[البقرة : 42] وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ
(ولا تلبسوا) تخلطوا (الحق) الذي أنزلت عليكم (بالباطل) الذي تفترونه ولا (وتكتموا الحق) نعت محمد (وأنتم تعلمون) أنه الحق
قال أبو جعفر: يعني بقوله: "ولا تلبسوا"، لا تخلطوا. واللبس هو الخلط. يقال منه: لبست عليه هذا الأمر ألبسه لبسًا: إذا خلطته عليه. كما:
حدثت عن المنجاب، عن بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، في قوله: "وللبسنا عليهم ما يلبسون" (الأنعام: 9) يقول: لخلطنا عليهم ما يخلطون. ومنه قول العجاج:
لما لبسن الحق بالتجني غنين واستبدلن زيدًا مني
يعني بقوله: لبسن، خلطن. وأما اللبس فإنه يقال منه: لبسته ألبسه لبسًا وملبسًا، وذلك الكسوة يكتسيها فيلبسها. ومن اللبس قول الأخطل:
لقد لبست لهذا الدهر أعصره حتى تجلل راسي الشيب واشتعلا
ومن اللبس قول الله جل ثناؤه: "وللبسنا عليهم ما يلبسون" (الأنعام: 9).
فإن قال لنا قائل: وكيف كانوا يلبسون الحق بالباطل وهم كفار؟ وأي حق كانوا عليه مع كفرهم بالله؟
قيل: إنه كان فيهم منافقون منهم يظهرون التصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم ويستبطنون الكفر به. وكان عظمهم يقولون: محمد نبي مبعوث، إلا أنه مبعوث إلى غيرنا. فكان لبس المنافق منهم الحق بالباطل، إظهاره الحق بلسانه، وإقراره بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به جهارًا، وخلطه ذلك الظاهر من الحق بما يستبطنه. وكان لبس المقر منهم بأنه مبعوث إلى غيرهم، الجاحد أنه مبعوث إليهم، إقراره بأنه مبعوث إلى غيرهم، وهو الحق، وجحوده أنه مبعوث إليهم، وهو الباطل، وقد بعثه الله إلى الخلق كافة. فذلك خلطهم الحق بالباطل ولبسهم إياه به. كما:
حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قوله:"ولا تلبسوا الحق بالباطل"، قال: لا تخلطوا الصدق بالكذب.
وحدثني المثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: "ولا تلبسوا الحق بالباطل "، يقول: لا تخلطوا الحق بالباطل، وأدوا النصيحة لعباد الله في أمر محمد صلى الله عليه وسلم.
وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج، قال مجاهد: "ولا تلبسوا الحق بالباطل "، اليهودية والنصرانية بالإسلام.
وحدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: "ولا تلبسوا الحق بالباطل"، قال: الحق، التوراة الذي أنزل الله على موسى، والباطل الذي كتبوه بأيديهم.
القول في تأويل قوله تعالى ذكره: "وتكتموا الحق وأنتم تعلمون".
قال أبرجعفر: وفي قوله "وتكتموا الحق"، وجهان من التأويل:
أحدهما: أن يكون الله جل ثناؤه نهاهم عن أن يكتموا الحق، كما نهاهم أن يلبسوا الحق بالباطل. فيكون تأويل ذلك حينئذ: ولا تلبسوا الحق بالباطل ولا تكتموا الحق. ويكون قوله: "وتكتموا" عند ذلك مجزومًا بما جزم به تلبسوا، عطفًا عليه.
والوجه الآخر منهما: أن يكون النهي من الله جل ثناؤه لهم عن أن يلبسوا الحق بالباطل، ويكون قوله: "وتكتموا الحق" خبرًا منه عنهم بكتمانهم الحق الذي يعلمونه، فيكون قوله: "وتكتموا" حينئذ منصوبًا لانصرافه عن معنى قوله:"ولا تلبسوا الحق بالباطل"، إذ كان قوله:"ولا تلبسوا" نهيًا، وقوله"وتكتموا الحق" خبرًا معطوفًا عليه، غير جائز أن يعاد عليه ما عمل في قوله "تلبسوا" من الحرف الجازم. وذلك هو المعنى الذي يسميه النحويون صرفًا. ونظير ذلك في المعنى والإعراب قول الشاعر:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله عارعليك إذافعلت عظيم
فنصب تأتي على التأويل الذي قلنا في قوله: "وتكتموا"، لأنه لم يرد: لا تنه عن خلق ولا تأت مثله، وإنما معناه: لا تنه عن خلق وأنت تأتي مثله، فكان الأول نهيًا، والثاني خبرًا، فنصب الخبر إذ عطفه على غير شكله. فأما الوجه الأول من هذين الوجهين اللذين ذكرنا أن الآية تحتملهما، فهوعلى مذهب ابن عباس الذي:
حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قوله: "وتكتموا الحق"، يقول: ولا تكتموا الحق وأنتم تعلمون.
وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن ابن إسحق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: "وتكتموا الحق"، أي ولا تكتموا الحق.
وأما الوجه الثاني منهما، فهو على مذهب أبي العالية ومجاهد.
حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: "وتكتموا الحق وأنتم تعلمون"، قال: كتموا بعث محمد صلى الله عليه وسلم.
وحدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه.
وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه.
وأما تأويل الحق الذي كتموه وهم يعلمونه، فهو ما:
حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: "وتكتموا الحق"، يقول: لا تكتموا ما عندكم من المعرفة برسولي وما جاء به، وأنتم تجدونه عندكم فيما تعلمون من الكتب التي بأيديكم.
وحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: "وتكتموا الحق"، يقول: إنكم قد علمتم أن محمدًا رسول الله، فنهاهم عن ذلك.
وحدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: "وتكتموا الحق وأنتم تعلمون"، قال: يكتم أهل الكتاب محمدًا صلى الله عليه وسلم، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل.
وحدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
وحدثني موسى بن هرون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: "وتكتموا الحق وأنتم تعلمون"، قال: الحق هو محمد صلى الله عليه وسلم.
وحدثني المثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: "وتكتموا الحق وأنتم تعلمون"، قال: كتموا بعث محمد صلى الله عليه وسلم، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم.
وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: تكتموا محمدًا وأنتم تعلمون، وأنتم تجدونه عندكم في التوراة والإنجيل.
فتأويل الآية إذًا: ولا تخلطوا على الناس أيها الأحبار من أهل الكتاب في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند ربه، وتزعموا أنه مبعوث إلى بعض أجناس الأمم دون بعض، أو تنافقوا في أمره، وقد علمتم أنه مبعوث إلى جميعكم وجميع الأمم غيركم، فتخلطوا بذلك الصدق بالكذب، وتكتموا به ما تجدونه في كتابكم من نعته وصفته، وأنه رسولي إلى الناس كافة، وأنتم تعلمون أنه رسولي، وأن ما جاء به إليكم فمن عندي، وتعرفون أن من عهدي الذي أخذت عليكم في كتابكم الإيمان به وبما جاء به والتصديق به.
قوله تعالى : "ولا تلبسوا الحق بالباطل" اللبس : الخلط . لبست عليه الأمر ألبسه ، إذا مزجت بينه بمشلكة وحقه بباطله ، قال الله تعالى : "وللبسنا عليهم ما يلبسون" . وفي الأمر لبسه ، أي ليس بواضح . ومن هذا المعنى قول علي رضي الله عنه للحارث بن حوط : يا حارث إنه ملبوس عليك ، إن الحق لا يعرف بالرجال ، اعرف الحق تعرف أهله . وقالت الخنساء .
ترى الجليس يقول الحق تحسبه رشدا وهيهات فانظر ما به التبسا
صدق مقالته واحذر عداوته والبس عليه أمورا مثل ما لبسا
وقال العجاج :
لما لبسن الحق بالتجني غنين واستبدلن زيدا مني
روى سعيد عن قتادة في قوله : "ولا تلبسوا الحق بالباطل" ، يقول : لا تلبسوا اليهودية والنصرانية بالإسلام ، وقد علمتم أن دين الله ـ الذي لا يقبل غيره ولا يجزى إلا به ـ الإسلام ، وأن اليهودية والنصرانية بدعة وليست من الله . والظاهر من قول عنترة :
وكتيبة لبستها بكتيبة
أنه من هذا المعنى ، ويحتمل أن يكون من اللباس . وقد قيل هذا في معنى الآية ، أي لا تغطوا . ومنه لبس الثوب ، يقال : لبست الثوب ألبسه . ولباس الرجل زوجته ، وزوجها لباسها . قال الجعدي :
إذا ما الضجيع ثنى جيدها تثنت عليه فكانت لباسا
وقال الأخطل :
وقد لبست لهذا الأمر أعصره حتى تجلل رأسي الشيب فاشتعلا
واللبوس : كل ما يلبس من ثياب ودرع ، قال الله تعالى : "وعلمناه صنعة لبوس لكم" . ولابست فلاناً حتى عرفت باطنه . وفي فلان ملبس ، أي مستمتع . قال :
ألا إن بعد العدم للمرء قنوة وبعد المشيب طول عمر وملبسا .
ولبس الكعبة والهودج : ما عليهما من لباس ( بكسر اللام ) .
قوله تعالى : "بالباطل" الباطل في كلام العرب خلاف الحق ، ومعناه الزائل . قال لبيد :
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
وبطل الشيء يبطل بطلا وبطولا وبطلانا ذهب ضياعاً وخسراً وأبطله غيره . ويقال : ذهب دمه بطلاً ، أي هدراً . والباطل : الشيطان . والبطل : الشجاج ، سمي بذلك لأنه يبطل شجاعة صاحبه . قال النابغة :
لهم لواء بأيدي ماجد بطل لا يقطع إلا طرفه سامي
والمرأة بطلة . وقد بطل الرجل ( بالضم ) يبطل بطولة وبطالة ، أي صار شجاعاً. وبطل الأجير ( بالفتح ) بطالة ، أي تعطل ، فهو بطال . واختلف أهل التأويل في المراد بقوله : "الحق بالباطل" ، فروي عن ابن عباس وغيره : لا تخلطوا ما عندكم من الحق في الكتاب بالباطل ، وهو التغيير والتبديل . وقال أبو العالية : قالت اليهود : محمد مبعوث ولكن إلى غيرنا . فإقرارهم ببعثه حق ، وجحدهم أنه بعث إليهم باطل . وقال ابن زيد : المراد بالحق التوارة ، والباطل ما بدلوا فيها من ذكر محمد عليه السلام وغيره . وقال مجاهد : لا تخلطوا اليهودية والنصرانية بالإسلام . وقاله قتادة ، وقد تقدم .
قلت : وقول ابن عباس أصوب ، لأنه عام فيدخل فيه جميع الأقوال . والله المستعان .
قوله تعالى : "وتكتموا الحق" يجوز أن يكون معطوفاً على تلبسوا فيكون مجزوماً ، ويجوز أن يكون منصوباً بإضمار أن ، التقدير : لا يكن منك لبس الحق وكتمانه ، أي وأن تكتموه . قال ابن عباس : يعني كتمانهم أمر النبي صلى الله عليه وسلم وهم يعرفونه . وقال محمد بن سيرين : نزل عصابة من ولد هارون يثرب لما أصاب بني إسرائيل ما أصابهم من ظهور العدو عليهم والذلة ، وتلك العصابة هم حملة التوارة يومئذ ، فأقموا بيثرب يرجون أن يخرج محمد صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم ، وهم مؤمنون مصدقون بنبوته ، فمضى أولئك الاباء وهم مؤمنون وخلف الأبناء وأبناء والأبناء فأدركوا محمداً صلى الله عليه وسلم فكفروا به وهم يعرفونه ، وهو معنى قوله : "فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به" .
قوله تعالى : "وأنتم تعلمون" جملة في موضع الحال ، أي أن محمداً عليه السلام حق ، فكفرهم كان كفر عناد ، ولم يشهد تعالى لهم بعلم ، وإنما نهاهم عن كتمان ما علموا . ودل هذا على تغليظ الذنب على من واقعه على علم وأنه أعصى من الجاهل .
وسيأتي بيان هذا عند قوله تعالى : "أتأمرون الناس بالبر" . الآية .
يقول تعالى ناهياً لليهود عما كانوا يتعمدونه من تلبيس الحق بالباطل، وتمويهه به، وكتمانهم الحق، وإظهارهم الباطل: "ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون" فنهاهم عن الشيئين معاً، وأمرهم بإظهار الحق والتصريح به، ولهذا قال الضحاك عن ابن عباس ـ ولا تلبسوا الحق بالباطل: لا تخلطوا الحق بالباطل، والصدق بالكذب. وقال أبو العالية ـ ولا تلبسوا الحق بالباطل ـ يقول، ولا تخلطوا الحق بالباطل، وأدوا النصيحة لعباد الله من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ويروى عن سعيد بن جبير والربيع بن أنس نحوه وقال قتادة "ولا تلبسوا الحق بالباطل" ولا تلبسوا اليهودية والنصرانية بالإسلام، وأنتم تعلمون أن دين الله الاسلام، وأن اليهودية والنصراينة بدعة ليست من الله، وروي عن الحسن البصري نحو ذلك، وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس "وتكتموا الحق وأنتم تعلمون" أي لا تكتموا ما عندكم من المعرفة برسولي وبما جاء به وأنتم تجدونه مكتوباً عندكم فيما تعلمون من الكتب التي بأيديكم، وروي عن أبي العالية نحو ذلك وقال مجاهد والسدي وقتادة والربيع بن أنس "وتكتموا الحق" يعني محمداً صلى الله عليه وسلم (قلت) وتكتموا يحتمل أن يكون مجزوماً، ويحتمل أن يكون منصوباً، أي لا تجمعوا بين هذا وهذا كما يقال: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، قال الزمخشري: وفي مصحف ابن مسعود وتكتمون الحق أي في حال كتمانكم الحق وأنتم تعلمون حال أيضاً، ومعناه وأنتم تعلمون الحق، ويجوز أن يكون المعنى: وأنتم تعلمون ما في ذلك من الضرر العظيم على الناس من إضلالهم عن الهدى المفضي بهم إلى النار إلى أن سلكوا ما تبدونه لهم من الباطل المشوب بنوع من الحق لتروجوه عليهم، والبيان الإيضاح وعكسه الكتمان وخلط الحق بالباطل "وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين" قال مقاتل: قوله تعالى لأهل الكتاب "وأقيموا الصلاة" أمرهم أن يصلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم "وآتوا الزكاة" أمرهم أن يؤتوا الزكاة أي يدفعونها إلى النبي صلى الله عليه وسلم "واركعوا مع الراكعين" أمرهم أن يركعوا مع الراكعين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، يقول: كونوا معهم ومنهم، وقال علي بن طلحة عن ابن عباس: يعني بالزكاة طاعة الله والإخلاص، وقال وكيع عن أبي جناب عن عكرمة عن ابن عباس في قوله: وآتوا الزكاة، قال: ما يوجب الزكاة ؟ قال: مائتان فصاعداً، وقال مبارك بن فضالة عن الحسن في قوله تعالى "وآتوا الزكاة" قال: فريضة واجبة لا تنفع الأعمال إلا بها وبالصلاة، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن أبي حيان التيمي عن الحارث العكلي في قوله تعالى "وآتوا الزكاة" قال: صدقة الفطر، وقوله تعالى: "واركعوا مع الراكعين" أي وكونوا مع المؤمنين في أحسن أعمالهم، ومن أخص ذلك وأكمله الصلاة، وقد استدل كثير من العلماء بهذه الاية على وجوب الجماعة، وأبسط ذلك في كتاب الأحكام الكبير إن شاء الله تعالى، وقد تكلم القرطبي على مسائل الجماعة والإمامة فأجاد .
واللبس: الخلط، يقال: لبست عليه الأمر ألبسه: إذا خلطت حقه بباطله وواضحه بمشكله، قال الله تعالى: 42- "وللبسنا عليهم ما يلبسون" قالت الخنساء:
ترى الجليس يقول الحق تحسبهذ رشدا وهيهات فانظر ما به التبسا
صدق مقالته واحذر عداوته والبس عليه أموراً مثل ما لبسا
وقال العجاج:
لما لبست الحق بالتجني عتبن فاستبدلن زيداً مني
ومنه قول عنترة:
وكتيبة لبستها بكتيبة حتى إذا التبست نفضت لها يدي
وقيل: هو مأخوذ من التغطية: أي لا تغطوا الحق بالباطل، ومنه قول الجعدي:
إذا ما الضجيع ثنى جيدها تثنت عليه وكانت لباسا
وقول الأخطل:
وقد لبست هذا الأمر أعصره حتى تجلل رأسي الشيب فاشتعلا
والأول أولى. والباطل في كلام العرب: الزائل، ومنه قول لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
وبطل الشيء يبطل بطولاً وبطلاناً، وأبطله غيره ويقال: ذهب دمه بطلا: أي هدراً، والباطل: الشيطان، وسمي الشجاع بطلاً لأنه يبطل شجاعة صاحبه، والمراد به هنا خلاف الحق. والباء في قوله "بالباطل" يحتمل أن تكون صلة وأن تكون للاستعانة ذكر معناه في الكشاف، ورجح الرازي في تفسيره الثاني. وقوله: "وتكتموا" يجوز أن يكون داخلاً تحت حكم النهي، أو منصوباً بإضمار أن، وعلى الأول يكون كل واحد من اللبس والكتم منهياً عنه، وعلى الثاني يكون المنهي عنه هو الجمع بين الأمرين، ومن هذا يلوح رجحان دخوله تحت حكم النهي وأن كل واحد منهما لا يجوز فعله على انفراده، والمراد النهي عن كتم حجج الله التي أوجب عليهم تبليغها واخذ عليهم بيانها، ومن فسر اللبس أو الكنمان بشيء معين، ومعنى خاص فلم يضب إن أراد أن ذلك هو المراد دون غيره، لا إن أراد أنه مما يصدق عليه. وقوله: "وأنتم تعلمون" جملة حالية، وفيه أن كفرهم كفر عناد لا كفر جهل، وذلك أغلظ للذنب وأوجب للعقوبة، وهذا التقييد لا يفيد جواز اللبس والكتمان مع الجهل، لأن الجاهل يجب عليه أن لا يقدم على شيء حتى يعلم بحكمه خصوصاً في أمور الدين، فإن التكلم فيها والتصدي للإصدار والإيراد في أبوابها إنما أذن الله به لمن كان رأساً في العلم فرداً في الفهم، وما للجهال والدخول فيما ليس من شأنهم والقعود في غير مقاعدهم. وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: " يا بني إسرائيل " قال للأحبار من اليهود: "اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم" أي بلائي عندكم وعند آبائكم لما كان نجاهم به من فرعون وقومه "وأوفوا بعهدي" الذي أخذت في أعناقكم للنبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءكم "أوف بعهدكم" أنجزلكم ما وعدتكم عليه بتصديقه وأتباعه بوضع ما كان عليكم من الإصر والأغلال "وإياي فارهبون" أن أنزل بكم ما أنزلت بمن كان قبلكم من آبائكم من النقمات "وآمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم ولا تكونوا أول كافر به" وعندكم فيه من العلم ما ليس عند غيركم "وتكتموا الحق وأنتم تعلمون" أي لا تكتموا ما عتدكم من المعرفة برسولي وبما جاءكم به وأنتم تجدونه عندكم فيما تعلمون من الكتب التي بأيديكم، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله: "أوفوا بعهدي" يقول: أرض عنكم وأدخلكم الجنة. وأخرج ابن المنذر عن ابن مسعود مثله. وأخرج ابن المنذر عن مجاهد في قوله: "أوف بعهدكم" قال: هو الميثاق الذي أخذه عليهم في سورة المائدة "لقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل" الآية. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة نحوه. وأخرج عبد بن حميد عن الحسن قال: أوفوا لي بما افترضت عليكم أوف لكم بما وعدتكم. وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ ن الضحاك نحوه. وأخرج ابن جرير عن أبي العالية في قوله: "إياي فارهبون" قال فاخشون. وأخرج عبد بن حميد وابن جريح عن مجاهد في قوله: "وآمنوا بما أنزلت" قال القرآن: "مصدقاً لما معكم" قال: التوراة والإنجيل. وأخرج ابن جريح عن ابن جرير في قوله: "أول كافر به" قال: بالقرآن. وأخرج ابن جرير عن أبي العالية في الآية قال: يقول يا معشر أهل الكتاب آمنوا بما أنزلت على محمد مصدقاً لما معكم، لأنهم يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل "ولا تكونوا أول كافر به" أي أول من كفر بمحمد "ولا تشتروا بآياتي" يقول: لا تأخذوا عليه أجراً، قال: وهو مكتوب عندهم في الكتاب الأول: يابن آم علم مجاناً كما علمت مجاناً. وأخرج أبو الشيخ عنه قال: لا تأخذ علي ما علمت أجراً، إنما أجر العلماء والحكماء والحلماء على الله. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "ولا تلبسوا الحق بالباطل" قال: لا تخلطوا الصدق بالكذب "وتكتموا الحق" قال: لا تكتموا الحق وأنتم قد علمتم أن محمداً رسول الله. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله: "ولا تلبسوا" الآية، قال: لا تلبسوا اليهودية والنصرانية بالإسلام "وتكتموا الحق" قال: كتموا محمداً وهم يعلمون أنه رسول الله يجدونه مكتوباً عندهم في التورات والإنجيل. وأخرج ابن جرير عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال: الحق التوراة، والباطل الذي كتبوه بأيديهم.
42. " ولا تلبسوا الحق بالباطل " أي لا تخلطوا، يقال: لبس الثوب يلبس لبساً، ولبس عليه الأمر يلبس لبساً أي خلط. يقول: لا تخلطوا الحق الذي، أنزلت عليكم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم بالباطل الذي تكتبونه بأيديكم من تغيير صفة محمد صلى الله عليه وسلم.
والأكثرون على أنه أراد: لا تلبسوا الإسلام باليهودية والنصرابية.
وقال مقاتل : إن اليهود أقروا ببعض صفة محمد صلى الله عليه وسلم وكتموا بعضاً ليصدقوا في ذلك فقال: ولا تلبسوا الحق الذي تقرون به بالباطل يعني بما تكتمونه، فالحق: بيانهم، والباطل: كتمانهم وتكتموا الحق أي لا تكتموه، يعني: نعت محمد صلى الله عليه وسلم.
" وأنتم تعلمون " أنه نبي مرسل.
42-" ولا تلبسوا الحق بالباطل " عطف على ما قبله . واللبس الخلط وقد يلزمه جعل الشئ مشتبهاً بغيره ، والمعنى لا تخلطوا الحق المنزل بالباطل الذي تخترعونه وتكتمونه حتى لا يميز بينهما ، أو ولا تجعلوا الحق ملتبساً بسبب خلط الباطل الذي تكتبونه في خلاله ، أو تذكرونه في تأويله .
" وتكتموا الحق " جزم داخل تحت حكم النهي كأنهم أمروا بالإيمان وترك الضلال ، ونهوا عن الإضلال بالتلبيس على من سمع الحق والإخفاء على من لم يسمعه ، أو نصب بإضمار أن على أن الواو للجمع بمعنى مع ، أي لا تجمعوا لبس الحق بالباطل وكتمانه ، ويعضده أنه في مصحف ابن مسعود وتكتمون أي وأنتم تكتمون بمعنى كاتمين ، وفيه إشعار بأن استقباح اللبس لما يصحبه من كتمان الحق .
" وأنتم تعلمون " عالمين بأنكم لابسون كاتمون فإنه أقبح إذ الجاهل قد يعذر .
42. Confound not truth with falsehood, nor knowingly conceal the truth.
42 - And cover not truth with falsehood, nor conceal the truth when you know (what is it)