[البقرة : 52] ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
(ثم عفونا عنكم) محونا ذنوبكم (من بعد ذلك) الاتخاذ (لعلكم تشكرون) نعمتنا عليكم
قال أبو جعفر: وتأويل قوله: "ثم عفونا عنكم من بعد ذلك "، يقول: تركنا معاجلتكم بالعقوبة، "من بعد ذلك "، أي من بعد اتخاذكم العجل إلهًا، كما:حدثني به المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا آدم العسقلاني قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: "ثم عفونا عنكم من بعد ذلك "، يعني: من بعد ما اتخذتم العجل.
وأما تأويل قوله: "لعلكم تشكرون "، فإنه يعني به: لتشكروا. ومعنى لعل في هذا الموضع معنى كي . وقد بينت فيما مضى قبل أن أحد معاني لعل كي ، بما فيه الكفاية عن إعادته في هذا الموضع.
فمعنى الكلام إذا: ثم عفونا عنكم من بعد اتخاذكم العجل إلهًا، لتشكروني على عفوي عنكم، إذ كان العفو يوجب الشكر على أهل اللب والعقل.
قوله تعالى : "ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون"
فيه أربع مسائل :
الأولى : قوله تعالى : "ثم عفونا عنكم" العفو : عفو الله جل وعز عن خلقه ، وقد يكون بعد العقوبة وقبلها ، بخلاف الغفران فإنه لا يكون معه عقوبة البتة . وكل من استحق عقوبة فتركت له فقد عفي عنه . فالعفو : محو الذنب ، أي محونا ذنوبكم وتجاوزنا عنكم . مأخوذ من قولك : عفت الريح الأثر ، أي أذهبته . وعفا الشيء : كثر . فهو من الأضداد ، ومنه قوله تعالى : "حتى عفوا" .
الثانية : قوله تعالى : "من بعد ذلك" أي من عبادتكم العجل . وسمي العجل عجلاً لاستعجالهم عبادته . والله أعلم . والعجل : ولد البقرة . والعجول مثله ، والجمع العجاجيل ، والأنثى عجلة . عن أبي الجراح .
الثالثة : قوله تعالى : "لعلكم تشكرون" كي تشكروا عفو الله عنكم . وقد تقدم معنى لعل . وأما الشكر فهو في اللغة الظهور ، من قوله : دابة شكور ، إذا ظهر عليها من السمن فوق ما تعطى من العلف . وحقيقته الثناء على الإنسان بمعروف يوليكه . كما تقدم في الفاتحة . قال الجوهري : الشكر : الثناء على المحسن بما أولاكه من المعروف ، يقال : شكرت له . وباللام أفصح . والشكران : خلاف الكفران . وتشكرت له مثل شكرت له . وروى الترمذي و أبو داود عن ابي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
"لا يشكر الله من لا يشكر الناس" . قال الخطابي : هذا الكلام يتأول على معنيين : أحدهما ـ أن من كان من طبعه كفران نعمة الناس وترك الشكر لمعروفهم كان من عادته كفران نعمة الله عز وجل وترك الشكر له . والوجه الأخر ـ أن الله سبحانه لا يقبل شكر العبد على إحسانه إليه إذ كان العبد لا يشكر إحسان الناس إليه ويكفر معروفهم ، لاتصال أحد الأمرين بالآخر .
الرابعة : في عبادات العلماء في معنى الشكر ، فقال سهل بن عبد الله : الشكر : الاجتهاد في بذل الطاعة مع الاجتناب للمعصية في السر والعلانية . وقالت فرقة أخرى : الشكر هو الاعترف في تقصير الشكر للمنعم ، ولذلك قال تعالى : "اعملوا آل داود شكرا" . فقال داود كيف أشكرك يا رب ،والشكر نعمة منك ! قال : الآن قد عرفتني وشكرتني ، إذ قد عرفت أن الشكر مني نعمة . قال : يا رب فأرني أخفى نعمك علي . قال : يا داود تنفس ، فتنفس داود . فقال الله تعالى : من يحصي هذه النعمة الليل والنهار . وقال موسى عليه السلام :كيف أشكرك وأصغر نعمة وضعتها بيدي من نعمك لا يجازى لها عملي كله ! فأوحى الله إليه : يا موسى الآن شكرتني . وقال الجنيد : حقيقة الشكر العجز عن الشكر . وعنه قال : كنت بين يدي السري السقطي ألعب وأنا ابن سبع سنين وبين يديه جماعة يتكلمون في الشكر ، فقال لي : يا غلام ما الشكر ؟ فقلت : ألا أبكي على هذه الكلمة التي قالها السري لي . وقال الشبلي : الشكر : التواضع والمحافظة على الحسنات ، ومخالفة الشهوات وبذل الطاعات ، ومراقبة جبار الأرض والسموات . وقال ذو النون المصري ابو الفيض الشكر لمن فوقك بالطاعة ، ولنظيرك بالمكافأة ، ولمن دونك بالإحسان والإفضال .
يقول تعالى: واذكروا نعمتي عليكم في عفوي عنكم، لما عبدتم العجل بعد ذهاب موسى لميقات ربه عند انقضاء أمد المواعدة، وكانت أربعين يوماً وهي المذكورة في الأعراف في قوله تعالى: "وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر" قيل إنها: ذو القعدة بكماله وعشر من ذي الحجة، وكان ذلك بعد خلاصهم من فرعون وإنجائهم من البحر ، وقوله تعالى: "وإذ آتينا موسى الكتاب" يعني التوراة "والفرقان" وهو ما يفرق بين الحق والباطل والهدى والضلالة "لعلكم تهتدون" وكان ذلك أيضاً بعد خروجهم من البحر كما دل عليه سياق الكلام في سورة الأعراف، ولقوله تعالى: "ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون" وقيل: الواو زائدة، والمعنى ولقد آتينا موسى الكتاب الفرقان وهذا غريب، وقيل، عطف عليه وإن كان المعنى واحداً، كما في قول الشاعر:
وقدمت الأديم لراقشيه فألفى قولها كذباً ومينا
وقال الاخر:
ألا حبذا هند وأرض بها هند وهند أتى من دونها النأي والبعد
فالكذب هو المين، والنأي: هو البعد. وقال عنترة:
حييت من طلل تقادم عهده أقوى وأقفر بعد أم الهيثم
فعطف الإقفار على الإقواء وهو هو .
وقوله: 52- "من بعد ذلك" أي من بعد عبادتكم العجل، وسمي العجل عجلاً لاستعجالهم عبادته كذا قيل، وليس بشيء لأن العرب تطلق هذا الاسم على ولد البقر. وقد كان جعله لهم السامري على صورة العجل. وقوله: "لعلكم تشكرون" أي لكي تشكروا ما أنعم الله به عليكم من العفو عن ذنبكم العظيم الذي وقعتم فيه. وأصل الشكر في اللغة: الظهور من قولهم دابة شكور إذا ظهر عليها من السمن فوق ما تعطى من العلف. قال الجوهري الشكر: الثناء على المحسن بما أولاك من المعروف، يقال: شكرته وشكرت له، وباللام أفصح، وقد تقدم معناه، والشكران خلاف الكفران.
52. " ثم عفونا عنكم " محونا ذنوبكم " من بعد ذلك " من بعد عبادتكم العجل " لعلكم تشكرون " لكي تشكروا عفوي عنكم وصنيعي إليكم، قيل: الشكر هو الطاعة بجميع الجوارح في السر والعلانية قال الحسن : شكر النعمة ذكرها قال الله تعالى " وأما بنعمة ربك فحدث " (11-الضحى) قال الفضيل : شكر كل نعمة أن لا يعصي الله بعد تلك النعمة. وقيل: حقيقة الشكر العجز عن الشكر.
حكي أن موسى عليه السلام قال: إلهي أنعمت علي النعم السوابغ، وأمرتني بالشكر وإنما شكري إياك نعمة منك، قال الله تعالى: يا موسى تعلمت العلم الذي لا يفوقه شيء من علم، حسبي من عبدي أن يعلم أن ما به من نعمة فهو مني، وقال داود عليه السلام: سبحان من جعل اعتراف العبد بالعجز عن شكره شكراً، كما جعل اعترافه بالعجز عن معرفته معرفة.
52-" ثم عفونا عنكم " حين تبتم ، والعفو محو الجريمة ، من عفا إذا درس . " من بعد ذلك " أي الاتخاذ " لعلكم تشكرون " أي لكي تشكروا عفوه .
52. Then, even after that, We pardoned you in order that ye might give thanks.
52 - Even then we did forgive you; there was a chance for you to be grateful.