[البقرة : 36] فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ
(فأزلَّهما الشيطان) إبليس أي أذهبهما ، وفي قراءة {فأزالهما} نحَّاهما (عنها) أي الجنة بأن قال لهما : هل أدلكما على شجرة الخلد وقاسمهما بالله أنه لهما لمن الناصحين فأكلا منها (فأخرجهما مما كانا فيه) من النعيم (وقلنا اهبطوا) إلى الأرض أي أنتما بما اشتملتما عليه من ذريتكما (بعضكم) بعض الذرية (لبعض عدو) من ظلم بعضكم بعضا (ولكم في الأرض مستقر) موضع قرار (ومتاع) مما تتمتعون به من نباتها (إلى حين) وقت انقضاء آجالكم
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأته عامتهم، "فأزلهما" بتشديد اللام، بمعنى: استزلهما، من قولك زل الرجل في دينه: إذا هفا فيه وأخطأ، فأتى ما ليس له إتيانه فيه. وأزله غيره: إذا سبب له ما يزد من أجله في دينه أو دنياه، ولذلك أضاف الله تعالى ذكره إلى إبليس خروج آدم وزوجته من الجنة، فقال: "فأخرجهما" يعني إبليس "مما كانا فيه "، لأنه كان الذي سبب لهما الخطيئة التي عاقبهما الله عليها بإخراجهما من الجنة.
وقرأه اخرون: فأزالهما، بمعنى إزالة الشيء عن الشيء، وذلك تنحيته عنه.
وقد روي عن ابن عباس في تأويل قوله: "فأزلهما"، ما:
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس في تأويل قوله تعالى: "فأزلهما الشيطان"، قال: أغواهما.
وأولى القراءتين بالصواب قراءة من قرأ "فأزلهما"، لأن الله جل ثناؤه قد أخبر في الحرف الذي يتلوه، بأن إبليس أخرجهما مما كانا فيه. وذلك هو معنى قوله فأزالهما، فلا وجه إذ كان معنى الإزالة معنى التنحية والإخراج أن يقال:فأزالهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه فيكون كقوله: فأزالهما مما كانا فيه ولكن المفهوم أن يقال فاستزلهما إبليس عن طاعة الله كما قال جل ئناؤه: "فأزلهما الشيطان"، وقرأت به القراء فأخرجهما باستزلاله إياهما من الجنة.
فإن قال لنا قائل: وكيف كان استزلال إبليس آدم وزوجته، حتى أضيف إليه إخراجهما من الجنة؟
قيل: قد قالت العلماء في ذلك أقوالاً، وسنذكر بعضها:
فحكي عن وهب بن منبه في ذلك ما:
حدثنا به الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا عمر بن عبد الرحمن بن مهرب، قال: سمعت وهب بن منبه، يقول: لما أسكن الله آدم وذريته أو زوجته الشك من أبي جعفر: وهو في أصل كتابه وذريته ونهاه عن الشجرة، وكانت شجرة غصونها متشعب بعضها في بعض، وكان لها ثمر تأكله الملائكة لخلدهم، وهي الثمرة التي نهى الله آدم عنها وزوجته. فلما أراد إبليس أن يستزلهما دخل في جوف الحية، وكانت للحية أربع قوائم كأنها بختية، من أحسن دابة خلقها الله فلما دخلت الحية الجنة، خرج من جوفها إبليس، فأخذ من الشجرة التي نهى الله عنها آدم وزوجته، فجاء بها إلى حواء، فقال: انظري إلى هذه الشجرة ما أطيب ريحها وأطيب طعمها وأحسن لونها فأخذت حواء فأكلت منها ثم ذهبت بها إلى آدم فقالت: انظر إلى هذه الشجرة ما أطيب ريحها وأطيب طعمها وأحسن لونها فأكل منها آدم، فبدت لهما سواتهما. فدخل آدم في جوف الشجرة، فناداه ربه يا آدم أين أنت؟ قال: قال: أنا هذا يا رب، قال: ألا تخرج؟ قال: أستحيي منك يا رب. قال: ملعونة الأرض التي خلقت منها لعنة يتحول ثمرها شوكًا. قال: ولم يكن في الجنة ولا في الأرض شجرة كان أفضل من الطلح والسدر، ثم قال: يا حواء، أنت التي غررت عبدي، فإنك لا تحملين حملاً إلا حملته كرهًا، فإذا أردت أن تضعي ما في بطنك أشرفت على الموت مرارًا. وقال للحية: أنت التي دخل الملعون في جوفك حتى غر عبدي، ملعونة أنت لعنة تتحول قوائمك في بطنك، ولا يكن لك رزق إلا التراب، أنت عدوة بني آدم وهم أعداؤك، حيث لقيت أحدًا منهم أخذت بعقبه، وحيث لقيك شدخ رأسك. قال عمر: قيل لوهب: وما كانت الملائكة تأكل؟ قال: يفعل الله ما يشاء.
وروي عن ابن عباس نحو هذه القصة:
حدثني موسى بن هرون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: لما قال الله عز وجل لآدم: " اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين"، أراد إبليس أن يدخل عليهما الجنة، فمنعته الخزنة. فأتى الحية وهي دابة لها أربع قوائم كأنها البعير، وهي كأحسن الدواب فكلمها أن تدخله في فمها حتى تدخل به إلى آدم، فأدخلته في فقمها قال أبو جعفر: والفقم جانب الشدق فمرت الحية على الخزنة فدخلت ولا يعلمون لما أراد الله من الأمر. فكلمه من فقمها فلم يبال كلامه، فخرج إليه فقال: "يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى" (طه: 120) يقول: هل أدلك على شجرة إن أكلت منها كنت ملكا مثل الله عز وجل، أو تكونا من الخالدين، فلا تموتان أبدًا. وحلف لهما بالله إني لكما لمن الناصحين. وإنما أراد بذلك ليبدي لهما ما توارى عنهما من سوآتهما بهتك لباسهما. وكان قد علم أن لهما سوأة، لما كان يقرأ من كتب الملائكة، ولم يكن آدم يعلم ذلك. وكان لباسهما الظفر. فأبى آدم أن يأكل منها، فتقدمت حواء فأكلت، ثم قالت: يا آدم كل، فإني قد أكلت فلم يضرني. فلما أكل آدم بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة.
حدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: حدثني محدث: أن الشيطان دخل الجنة في صورة دابة ذات قوائم، فكان يرى أنه البعير، قال: فلعن، فسقطت قوائمه فصار حية.
وحدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: وحدثني أبو العالية أن من الإبل ما كان أولها من الجن، قال: فأبيحت له الجنة كلها إلا الشجرة، وقيل لهما: "لا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين". قال: فأتى الشيطان حواء فبدأ بها، فقال: أنهيتما عن شيء؟ قالت: نعم عن هذه الشجرة فقال: "ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين" (الأعراف: 120) قال: فبدأت حواء فأكلت منها، ثم أمرت آدم فأكل منها. قال: وكانت شجرة من أكل منها أحدث. قال: ولا ينبغي أن يكون في الجنة حدث. قال: فأزالهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه، قال فأخرج آدم من الجنة.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا ابن إسحق، عن بعض أهل العلم: أن آدم حين دخل الجنة ورأى ما فيها من الكرامة وما أعطاه الله منها، قال: لو أن خلدًا كان فاغتمز فيها منه الشيطان لما سمعها منه، فأتاه من قبل الخلد.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحق، قال: حدثت أن أول ما ابتدأهما به من كيده إياهما، أنه ناح عليهما نياحة أحزنتهما حين سمعاها، فقالا: ما يبكيك؟ قال: أبكي عليكما، تموتان فتفارقان ما أنتما فيه من النعمة والكرامة. فوقع ذلك في أنفسهما. ثم أتاهما فوسوس إليهما، فقال: يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى؟ وقال "ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين * وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين" (الأعراف: 25-21)أي تكونا ملكين، أو تخلدا، إن لم تكونا ملكين في نعمة الجنة فلا تموتان. يقول الله جل ثناؤه: "فدلاهما بغرور" (الأعراف: 22).
حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: وسوس الشيطان إلى حواء في الشجرة حتى أتى بها إليها، ثم حسنها في عين آدم. قال: فدعاها آدم لحاجته، قالت: لا إلا أن تأتي ههنا. فلما أتى قالت: لا إلا أن تأكل من هذه الشجرة. قال: فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما. قال: وذهب آدم هاربًا في الجنة، فناداه ربه: يا آدم أمني تفر؟ قال: لا يا رب، ولكن حياء منك. قال: يا آدم أنى اتيت؟ قال: من قبل حواء أي رب. فقال الله: فإن لها علي أن أدميها في كل شهر مرة، كما أدميت هذه الشجرة، وأن أجعلها سفيهة فقد كنت خلقتها حليمة، وأن أجعلها تحمل كرهًا وتضع كرهًا، فقد كنت جعلتها تحمل يسرًا وتضع يسرًا. قال ابن زيد: ولولا البلية التي أصابت حواء، لكان نساء الدنيا لا يحضن، ولكن حليمات، وكن يحملن يسرًا ويضعن يسرًا.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحق، عن يزيد بن عبدالله بن قسيط، عن سعيد بن المسيب، قال: سمعته يحلف بالله ما يستثني ما أكل آدم من الشجرة وهو يعقل، ولكن حواء سقته الخمر، حتى إذا سكر قادته إليها فأكل.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحق، عن ليث بن أبي سليم، عن طاوس اليماني، عن ابن عباس، قال: إن عدو الله إبليس عرض نفسه على دواب الأرض أيها يحمله حتى يدخل الجنة معها ويكلم آدم وزوجته، فكل الدواب أبى ذلك عليه، حتى كلم الحية فقال لها: أمنعك من ابن آدم، فأنت في ذمتي إن أنت أدخلتني الجنة. فجعلته بين نابين من أنيابها، ثم دخلت به، فكلمهما من فيها، وكانت كاسية تمشي على أربع قوائم، فأعراها الله وجعلها تمشي على بطنها. قال: يقول ابن عباس: اقتلوها حيث وجدتموها، أخفروا ذمة عدو الله فيها.
وحدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة، قال قال ابن إسحق، وأهل التوراة يدرسون: إنما كلم آدم الحية. ولم يفسروا كتفسير ابن عباس.
وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن أبي معشر، عن محمد بن قيس، قال: نهى الله آدم وحواء أن يأكلا من شجرة واحدة في الجنة، ويأكلا منها رغدًا حيث شاءا، فجاء الشيطان فدخل في جوف الحية، فكلم حواء، ووسوس الشيطان إلى آدم فقال: "ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين * وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين" (الأعراف: 20-21). قال: فقطعت حواء الشجرة فدميت الشجرة. وسقط عنهما رياشهما الذي كان عليهما، وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة، وناداهما ربهما: "ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين" (الأعراف: 22)، لم أكلتها وقد نهيتك عنها؟ قال: يا رب أطعمتني حواء. قال لحواء: لم أطعمته؟ قالت: أمرتني الحية. قال للحية: لم أمرتها؟ قالت: أمرني إبليس. قاد: ملعون مدحور أما أنت يا حواء فكما أدميت الشجرة تدمين في كل هلال، وأما أنت يا حية فأقطع قوائمك فتمشين جريًا على وجهك وسيشدخ رأسك من لقيك بالحجر، اهبطوا بعضكم لبعض عدو.
قال أبو جعفر: وقد رويت هذه الأخبار عمن رويناها عنه من الصحابة والتابعين وغيرهم في صفة استزلال إبليس عدو الله آدم وزوجته حتى أخرجهما من الجنة. وأولى ذلك بالحق عندنا ما كان لكتاب الله موافقًا. وقد أخبر الله تعالى ذكره عن إبليس أنه وسوس لآدم وزوجته ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما، وأنه قال لهما: "ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين"، وأنه "قاسمهما إني لكما لمن الناصحين" (الأعراف: 20)، مدلياً لهما بغرور. ففي إخباره جل ثناؤه عن عدو الله أنه قاسم آدم وزوجته بقيله لهما: إني لكما لمن الناصحين الدليل الواضح على أنه قد باشر خطابهما بنفسه: إما ظاهرًا لأعينهما، وإما مستجنًا في غيره. وذلك أنه غير معقول في كلام العرب أن يقال: قاسم فلان فلانًا في كذا وكذا، إذا سبب له سببًا وصل به اليه دون أن يحلف له. والحلف لا يكون بتسبب السبب. فكذلك قوله فوسوس إليه الشيطان، لو كان ذلك كان منه إلى آدم على نحو الذي منه إلى ذريته، من تزيين أكل ما نهى الله آدم عن أكله من الشجرة، بغير مباشرة خطابه إياه بما استزله به من القول والحيل لما قال جل ثناؤه: "وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين". كما غير جائز أن يقول اليوم قائل ممن أتى معصية: قاسمني إبليس أنه لي ناصح فيما زين لي من المعصية التي أتيتها. فكذلك الذي كان من آدم وزوجته، لو كان على النحو الذي يكون فيما بين إبليس اليوم وذرية آدم لما قال جل ثناؤه: "وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين"، ولكن ذلك كان إن شاء الله على نحو ما قال ابن عباس ومن قال بقوله.
فأما سبب وصوله إلى الجنة حتى كلم آدم بعد أن أخرجه الله منها وطرده عنها، فليس فيما روي عن ابن عباس ووهب بن منبه في ذلك معنى يجوز لذي فهم مدافعته، إذ كان ذلك قولاً لا يدفعه عقل ولا خبر يلزم تصديقه من حجة بخلافه، وهو من الأمور الممكنة. فالقول في ذلك أنه وصل إلى خطابهما على ما أخبرنا الله جل ثناؤه؟ وممكن أن يكون وصل إلى ذلك بنحو الذي قاله المتأولون، بل ذلك إن شاء الله كذلك، لتتابع أقوال أهل التأويل على تصحيح ذلك. وإن كان ابن إسحق قد قال في ذلك ما:
حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال ابن إسحق في ذلك، والله أعلم، كما قال ابن عباس وأهل التوراة: إنه خلص إلى آدم وزوجته بسلطانه الذي جعل الله له ليبتلي به آدم وذريته، وأنه يأتي ابن آدم في نومته وفي يقظته، وفي كل حال من أحواله، حتى يخلص إلى ما أراد منه، حتى يدعوه إلى المعصية، ويوقع في نفسه الشهوة وهو لا يراه. وقد قال الله عز وجل: "فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه"، وقال: "يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون" (الأعراف: 27) وقد قال الله لنبيه عليه السلام: "قل أعوذ برب الناس * ملك الناس" (الناس:1-2) إلى آخر السورة. ثم ذكر الأخبار التي رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ". ثم قال ابن إسحق: وإنما أمر ابن آدم فيما بينه وبين عدو الله، كأمره فيما بينه وبين آدم، فقال الله: "اهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين" (الأعراف: 13). ثم خلص إلى آدم وزوجته حتى كلمهما، كما قص الله علينا من خبرهما، فقال: "فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى" (طه: 120)، فخلص إليهما بما خلص إلى ذريته من حيث لا يريانه فالله أعلم أي ذلك كان فتابا إلى ربهما.
قال أبو جعفر: وليس في يقين ابن إسحق لو كان قد أيقن في نفسه أن إبليس لم يخلص الى آدم وزوجته بالمخاطبة بما أخبر الله عنه أنه قال لهما وخاطبهما به، ما يجوز لذي فهم الاعتراض به على ما ورد من القول مستفيضًا من أهل العلم، مع دلالة الكتاب على صحة ما استفاض من ذلك بينهم. فكيف بشكه؟ والله نسأل التوفيق.
القول في تأويل قوله تعالى: "فأخرجهما مما كانا فيه".
قال أبو جعفر: وأما تأويل قوله "فأخرجهما"، فإنه يعني: فأخرج الشيطان آدم وزوجته، "مما كانا"، يعني مما كان آدم وزوجته من رغد العيش في الجنة، وسعة نعيمها الذي كانا فيه. وقد بينا أن الله جل ثناؤه إنما أضاف إخراجهما من الجنة إلى الشيطان وإن كان الله هو المخرج لهما لأن خروجهما منها كان عن سبب من الشيطان، فأضيف ذلك إليه لتسبيبه إياه، كما يقول القائل لرجل وصل إليه منه أذى حتى تحول من أجله عن موضع كان يسكنه: ما حولني من موضعي الذي كنت فيه إلا أنت، ولم يكن منه له تحويل، ولكنه لما كان تحوله عن سبب منه، جاز له إضافة تحويله إليه.
القول في تأويل قوله تعالى: "وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو".
قال أبو جعفر: يقال هبط فلان أرض كذا ووادي كذا، إذا حل ذلك، كما قال الشاعر:
ما زلت أرمقهم، حتى إذا هبطت أيدي الركاب بهم من راكس فلقا
وقد أبان هذا القول من الله جل ثناؤه، عن صحة ما قلنا من أن المخرج آدم من الجنة هو الله جل ثناؤه، وأن إضافة الله إلى إبليس ما أضاف إليه من إخراجهما، كان على ما وصفنا. ودل بذلك أيضًا على أن هبوط آدم وزوجته وعدوهما إبليس، كان في وقت واحد، بجمع الله إياهم في الخبر عن إهباطهم، بعد الذي كان من خطيئة آدم وزوجته، وتسبب إبليس ذلك لهما، على ما وصفه ربنا جل ذكره عنهم.
قال أبو جعفر: وقد اختلف أهل التأويل في المعني بقوله: " اهبطوا"، مع إجماعهم على أن آدم وزوجته ممن عني به.
فحدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا أبو أسامة، عن أبي عوانة، عن إسمعيل بن سالم، عن أبي صالح:"اهبطوا بعضكم لبعض عدو"، قال: آدم وحواء وإبليس والحية.
حدثنا ابن وكيع، وموسى بن هرون، قالا: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: "اهبطوا بعضكم لبعض عدو"، قال: فلعن الحية وقطع قوائمها وتركها تمشي على بطنها، وجعل رزقها من التراب. وأهبط إلى الأرض آدم وحواء وإبليس والحية.
وحدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: "اهبطوا بعضكم لبعض عدو"، قال: آدم وإبليس والحية.
وحدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "اهبطوا بعضكم لبعض عدو"، آدم وإبليس والحية، ذرية بعضهم أعداء لبعض.
وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: "بعضكم لبعض عدو"، قال: آدم وذريته، وإبليس وذريته.
وحدثنا المثنى، قال: حدثنا آدم بن أبي إياس، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: "بعضكم لبعض عدو"، قال: يعني إبليس وآدم.
حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحق، قال: حدثنا عبيدالله بن موسى، عن إسرائيل، عن السدي، عمن حدثه عن ابن عباس في قوله: "اهبطوا بعضكم لبعض عدو"، قال: بعضهم لبعض عدو: آدم وحواء وإبليس والحية.
وحدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن وهب، قال: حدثني عبد الرحمن بن مهدي، عن إسرائيل، عن إسمعيل السدي، قال: حدثني من سمع ابن عباس يقول: "اهبطوا بعضكم لبعض عدو"، قال: آدم وحواء وإبليس والحية.
وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: "اهبطوا بعضكم لبعض عدو"، قال: لهما ولذريتهما.
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: وما كانت عداوة ما بين آدم وزوجته وإبليس والحية؟
قيل: أما عداوة إبليس آدم وذريته، فحسده إياه، واستكباره عن طاعة الله في السجود له حين قال لربه: "أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين" (ص: 76). وأما عداوة آدم وذريته إبليس، فعداوة المؤمنين إياه لكفره بالله وعصيانه لربه في تكبره عليه ومخالفته أمره. وذلك من آدم ومؤمني ذريته إيمان بالله. وأما عداوة إبليس آدم فكفر بالله.
وأما عداوة ما بين آدم وذريته والحية، فقد ذكرنا ما روي في ذلك عن ابن عباس ووهب بن منبه، وذلك هي العداوة التي بيننا وبينها، كما" روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:ما سالمناهن منذ حاربناهن، فمن تركهن خشية ثأرهن فليس منا".
حدثني محمد بن عبدالله بن عبد الحكم، قال: حدثني حجاج بن رشدين، قال: حدثنا حيوة بن شريح، عن ابن عجلان، عن أبيه، " عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ما سالمناهن منذ حاربناهن ، فمن ترك شيئًا منهن خيفة، فليس منا".
قال أبو جعفر: وأحسب أن الحرب التي بيننا، كان أصله ما ذكره علماؤنا الذين قدمنا الرواية عنهم، في إدخالها إبليس الجنة بعد أن أخرجه الله منها، حتى استزله عن طاعة ربه في أكله ما نهي عن أكله من الشجرة.
وحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا معاوية بن هشام وحدثني محمد بن خلف العسقلاني، قال حدثني آدم جميعًا، عن شيبان، عن جابر، عن سعيد بن جبير، "عن ابن عباس قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الحيات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خلقت هي والإنسان كل واحد منهما عدو لصاحبه، إن رآها أفزعته، وإن لدغته أوجعته، فاقتلها حيث وجدتها".
القول في تأويل قوله تعالى: "ولكم في الأرض مستقر".
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم بما:
حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا آدم العسقلاني، قال: حدثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: "ولكم في الأرض مستقر" قال: هو قوله: "الذي جعل لكم الأرض فراشا" (البقرة: 22).
وحدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبدالله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: "ولكم في الأرض مستقر"، قال: هو قوله: "جعل لكم الأرض قرارا"(غافر: 64). وقال آخرون: معنى ذلك ولكم في الأرض قرار في القبور. ذكر من قال ذلك:
حدثني موسى بن هرون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: "ولكم في الأرض مستقر"، يعني القبور.
وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثني عبد الرحمن بن مهدي، عن إسرائيل، عن إسمعيل السدي، قال: حدثني من سمع ابن عباس قال: "ولكم في الأرض مستقر"، قال:القبور.
وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: "ولكم في الأرض مستقر"، قال: مقامهم فيها.
قال أبو جعفر: والمستقر في كلام العرب، هو موضع الاستقرار. فإذ كان ذلك كذلك، فحيث كان من الأرض موجودًا حالا، فذلك المكان من الأرض مستقره. وإنما عنى الله جل ثناؤه بذلك: أن لهم في الأرض مستقرًا ومنزلاً، بأماكنهم ومستقرهم من الجنة والسماء. وكذلك قوله: "ومتاع"، يعني به: أن لهم فيها متاعًا بمتاعهم في الجنة.
القول في تأويل قوله تعالى ذكره: "ومتاع إلى حين".
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: ولكم فيها بلاغ إلى الموت. ذكر من قال ذلك:
حدثني موسى بن هرون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في قوله: "ومتاع إلى حين"، قال يقول: بلاغ إلى الموت.
وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن إسرائيل، عن إسمعيل السدي، قال: حدثني من سمع ابن عباس: "ومتاع إلى حين"، قال: الحياة.
وقال آخرون: يعني بقوله "ومتاع إلى حين"، إلى قيام الساعة. ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "ومتاع إلى حين"، قال: إلى يوم القيامة، إلى انقطاع الدنيا.
وقال آخرون: "إلى حين "، قال: الى أجل. ذكر من قال ذلك:
حدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبدالله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: "ومتاع إلى حين"، قال: إلى أجل.
والمتاع، في كلام العرب، كل ما استمتع به من شيء، من معاش استمتع به أو رياش أو زينة أو لذة أو غير ذلك. فإذ كان ذلك كذلك وكان الله جل ثناؤه قد جعل حياة كل حي متاعًا له يستمتع بها أيام حياته، وجعل الأرض للإنسان متاعًا أيام حياته، بقراره عليها، واغتذائه بما أخرج الله منها من الأقوات والثمار، والتذاذه بما خلق فيها من الملاذ، وجعلها من بعد وفاته لجثته كفاتًا، ولجسمه منزلاً وقرارًا وكان اسم المتاع يشمل جميع ذلك كان أولى التأويلات بالآية إذ لم يكن الله جل ثناؤه وضع دلالة دالة على أنه قصد بقوله: "ومتاع إلى حين" بعضًا دون بعض، وخاصًا دون عام في عقل ولا خبر أن يكون ذلك في معنى العام، وأن يكون الخبر أيضًا كذلك، إلى وقت يطول استمتاع بني آدم وبني إبليس بها، وذلك إلى أن تبذل الأرض غير الأرض. فإذ كان ذلك أولى التأويلات بالآية لما وصفنا، فالواجب إذا أن يكون تأويل الآية: ولكم في الأرض منازل ومساكن تستقرون فيها استقراركم كان في السماوات، وفي الجنان في منازلكم منها، واستمتاع منكم بها وبما أخرجت لكم منها، وبما جعلت لكم فيها من المعاش والرياش والزين والملاذ، وبما أعطيتكم على ظهرها أيام حياتكم ومن بعد وفاتكم لأرماسكم وأجداثكم تدفنون فيها، وتبلغون باستمتاعكم بها إلى أن أبدلكم بها غيرها.
قوله تعالى : "فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه" فيه عشر مسائل :
الأولى : قوله تعالى : "فأزلهما الشيطان عنها" قرأ الجماعة فأزلهما بغير ألف، من الزلة وهي الخطيئة ، أي استزلهما وأوقعهما فيها . وقرأ حمزة فأزلهما بألف ، من التنحية ، أي نحاهما . يقال أزلته فزال . قال ابن كيسان :فأزالهما من الزوال ، أي صرفهما عما كانا عليه من الطاعة إلى المعصية .
قلت : وعلى هذا تكون القراءتان بمعنىً ، إلا أن قراءة الجماعة أمكن في المعنى . يقال منه : أزللته فزل . ودل على هذا قوله تعالى : "إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا" ، وقوله : "فوسوس لهما الشيطان" والوسوسة إنما هي إدخالهما في الزلل بالمعصية ، وليس للشيطان قدرة على زوال أحد من مكان إلى مكان ، إنما قدرته على إدخاله في الزلل ، فيكون ذلك سبباً إلى زواله من مكان إلى مكان بذنبه . وقد قيل : إن معنى أزلهما من زل عن الكان إذا تنحى ، فيكون في المعنى كقراءة حمزة من الزوال . قال المرؤ القيس :
يزل الغلام الخف عن صهواته ويلوي بأثواب العنيف المثقل
وقال أيضاً :
كميت يزل اللبد عن حال متنه كما زلت الصفواء بالمتنزل
الثانية : قوله تعالى : "فأخرجهما مما كانا فيه" إذا جعل أزال من زال عن المكان فقوله : فأخرجهما تأكيد وبيان للزوال ، إذ قد يمكن أن يزولا عن مكان كانا فيه إلى مكان آخر من الجنة ، وليس كذلك ، وإنما كان إخراجهما من الجنة إلى الأرض ، لأنهما خلقا منها ، وليكون آدم خليفة في الأرض . ولم يقصد إبليس ـ لعنه الله ـ إخراجه منها وإنما قصد إسقاطه من مرتبته وإبعاده كما أبعد هو ، فلم يبلغ مقصده ولا أدرك مراده ، بل ازداد سخنة عين وغيظ نفس وخيبة ظن . قال الله جل ثناؤه : "ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى" فصار عليه السلام خليفة الله في أرضه بعد أن كان جاراً له في داره ، فكم بين الخليفة والجار ! صلى الله عليه وسلم . ونسب ذلك إلى إبليس ، لأنه بسببه وإغوائه . ولا خلاف بين أهل التأويل وغيرهم أن إبليس كان متولي إغواء آدم ، واختلف في الكيفية ، فقال ابن مسعود وابن عباس وجمهور العلماء أغواهما مشافهة ، ودليل ذلك قوله تعالى : "وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين" والمقاسمة ظاهرها المشافهة . وقال بعضهم ، وذكره عبد الرزاق عن وهب بن منبة : دخل الجنة في فم الحية وهي ذات أربع كالبختية من أحسن دابة خلقها الله تعالى بعد أن عرض نفسه على كثير من الحيوان فلم يدخله إلا الحية ، فلما دخلت به الجنة خرج من جوفها إبليس فأخذ من الشجرة التي نهى الله آدم وزوجه عنها فجاء بها إلى حواء فقال : انظري إلى هذه الشجرة ، ما أطيب ريحها وأطيب طعمها وأحسن لونها ! فلم يزل يغويها حتى أخذتها حواء فأكلتها . ثم اغوى آدم ، وقالت له حواء : كل فإني قد أكلت فلم يضرني ، فأكل منها فبدت لهما سواءتهما وحصلا في حكم الذنب ، فدخل آدم في جوف الشجرة ، فناداه ربه : أين أنت ؟ فقال : أنا هذا يا رب ، قال : ألا تخرج ؟ قال استحي منك يا رب ، قال : اهبط إلى الأرض التي خلقت منها . ولعنت الحية وردت قوائهما في جوفها وجعلت العدواة بينها وبين بني آدم ، ولذلك أمرنا بقتلها ، على ما يأتي بيانه . وقيل لحواء : كما أدميت الشجرة فكذلك يصيبك الدم كل شهر وتحملين وتضعين كرها تشرفين به على الموت مراراً . زاد الطبري والنقاش : وتكوني سفيهة وقد كنت حليمة . وقالت طائفة : إن إبليس لم يدخل الجنة إلى آدم بعد ما أخرج منها وإنما أغوى بشيطانه وسلطانه ووسواسه التي أعطاه الله تعالى ، كما قال صلى الله عليه وسلم :
"إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم" . والله أعلم . وسيأتي في الأعراف أنه لما أكل بقي عرياناً وطلب ما يستتر به فتباعدت عنه الأشجار وبكتوه بالمعصية ، فرحمته شجرة التين ، فأخذ من ورقه فاستتر به . فبلي بالعري دون الشجر . والله أعلم . وقيل : إن الحكمة في إخراج آدم من الجنة عمارة الدنيا .
الثالثة : يذكر أن الحية كانت خادم آدم عليه السلام في الجنة فخانته بأن مكنت عدو الله من نفسها وأظهرت العدواة له هناك ، فلما أهبطوا تأكدت العداوة وجعل رزقها التراب ، وقيل لها : أنت عدو بني آدم وهم أعداؤك وحيث لقيك منهم أحد شدخ رأسك . روى ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
"خمس يقتلهن المحرم" فذكر الحية فيهن . وروى أن إبليس قال لها : أدخليني الجنة وأنت في ذمتي ، فكان ابن عباس يقول : أخفروا ذمة إبليس . وروت ساكنة بنت الجعد عن سراء بنت نبهان الغنوية قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
"اقتلوا الحيات صغيرها وكبيرها وأسودها وأبيضها فإن من قتلها كانت له فداء من النار ومن قتلته كان شهيدا" . قال علماؤنا : وإنما كانت له فداء من النار لمشاركتها إبليس وإعانته على ضرر آدم وولده ، فكذلك كان من قتل حية فكأنما قتل كافراً . وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"لا يجتمع كافر وقاتله في النار أبدا" . أخرجه مسلم وغيره .
الرابعة : روى ابن جريج عن عمرو بن دينار عن ابي عبيدة عن عبد الله بن مسعود قال : " كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بمنى فمرت حية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اقتلوها فسبقتنا إلى حجر فدخلته ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هاتوا بسعفة ونار فأضرموها عليه نارا " . قال علماؤنا : وهذا الحديث يخص نهيه عليه السلام عن المثلة وعن ان يعذب أحد بعذاب الله تعالى ، قالوا : فلم يبق لهذا العدو حرمة حيث أنه فاته حتى أوصل اليه الهلاك من حيث قدر .
فإن قيل : قد روي عن إبراهيم النخعي أنه كره أن تحرق العقرب بالنار ، وقال : هو مثلة . قيل له : يحتمل أن يكون لم يبلغه هذا الأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وعمل على الأثر الذي جاء :
لا تعذبوا بعذاب الله فكان على هذا سبيل العمل عنده .
فإن قيل : فقد روى مسلم عن عبد الله بن مسعود قال :
" كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غار وقد أنزلت عليه : "والمرسلات عرفا" فنحن نأخذها من فيه رطبة ، إذ خرجت علينا حية ، فقال : اقتلوها ، فابتدرناها لنقتلها فسبقتنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وقاها الله شركم كما وقاكم شرها " . فلم يضرم ناراً ولا احتال في قتلها . قيل له : يحتمل أن يكون لم يجد ناراً فتركها ، أو لم يكن الجحر بهيئة ينتفع بالنار هناك مع ضرر الدخان وعدم وصوله إلى الحيوان . والله أعلم .
وقوله : "وقاها الله شركم" أي قتلكم إياها "كما وقاكم شرها" أي لسعها .
الخامسة : الأمر بقتل الحيات من باب الإرشاد إلى دفع المضمرة المخوفة من الحيات ، فما كان منها متحقق الضرر وجبت المبادرة إلى قتله ، لقوله :
"اقتلوا الحيات واقتلوا ذا الطفيتين والأبتر يخطفان البصر ويسقطان الحبل" . فخصهما بالذكر مع أنهما دخلا في العموم ونبه على ذلك بسبب عظم ضررهما . وما لم يتحقق ضرره فما كان منها في غير البيوت قتل أيضاً لظاهر الأمر العام ، ولأن نوع الحيات غالبة الضرر ، فيستصحب ذلك فيه ، ولأنه كله مروع بصورته وبما في النفوس من النفرة عنه ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم :
"إن لله يحب الشجاعة ولو على قتل حية" . فشجع على قتلها . وقال فيما خرجه أبو داود من حديث عبد الله بن مسعود مرفوعاً :
"اقتلوا الحيات كلهن فمن خاف ثأرهن فليس مني" . والله أعلم .
السادسة : ما كان من الحيات في البيوت فلا يقتل حتى يؤذن ثلاثة أيام ، لقوله عليه السلام :
"إن بالمدينة جنا قد أسلموا فإذا رأيتم منهم شيئا فآذنوه ثلاثة أيام" . وقد حمل بعض العلماء هذا الحديث على المدينة وحدها لإسلام الجن بها ، قالوا : ولا نعلم هل أسلم من جن غير المدينة أحد أو لا ، قاله ابن نافع . وقال مالك : نهى عن قتل جنان البيوت في جميع البلاد . وهو الصحيح ، لأن الله عز وجل قال : "وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن" الاية . وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
"أتاني داعي الجن فذهبت معهم فقرأت عليهم القرآن" وفيه : سألوه الزاد وكانوا من جن الجزيرة ، الحديث . وسيأتي بكماله في سورة الجن إن شاء الله تعالى . وإذا ثبت هذا فلا يقتل شيء منها حتى يحرج عليه وينذر ، على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى .
السابعة : روى الأئمة عن أبي السائب مولى هشام بن زهرة .
أنه دخل علي ابي سعيد الخدري في بيته ، قال :
فوجدته يصلي ، فجلست أنتظره حتى يقضى صلاته ، فسمعت تحريكاً في عراجين ناحية البيت ، فالتفت فإذا حية ، فوثبت لأقتلها ، فأشار إلي أن أجلس فجلست ، فلما انصرف اشار إلى بيت في الدار فقال : أترى هذا البيت ؟ فقلت نعم ، فقال : كان فيه فتى منا حديث عهد بعرس ، قال : فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق ، فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنصاف النهار فيرجع إلى أهله ، فاستأذنه يوماً ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : خذ عليك سلاحك فإني أخشى عليك قريظة . فأخذ الرجل سلاحه ثم رجع ، فإذا أمراته بين البابين قائمة فأهوى اليها بالرمح ليطعنها به وأصابته غيرة ، فقالت له : أكفف عليك رمحك ، وأدخل البيت حتى تنظر ما الذي اخرجني ! فدخل فإذا بحية عظيمة منطوية على الفراش ، فأهوى إليها بالرمح فأنتظمها به ، ثم خرج فركزه في الدار فاضطربت عليه ، فما يدري أيهما كان أسرع موتاً ، الحية أم الفتى ! قال : فجئنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له ، وقلنا : ادع الله يحييه لنا ، فقال : استغفروا لصاحبكم ـ ثم قال : ـ إن بالمدينة جنا قد اسلموا فإذا رأيتم منهم شيئاً فآذنوه ثلاثة أيام فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان . وفي طريق أخرى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن لهذه البيوت عوامر فإذا رأيتم شيئا منها فحرجوا عليها ثلاثا فإن ذهب وإلا فاقتلوه فإنه كافر ـ وقال لهم ـ اذهبوا فادفنوا صاحبكم" . قال علماؤنا رحمة الله عليم : لا يفهم من هذا الحديث ان هذا الجان الذي قتله هذا الفتى كان مسلماً وأن الجن قتلته به قصاصاً ، لأنه لو سلم ان القصاص مشروع بيننا وبين الجن لكان إنما يكون في العمد المحض ، وهذا الفتى لم يقصد ولم يتعمد قتل نفس مسلمة ، إذ لم يكن عنده علم من ذلك ، وإنما قصد إلى قتل ما سوغ قتل نوعه شرعاً ، فهذا فهذا قتل خطأ ولا قصاص فيه . فالأولى أن يقال : إن كفار الجن أو فسقتهم قتلوا الفتى بصاحبهم عدواً وانتقاماً . وقد قتلت سعد بن عبادة رضي الله عنه ، وذلك أنه وجد ميتاً في مغتسله وقد أحضر جسده ، ولم يشعروا بموته حتى سمعوا قائلاً يقول ولا يرون أحداً :
قد قتلنا سيد الخـز ـزج سعد بن عبادة
ورمينـــاه بسهميـ فلم نخـط فـؤاده
وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم :
"إن بالمدينة جنا قد اسلموا" ليبين طريقاً يحصل به التحرز من قتل المسلم منهم ويتسلط به على قتل الكافر منهم . روي من وجوه أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قتلت جاناً فأريت في المنام أن قائلاً يقول لها : لقد قتلت مسلماً ، فقالت : لو كان مسلماً لم يدخل على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ما دخل عليك إلا وعليك ثيابك . فأصبحت فأمرت باثني عشر بألف درهم فجعلت في سبيل الله . وفي رواية : ما دخل عليك إلا وأنت مستترة ، فتصدقت وأعتقت رقاباً . وقال الربيع بن بدر : الجان من الحيات التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلها هي التي تمشي ولا تلتوي ، وعن علقمة نحوه .
الثامنة : في صفة الإنذار ، قال مالك : أحب إلي أن ينذورا ثلاثة أيام . وقاله عيسى بن دينار ، وإن ظهر في اليوم مراراً . ولا يقصر على إنذاره ثلاث مرار في يوم واحد حتى يكون في ثلاثة أيام . وقيل : يكفي ثلاث مرار ، لقوله عليه السلام : "فليؤذنه ثلاثا" . وقوله : "حرجوا عليه ثلاثا" ولأن ثلاثاً للعدد المؤنث ، فظهر أن المراد ثلاث مرات . وقول مالك أولى ، لقوله عليه السلام : "ثلاثة أيام" . وهو نص صحيح مقيد لتلك المطلقات ، ويحمل ثلاثاً على إرادة ليالي الأيام الثلاث ، فغلب الليلة على عادة العرب ف باب التواريخ فإنها تغلب فيها التأنيث . قال مالك : ويكفي في الإنذار أن يقول : أحرج عليك بالله واليوم الآخر ألا تبدوا لنا ولا تؤذونا . وذكر ثابت البناني عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبيه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر عنده حيات البيوت فقال : إذا رأيتم منها شيئا في مساكنكم فقولوا : أنشدكم بالعهد الذي أخذ عليكم نوح عليه السلام ، وأنشدكم بالعهد الذي أخذ عليكم سليمان عليه السلام ، فإذا رأيتم منهن شيئا بعد فاقتلوه" .
قلت : وهذا يدل بظاهره أنه يكفى في الإذن مرة واحدة ، والحديث يرده . والله أعلم . وقد حكى ابن حبيب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقول :
"أنشدكن بالعهد الذي أخذ عليكن سليمان ـ عليه السلام ـ ألا تؤذيننا وألا تظهرن علينا" .
التاسعة : روى جبير عن نفير عن ابي ثعبة الخشني ـ واسمه جرثوم ـ " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : الجن على ثلاثة أثلاث فثلث لهم أجنحة يطيرون في الهواء وثلث حيات وكلاب وثلث يحلون ويظعنون " . وروى أبو الدرداء ـ واسمه عويمر ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"خلق الله الجن ثلاثة أثلاث فثلث كلاب وحيات وخشاش الأرض وثلث ريح هفافة وثلث كبني آدم لهم الثواب وعليهم العقاب وخلق الله الإنس ثلاثة اثلاث فثلث لهم قلوب لا يفقهون بها وأعين لا يبصرون بها وأذان لا يسمعون بها إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا وثلث أجسادهم كأجساد بني آدم وقلوبهم قلوب الشياطين وثلث في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله" .
العاشرة : ما كان من الحيوان أصله الإذاية فإنه يقتل ابتداء لأجل إذابته من غير خلاف ، كالحية والعقرب والفأر والوزغ ، وشبهه . وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم " ... وذكر الحديث .
فالحية أبدت جوهرها الخبيث حيث خانت آدم بأن أدخلت إبليس الجنة بين فكيها ، ولو كانت تبرزه ما تركها رضوان تدخل به . وقال لها إبليس أنت في ذمتي ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلها وقال :
"اقتلوها ولو كنتم في الصلاة" يعني الحية والعقرب .
والوزغة نفخت على نار إبراهيم عليه السلام من بين سائر الدواب فلعنت . وهذا من نوع ما يروى في الحية . وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :
"من قتل وزغة فكأنما قتل كافرا" . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم :
"من قتل وزغة في أول ضربة كتبت له مائة حسنة وفي الثانية دون ذلك وفي الثالثة دون ذلك" وفي رواية أنه قال : "في أول ضربة سبعون حسنة" .
والفأرة أبدت جوهرها بأن عمدت إلى حبال سفينة نوح عليه السلام فقطعتها . وروى عبد الرحمن بن أبي نعم عن ابي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
"يقتل المحرم الحية والعقرب والحدأة والسبع العادي والكلب العقور والفويسقة" . واستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أخذت فتيلة لتحرق البيت فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلها .
والغراب أبدى جوهره حيث بعثه نبي الله نوح عليه السلام من السفينة ليأتيه بخبر الأرض فترك أمره وأقبل على جيفه . هذا كله في معنى الحية ، فلذلك ذكرناه . وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان في التعليل في المائدة وغيرها إن شاء الله تعالى .
قوله تعالى : "وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو" فيه سبع مسائل :
الأولى : قوله تعالى : "وقلنا اهبطوا" حذفت الألف من اهبطوا في اللفظ لأنها ألف وصل . وحذفت الألف من قلنا في اللفظ لسكونها وسكون الهاء بعدها . وروي محمد بن مصفى عن ابي حيوة ضم الباء في اهبطوا ، وهي لغة يقويها أنه غير متعد والأكثر في غير المتعدي أن يأتي على يفعل . والخطاب لآدم وحواء والحية والشيطان ، في قول ابن عباس . وقال الحسن : آدم وحواء والموسوس . وقال مجاهد و الحسن أيضاً : بنو آدم وبنو إبليس . والهبوط : النزول من فوق إلى أسفل ، فأهبط آدم بسرنديب في الهند بجبل يقال له بوذ ومعه ريح الجنىة فعلق بشجرها وأوديتها فامتلأ ما هناك طيباً ، فمن ثم يؤتى بالطيب من ريح آدم عليه السلام . وكان السحاب يمسح رأسه فأصلع ، فأورث ولده الصلع . وفي البخاري عن ابي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
"خلق الله آدم وطوله ستون ذراعا" الحديث . وأخرجه مسلم وسيأتي . وأهبطت حواء بجدة وإبليس بالأبلة ، والحية ببيسان ، وقيل : بسجستان .
وسجستان أكثر بلاد الله حيات ، ولولا العربد الذي يأكلها ويفنى كثيراً منها لأخليت سجستان من أجل الحيات ، ذكره أبو الحسن الأشعري .
الثانية : قوله تعالى : "بعضكم لبعض عدو" بعضكم مبتدأ ، عدو خبره ، والجملة في موضع نصب على الحال ، والتقدير وهذه حالكم . وحذفت الواو من و بعضكم لأن في الكلام عائداً ، كما يقال : رأيتك السماء تمطر عليك . والعدو : خلاف الصديق ، وهو من عدا إذا ظلم . وذئب عدوان : يعدو على الناس . والعدوان : الظلم الصراح . وقيل : هو مأخوذ من المجاوزة ، من قولك : لا يعدوك هذا الأمر ، أي لا يتجاوزك . وعداه إذا جاوزه ، فسمي عدوا لمجاوزة الحد في مكروه صاحبه ، ومنه العدو بالقدم لمجاوزة الشيء ، والمعنيان متقاربان ، فإن من ظلم فقد تجاوز .
قلت : وقد حمل بعض العلماء قوله تعالى : "بعضكم لبعض عدو" على الإنسان نفسه ، وفيه بعد وإن كان صحيحاً معنى . يدل عليه قوله عليه السلام :
"إن العبد إذا أصبح تقول جوارحه للسانه اتق الله فينا فإنك إذا استقمت استقمنا وان اعوججت اعوججنا" . فإن قيل : كيف قال عدو ولم يقل أعداء ، ففيه جوابان . أحدهما : أن بعضاً وكلاً يخبر عنهما بالواحد على اللفظ وعلى المعنى ، وذلك في القرآن ، قال الله تعالى : "وكلهم آتيه يوم القيامة فردا" على اللفظ ، وقال تعالى : "وكل أتوه داخرين" على المعنى . والجواب الآخر : أن عدوا يفرد في موضع الجمع ، قال الله عز وجل : "وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا" بمعنى أعداء ، وقال تعالى : "يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو" . وقال ابن فارس :العدو اسم جامع للواحد والاثنين والثلاثة والتأنيث ، وقد يجمع .
الثالثة : لم يكن إخراج الله تعالى آدم من الجنة وإهباطه منها عقوبة له ، لأنه أهبطه بعد أن تاب عليه وقبل توبته ، وإنما اهبطه إما تأديباً وإما تغليظاً للمحنة . والصحيح في إهباطه وسكناه في الأرض ما قد ظهر من الحكمة الأزلية في ذلك ، وهي نشر نسله فيها ليكلفهم ويمتحنهم ، ويرتب على ذلك ثوابهم وعقابهم الأخروي ، إذ الجنة والنار ليستا بدار تكليف ، فكانت تلك الأكلة سبب إهباطه من الجنة . ولله أن يفعل ما يشاء . وقد قال : "إني جاعل في الأرض خليفة" . وهذه منقبة عظيمة وفضيلة كريمة شريفة ، وقد تقدمت الإشارة إليها مع أنه خلق من الأرض . وإنما قلنا إنما أهبطه بعد أن تاب عليه لقوله ثانية : "قلنا اهبطوا" وسيأتي .
الرابعة : "ولكم في الأرض مستقر" ابتداء وخبر ، أي موضع استقرار . قاله أبو العالية وابن زيد . وقال السدي : مستقر يعني القبور .
قلت : وقول الله تعالى : "جعل لكم الأرض قرارا" يحتمل المعنيين . والله أعلم .
قلت : قول الله تعالى : "ومتاع" المتاع ما يستمتع به من أكل ولبس وحياة وحديث وأنس وغير ذلك ، ومنه سميت متعة النكاح لأنها يتمتع بها . وأنشد سليمان بن عبد الملك حين وقف على قبر ابنه إثر دفنه :
وقفت على قبر غريب بقفرة متاع قليل من حبيب مفارق
السادسة : قوله تعالى : "إلى حين" اختلف المتأولون في الحين على أقوال ، فقالت فرقة : إلى الموت ، وهذا قول من يقول : المستقر هو المقام في الدنيا . وقيل : إلى قيام الساعة ، وهذا قول من يقول : المستقر هو القبور . وقال الربيع : إلى حين إلى أجل . والحين : الوقت البعيد ، فحينئذ تبعيد من قولك الآن . قال خويلد :
كابي الرماد عظيم القدر جفنته حين الشتاء كحوض المنهل اللقف
لقف الحوض لقفاً ، أي تهور من اسفله واتسع . وربما ادخلوا عليه التاء . قال أبو وجزة :
العاطفون تحين ما من عاطف والمطعمون زمان أين المطعم
والحين أيضاً : المدة ، ومنه قوله تعالى : "هل أتى على الإنسان حين من الدهر" . والحين : الساعة ، قال الله تعالى : "أو تقول حين ترى العذاب" قال ابن عرفة : الحين القطعة من الدهر كالساعة فما فوقها . وقوله : "فذرهم في غمرتهم حتى حين" أي حتى تفنى آجالهم . وقوله تعالى : "تؤتي أكلها كل حين" أي كل سنة ، وقيل : بل كل ستة أشهر ، وقيل : بل غدوةً وعشيا . قال الأزهري : الحين اسم كالوقت يصلح لجميع الأزمان لها طالت أو قصرت . والمعنى أنه ينتفع بها في كل وقت ولا ينقطع نفعها البتة . قال : والحين يوم القيامة . والحين : الغدوة والعشية ، قال الله تعالى : "فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون" . ويقال : عاملته محاينة ، من الحين . وأحينت بالمكان : إذا أقمت به حيناً . وحان حين كذا أي أقرب . قالت بثينة :
وإن سلوى عن جميل لساعة من الدهر ما حانت ولا حان حينها
السابعة : لما اختلف أهل اللسان في الحين اختلف فيه أيضاً علماؤنا وغيرهم ، فقال الفراء : الحين حينان : حين لا يوقف على حده ، والحين الذي ذكر الله جل ثناؤه : "تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها" ستة أشهر . قال ابن العربي : الحين المجهول لا يتعلق به حكم ، والحين المعلوم هو الذي تتعلق به الأحكام ويرتبط به التكليف ، وأكثر المعلوم سنة . و مالك يرى في الأحكام والأيمان أعم الأسماء والأزمنة . و الشافعي يرى الأقل . و أبو حنيفة توسط فقال : ستة أشهر . ولا معنى لقوله ، لأن المقدرات عنده لا تثبت قياساً ، وليس فيه نص عن صاحب الشريعة ، وإنما المعول على المعنى بعد معرفة مقتضى اللفظ لغةً . فمن نذر أن يصلي حيناً فيحمل على ركعة عند الشافعي ، لأنه أقل النافلة ، قياساً على ركعة الوتر . وقال مالك و أصحابه : أقل النافلة ركعتان ، فيتقدر الزمان بقدر الفعل . وذكر ابن خويز منداد في أحكامه : ان من حلف الآ يكلم فلاناً حيناً أو لا يفعل كذا حيناً ، أن الحين سنة . قال : واتفقوا في الأحكام أن من حلف ألا يفعل كذا حيناً أو لا يكلم فلاناً حيناً ، أن الزيادة على سنة لم تدخل في يمنيه .
قلت : هذا الإتفاق إنما هو المذهب . قال مالك رحمه الله : من حلف ألا يفعل شيئاً إلى حين أو زمان أو دهر ، فذلك كله سنة . وقاله عنه ابن وهب : أنه شك في الدهر أن يكون سنة . وحكى ابن المنذر عن يعقوب وابن الحسن : أن الدهر ستة أشهر . وعن ابن عباس وأصحاب الراي و عكرمة وسعيد بن جبير و عامر الشعبي و عبيدة في قوله تعالى : "تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها" أنه ستة أشهر . وقال الأوزاعي و أبو عبيد : الحين ستة اشهر . وليس عند الشافعي في الحين وقت معلوم ، ولا للحين غاية ، وقد يكون الحين عنده مدة الدنيا . وقال : لا نخنثه أبداً ، والورع أن يقضيه قبل انقضاء يوم . وقال أبو ثور وغيره : الحين والزمان على ما تحتمله اللغة ، يقال : قد جئت من حين ، ولعله لم يجىء من نصف يوم . قال الكيا الطبري الشافعي : وبالجملة ، الحين له مصارف ، ولم ير الشافعي تعيين محمل من هذه المحامل ، لأنه مجمل لم يوضع في اللغة لمعنىً معين . وقال بعض العلماء في قوله تعالى : إلى حين فائدة بشارة إلى آدم عليه السلام ليعلم أنه غير باق فيها ومنتقل إلى الجنة التي وعد بالرجوع إليها ، وهي لغير آدم دالة على المعاد فحسب ، والله أعلم .
يقول الله تعالى إخباراً عما أكرم به آدم: بعد أن أمر الملائكة بالسجود له فسجدوا إلا إبليس وأنه أباح له الجنة يسكن منها حيث يشاء ويأكل منها ما شاء رغداً أي هنيئاً واسعاً طيباً: وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه من حديث محمد بن عيسى الدامغاني، حدثنا سلمة بن الفضل عن ميكائيل عن ليث عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر، قال: قلت يا رسول الله أريت آدم أنبياً كان ؟ قال: "نعم نبياً رسولاً كلمه الله قبلاً" ـ يعني عياناً ـ فقال: "اسكن أنت وزوجك الجنة" وقد اختلف في الجنة التي أسكنها آدم أهي في السماء أم في الأرض ؟ والأكثرون على الأول، وحكى القرطبي عن المعتزلة والقدرية القول بأنها في الأرض، وسيأتي تقرير ذلك في سورة الأعراف إن شاء الله تعالى، وسياق الأية يقتضي أن حواء خلقت قبل دخول آدم الجنة وقد صرح بذلك محمد بن إسحاق حيث قال: لما فرغ الله من معاتبة إبليس أقبل على آدم وقد علمه الأسماء كلها فقال يا آدم أنبئهم بأسمائهم إلى قوله: "إنك أنت العليم الحكيم" قال ثم ألقيت السنة على آدم فيما بلغنا عن أهل الكتاب من أهل التوراة وغيرهم من أهل العلم عن ابن عباس وغيره، ثم أخذ ضلعاً من أضلاعه من شقه الأيسر ولأم مكانه لحماً، وآدم نائم لم يهب من نومه حتى خلق الله من ضلعه تلك زوجته حواء فسواها امرأة ليسكن إليها، فلما كشف عنه السنة وهب من نومه رآها إلى جنبه فقال فيما يزعمون والله أعلم لحمي ودمي وزوجتي فسكن إليها، فلما زوجه الله وجعل له سكناً من نفسه قال له قبلاً: "يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغداً حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين" ويقال إن خلق حواء كان بعد دخول الجنة كما قال السدي في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة وعن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة: أخرج إبليس من الجنة وأسكن آدم الجنة فكان يمشي فيها وجشاً ليس له زوج يسكن إليه فنام نومة فاستيقظ وعند رأسه امرأة قاعدة خلقها الله من ضلعه، فسألها: ما أنت ؟ قالت امرأة، قال: ولم خلقت ؟ قالت لتسكن إلي. قالت له الملائكة ينظرون ما بلغ من علمه، ما اسمها يا آدم، قال: حواء، قالوا: ولم سميت حواء ؟ قال: إنها خلقت من شيء حي. قال الله: "يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغداً حيث شئتما".
وأما قوله: "ولا تقربا هذه الشجرة" فهو اختبار من الله تعالى وامتحان لادم وقد اختلف في هذه الشجرة ما هي، فقال السدي عمن حدثه عن ابن عباس: الشجرة التي نهي عنها آدم عليه السلام هي الكرم، وكذا قال سعيد بن جبير والسدي والشعبي وجعدة بن هبيرة ومحمد بن قيس، وقال السدي أيضاً في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مره عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة "ولا تقربا هذه الشجرة" هي الكرم. وتزعم يهود أنها الحنطة. وقال ابن جرير وابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن اسماعيل بن سمرة الأحمسي حدثنا أبو يحيى الحماني حدثنا النضر أبو عمر الخراز عن عكرمة عن ابن عباس قال: الشجرة التي نهي عنها آدم عليه السلام هي السنبلة، وقال عبد الرزاق أنبأنا ابن عيينة وابن المبارك عن الحسن بن عمارة عن المنهال بن عمر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: هي السنبلة وقال محمد بن إسحاق عن رجل من أهل العلم عن حجاج عن مجاهد عن ابن عباس قال: هي البر وقال ابن جرير: وحدثني المثنى بن إبراهيم، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا القاسم حدثني رجل من بني تميم أن ابن عباس كتب إلى أبي الجلد يسأله عن الشجرة التي أكل منها آدم والشجرة التي تاب عندها آدم فكتب إليه أبو الجلد سألتني عن الشجرة التي نهي عنها آدم وهي السنبلة، وسألتني عن الشجرة التي تاب عندها آدم وهي الزيتونة، وكذلك فسره الحسن البصري ووهب بن منبه وعطية العوفي وأبو مالك ومحارب بن دثار وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وقال محمد بن إسحاق عن بعض أهل اليمن عن وهب بن منبه أنه كان يقول هي البر ولكن الحبة منها في الجنة ككلى البقر وألين من الزبد وأحلى من العسل، وقال سفيان الثوري عن حصين عن أبي مالك "ولا تقربا هذه الشجرة" قال النخلة: وقال ابن جرير عن مجاهد "ولا تقربا هذه الشجرة" قال التينة، وبه قال قتادة وابن جريج، وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية كانت الشجرة من أكل منها أحدث، ولا ينبغي أن يكون في الجنة حدث، وقال عبد الرزاق: حدثنا عمر بن عبد الرحمن بن مهران قال: سمعت وهب بن منبه يقول: لما أسكن الله آدم وزوجته الجنة ونهاه عن أكل الشجرة، وكانت شجرة غصونها متشعب بعضها من بعض، وكان لها ثمر تأكله الملائكة لخلدهم وهي الشجرة التي نهى الله عنها آدم وزوجته.
فهذه أقوال ستة في تفسير هذه الشجرة. قال الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله: والصواب في ذلك أن يقال إن الله عز وجل ثناؤه: نهى آدم وزوجته عن أكل شجرة بعينها من أشجار الجنة دون سائر أشجارها فأكلا منها ولا علم عندنا بأي شجرة كانت على التعيين، لأن الله لم يضع لعباده دليلاً على ذلك في القرآن ولا من السنة الصحيحة، وقد قيل: كانت شجرة البر وقيل كانت شجرة العنب وقيل كانت شجرة التين، وجائز أن تكون واحدة منها، وذلك علم إذا علم لم ينفع العالم به علمه، وإن جهله جاهل لم يضره جهله به، والله أعلم، وكذلك رجح الإبهام الرازي في تفسيره وغيره وهو الصواب، وقوله تعالى: "فأزلهما الشيطان عنها" يصح أن يكون الضمير في قوله عنها عائداً إلى الجنة فيكون معنى الكلام كما قرأ عاصم بن بهدلة وهو ابن أبي النجود فأزالهما أي فنحاهما: ويصح أن يكون عائداً على أقرب المذكورين وهو الشجرة فيكون معنى الكلام كما قال الحسن وقتادة فأزلهما أي من قبل الزللن فعلى هذا يكون تقدير الكلام "فأزلهما الشيطان عنها" أي بسببها، كما قال تعالى: "يؤفك عنه من أفك" أي يصرف بسببه من هو مأفوك، ولهذا قال تعالى "فأخرجهما مما كانا فيه" أي من اللباس والمنزل الرحب والرزق الهنيء والراحة " وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين " أي قرار وأرزاق وآجال ـ إلى حين ـ أي إلى وقت ومقدار معين ثم تقوم القيامة، وقد ذكر المفسرون من السلف كالسدي بأسانيده وأبي العالية ووهب بن منبه وغيرهم ههنا أخباراً إسرائيلية عن قصة الحية وإبليس، وكيف جرى من دخول إبليس إلى الجنة ووسوسته، وسنبسط ذلك إن شاء الله في سورة الأعراف فهناك القصة أبسط منها ههنا، والله الموفق، وقد قال ابن أبي حاتم ههنا: حدثنا علي بن الحسن بن إشكاب، حدثنا علي بن عاصم عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله خلق آدم رجلاً طوالاً كثير شعر الرأس كأنه نخلة سحوق فلما ذاق الشجرة سقط عنه لباسه، فأول ما بدا منه عورته، فلما نظر إلى عورته جعل يشتد في الجنة فأخذت شعره شجرة فنازعها فناداه الرحمن: يا آدم مني تفر فلما سمع كلام الرحمن قال: يا رب لا، ولكن استحياء ". قال: وحدثني جعفر بن أحمد بن الحكم القرشي سنة أربع وخمسين ومائتين، حدثنا سليمان بن منصور بن عمار حدثنا علي بن عاصم عن سعيد عن قتادة عن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما ذاق آدم من الشجرة فر هارباً فتعلقت شجرة بشعره فنودي: يا آدم أفراراً مني ؟ قال: بل حياء منك، قال: يا آدم اخرج من جواري فبعزتي لا يساكنني فيها من عصاني، ولو خلقت مثلك ملء الأرض خلقاً ثم عصوني لأسكنتهم دار العاصين" هذا حديث غريب وفيه انقطاع بل إعضال بين قتادة وأبي بن كعب رضي الله عنهما. وقال الحاكم حدثنا أبو بكر بن بالويه عن محمد بن أحمد بن النضر عن معاوية بن عمرو عن زائدة عن عمار بن أبي معاوية البجلي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: ما أسكن آدم الجنة إلا ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، ثم قال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وقال عبد بن حميد في تفسيره حدثنا روح عن هشام عن الحسن، قال: لبث آدم في الجنة ساعة من نهار تلك الساعة ثلاثون ومائة سنة من أيام الدنيا. وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، قال: خرج آدم من الجنة للساعة التاسعة أو العاشرة فأخرج آدم معه غصناً من شجر الجنة على رأسه تاج من شجر الجنة وهو الإكليل من ورق الجنة. وقال السدي: قال الله تعالى: "اهبطوا منها جميعاً" فهبطوا ونزل آدم بالهند ونزل معه الحجر الأسود وقبضة من ورق الجنة، فبثه بالهند فنبتت شجرة الطيب فإنما أصل ما يجاء به من الطيب من الهند من قبضة الورق التي هبط بها آدم، وإنما قبضها آدم أسفاً على الجنة حين أخرج منها، وقال عمران بن عيينة. عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: أهبط آدم من الجنة بدحنا أرض الهند. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جريرعن عطاء عن سعيد عن ابن عباس قال: أهبط آدم عليه السلام إلى أرض يقال لها دحنا بين مكة والطائف. وعن الحسن البصري قال: أهبط آدم بالهند ، وحواء بجدة، وإبليس بدستميسان من البصرة على أميال، وأهبطت الحية بأصبهان، رواه ابن أبي حاتم. وقال محمد بن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عمار بن الحارث حدثنا محمد بن سابق حدثنا عمر بن أبي قيس عن الزبير بن عدي عن ابن عمر قال: أهبط آدم بالصفا وحواء بالمروة. وقال رجاء بن سلمة أهبط آدم عليه السلام يداه على ركبتيه مطأطئاً رأسه، وأهبط إبليس مشبكاً بين أصابعه رافعاً رأسه إلى السماء وقال عبد الرزاق قال معمر أخبرني عوف عن قسامة بن زهير عن أبي موسى، قال: إن الله حين أهبط آدم من الجنة إلى الأرض علمه صنعة كل شيء وزوده من ثمار الجنة، فثماركم هذه من ثمار الجنة غير أن هذه تتغير وتلك لا تتغير ، وقال الزهري عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها" رواه مسلم والنسائي. وقال الرازي: أعلم أن في هذه الاية تهديداً عظيماً عن كل المعاصي من وجوه (الأول) أن من تصور ما جرى على آدم بسبب إقدامه على هذه الزلة الصغيرة كان على وجل شديد من المعاصي، قال الشاعر:
يا ناظراً يرنو بعيني راقد ومشاهداً للأمر غير مشاهد
تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي درج الجنان ونيل فوز العابد
أنسيت ربك حين أخرج آدما منها إلى الدنيا بذنب واحد
وقال ابن القاسم:
ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلم
قال الرازي عن فتح الموصلي أنه قال: كنا قوماً من أهل الجنة فسبانا إبليس إلى الدنيا، فليس لنا إلا الهم والحزن حتى نرد إلى الدار التي أخرجنا منها. فإن قيل: فإذا كانت جنة آدم التي أخرج منها في السماء كما يقوله الجمهور من العلماء ، فكيف تمكن إبليس من دخول الجنة، وقد طرد من هنالك طرداً قدرياً، والقدري لا يخالف ولا يمانع ؟ فالجواب: أن هذا بعينه استدل به من يقول: إن الجنة التي كان فيها آدم في الأرض لا في السماء ، كما قد بسطنا هذا في أول كتابنا البداية والنهاية، وأجاب الجمهور بأجوبة، أحدها: أنه منع من دخول الجنة مكرماً، فأما على وجه السرقة والإهانةن فلا يمتنعن ولهذا قال بعضهم: كما جاء في التوراة أنه دخل في فم الحية إلى الجنة. وقد قال بعضهم: يحتمل أنه وسوس لهما وهو خارج باب الجنة. وقال بعضهم: يحتمل أنه وسوس لهما وهو في الأرض، وهما في السماء، ذكرها الزمخشري وغيره. وقد أورد القرطبي ههنا أحاديث في الحيات وقتلهن وبيان حكم ذلك، فأجاد وأفاد.
وأزلهما من الزلة وهي الخطيئة أي استزلهما وأوقعهما فيها، وقرأ حمزة فأزلهما بإثبات الألف من الإزالة وهي التحتية: أي نحاهما- وقرأ الباقون بحذف الألف. قال ابن كيسان: هو من الزوال: أي صرفهما عما كان عليه من الطاعة إلى المعصية. قال القرطبي: وعلى هذا تكون القراءتان بمعنى، إلا أن قراءة الجماعة أمكن في المعنى، يقال منه: أزللته فزل و 36- "عنها" متعلق بقوله: أزلهما على تضمينه معنى أصدر: أي أصدر الشيطان زلتهما عنها أي بسببها، يعني الشجرة. وقيل: الضمير للجنة، وعلى هذا فالفعل مضمن معنى أبعدهما: أي أبعدهما عن الجنة. وقوله: "فأخرجهما" تأكيد لمضمون الجملة الأولى: أي أزلهما إن كان معناه زال عن المكان، وإن لم يكن معناه كذلك فهو تأسيس، لأن الإخراج فيه زيادة على مجرد الصرف والإبعاد ونحوهما، لأن الصرف عن الشجرة والإبعاد عنها قد يكون مع البقاء في الجنة بخلاف الإخراج لهما عما كانا فيه من النعيم والكرامة أو من الجنة- وإنما نسب ذلك إلى الشيطان لأنه الذي تولى إغواء آدم حتى أكل من الشجرة. وقد اختلف أهل العلم في الكيفية التي فعلها الشيطان في إزلالهما، فقيل: إنه كان ذلك بمشافهة منه لهما، وإليه ذهب الجمهور واستدلوا على ذلك
بقوله تعالى " وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين " والمقاسمة ظاهرها المشافهة: وقيل: لم يصدر منه إلا مجرد الوسوسة، وقيل غير ذلك مما سيأتي في المروى عن السلف. وقوله: "اهبطوا" خطاب لآدم وحواء، وخوطبا بما يخاطب به الجمع لأن الاثنين أقل الجمع عند البعض من أئمة العربية، وقيل: إنه خطاب لهما ولذريتهما، لأنهما لما كانا أصل هذا النوع الإنساني جعلا بمنزلته، ويدل على ذلك قوله: "بعضكم لبعض عدو" فإن هذه الجملة الواقعة حالاً مبيناً للهيئة الثابتة للمأمورين بالهبوط تفيد ذلك. والعدو خلاف الصديق، وهو من عدا إذا ظلم، ويقال: ذئب عدوان: أي يعدو على الناس، والعدوان: الظلم الصراح وقيل إنه مأخوذ من المجاوزة، يقال عداه: إذا جاوزه، والمعنيان متقاربان، فإن من ظلم فقد تجاوز. وإنما أخبر عن قوله: "بعضكم" بقوله: "عدو" مع كونه مفرداً، لأن لفظ بعض وإن كان معناه محتملاً للتعدد فهو مفرد فروعي جانب اللفظ وأخبر عنه بالمفرد، وقد يراعي المعنى فيخبر عنه بالمتعدد. وقد يجاب بأن "عدو" وإن كان مفرداً فقد يقع موقع المتعدد كقوله تعالى: "وهم لكم عدو" وقوله: "يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو" قال ابن فارس: العدو اسم جامع للواحد والاثنين والثلاثة.
والمراد بالمستقر. موضع الاستقرار، ومنه "أصحاب الجنة يومئذ خير مستقر" فالآية محتملة للمعنيين، ومثلها قوله: "جعل لكم الأرض قراراً" والمتاع: ما يستمتع به من المأكول والمشروب والملبوس ونحوها. واختلف المفسرون في قوله: "إلى حين" فقيل: إلى الموت، وقيل: إلى قيام الساعة. وأصل معنى الحين في اللغة: الوقت البعيد، ومنه "هل أتى على الإنسان حين من الدهر"، ومنه "فذرهم في غمرتهم حتى حين" أي حتى تفنى آجالهم، ويطلق على السنة، وقيل: على ستة أشهر، ومنه "تؤتي أكلها كل حين" ويطلق على المساء والصباح، ومنه "حين تمسون وحين تصبحون" وقال الفراء: الحين حينان، حين لا يوقف على حده، ثم ذكر الحين الآخر واختلافه بحسب اختلاف المقامات كما ذكرنا. وقال ابن العربي: الحين المجهول لا يتعلق به حكم، والحين المعلوم سنة. ومعنى تلقي آدم للكلمات: أخذه لها وقبوله لما فيها وعمله بها، وقيل: فهمه لها وفطانته لما تضمنته. وأصل معنى التلقي الاستقبال: أي استقبل الكلمات الموحاة إليه ومن قرأ بنصب آدم جعل معناه استقبلته الكلمات.وقيل: إن معنى تلقى تلقن، ولا وجه له في العربية. واختلف السلف في تعيين هذه الكلمات وسيأتي. والتوبة: الرجوع يقال تاب العبد: إذا رجع إلى طاعة مولاه، وعبد تواب: كثير الرجوع فمعنى تاب عليه: رجع عليه بالرحمة فقيل توبته أو وفقه للتوبة. واقتصر على ذكر التوبة على آدم دون حواء مع اشتراكهما في الذنب، لأن الكلام من أول القصة معه فاستمر على ذلك واستغنى بالتوبة عليه عن ذكر التوبة عليها لكونها تابعة له، كما استغنى بنسبة الذنب إليه عن نسبته إليها في قوله: "وعصى آدم ربه فغوى". وأما قوله: "قلنا اهبطوا" بعد قوله: "قلنا اهبطوا"، فكرره للتوكيد والتغليظ. وقيل: إنه لما تعلق به حكم غير الحكم الأول كرره ولا تزاحم بين المقتضيات. فقد يكون التكرير للأمرين معاً. وجواب الشرط في قوله: "فإما يأتينكم مني هدى" هو الشرط الثاني مع جوابه قاله سيبويه. وقال الكسائي: إن جواب الشرط الأول والثاني قوله: "فلا خوف" واختلفوا في معنى الهدى المذكور فقيل: هو كتاب الله، وقيل: التوفيق للهداية. والخوف: هو الذعر، ولا يكون إلا في المستقبل. وقرأ الزهري والحسن وعيسى بن عمار وابن أبي إسحاق ويعقوب "فلا خوف" بفتح الفاء والحزن ضد السرور. قال اليزيدي: حزنه لغة قريش، وأحزنه لغة تميم. وقد قرىء بهما. وصحبة أهل النار لها بمعنى الاقتران والملازمة. وقد تقدم ذكر تفسير الخلود.
وقد أخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن أبي ذر قال: "قلت يا رسول الله أرأيت آدم نبياً كان؟ قال: نعم كان نبياً رسولاً كلمه الله، قال له:-يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة". وأخرج ابن أبي شيبة والطبراني عن أبي ذر قال: "قلت يا رسول الله من أول الأنبياء؟ قال: ادم قلت: نبي؟ قال: نعم. قلت ثم من؟ قال: نوح وبينهما عشرة آباء". وأخرج أحمد والبخاري في تاريخه والبيهقي في الشعب نحوه من حديث أبي ذر مرفوعاً وزاد "كم كان المرسلون؟ قال: ثلثمائةوخمسة عشر جماً غفيراً". وأخرج ابن أبي حاتم وابن حبان والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي عن أبي أمامة الباهلي، "أن رجلاً قال: يا رسول الله أنبي كان آدم؟ قال: نعم، قال: كم بينه وبين نوح؟ قال: عشرة قرون قال: كم بين نوح وبين إبراهيم؟ قال: عشرة قرون، قال: يا رسول الله كم الأنبياء؟ قال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، قال: يا رسول الله كم كانت الرسل من ذلك؟ قال: ثلثمائة وخمسة عشر جماً غفيراً". وأخرج أحمد وابن المنذر والطبراني وابن مردويه من حديث أبي أمامة نحوه، وصرح بأن السائل أبو ذر. وأخرج عبد بن حميد والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: ما سكن آدم الجنة إلا بين صلاة العصر إلى غروب الشمس. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي عنه قال: "ما غابت الشمس من ذلك اليوم حتى أهبط من الجنة". وأخرج الفريابي وأحمد في الزهد وعبد بن حميد وابن المنذر عن الحسن قال: لبث آدم في الجنة ساعة من نهار، تلك الساعة مائة وثلاثون سنة من أيام الدنيا. وقد روي تقدير اللبث في الجنة عن سعيد بن جبير يمثل ما تقدم عن ابن عباس كما رواه أحمد في الزهد. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي وابن عساكر عن ابن عباس وابن مسعود وناس من الصحابة قالوا: لما سكن آدم الجنة كان يمشي فيها وحشاً ليس له زوج يسكن إليها، فنام نومة فاستيقظ وإذا عند رأسه امرأة قاعدة خلقها الله من ضلعه. وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" استوصوا بالنساء خيراً، فإن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج شيء من الضلع رأسه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته تركته وفيه عوج" وروى أبو الشيخ وابن عساكر عن ابن عباس قال: إنما سميت حواء لأنها أم كل حي. وأخرج ابن عدي وابن عساكر عن النخعي قال: لما خلق الله آدم وخلق له زوجه بعث إليه ملكاً وأمره بالجماع ففعل، فلما فرغ قالت له حواء: يا آدم هذا طيب زدنا منه. وأخرج ابن جرير وابن عساكر عن ابن مسعود وناس من الصحابة قال: الرغد الهنيء. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: الرغد سعة المعيشة. وأخرجا عنه في قوله: "وكلا منها رغداً حيث شئتما" قال: لا حساب عليكم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن عساكر من طرق عن ابن عباس قال: الشجرة التي نهى الله عنها آدم السنبلة وفي لفظ: البر. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال: هي الكرم. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود مثله. وأخرج أبو الشيخ عنه قال: هي اللوز. وأخرج ابن جرير عن بعض الصحابة قال: هي التينة. وروى مثله أبو الشيخ عن مجاهد وابن أبي حاتم عن قتادة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن وهب بن منبه قال: هي البر. وأخرج أبو الشيخ عن أبي مالك قال: هي النخلة. وأخرج أبو الشيخ عن يزيد بن عبدالله بن قسيط قال: هي الأترج. وأخرج أحمد في الزهد عن شعيب الجبائي قال: هي تشبه البر وتسمى الدعة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله "فأزلهما" قال: فأغواهما. وأخرج ابن أبي حاتم عن عاصم بن بهدلة قال: "فأزلهما" فنحاهما. وأخرج أبو داود في المصاحف عن الأعمش قال: قراءتنا في البقرة مكان فأزلهما فوسوس. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن مسعود وناس من الصحابة قالوا: أراد إبليس أن يدخل عليهما الجنة فمنعته الخزنة، فأتى الحية وهي دابة لها أربع قوائم كأنها البعير وهي كأحسن الدواب، فكلمها أن تدخله في فمها حتى به إلى آدم، فأدخلته في فمها، فمرت الحية على الخزنة فدخلت ولا يعلمون لما أراد الله من الأمر، فكلمه من فمها فلم يبال بكلامه، فخرج إليه فقال: يا آدم "هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى" وحلف لهما بالله "إني لكما لمن الناصحين" فأبى آدم أن يأكل منها، فتقدمت حواء فأكلت، ثم قالت: يا آدم كل، فإني قد أكلت فلم يضرني، فلما أكلا " بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة". وقد أخرج قصة الحية ودخول إبليس معها عبد الرزاق وابن جرير عن ابن عباس. وأخرج ابن سعد وأحمد في الزهد وعبد بن حميد وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن آدم كان رجلاً طوالاً كأنه نخلة سحوق طوله ستون ذراعاً كثير شعر الرأس، فلما ركب الخطيئة بدت له عورته" الحديث. وأخرج ابن منيع وابن المنذر وأبو الشيخ والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن ابن عباس. قال: قال الله لآدم: ما حملك على أن أكلت من الشجرة التي نهيتك عنها؟ قال: يا رب زينته لي حواء، قال: فإني عاقبتها بأن لا تحمل إلا كرهاً ولا تضع إلا كرهاً، وأدميتها في كل شهر مرتين. وأخرج البخاري والحاكم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لولا بنو إسرائيل لم يخنزاللحم، ولولا حواء لم تخن أنثى زوجها". وقد ثبتت أحاديث كثيرة عن جماعة من الصحابة في الصحيحين وغيرهما في محاجة آدم وموسى، وحج آدم موسى بقوله: أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن أخلق؟.
36. " فأزلهما " استزل " الشيطان " آدم وحواء أي دعاهما إلى الزلة: وقرأ حمزة: فأزالهما، أي نحاهما (( الشيطان )) فيعال من شطن، أي: بعد، سمي به لبعده عن الخير وعن الرحمة، " عنها " عن الجنة " فأخرجهما مما كانا فيه " من النعيم، وذلك أن إبليس أراد أن يدخل ليوسوس ( إلى ) آدم وحواء فمنعته الخزنة فأتى الحية وكانت صديقةً لإبليس وكانت من أحسن الدواب، لها أربع قوائم كقوائم البعير، وكانت من خزان الجنة. فسألهما إبليس أن تدخله فمها فأدخلته ومرت به على الخزانة وهم لا يعلمون فأدخلته الجنة، وقال الحسن : إنما رآهما على باب الجنة لأنهما كانا يخرجان منها وقد كان آدم حين دخل الجنة ورأى ما فيها من النعيم قال: لو أن خلداً، فاغتنم ذلك منه الشيطان فأتاه من قبل الخلد فلما دخل الجنة وقف بين يدي آدم وحواء وهما لا يعلمان أنه إبليس فبكى وناح نياحة أحزنتهما، وهو أول من ناح فقالا له: ما يبكيك؟ قال: أبكي عليكما تموتان فتفارقان ما أنتما فيه من النعمة. فوقع ذلك في أنفسهما فاغتما ومضى إبليس ثم أتاهما بعد ذلك وقال: يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد؟ فأبى أن يقبل منه، وقاسمهما بالله إنه لهما لمن الناصحين، فاغترا وما ظنا أن أحداً يحلف بالله كاذباً، فبادرت حواء إلى أكل الشجرة ثم ناولت آدم حتى أكلها.
وكان سعيد بن المسيب يحلف بالله ما أكل آدم من الشجرة وهو يعقل ولكن حواء سقته الخمر حتى إذا سكر قادته فأكل.
قال إبراهيم بن أدهم : أورثتنا تلك الأكلة حزناً طويلاً. قال ابن عباس و قتادة : قال الله عز وجل لآدم: ألم يكن فيما أبحتك من الجنة مندوحة عن الشجرة؟ قال: بلى يا رب وعزتك، ولكن ما ظننت أن أحداً يحلف بك كاذباً، قال: فبعزتي لأهبطنك إلى الأرض، ثم لا تنال العيش إلا كداً فأهبطا من الجنة وكانا يأكلان فيها رغداً فعلم صنعة الحديد، وأمر بالحرث فحرث فيها وزرع ثم سقى حتى إذا بلغ حصد ثم داسه ثم ذراه ثم طحنه ثم عجنه ثم خبزه ثم أكله فلم يبلغه حتى بلغ منه ما شاء. قال سعيد بن جبير : عن ابن عباس: إن آدم لما أكل من الشجرة التي نهي عنها قال الله عز وجل: ما حملك على ما صنعت قال يا رب زينته لي حواء قال: فإني أعقبتها أن لا تحمل إلا كرهاً ولا تضع إلا كرهاً ودميتها في الشهر مرتين، فرنت حواء عند ذلك فقيل: عليك الرنة وعلى بناتك، فلما أكلا (تهافت) عنهما ثيابهما وبدت سوآتهما وأخرجا من الجنة، فذلك قوله تعالى: " وقلنا اهبطوا " أي انزلوه إلى الأرض يعني آدم وحواء وإبليس والحية، فهبط آدم بسرنديب من أرض الهند على جبل يقال له نود، وحواء بجدة وإبليس بالآيلة والحية بأصفهان " بعضكم لبعض عدو " أراد العداوة التي بين درية آدم والحية وبين المؤمنين من ذرية آدم وبين إبليس، قال الله تعالى: " إن الشيطان لكما عدو مبين " (22-الأعراف).
أنا أحمد بن عبد الله الصالحي أنا أبو الحسن بن بشران أنا إسماعيل بن محمد الصفار أنا أحمد محمد الصفار حدثنا منصور الرمادي أنا عبد الرزاق أنا معمر عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال عكرمة: لا أعلمه إلا رفع الحديث، أنه كان يأمر بقتل الحيات وقال: من تركهن خشية أو مخافة ثائر فليس منا وزاد موسى بن مسلم عن عكرمة في الحديث: ما سالمناهن منذ حاربناهن [وروي أنه نهى عن ذوات البيوت، وروى أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إن بالمدينة جناً قد أسلموا فإن رأيتم منهم شيئاً فآذنوه ثلاثة أيام فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان "].
قوله تعالى: " ولكم في الأرض مستقر " موضع قرار " ومتاع " بلغة ومستمتع " إلى حين " إلى انقضاء آجالكم.
36-" فأزلهما الشيطان عنها " أصدر زلتهما عن الشجرة وحملهما على الزلة بسببها ، ونظير عن هذه في قوله تعالى " وما فعلته عن أمري " . أو أزلهما عن الجنة بمعنى أذهبهما ، ويعضده قراءة حمزة فأزلهما وهما متقاربان في المعنى ، غير أن أزل يقتضي عثرة مع الزوال ، و إزلاله قوله : " هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى " وقوله : " ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين " ومقاسمته إياها بقوله : " إني لكما لمن الناصحين " . واختلف في أنه تمثل لهما فقاولهما بذلك ، أو ألقاه إليهما على طريق الوسوسة ، وأنه كيف توصل إلى إزلالهما بعدما قيل له : " اخرج منها فإنك رجيم " . فقيل : إنه منع من الدخول على جهة التكرمة كما كان يدخل مع الملائكة ، ولم يمنع أن يدخل للوسوسة ابتلاء لآدم وحواء . وقيل : قام عند الباب فناداهما . وقيل : تمثل بصورة دابة فدخل ولم تعرفه الخزنة . وقيل : دخل في فم الحية حتى دخلت به . وقيل : أرسل بعض أتباعه فأزلهما ، والعلم عند الله سبحانه وتعالى .
" فأخرجهما مما كانا فيه " أي من الكرامة والنعيم.
" وقلنا اهبطوا" خطاب لآدم عليه الصلاة والسلام وحواء لقوله سبحانه وتعالى : " قال اهبطا منها جميعاً " . وجمع الضمير لأنهما أصلاً الجنس فكأنهما الإنس كلهم . أو هما وإبليس أخرج منها ثانياً بعدما كان يدخلها للوسوسة ، أو دخلها مسارقة أو من السماء .
" بعضكم لبعض عدوً " حال استغني فيها عن الواو بالضمير ، والمعنى متعادين يبغي بعضكم على بعض بتضليله .
" ولكم في الأرض مستقر " موضع استقرار ، أو استقرار .
" ومتاع " تمتع . " إلى حين " يريد به وقت الموت أو القيامة .
36. But Satan caused them to deflect therefrom and expelled them from the (happy) state in which they were; and We said: Fall down, one of you a foe unto the other! There shall be for you on earth a habitation and provision for a tune.
36 - Then did Satan make them slip from the (Garden), and get them out of the state (of felicity) in which They had been. We said: Get ye down, all (ye people), With enmity between yourselves. On earth will be your dwelling place And your means of livelihood for a time.