً مما لا يستطاع لكم ولا لأمثالكم، كما قال ابن جريح، قال ابن عباس في هذه الأية " وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله " قال: علانية، وكذا قال إبراهيم بن طهمان عن عباد بن إسحاق عن أبي الحويرث عن ابن عباس، أنه قال في قول الله تعالى "لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة" أي علانية، أي حتى نرى الله، وقال قتادة والربيع بن أنس "حتى نرى الله جهرة" أي عياناً، وقال أبو جعفر عن الربيع بن أنس: هم السبعون الذين اختارهم موسى فساروا معه، قال: فسمعوا كلاماً، فقالوا "لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة" قال: فسمعوا صوتاً فصعقوا يقول ماتوا. وقال مروان بن الحكم، فيما خطب به على منبر مكة: الصاعقة صيحة من السماء، وقال السدي في قوله "فأخذتكم الصاعقة" الصاعقة: نار، وقال عروة بن رويم في قوله "وأنتم تنظرون" قال: صعق بعضهم وبعض ينظرون، ثم بعث هؤلاء وصعق هؤلاء، وقال السدي "فأخذتكم الصاعقة" فماتوا، فقام موسى يبكي ويدعو الله، ويقول: رب ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم "لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا" فأوحى الله إلى موسى أن هؤلاء السبعين ممن اتخذوا العجل، ثم إن الله أحياهم فقاموا وعاشوا رجل رجل، ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحيون ؟ قال: فذلك قوله تعالى: "ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون" وقال الربيع بن أنس كان موتهم عقوبة لهم فبعثوا من بعد الموت ليستوفوا آجالهم، وكذا قال قتادة، وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن حميد حدثنا سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق، قال: لما رجع موسى إلى قومه فرأى ما هم عليه من عبادة العجل، وقال لأخيه وللسامري ما قال، وحرق العجل وذراه في اليم، اختار موسى منهم سبعين رجلاً الخير فالخير، وقال: انطلقوا إلى الله وتوبوا إلى الله مما صنعتم، واسألوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم، صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم. فخرج بهم إلى طور سيناء لميقات وقته له ربه، وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم، فقال له السبعون فيما ذكر لي حين صنعوا ما أمروا به، وخرجوا للقاء الله، قالوا: يا موسى، اطلب لنا إلى ربك نسمع كلام ربنا، فقال أفعل، فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه الغمام حتى تغشى الجبل كله، ودنا موسى فدخل فيه، وقال للقوم: ادنوا، وكان موسى إذا كلمه الله وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه، فضرب دونه بالحجاب، ودنا القوم حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجوداً فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه: افعل ولا تفعل، فلما فرغ إليه من أمره انكشف عن موسى الغمام، فأقبل إليهم، فقالوا لموسى "لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة" فأخذتهم الرجفة وهي الصاعقة، فماتوا جميعاً، وقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه ويقول "رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي" قد سفهوا، أفتهلك من ورائي من بني إسرائيل بما يفعل السفهاء منا ؟ أي إن هذا لهم هلاك واخترت منهم سبعين رجلاً الخير فالخير، أرجع إليهم وليس معي منهم رجل واحد، فما الذي يصدقوني به ويأمنوني عليه بعد هذا ؟ "إنا هدنا إليك" فلم يزل موسى يناشد ربه عز وجل ويطلب إليه حتى رد إليهم أرواحهم، وطلب إليهم التوبة لبني إسرائيل من عبادة العجل، فقال: لا، إلا أن يقتلوا أنفسهم ـ هذا سياق محمد بن إسحاق ـ وقال إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير: لما تابت بنو إسرائيل من عبادة العجل، وتاب الله عليهم بقتل بعضهم لبعض كما أمرهم الله به، أمر الله موسى أن يأتيه في كل أناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل وواعدهم موسى، فاختار موسى سبعين رجلاً على عينه، ثم ذهب بهم ليعتذروا، وساق البقية وهذا السياق يقتضي أن الخطاب توجه إلى بني إسرائيل في قوله "وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة" والمراد السبعون المختارون منهم ولم يحك كثير من المفسرين سواه، وقد أغرب الرازي في تفسيره حين حكى في قصة هؤلاء السبعين: أنهم بعد إحيائهم قالوا: يا موسى إنك لا تطلب من الله شيئاً إلا أعطاك، فادعه أن يجعلنا أنبياء ، فدعا بذلك فأجاب الله دعوته، وهذا غريب جداً إذ لا يعرف في زمان موسى نبي سوى هارون ثم يوشع بن نون، وقد غلط أهل الكتاب أيضاً في دعواهم أن هؤلاء رأوا الله عز وجل، فإن موسى الكليم عليه السلام قد سأل ذلك فمنع منه فكيف يناله هؤلاء السبعون ؟
القول الثاني في الاية: قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في تفسير هذه الاية: قال لهم موسى لما رجع من عند ربه بالألواح قد كتب فيها التوراة فوجدهم يعبدون العجل، فأمرهم بقتل أنفسهم ففعلوا، فتاب الله عليهم، فقال: إن هذه الألواح فيها كتاب الله فيه أمركم الذي أمركم به ونهيكم الذي نهاكم عنه. فقالوا: ومن يأخذه بقولك أنت ؟ لا والله حتى نرى الله جهرة حتى يطلع الله علينا فيقول: هذا كتابي فخذوه، فما له لا يكلمنا كما يكلمك أنت يا موسى، وقرأ قول الله "لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة" قال: فجاءت غضبة من الله فجاءتهم صاعقة بعد التوبة فصعقتهم فماتوا أجمعون، قال: ثم أحياهم الله من بعد موتهم، وقرأ قول الله "ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون" فقال لهم موسى: خذوا كتاب الله، فقالوا: لا، فقال: أي شيء أصابكم ؟ فقالوا: أصابنا أنا متنا ثم أحيينا، قال: خذوا كتاب الله، قالوا: لا ، فبعث الله ملائكة فنتقت الجبل فوقهم. وهذا السياق يدل على أنهم كلفوا بعد ما أحيوا. وقد حكى الماوردي في ذلك قولين: أحدهما: أنه سقط التكليف عنهم لمعاينتهم الأمر جهرة حتى صاروا مضطرين إلى التصديق، والثاني: أنهم مكلفون لئلا يخلو عاقل من تكليف، قال القرطبي: وهذا هو الصحيح لأن معاينتهم للأمور الفظيعة لا تمنع تكليفهم لأن بني إسرائيل قد شاهدوا أموراً عظاماً من خوارق العادات، وهم في ذلك مكلفون وهذا واضح، والله أعلم.
قوله: 55- "وإذ قلتم" هذه الجملة معطوفة على التي قبلها، وظاهر السياق أن القائلين هذه المقالة هم قوم موسى- وقيل: هم السبعون الذين اختارهم. وذلك أنهم لما سمعوا كلام الله قالوا بعد ذلك هذه المقالة فأرسل الله عليهم ناراً فأحرقتهم. ثم دعا موسى ربه فأحياهم كما قال تعالى هنا: "ثم بعثناكم من بعد موتكم" وسيأتي ذلك في الأعراف إن شاء الله. والجهرة: المعاينة، وأصلها الظهور، ومنه الجهر بالقراءة والمجاهرة بالمعاصي، ورأيت الأمر جهرة وجهاراً: أي غير مستتر بشيء، وهي مصدر واقع موقع الحال. وقرأ ابن عباس جهرة بفتح الهاء وهي لغتان مثل زهرة وزهرة، ويحتمل أن يكون على هذه القراءة جمع جاهر. والصاعقة قد تقدم تفسيرها، وقرأ عمر وعثمان وعلي الصعقة وهي قراءة ابن محيصن، والمراد بأخذ الصاعقة إصابتها إياهم. "وأنتم تنظرون" في محل نصب على الحال، والمراد من هذا النظر الكائن منهم أنهم نظروا أوائل الصاعقة النازلة بهم الواقعة عليهم لا آخرها الذي ماتوا عنده، وقيل: المراد بالصاعقة الموت، واستدل عليه بقوله: "ثم بعثناكم من بعد موتكم" ولا موجب للمصير إلى هذا التفسير، لأن المصعوق قد يموت كما في هذه الآية، وقد يخشى عليه ثم يفيق كما في قوله تعالى: "وخر موسى صعقاً فلما أفاق" ومما يوجب ذلك قوله: "وأنتم تنظرون" فإنها لو كانت الصاعقة عبارة عن الموت لم يكن لهذه الجملة كبير معنى، بل قد يقال إنه لا يصح أن تنظروا الموت النازل بهم إلا أن يكون المراد نظر الأسباب المؤثرة للموت.
55. قوله تعالى: " وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة " وذلك أن الله تعالى أمر موسى عليه السلام أن يأتيه في ناس من بني إسرائيل من عبادة العجل، فاختار موسى سبعين رجلاً من قومه من خيارهم، فقال لهم: صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم، ففعلوا، فخرج بهم موسى إلى طور سيناء لميقات ربه، فقالوا لموسى: اطلب لنا نسمع كلام ربنا، فقال لهم: أفعل، فلما دنا موسى إلى طور سيناء من الجبل وقع عليه عمود الغمام وتغشى الجبل كله،فدخل في الغمام وقال للقوم: ادنوا فدنوا حتى دخلوا في الغمام وخروا سجداً، وكان موسى إذا كلمه ربه وقع علىوجهه نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه، فضرب دونهم الحجاب وسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه وأسمعهم الله: أني أنا الله لا إله إلا أنا ذو بكة أخرجتكم من أرض مصر بيد شديدة فاعبدوني ولا تعبدوا غيري، فلما فرغ موسى وانكشف الغمام أقبل إليهم فقالوا: له (( لن نؤمن حتى نرى الله جهرة )) معاينة وذلك أن العرب تجعل العلم بالقلب رؤية، فقال جهرة ليعلم أن المراد منه العيان " فأخذتكم الصاعقة " أي الموت، وقيل: نار جاءت من السماء فأحرقتهم " وأنتم تنظرون " أي ينظر بعضكم إلى بعض حين أخذكم الموت. وقيل: تعلمون، والنظر يكون بمعنى العلم، فلما هلكوا جعل موسى يبكي ويتضرع ويقول: ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم؟ " لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا " (155-الأعراف) فلم يزل يناشد ربه حتى أحياهم الله تعالى رجلاً بعد رجل بعدما ماتوا يوماً وليلة، ينظر بعضهم إلى بعض، كيف يحيون فذلك
55-" وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك " أي لأجل قولك ، أو لن نقر لك .
" حتى نرى الله جهرةً " عياناً وهي في الأصل مصدر قولك : جهرت بالقراءة ، استعيرت للمعاينة ، ونصبها على المصدر لأنها نوع من الرؤية ، أو الحال من الفاعل ، أو المفعول . وقرئ جهرة بالفتح على أنها مصدر كالغلبة ، أو جمع جاهر كالكتبة فيكون حالاً من الفاعل قطعاً ، والقائلون هم السبعون الذين اختارهم موسى عليه السلام للميقات . وقيل عشرة آلاف من قومه . والمؤمن به : إن الله الذي أعطاك التوراة وكلمك ،أو إنك نبي .
" فأخذتكم الصاعقة " لفرط العناد والنعت وطلب المستحيل ، فإنهم ظنوا أنه تعالى يشبه الأجسام فطلبوا رؤيته رؤية الأجسام في الجهات والأحياز المقابلة للرائي ، وهي محال ، بل الممكن أن يرى رؤية منزهة عن الكيفية ، وذلك للمؤمنين في الآخرة ولأفراد من الأنبياء في بعض الأحوال في الدنيا . قيل جاءت نار من السماء فأحرقتهم . وقيل صيحة . وقيل جنود سمعوا بحسيسها فخروا صعقين ميتين يوماً وليلة .
" وأنتم تنظرون " ما أصابكم بنفسه أو أثره .
55. And when ye said: O Moses! We will not believe in thee till we see Allah plainly; and even while ye gazed the lightning seized you.
55 - And remember ye said: o Moses! we shall never believe in thee until we see God manifestly, but ye were dazed with thunder and lightning even as ye looked on.