[البقرة : 43] وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ
(وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين) صلّوا مع المصلين محمد وأصحابه ، ونزل في علمائهم وكانوا يقولون لأقربائهم المسلمين اثبتوا على دين محمد فإنه حق
قال أبو جعفر: ذكر أن أحبار اليهود والمنافقين كانوا يأمرون الناس بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ولا يفعلونه، فأمرهم الله بإقام الصلاة مع المسلمين المصدقين بمحمد وبما جاء به، وإيتاء زكاة أموالهم معهم، وأن يخضعوا لله ولرسوله كما خضعوا.
كما حدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبى جعفر، عن أبيه، عن قتادة، في قوله:"وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة"، قال: فريضتان واجبتان، فأدوهما إلى الله.
وقد بينا معنى إقامة الصلاة فيما مضى من كتابنا هذا، فكرهنا إعادته. أما إيتاء الزكاة، فهو أداء الصدقة المفروضة. وأصل الزكاة، نماء المال وتثميره وزيادته، ومن ذلك قيل: زكا الزرع، إذا كثر ما أخرج الله منه. وزكت النفقة، إذا كثرت. وقيل زكا الفرد، إذا صار زوجًا بزيادة الزائد عليه حتى صار به شفعًا، كما قال الشاعر:
كانوا خسًا أو زكًا من دون أربعة لم يخلقوا، وجدود الناس تعتلج
وقال آخر:
فلا خسًا عديده ولا زكا كما شرار البقل أطراف السفا
قال أبو جعفر: السفا شوك البهمى، والبهمى الذي يكون مدورًا في السلاء. يعني بقوله: ولا زكا، لم يصيرهم شفعًا من وتر، بحدوثه فيهم.
وإنما قيل للزكاة زكاة، وهي مال يخرج من مال، لتثمير الله بإخراجها مما أخرجت منه ما بقي عند رب المال من ماله. وقد يحتمل أن تكون سميت زكاة، لأنها تطهير لما بقي من مال الرجل، وتخليص له من أن تكون فيه مظلمة لأهل السهمان، كما قال جل ثناؤه مخبرًا عن نبيه موسى صلوات الله عليه:"أقتلت نفسا زكية" (الكهف: 74)، يعنى بريئة من الذنوب طاهرة. وكما يقال للرجل: هو عدل زكي لذلك المعنى. وهذا الوجه أعجب إلي في تأويل زكاة المال من الوجه الأول، وإن كان الأول مقبولاً في تأويلها.
وإيتاؤها: إعطاؤها أهلها.
وأما تأويل الركوع، فهو الخضوع لله بالطاعة. يقال منه: ركع فلان لكذا وكذا، إذا خضع له، ومنه قول الشاعر:
بيعت بكسر لئيم واستغاث بها من الهزال أبوها بعد ما ركعا
يعني: بعد ما خضع من شدة الجهد والحاجة.
قال أبو جعفر: وهذا أمر من الله جل ثناؤه لمن ذكر من أحبار بني إسرائيل ومنافقيها بالإنابة والتوبة إليه، وبإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والدخول مع المسلمين في الإسلام، والخضوع له بالطاعة ونهي منه لهم عن كتمان ما قد علموه من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، بعد تظاهرحججه عليهم، بما قد وصفنا قبل فيما مضى من كتابنا هذا، وبعد الإعذار إليهم والإنذار، وبعد تذكيرهم نعمه اليهم وإلى أسلافهم تعطفًا منه بذلك عليهم، وإبلاغًا في المعذرة.
قوله تعالى : "وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين" .
فيه أربع وثلاثون مسألة :
الأولى : قوله تعالى : "وأقيموا الصلاة" أمر معناه الوجوب ، ولا خلاف فيه ، وقد تقدم القول في معنى إقامة الصلاة واشتقاقها وفي جملة من أحكامها ، والحمد لله .
الثانية : قوله تعالى : "وآتوا الزكاة" أمر أيضاً يقتضي الوجوب . والإيتاء : الإعطاء . آتيته أعطيته ، قال الله تعالى : "لئن آتانا من فضله لنصدقن" . وأتيته ـ بالقصر من غير مد ـ جئته ، فإذا كان المجيء بمعنى الاستقبال مد ، ومنه حديث :
"ولآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأخبرنه" . وسيأتي .
الثالثة : الزكاة مأخوذة من زكا الشيء إذا نما وزاد ، يقال : زكا الزرع والمال يزكوا ، إذا كثر وزاد . وجل زكي ، أي زائد الخير . وسمي الإخراج من المال زكاة وهو نقص منه من حيث ينمو بالبركة أو بالأجر الذي يثاب به المزكي . ويقال : زرع زاك بين الزكاء . وزكأت الناقة بولدها تزكأ به : إذا رمت به من بين رجليها . وزكا الفرد : إذا صار زوجاً بزيادة الزائد عليه حتى صار شفعاً . قال الشاعر :
كانوا خسا أو زكا من دون أربعة لم يخلقوا وجدود الناس تعتلج
جمع جد ، وهو الخط والبخت . تعتلج أي ترتفع . اعتلجت الأرض : طال نباتها . و خسا : الفرد ، وزكا : الزوج .
وقيل : أصلها الثناء الجميل ، ومنه زكى القاضي الشاهد . فكأن من يخرج الزكاة يحصل لنفسه الثناء الجميل . وقيل : الزكاة مأخوذة من التطهير ، كما يقال : زكا فلان ، أي طهر من دنس الجرحة والإغفال . فكأن الخارج من المال يطهره من تبعة الحق الذي جعل الله فيه للمساكين . ألا ترى أن النبي سمى ما يخرج من الزكاة أوساخ الناس ، وقد قال تعالى : "خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها"
الرابعة : واختلف في المراد بالزكاة هنا ، فقيل : الزكاة المفروضة ، لمقارنتها بالصلاة . وقيل : صدقة الفطر ، قال مالك في سماع ابن القاسم .
قلت : فعلى الأول ـ وهو قول أكثر العلماء ـ فالزكاة في الكتاب مجملة بينها النبي صلى الله عليه وسلم ، فروى الأئمة عن ابي سعيد الخدري ان النبي صلى الله عليه وسلم قال :
"ليس في حب ولا تمر صدقة حتى يبلغ خمسة أوسق ولا فيما دون خمس ذود صدقة ولا فيما دون خمس أواق صدقة" . وقال البخاري : "خمس أواق من الورق" . وروى البخاري عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريا العشر وما سقي بالنضح نصف العشر" . وسيأتي بيان هذا الباب في الأنعام إن شاء الله تعالى . ويأتي في براءة زكاة العين والماشية ، وبيان المال الذي لا يؤخذ منه زكاة عند قوله تعالى : "خذ من أموالهم صدقة" . وأما زكاة الفطر فليس لها في الكتاب نص عليها إلا ما تأوله مالك هنا ، وقوله تعالى : "قد أفلح من تزكى * وذكر اسم ربه فصلى" . والمفسرون يذكرون الكلام عليها في سورة الأعلى ، ورأيت الكلام عليها في هذه السورة عند كلامنا على آي الصيام ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
فرض زكاة الفطر في رمضان ، الحديث . وسيأتي ، فأضافها إلى رمضان .
الخامسة : قوله تعالى : "واركعوا" الركوع في اللغة الأنحناء بالشخص ، وكل منحن راكع . قال لبيد :
أخبر أخبار القرون التي مضت أدب كأني كلما قمت راكع
وقال ابن دريد : الركعة الهوة في الأرض ، لغة يمانية . وقيل : الانحناء يعم الركوع والسجود ، ويستعار أيضاً في الانحطاط في المنزلة . قال :
ولا تعاد الضعيف علك أن تركع يوما والدهر قد رفعه
السادسة : واختلف الناس في تخصيص الركوع بالذكر ، فقال قوم : جعل الركوع لما كان من أركان الصلاة عبارة عن الصلاة .
قلت : وهذا ليس مختصاً بالركوع وحده ، فقد جعل الشرع القراءة عبارة عن الصلاة ، والسجود عبارة عن الركعة بكمالها ، فقال : "وقرآن الفجر" أي صلاة الفجر ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"من أدرك سجدة من الصلاة فقد أدرك الصلاة" . وأهل الحجاز يطلقون على الركعة سجدة . وقيل : إنما خص الركوع بالذكر لأن بني إسرائيل لم يكن في صلاتهم ركوع . وقيل : لأنه كان أثقل على القوم في الجاهلية ، حتى لقد قال بعض من أسلم ـ أظنه عمران بن حصين ـ للنبي صلى الله عليه وسلم : على ألا أخر إلا قائماً . فمن تأويله على ألا أركع ، فلما تمكن الإسلام من قلبه اطمأنت بذلك نفسه وامتثل ما أمر به من الركوع .
السابعة : الركوع الشرعي هو أن يحني الرجل صلبه ويمد ظهره وعنقه ويفتح اصابع يديه ويقبض عل ركبتيه ثم يطمئن راكعاً يقول : سبحان ربي العظيم ثلاثاً ، وذلك أدناه . روى مسلم عن عائشة قالت :
"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين ، وكان إذا ركع لم يشخص رأيه ولم يصوبه ولكن بين ذلك" . وروى البخاري " عن أبي حميد الساعدي قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كبر جعل يديه حذو منكبيه ، وإذا ركع أمكن يديه من ركبتيه ثم هصر ظهره " ، الحديث .
الثامنة : الركوع فرض ، قرآنا وسنة ، وكذلك السجود ، لقوله تعالى في آخر الحج : "اركعوا واسجدوا" . وزادت السنة الطمأنينة فيهما والفصل بينهما . وقد تقدم القول في ذلك ، وبينا صفة الركوع آنفاً . وأما السجود فقد جاء مبيناً من حديث أبي حميد الساعدي "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد مكن جبهته وأنفه من الأرض ونحى يديه عن جنبيه ووضع كفيه حذو منكبيه" . خرجه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح . وروى مسلم عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"اعتدلوا في السجود ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب" . وعن البراء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"إذا سجدت فضع كفيك وارفع مرفقيك" . وعن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت :
"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد خوى بيديه ـ يعني جنح حتى يرى وضح إبطيه من ورائه ـ وإذا قعد اطمأن على فخذه اليسرى" .
التاسعة : واختلف العلماء فيمن وضع جبهته في السجود دون أنفه أو أنفه دون جبهته ، فقال مالك : يسجد على جبهته وأنفه ، وبه قال الثوري و أحمد ، وهو قول النخعي . قال أحمد : لا يجزئه السجود على أحدهما دون الآخر ، وبه قال أبو خيثمة و ابن أبي شيبة . قال إسحاق : إن سجد على أحدهما دون الآخر فصلاته فاسدة . وقال الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز ، وروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير و عكرمة وعبد الرحمن بن أبي ليلى كلهم أمر بالسجود على الأنف . وقالت طائفة : يجزىء أن يسجد على جبهته دون أنفه ، هذا قول عطاء وطاوس و عكرمة و ابن سيرين و الحسن البصري ، وبه قال الشافعي و أبو ثور و يعقوب و محمد . قال ابن المنذر : وقال قائل : إن وضع جبهته ولم يضع أنفه أو وضع أنفه ولم يضع جبهته فقد أساء وصلاته تامة ، هذا قول النعمان . قال ابن المنذر : ولا أعلم أحداً سبقه إلى هذا القول ولا تابعه عليه .
قلت : الصحيح في السجود وضع الجبهة والأنف ، لحديث ابي حميد ، وقد تقدم . وروى البخاري عن ابن عباس قال " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمرت أن أسجد على سبعة أعظم على الجبهة ـ وأشار بيده إلى أنفه ـ واليدين والركبتين وأطراف القدمين ولا نكفت الثياب والشعر" . وهذا كله بيان لمجمل الصلاة ، فتعين القول به . والله أعلم وروي عن مالك أنه يجزيه أن يسجد على جبهته دون أنفه ، كقول عطاء و الشافعي . والمختار عندنا قوله الأول ، ولا يجزىء عند مالك إذا لم يسجد على جبهته .
العاشرة : ويكره السجود على كور العمامة ، وإن كان طاقة أو طاقتين ، مثل الثياب التي تستر الركب والقدمين فلا بأس ، والأفضل مباشرة الأرض أو ما يسجد عليه . فإن كان هناك ما يؤذيه أزاله قبل دخوله في الصلاة ، فإن لم يفعل فليمسحه مسحة واحدة . وروى مسلم عن معيقيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الرجل يسوي التراب حيث يسجد قال :
"إن كنت فاعلا فواحدة" . وروي عن أنس بن مالك قال :
كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شدة الحر ، فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكن حبهته من الأرض بسط ثوبه فسجد عليه .
الحادية عشرة : لما قال تعالى : "اركعوا واسجدوا" قال بعض علمائنا وغيرهم : يكفي منها ما يسمى ركوعاً وسجوداً ، وكذلك من القيام ولم يشترطوا الطمأنينة في ذلك ، فأخذوا بأقل الإسم في ذلك ، وكأنهم لم يسمعوا الأحاديث الثابتة في إلغاء الصلاة . قال ابن عبد البر : ولا يجزىء ركوع ولا سجود ولا وقوف بعد الركوع ، ولا جلوس بين السجدتين حتى يعتدل راكعاً وواقفاً وساجداً وجالساً . وهو الصحيح في الأثر ، وعليه جمهور العلماء وأهل النظر ، وهي رواية ابن وهب وأبي مصعب عن مالك وقال القاضي أبو بكر بن العربي : وقد تكاثرت الرواية عن ابن القاسم وغيره بوجوب الفصل وسقوط الطمأنينة ، وهو وهم عظيم ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها وأمر بها وعلمها . فإن كان لابن القاسم عذر أن كان لم يطلع عليها فما لكم أنتم وقد انتهى العلم إليكم وقامت الحجة به عليكم ! روى النسائي و الدار قطني وعلي بن عبد العزيز " عن رفاعة بن رافع قال : كنت جالساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل فدخل المسجد فصلى ، فلما قضى الصلاة جاء فسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى القوم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ارجع فصل فإنك لم تصل ، وجعل الرجل يصلي وجعلنا نرمق صلاته لا ندري ما يعيب منها ، فلما جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى القوم ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : وعليك ارجع فصل فإنك لم تصل . قال همام : فلا ندري ، أمره بذلك مرتين أو ثلاثاً ، فقال له الرجل : ما ألوت ، فلا أدري ما عبت علي من صلاتي ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنه لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ويمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين ثم يكبر الله تعالى ويثني عليه ثم يقرأ أم القرآن وما أذن له فيه وتيسر ثم يكبر فيركع فيضع كفيه على ركبتيه حتى تطمئن مفاصله ويسترخي ثم يقول سمع الله لمن حمده ويستوي قائماً حتى يقيم صلبه ويأخذ كل عظم مأخذه ثم يكبر فيسجد فيمكن وجهه ـ قال همام : وربما قال : جبهته ـ من الأرض حتى تطمئن مفاصله ويسترخي ثم يكبر فيستوي قاعداً على مقعده ويقيم صلبه ـ فوصف الصلاة هكذا أربع ركعات حتى فرغ ، ثم قال : ـ لا تتم صلاة أحدكم حتى يفعل ذلك" . ومثله حديث أبي هريرة خرجه مسلم ، وقد تقدم .
قلت : فهذا بيان الصلاة المجملة في الكتاب بتعليم النبي عليه السلام وتبليغه إياها جميع الأنام ، فمن لم يقف عند هذا البيان وأخل بما فرض عليه الرحمن ، ولم يمتثل ما بلغه عن نبيه عليه السلام كان من جملة من دخل في قوله تعالى : " فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات " على ما يأتي بيانه هناك إن شاء الله تعالى . روى البخاري عن زيد بن وهب قال :
رأى حذيفة رجلاً لا يتم الركوع ولا السجود فقال : ما صليت ولو مت لمت على غير الفطرة التي فطر الله عليها محمداً صلى الله عليه وسلم .
الثانية عشرة : قوله تعالى : "مع الراكعين" مع تقتضي المعية والجمعية ، ولهذا قال جماعة من أهل التأويل بالقرآن : إن الأمر بالصلاة أولا لم يقتض شهود الجماعة ، فأمرهم بقوله مع شهود الجماعة . وقد اختلف العلماء في شهود الجماعة على قولين ، فالذي عليه الجمهور أن ذلك من السنن المؤكدة ، ويجب على من أدمن التخلف عنها من غير عذر العقوبة . وقد أوجبها بعض أهل العلم فرضاً على الكفاية . قال ابن عبد البر : وهذا قول صحيح ، لإحماعهم على أنه لا يجوز أن يجتمع على تعطيل المساجد كلها من الجماعات . فإذا قامت الجماعة في المسجد فصلاة المنفرد في بيته جائزة ، لقوله عليه السلام :
"صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة" . أخرجه مسلم من حديث ابن عمر . وروى عن ابي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
"صلاة الجماعة أفضل من صلاة أحدكم وحده بخمسة وعشرين جزءا" . وقال داود الصلاة في الجماعة فرض على كل أحد في خاصته كالجمعة ، واحتج بقوله عليه السلام :
"لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد" خرجه أبو داود وصححه أبو محمد عبد الحق ، وهو قول عطاء بن أبي رباح و أحمد بن حنبل و أبي ثور وغيرهم .
وقال الشافعي : لا أرخص لمن قدر على الجماعة في ترك إتيانها إلا من عذر ، حكاه ابن المنذر . وروى مسلم عن ابي هريرة قال :
"أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمى فقال : يا رسول الله ، إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد ، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرخص به فيصلي في بيته ، فرخص له ، فلما ولى دعاه فقال : هل تسمع النداء بالصلاة قال نعم ، قال فأجب" . وقال أبو داود في هذا الحديث :
"لا أجد لك رخصة" . خرجه من حديث ابن أم مكتوم ، وذكر أنه كان هو السائل . وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من سمع النداء فلم يمنعه من إتيانه عذر ـ قالوا : وما العذر ؟ قال : خوف أو مرض ـ لم تقبل منه الصلاة التي صلى" . قال ابو محمد عبد الحق : هذا يرويه مغراء العبدي . والصحيح موقوف على ابن عباس : "من سمع النداء فلم يأت فلا صلاة له" . على أن قاسم بن أصبغ ذكره في كتابه فقال : حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي ، قال حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا شعبة عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر" . وحسبك بهذا الإسناد صحة . ومغراء العبدي روى عنه أبو اسحاق . وقال ابن مسعود : ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق . و" قال عليه السلام : بيننا وبين المنافقين شهود العتمة والصبح لا يستطيعونهما " . قال ابن المنذر : ولقد روينا عن غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا : من سمع النداء فلم يجب من عذر فلا صلاة له منهم ابن مسعود وأبو موسى الأشعري . وروى أبو دواد عن أبي هريرة قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد هممت أن آمر فتيتي فيجمعوا حزماً من حطب ثم آتي قوماً يصلون في بيوتهم ليست لهم علة فأحرقها عليهم" . هذا ما احتج به من أوجب الصلاة في الجماعة فرضاً ، وهي ظاهرة في الوجوب ، وحملها الجمهور على تأكيد أمر شهود الصلوات في الجماعة ، بدليل حديث ابن عمر وأبي هريرة . وحملوا قول الصحابة وما جاء في الحديث من أنه "لا صلاة له" على الكمال والفضل ، وكذلك قوله عليه السلام لابن أم مكتوم : "فأوجب" على الندب . وقوله عليه السلام : "لقد هممت" لا يدل على الوجوب الحتم ، لأنه هم ولم يفعل ، وإنما مخرجة مخرج التهديد والوعيد للمنافقين الذين كانوا يتخلفون عن الجماعة والجمعة . يبين هذا المعنى ما رواه مسلم عن عبد الله قال :
من سره أن يلقى الله غدا مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن ، فإن الله شرع لنبيكم صلى الله عليه وسلم سنن الهدى ، وإنهن من سنن الهدى ، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم ، ولو تركتم سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم لضللتم ، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة ويرفعه بها درجة ويحط عنه بها سيئة ، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق ، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف . فبين رضي الله عنه في حديثه أن الاجتماع سنة من سنن الهدى وتركه ضلال ، ولهذا قال القاضي أبو الفضل عياض : اختلف في التمالؤ على ترك ظاهر السنن ، هل يقاتل عليها أو لا ؟ والصحيح قتالهم ، لأن في التمالؤ عليها إماتتها .
قلت : فعلى هذا إذا أقيمت السنة وظهرت جازت صلاة المنفرد وصحت . روى مسلم " عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته في بيته وصلاته في سوقه بضعاً وعشرين درجة وذلك أن أحدهم إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى المسجد لا ينهزه إلا الصلاة ، لا يريد إلا الصلاة ، فلم يخط خطوة إلا رفع له بها درجة وحط عنه بها خطيئة حتى يدخل المسجد فإذا دخل المسجد كان في الصلاة ما كانت الصلاة هي تحبسه . والملائكة يصلون على أحدكم ما دام في مجلسه الذي صلى فيه يقولون : اللهم ارحمه اللهم اغفر له اللهم تب عليه ما لم يؤذ فيه ما لم يحدث فيه . قيل لأبي هريرة : ما يحدث ؟ قال : يفسو أو يضرط ".
الثالثة عشرة : واختلف العلماء في هذا الفضل المضاف للجماعة ، هل لأجل الجماعة فقط حيث كانت ، أو إنما يكون ذلك الفضل للجماعة التي تكون في المسجد ، لما يلازم ذلك من أفعال تختص بالمساجد كما جاء في الحديث ، قولان : والأول أظهر ، لأن الجماعة هو الوصف الذي علق عليه الحكم . والله أعلم . وما كان من إكثار الخطا إلى المساجد وقصد الإتيان إليها والمكث فيها فذلك زيادة ثواب خارج عن فضل الجماعة . والله أعلم .
الرابعة عشرة :واختلفوا ايضاً هل تفضل جماعة بالكثرة وفضيلة الإمام ؟ فقال مالك : لا . وقال ابن حبيب : نعم ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
" صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل وما كثر فهو أحب إلى الله" . رواه ابي بن كعب وأخرجه أبو داود ، وفي إسناده لين .
يقول تعالى ناهياً لليهود عما كانوا يتعمدونه من تلبيس الحق بالباطل، وتمويهه به، وكتمانهم الحق، وإظهارهم الباطل: "ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون" فنهاهم عن الشيئين معاً، وأمرهم بإظهار الحق والتصريح به، ولهذا قال الضحاك عن ابن عباس ـ ولا تلبسوا الحق بالباطل: لا تخلطوا الحق بالباطل، والصدق بالكذب. وقال أبو العالية ـ ولا تلبسوا الحق بالباطل ـ يقول، ولا تخلطوا الحق بالباطل، وأدوا النصيحة لعباد الله من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ويروى عن سعيد بن جبير والربيع بن أنس نحوه وقال قتادة "ولا تلبسوا الحق بالباطل" ولا تلبسوا اليهودية والنصرانية بالإسلام، وأنتم تعلمون أن دين الله الاسلام، وأن اليهودية والنصراينة بدعة ليست من الله، وروي عن الحسن البصري نحو ذلك، وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس "وتكتموا الحق وأنتم تعلمون" أي لا تكتموا ما عندكم من المعرفة برسولي وبما جاء به وأنتم تجدونه مكتوباً عندكم فيما تعلمون من الكتب التي بأيديكم، وروي عن أبي العالية نحو ذلك وقال مجاهد والسدي وقتادة والربيع بن أنس "وتكتموا الحق" يعني محمداً صلى الله عليه وسلم (قلت) وتكتموا يحتمل أن يكون مجزوماً، ويحتمل أن يكون منصوباً، أي لا تجمعوا بين هذا وهذا كما يقال: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، قال الزمخشري: وفي مصحف ابن مسعود وتكتمون الحق أي في حال كتمانكم الحق وأنتم تعلمون حال أيضاً، ومعناه وأنتم تعلمون الحق، ويجوز أن يكون المعنى: وأنتم تعلمون ما في ذلك من الضرر العظيم على الناس من إضلالهم عن الهدى المفضي بهم إلى النار إلى أن سلكوا ما تبدونه لهم من الباطل المشوب بنوع من الحق لتروجوه عليهم، والبيان الإيضاح وعكسه الكتمان وخلط الحق بالباطل "وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين" قال مقاتل: قوله تعالى لأهل الكتاب "وأقيموا الصلاة" أمرهم أن يصلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم "وآتوا الزكاة" أمرهم أن يؤتوا الزكاة أي يدفعونها إلى النبي صلى الله عليه وسلم "واركعوا مع الراكعين" أمرهم أن يركعوا مع الراكعين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، يقول: كونوا معهم ومنهم، وقال علي بن طلحة عن ابن عباس: يعني بالزكاة طاعة الله والإخلاص، وقال وكيع عن أبي جناب عن عكرمة عن ابن عباس في قوله: وآتوا الزكاة، قال: ما يوجب الزكاة ؟ قال: مائتان فصاعداً، وقال مبارك بن فضالة عن الحسن في قوله تعالى "وآتوا الزكاة" قال: فريضة واجبة لا تنفع الأعمال إلا بها وبالصلاة، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن أبي حيان التيمي عن الحارث العكلي في قوله تعالى "وآتوا الزكاة" قال: صدقة الفطر، وقوله تعالى: "واركعوا مع الراكعين" أي وكونوا مع المؤمنين في أحسن أعمالهم، ومن أخص ذلك وأكمله الصلاة، وقد استدل كثير من العلماء بهذه الاية على وجوب الجماعة، وأبسط ذلك في كتاب الأحكام الكبير إن شاء الله تعالى، وقد تكلم القرطبي على مسائل الجماعة والإمامة فأجاد .
قد تقدم الكلام في تفسير إقامة الصلاة واشتقاقها، والمراد هنا الصلاة المعهودة، وهي صلاة المسلمين على أن التعريف للعهد، ويجوز أن تكون للجنس، ومثلها الزكاة. والإيتاء: الإعطاء يقال آتيته: أي أعطيته. والزكاة مأخوذة من الزكاة، وهو النماء، زكا الشيء: إذا نما وزاد، ورجل زكي: أي زائد الخير، وسمي إخراج جزء من المال زكاة: أي زيادة مع أنه نقص منه، لأنها تكثر بركته بذلك، أو تكثر أجر صاحبه، وقيل: الزكاة مأخوذة من التطهير، كما يقال زكا فلان: أي طهر.
والظاهر أن الصلاة والزكاة والحج والصوم ونحوها قد نقلها الشرع إلى معان شرعية هي المرادة بما هو مذكور في التاب والسنة منها. وقد تكلم أهل العلم على ذلك بما لا يتسع المقام لبسطه. وقد اختلف أهل العلم في المراد بالزكاة هنا، فقيل المراد المفروضة لاقترانها بالصلاة، وقيل: صدقة الفطر، والظاهر أن المراد ما هو أعم من ذلك. والركوع في اللغة: الانحناء، وكل منحن راكع، قال لبيد:
أخبر أخبار القرون التي مضت أدب كأني كلما قمت راكع
وقيل: الانحناء يعم الركوع والسجود، ويستعار الركوع أيضاً للإنحطاط في المنزلة، قال الشاعر:
لا تهين الفقير علك أن تركع يوماً والدهر قد رفعه
وإنما خص الركوع بالذكر هنا، لأن اليهود لا ركوع في صلاتهم، وقيل: لكونهكان ثقيلاً على أهل الجاهلية وقيل: إنه أراد بالركوع جميع أركان الصلاة. والركوع الشرعي: هو أن ينحني الرجل ويمد ظهره وعنقه ويفتح أصابع يديه ويقبض على ركبتيه ثم يطمئن راكعاً ذاكراً بالذكر المشروع. وقوله: 43- "مع الراكعين" فيه الإرشاد إلى شهود الجماعة والخروج إلى المساجد. وقد ورد في ذلك من الأحاديث الصحيحة الثابتة في الصحيحين وغيرهما ما هو معروف. وقد أوجب حضور الجماعة بعض أهل العلم على خلاف بينهم في كون ذلك عيناً أو كفاية، وذهب الجمهور إلى أنه سنة مؤكدة مرغب فيها وليس بواجب، وهو الحق للأحاديث الصحيحة الثابتة عن جمعاعة من الصحابة، من أن صلاة الجماعة تفضل صلاة الفرد بخمس وعشرين درجة أو بسبع وعشرين درجة. وثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم الذي يصلي مع الإمام أفضل من الذي يصلي وحده ثم ينام. والبحث طويل الذيول، كثير النقول.
43. " وأقيموا الصلاة " يعني الصلوات الخمس بمواقيتها وحدودها " وآتوا الزكاة " أدوا زكاة أموالكم المفروضة. والزكاة مأخزذة من زكا الزرع إذا نما وكثر. وقيل: من تزكى أي تطهر، وكلا المعنيين موجود في الزكاة، لأن فيها تطهيراً وتنمية للمال " واركعوا مع الراكعين " أي صلوا مع المصلين: محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وذكر بلفظ الركوع لأنه ركن من أركان الصلاة، ولأن صلاة اليهود لم يكن فيها ركوع، فكأنه قال: صلوا صلاة ذات ركوع، قيل: إعادته بعد قوله " وأقيموا الصلاة " لهذا، أي صلوا مع الذين في صلاتهم ركوع، فالأول مطلق في حق الكل، وهذا في حق أقوام مخصوصين. وقيل: هذا حث على إقامة الصلاة جماعة كأنه قال لهم: صلوا مع المصلين الذين سبقوكم بالإيمان.
43-" وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة " يعني صلاة المسلمين وزكاتهم فإن فيرهما كلا صلاة وزكاة . أمرهم بفروع الإسلام بعد ما أمرهم بأصوله ، وفيه دليل على أن الكفار مخاطبون بها . و " الزكاة " من زكا الزرع ، إذا نما ، فإن إخراجها يستجلب بركة في المال ويثمر للنفس فضيلة الكرم . أو من الزكاة بمعنى : الطهارة ، فإنها تطهر المال من الخبث والنفس من البخل .
" واركعوا مع الراكعين " أي في جماعتهم ، فإن " صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة " لما فيها من تظاهر النفوس ، وعبر عن الصلاة بالركوع احترازاً عن صلاة اليهود .وقيل الركوع : الخضوع والانقياد لما يلزمهم الشارع ، قال الأضبط السعدي :
لا تذل الضعيف علك أن تر كع يوماً والدهر قد رفعه
43. Establish worship, pay the poor-due, and bow your heads with those who bow (in worship).
43 - And by steadfast in prayer; practise regular charity; and bow down your head with those who bow down (in worship).