[البقرة : 3] الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ
(الذين يؤمنون) يصدقون (بالغيب) بما غاب عنهم من البعث والجنة والنار (ويقيمون الصلاة) أي يأتون بها بحقوقها (ومما رزقناهم) أعطيناهم (ينفقون) في طاعة الله
حدثنا محمد بن حميد الرازي، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: "الذين يؤمنون"، قال: يصدقون.
حدثني يحيى بن عثمان بن صالح السهمي، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: "يؤمنون" يصدقون.
حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا إسحق بن الحجاج، قال: حدثنا عبدالله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: "يؤمنون": يخشون.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، قال: قال الزهري: الإيمان العمل.
حدثت عن عمار بن الحسن قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن العلاء بن المسيب بن رافع، عن أبي إسحق، عن أبي الأحوص، عن عبدالله، قال: الإيمان التصديق.
ومعنى الإيمان عند العرب: التصديق، فيدعى المصدق بالشيء قولاً، مؤمنًا به، ويدعى المصدق قوله بفعله، مؤمنًا. ومن ذلك قول الله جل ثناؤه: "وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين" (يوسف: 17)، يعني: وما أنت بمصدق لنا في قولنا. وقد تدخل الخشية لله في معنى الإيمان، الذي هو تصديق القول بالعمل. والإيمان كلمة جامعة الإقرار بالله وكتبه ورسله، وتصديق الإقرار بالفعل. وإذ كان ذلك كذلك، فالذي هو أولى بتأويل الآية، وأشبه بصفة القوم: أن يكونوا موصوفين بالتصديق بالغيب قولاً واعتقادًا وعملاً، إذ كان جل ثناؤه لم يحصرهم من معنى الإيمان على معنى دون معنى، بل أجمل وصفهم به، من غير خصوص شيء من معانيه أخرجه من صفتهم بخبر ولا عقل.
القول في تأويل قول الله جل ثناؤه: "بالغيب".
حدثنا محمد بن حميد الرازي، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: "بالغيب"، قال: بما جاء منه، يعني: من الله جل ثناؤه.
حدثني موسى بن هرون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، "بالغيب": أما الغيب فما غاب عن العباد من أمر الجنة وأمر النار، وما ذكر الله تبارك وتعالى في القرآن. لم يكن تصديقهم بذلك يعني المؤمنين من العرب من قبل أصل كتاب أو علم كان عندهم.
حدثنا أحمد بن إسحق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا سفيان، عن عاصم، عن زر، قال: الغيب القرآن.
حدثنا بشر بن معاذ العقدي، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة في قوله "الذين يؤمنون بالغيب"، قال:آمنوا بالجنة والنار، والبعث بعد الموت، وبيوم القيامة، وكل هذا غيب.
حدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبدالله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، "الذين يؤمنون بالغيب": آمنوا بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر، وجنته وناره ولقائه، وآمنوا بالحياة بعد الموت. فهذا كله غيب.
وأصل الغيب: كل ما غاب عنك من شيء. وهو من قولك: غاب فلان يغيب غيبًا.
وقد اختلف أهل التأويل في أعيان القوم الذين أنزل الله جل ثناؤه هاتين الآيتين من أول هذه السورة فيهم، وفي نعتهم وصفتهم التي وصفهم بها، من إيمانهم بالغيب، وسائر المعاني التي حوتها الآيتان من صفاتهم غيره.
فقال بعضهم: هم مؤمنو العرب خاصة، دون غيرهم من مؤمني أهل الكتاب.
واستدلوا على صحة قولهم ذلك وحقيقة تأويلهم، بالآية التي تتلو هاتين الآيتين، وهو قول الله عز وجل: "والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك". قالوا: فلم يكن للعرب كتاب قبل الكتاب الذي أنزله الله عز وجل على محمد صلى الله عليه وسلم، تدين بتصديقه والإقرار والعمل به. وإنما كان الكتاب لأهل الكتابين غيرها. قالوا: فلما قص الله عز وجل نبأ الذين يؤمنون بما أنزل إلى محمد وما أنزل من قبله بعد اقتصاصه نبأ المؤمنين بالغيب علمنا أن كل صنف منهم غير الصنف الآخر، وأن المؤمنين بالغيب نوع غير النوع المصدق بالكتابين اللذين أحدهما منزل على محمد صلى الله عليه وسلم، والآخر منهما على من قبل رسول الله.
قالوا: وإذ كان ذلك كذلك، صح ما قلنا من أن تأويل قول الله تعالى: "الذين يؤمنون بالغيب"، إنما هم الذين يؤمنون بما غاب عنهم من الجنة والنار، والثواب والعقاب والبعث، والتصديق بالله وملائكته وكتبه ورسله، وجميع ما كانت العرب لا تدين به في جاهليتها، مما أوجب الله جل ثناؤه على عباده الدينونة به دون غيرهم.
ذكر من قال ذلك:
حدثني موسى بن هرون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أما "الذين يؤمنون بالغيب"، فهم المؤمنون من العرب، "ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون". أما الغيب فما غاب عن العباد من أمر الجنة والنار، وما ذكر الله في القرآن. لم يكن تصديقهم بذلك من قبل أصل كتاب أو علم كان عندهم. "والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون" هؤلاء المؤمنون من أهل الكتاب.
وقال بعضهم: بل نزلت هذه الآيات الأربع في مؤمني أهل الكتاب خاصة. لإيمانهم بالقرآن عند إخبار الله جل ثناؤه إياهم فيه عن الغيوب التي كانوا يخفونها بينهم ويسرونها، فعلموا عند إظهار الله جل ثناؤه نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك منهم في تنزيله، أنه من عند الله جل وعز، فامنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وصدقوا بالقرآن وما فيه من الإخبار عن الغيوب التي لا علم لهم بها، لما استقر عندهم بالحجة التي احتج الله تبارك وتعالى بها عليهم في كتابه، من الإخبار فيه عما كانوا يكتمونه من ضمائرهم أن جميع ذلك من عند الله.
وقال بعضهم: بل الآيات الأربع من أول هذه السورة، أنزلت على محمد صلى الله عليه وسلم بوصف جميع المؤمنين الذين ذلك صفتهم من العرب والعجم، وأهل الكتابين وسواهم. وإنما هذه صفة صنف من الناس، والمؤمن بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم، وما أنزل من قبله، هو المؤمن بالغيب.
قالوا: وإنما وصفهم الله بالإيمان بما أنزل الى محمد وبما أنزل إلى من قبله، بعد تقضي وصفه بالإيمان بالغيب، لأن وصفه إياهم بما وصفهم به من الإيمان بالغيب، كان معنيًا به أنهم يؤمنون بالجنة والنار والبعث وسائر الأمور التي كلفهم الله جل ثناؤه الإيمان بها، مما لم يروه ولم يأت بعد مما هو آت، دون الإخبار عنهم أنهم يؤمنون بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ومن قبله من الرسل ومن الكتب.
قالوا: فلما كان معنى قوله تعالى ذكره: "والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك" غير موجود في قوله "الذين يؤمنون بالغيب" كانت الحاجة من العباد إلى معرفتهم صفتهم بذلك ليعرفوهم، نظير حاجتهم الى معرفتهم بالصفة التي وصفوا بها من إيمانهم بالغيب، ليعلموا ما يرضى الله من أفعال عباده ويحبه من صفاتهم، فيكونوا به إن وفقهم له ربهم (مؤمنين).
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو بن العباس الباهلي، قال: حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد، قال: حدثنا عيسى بن ميمون المكي، قال: حدثنا عبدالله بن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: أربع آيات من سورة البقرة في نعت المؤمنين، وآيتان في نعت الكافرين، وثلاث عشرة في المنافقين.
حدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد، بمثله.
حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا موسى بن مسعود، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثت عن عمار بن الحسن قال: حدثنا عبدالله بن أبي جعفر، عن أبيه عن الربيع بن أنس، قال: أربع آيات من فاتحة هذه السورة يعني سورة البقرة في الذين آمنوا، وآيتان في قادة الأحزاب.
وأولى القولين عندي بالصواب، وأشبههما بتأويل الكتاب، القول الأول، وهو: أن الذين وصفهم الله تعالى ذكره بالإيمان بالغيب، وبما وصفهم به جل ثناؤه في الآيتين الأولتين، غير الذين وصفهم بالإيمان بالذي أنزل على محمد والذي أنزل على من قبله من الرسل، لما ذكرت من العلل قبل لمن قال ذلك.
ومما يدل أيضًا مع ذلك على صحة هذا القول، أنه جنس بعد وصف المؤمنين بالصفتين اللتين وصف، وبعد تصنيفه كل صنف منهما على ما صنف الكفار جنسين: فجعل أحدهما مطبوعًا على قلبه، مختومًا عليه، مأيوسًا من إيابه، والآخر منافقًا، يرائي بإظهار الإيمان في الظاهر، ويستسر النفاق في الباطن. فصير الكفار جنسين، كما صير المؤمنين في أول السورة جنسين. ثم عرف عباده نعت كل صنف منهم وصفتهم، وما أعد لكل فريق منهم من ثواب أو عقاب، وذم أهل الذم منهم، وشكر سعي أهل الطاعة منهم.
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: "ويقيمون".
وإقامتها: أداؤها بحدودها وفروضها والواجب فيها على ما فرضت عليهم. كما يقال: أقام القوم سوقهم، إذا لم يعطلوها من البيع والشراء فيها، وكما قال الشاعر:
أقمنا لأهل العراقين سوق الـ ـضراب فخاموا وولوا جميعا
وكما حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، "ويقيمون الصلاة"، قال: الذين يقيمون الصلاة بفروضها.
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة عن أبي روق، عن، الضحاك، عن ابن عباس، "ويقيمون الصلاة" قال: إقامة الصلاة تمام الركوع والسجود، والتلاوة والخشوع، والإقبال عليها فيها.
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: "الصلاة".
حدثني يحيى بن أبي طالب، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا جويبر، عن الضحاك في قوله: "الذين يقيمون الصلاة": يعني الصلاة المفروضة.
وأما الصلاة فإنها في كلام العرب الدعاء، كما قال الأعشى:
لها حارس لا يبرح الدهر بيتها وإن ذبحت صلى عليها وزمزما
يعني بذلك: دعا لها، وكقول الأعشى أيضًا:
وقابلها الريح في دنها وصلى على دنها وارتسم
وأرى أن الصلاة المفروضة سميت صلاة، لأن المصلي متعرض لاستنجاح طلبته من ثواب الله بعمله، مع ما يسأل ربه من حاجاته، تعرض الداعي بدعائه ربه استنجاح حاجاته وسؤله.
القول في تأويل قوله جل ثناؤه:"ومما رزقناهم ينفقون".
اختلف المفسرون في تأويل ذلك، فقال بعضهم بما:
حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، "ومما رزقناهم ينفقون"، قال: يؤتون الزكاة احتسابًا بها.
حدثني المثنى، قال: حدثنا عبدالله بن صالح، عن معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، "ومما رزقناهم ينفقون"، قال: زكاة أموالهم.
حدثني يحيى بن أبي طالب، قال: حدثنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك،"ومما رزقناهم ينفقون"، قال: كانت النفقات قربات يتقربون بها إلى الله على قدر ميسورهم وجهدهم، حتى نزلت فرائض الصدقات: سبع آيات في سورة براءة، مما يذكر فيهن الصدقات، هن المثبتات الناسخات.
وقال بعضهم بما:
حدثني موسى بن هرون قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، "ومما رزقناهم ينفقون": هي نفقة الرجل على أهله. وهذا قبل أن تنزل الزكاة.
وأولى التأويلات بالآية وأحقها بصفة القوم: أن يكونوا كانوا لجميع اللازم لهم في أموالهم، مؤدين، زكاة كان ذلك أو نفقة من لزمته نفقته، من أهل وعيال وغيرهم، ممن تجب عليهم نفقته بالقرابة والملك وغير ذلك. لأن الله جل ثناؤه عم وصفهم إذ وصفهم بالإنفاق مما رزقهم، فمدحهم بذلك من صفتهم. فكان معلومًا أنه إذ لم يخصص مدحهم ووصفهم بنوع من النفقات المحمود عليها صاحبها دون نوع بخبر ولا غيره أنهم موصوفون بجميع معاني النفقات المحمود عليها صاحبها من طيب ما رزقهم ربهم من أموالهم وأملاكهم، وذلك الحلال منه الذي لم يشبه حرام
قوله تعالى : "الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون" .
فيها ست وعشرون مسألة :
الأولى : قوله : "الذين" في موضع خفض نعت للمتقين ، ويجوز الرفع على القطع أي هم الذين ، ويجوز النصب على المدح . "يؤمنون" يصدقون . والإيمان في اللغة : التصديق ، وفي التنزيل : "وما أنت بمؤمن لنا" أي بمصدق ، ويتعدى بالباء واللام ، كما قال : "ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم" "فما آمن لموسى" . وروى حجاج بن حجاج الأحول ـ ويلقب بزق العسل ـ قال سمعت قتادة يقول : يا بن آدم ، إن كنت لا تريد أن تأتي الخير إلا عن نشاط فإن نفسك مائلة الى السأمة والفترة والملة ، ولكن المؤمن هو المتحامل ، والمؤمن هو المتقوى ، والمؤمن هو المتشدد ، وإن المؤمنين هم العجاجون الى الله الليل والنهار ، والله ما يزال المؤمن يقول : ربنا ربنا في السر والعلانية حتى استجاب لهم في السر والعلانية .
الثانية : قوله تعالى : "بالغيب" الغيب في كلام العرب : كل ما غاب عنك ، وهو من ذوات الياء ، يقال منه : غابت الشمس تغيب ، والغيبة معروفة . وأغابت المرأة فهي مغيبة إذا غاب عنها زوجها ، ووقعنا في غيبة وغيابة ، أي هبطة من الأرض ، والغيابة : الأجمة ، وهي جماع الشجر يغاب فيها ، ويسمى المطمئن من الأرض : الغيب ، لأنه غاب عن البصر .
الثالثة : واختلف المفسرون في تأويل الغيب هنا ، فقالت فرقة : الغيب في هذه الآية : الله سبحانه . وضعفه ابن العربي . وقال آخرون : القضاء والقدر . وقال آخرون : القرآن وما فيه من الغيوب . وقال آخرون : الغيب كل ما أخبر به الرسول عليه السلام مما لا تهتدي اليه العقول من أشرط الساعة وعذاب القبر والحشر والنشر والصراط والميزان والجنة والنار . قال ابن عطية : وهذه الأقوال لا تتعارض بل يقع الغيب على جميعها .
قلت : وهذا هو الإيمان الشرعي المشار اليه في حديث جبريل عليه السلام حين قال للنبي صلى الله عليه وسلم : " فأخبرني عن الإيمان . قال : أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره . قال : صدقت " . وذكر الحديث . وقال عبد لله بن مسعود :ما آمن مؤمن أفضل من إيمان بغيب ، ثم قرأ : "الذين يؤمنون بالغيب" .
قلت : وفي التنزيل : "وما كنا غائبين" وقال : "الذين يخشون ربهم بالغيب" . فهو سبحانه غائب عن الأبصار ، غير مرئي في هذه الدار ، غير غائب بالنظر والاستدلال ، فهم يؤمنون أن لهم ربا قادراً يجازي على الأعمال ، فهم يخشونه في سرائرهم ، وخلواتهم التي يغيبون فيها عن الناس ، لعلمهم باطلاعه عليهم ، وعلى هذا تتفق الآي ولا تتعارض ، والحمد لله . وقيل : بالغيب أي بضمائرهم وقلوبهم بخلاف المنافقين ، وهذا قول حسن . وقال الشاعر :
وبالغيب آمنا وقد كان قومنا يصلون للأوثان قبل محمد
الرابعة : قوله تعالى : "ويقيمون الصلاة" معطوف جملة على جملة . وإقامة الصلاة أداؤها بأركانها وسننها وهيئاتها في أوقاتها ، على ما يأتي بيانه . يقال : قام الشيء أي دام وثبت ، وليس من القيام على الرجل ، وإنما هو من قولك : قام الحق أي ظهر وثبت ، قول الشاعر :
وقامت الحرب بنا على ساق
وقال آخر
وإذا يقال أتيتم لم يبرحوا حتى تقيم الخيل سوق طعان
وقيل : يقيمون يديمون ، وأقامه أي أدامه ، والى هذا المعنى أشار عمر بقوله : من حفظها وحافظ عليها حفظ دينه ، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع .
الخامسة : إقامة الصلاة معروفة ، وهي سنة عند الجمهور ، وأنه لا إعادة على تاركها . وعند الأوزاعي و عطاء و مجاهد و ابن ابي ليلى هي واجبة وعلى من تركها الإعادة ، وبه قال أهل الظاهر ، وروي عن مالك ، واختاره ابن العربي قال : لأن في حديث الأعرابي :
وأقم فأمره بالإقامة كما أمره بالتكبير والاستقبال والوضوء .
قال : فأما أنتم الآن وقد وقفتم على الحديث فقد تعين عليكم أن تقولوا بإحدى روايتي مالك الموافقة للحديث وهي أن الإقامة فرض . قال ابن عبد البر قوله صلى الله عليه وسلم :
"وتحريمها التكبير" دلي لعى أنه لم يدخل في الصلاة من لم يحرم ، فما كان قبل الإحرام فحكمه ألا تعاد منه الصلاة إلا أن يجمعوا على شيء فيسلم للإجماع كالطهارة والقبلة والوقت ونحو ذلك . وقال بعض علمائنا : من تركها عمداً أعاد الصلاة ، وليس ذلك لوجوبها إذ لو كان ذلك لاستوى سهوها وعمدها ، وإنما ذلك للاستخفاف بالسنن ، والله أعلم .
السادسة : واختلف العلماء فيمن سمع الإقامة هل يسرع أو لا ؟ فذهب الأكثر الى أنه لا يسرع وإن خاف فوت الركعة لقوله عليه السلام :
"إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون وآتوها تمشون وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا" .
رواه أبو هررة أخرجه مسلم . وعنه أيضاً قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"إذا ثوب بالصلاة فلا يسع إليها أحدكم ولكن ليمش وعليه السكينة والوقار صل ما أدركت واقض ما سبقك" . وهذا نص . ومن جهة المعنى أنه إذا أسرع انبهر فشوش عليه دخوله في الصلاة وقراءتها وخشوعها . وذهب جماعة من السلف منهم ابن عمر وابن مسعود على اختلاف عنه أنه إذا خاف فواتها أسرع . وقال اسحاق : يسرع إذا خاف فوات الركعة ، وروي عن مالك نحوه ، وقال : لا بأس لمن كان على فرس أن يحرك الفرس ، وتأوله بعضهم على الفرق بين الماشي والراكب ، لأن الراكب لا يكاد أن ينبهر كما ينبهر .
قلت : واستعمال سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل حال أولى ، فيمشي كما جاء الحديث وعليه السكينة والوقار ، لأنه في صلاة ومحال أن يكون خبره صلى الله عليه وسلم على خلاف ما أخبر ، فكما أن الداخل في الصلاة يلزم الوقار والسكون كذلك الماشي ، حتى يحصل له التشبه به فيحصل له ثوابه . ومما يدل على صحة هذا ما ذكرناه من السنة ، وما خرجه الدارمي في مسنده قال : حدثنا محمد بن يوسف قال حدثنا سفيان عن محمد بن عجلان عن المقبري عن كعب بن عجرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" إذا توضأت فعمدت إلى المسجد فلا تشبكن بين أصابعك فإنك في صلاة" . فمنع صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث وهو صحيح مما هو أقل من الإسراع وجعله كالمصلي ، وهذه السنن تبين معنى قوله تعالى : "فاسعوا إلى ذكر الله" وأنه ليس المراد به الاشتداد على الأقدام ، وإنما عنى العمل والفعل ، هكذا فسره مالك . وهو الصواب في ذلك والله أعلم .
السابعة :: واختلف العلماء في تأويل قوله عليه السلام : "وما فاتكم فأتموا" وقوله : "واقض ما سبقك" هل هما بمعنى واحد او لا ؟ فقيل : هما بمعنى واحد وأن القضاء قد يطلق ويراد به التمام ، قال الله تعالى : "فإذا قضيت الصلاة" وقال : "فإذا قضيتم مناسككم" . وقيل : معناهما مختلف وهو الصحيح ، ويترتب على هذا الخلاف خلاف فيما يدركه الداخل هل هو أول صلاته أو آخرها ؟ فذهب الى الأول جماعة من أصحاب مالك ـ منهم ابن القاسم ـ ولكنه يقضي ما فاته بالحمد وسورة ، فيكون بانياً في الأفعال قاضياً في الأقوال . قال ابن عبد البر : وهو المشهور من المذهب . وقال ابن خويز منداد : وهو الذي عليه أصحابنا ، وهو قول الأوزاعي و الشافعي و محمد بن الحسن و أحمد بن حنبل و الطبري و داود بن علي . وروى أشهب وهو الذي ذكره ابن عبد الحكم عن مالك ، ورواه عيسى عن ابن القاسم عن مالك : أن ما أدرك فهو آخر صلاته ، وأنه يكون قاضياً في الأفعال والأقوال ، وهو قول الكوفيين . قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب : وهو مشهور مذهب مالك . قال ابن عبد البر : من جعل ما أدرك أول صلاته فأظنهم راعوا الإحرام ، لأنه لا يكون إلا في أول الصلاة ، والتشهد والتسليم لا يكون إلا في آخرها ، فمن ها هنا قالوا : إن ما أدرك فهو أول صلاته ، مع ما ورد في ذلك من السنة من قوله : فأتموا والتمام هو الآخر .
واحتج الآخرون بقوله : فاقضوا والذي يقضيه هو الفائت ، إلا أن رواية من روى فأتموا أكثر ، وليس يستقيم على قول من قال :إن ما أدرك أول صلاته ويطرد ، إلا ما قاله عبد العزيز بن ابي سلمة الماجشون و المزني و إسحاق و داود من أنه يقرأ مع الإمام بالحمد وسورة إن أدرك ذلك معه ، وإذا قام للقضاء قرأ بالحمد وحدها ، فهؤلاء اطرد على أصلهم قولهم وفعلهم ، رضي الله عنهم .
الثامنة : الإقامة تمنع من ابتداء صلاة نافلة ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة" خرجه مسلم وغيره ، فأما إذا شرع في نافلة فلا يقطعها ، لقوله تعالى : "ولا تبطلوا أعمالكم" وخاصة إذا صلى ركعة منها . وقيل : يقطعها لعموم الحديث في ذلك . والله أعلم .
التاسعة : واختلف العلماء فيمن دخل المسجد ولم يكن ركع ركعتي الفجر ، ثم اقيمت الصلاة ، فقال مالك : يدخل مع الإمام ولا يركعهما ، وإن كان لم يدخل المسجد فإن لم يخف فوات ركعة فليركع خارج المسجد ، ولا يركعهما في شيء من أفنية المسجد ـ التي تصلى فيها الجمعة ـ اللاصقة بالمسجد ، وإن خاف أن تفوته الركعة الأولى فليدخل وليصل معه ، ثم يصليهما إذا طلعت الشمس إن أحب ، ولأن يصليهما إذا طلعت الشمس أحب إلي وأفضل من ترهما . وقال أبو حنيفة وأصحابه : إن خشي ان تفوته الركعتان ولا يدرك الإمام قبل رفعه من الركوع في الثانية دخل معه ، وإن رجا أن يدرك ركعة صلى ركعتي الفجر خارج المسجد ، ثم يدخل مع الإمام . وكذلك قال الأوزاعي إلا أنه يجوز ركوعهما في المسجد ما لم يخف فوت الركعة الأخيرة . وقال الثوري : إن خشي فوت ركعة دخل معهم ولم يصلهما وإلا صلاهما وإن كان قد دخل المسجد . وقال الحسن بن حي ويقال ابن حيان : إذا أخذ المقيم في الإقامة فلا تطوع إلا ركعتي الفجر . وقال الشافعي : من دخل المسجد وقد أقيمت الصلاة دخل مع الإمام ولم يركعهما لا خارج المسجد ولا في المسجد وكذلك قال الطبري وبه قال أحمد بن حنبل وحكي عن مالك ، وهو الصحيح في ذلك ، لقوله عليه السلام : "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة" . وركعتا الفجر إما سنة ، وإما فضيلة ، وإما رغيبة ، والحجة عند التنازع حجة السنة . ومن حجة قول مالك المشهور و أبي حنيفة ما روي عن ابن عمر أنه جاء والإمام يصلي صلاة الصبح فصلاهما في حجرة حفصة ، ثم إنه صلى مع الإمام . ومن حجة الثوري و الأوزاعي ما روي عن عبد الله بن مسعود أنه دخل المسجد وقد أقيمت الصلاة فصلى الى أسطوانة في المسجد ركعتي الفجر ، ثم دخل الصلاة بمحضر من حذيفة وأبي موسى رضي الله عنهما . قالوا : وإذا جاز ان يشتغل بالنافلة عن المكتوبة خارج المسجد جاز له ذلك في المسجد ، روى مسلم عن عبد الله بن مالك ابن بحينة قال :"أقيمت صلاة الصبح فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يصلي والمؤذن يقيم ، فقال : أتصلي الصبح أربعاً !" . وهذا إنكار منه صلى الله عليه وسلم على الرجل لصلاته ركعتي الفجر في المسجد والإمام يصلي ، ويمكن أن يستدل به أيضاً على أن ركعتي الفجر إن وقعت في تلك الحال صحت ، لأنه عليه السلام لم يقطع عليه صلاته مع تمكنه من ذلك ، والله أعلم .
العاشرة :الصلاة أصلها في اللغة الدعاء ، مأخوذة من صلى يصلي إذا دعا ، ومنه قوه عليه السلام :
"إذا دعي احدكم إلى طعام فليجب فإن كان مفطراً فليطعم وإن كان صائماً فليصل" أي فليدع . وقال بعض العلماء : إن المراد الصلاة المعروفة ، فيصلي ركعتين وينصرف ، والأول أشهر وعليه من العلماء الأكثر .
ولما ولدت اسماء عبد الله بن الزبير أرسلته الى النبي صلى الله عليه ، قالت أسماء : ثم مسحه ووصلى عليه ، أي دعا له وقال تعالى : "وصل عليهم" أي ادع لهم .
وقال الأعشى :
تقول بنتي وقد قربت مرتحلا يا رب جنب أبي الأوصاف والوجعا
عليك مثل الذي صليت فاغتمضي نوما فإن لجنب المرء مضطجعا
وقال الأعشى ايضاً :
وقابلها الريح في دنها وصلى على دنها وارتسم
ارتسم الرجل : كبر ودعا ، قاله في الصحاح . وقال قوم : هي مأخوذة من الصلا وهو عرق في وسط الظهر ويفترق عند العجب فيكتنفه ، ومنه أخذ المصلي في سبق الخيل ، لأنه يأتي في الحلبة ورأسه عند صلوى السابق ، فاشتقت الصلاة منه ، إما لأنها جاءت ثانية للإيمان فشبهت بالمصلي من الخيل ، وإما لأن الراكع تثنى صلواه . والصلا : مغرز الذنب من الفرس ، والاثنان صلوان . والمصلى : تالي السابق ، لأن رأسه عند صلاة . وقال علي رضي الله عنه :سبق رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وثلث عمر . وقيل هي مأخوذة من اللزوم ، ومنه صلي بالنار إذا لزمها ، ومنه "تصلى نارا حامية" . قال الحارث بن عباد :
لم أكن من جناتها علم الله وإني بحرها اليوم صال
أي ملازم لحرها ، وكأن المعنى على هذا ملازمة العباد على الحد الذي أمر الله تعالى به . وقيل : هي مأخوذة من صليت العود بالنار إذا قومته ولينته بالصلاء . والصلاء : صلاء النار بكسر الصاد ممدود ، فإن فتحت الصاد قصرت ، فقلت صلا النار ، فكأن المصلي يقوم نفسه بالمعاناة فيها ويلين ويخشع ، قال الخارزنجي :
فلا تعجل بأمرك واستدمه فما صلى عصاك كمستديم
والصلاة : الدعاء . والصلاة : الرحمة ، ومنه :
اللهم صل على محمد الحديث . والصلاة : العبادة ، ومنه قوله تعالى : "وما كان صلاتهم عند البيت" الآية ، أي عبادتهم . والصلاة : النافلة ، ومنه قوله تعالى : "وأمر أهلك بالصلاة" . والصلاة التسبيح ، ومنه قوله تعالى : "فلولا أنه كان من المسبحين" أي من المصلين .ومنه سبحه الضحى . وقد قيل في تأويل "نسبح بحمدك" : نصلي . والصلاة : القراءة ، ومنه قوله تعالى : "ولا تجهر بصلاتك" فهي لفظ مشترك . والصلاة : بيت يصلي فيه ، قال ابن فارس . وقد قيل : إن الصلاة اسم علم وضع لهذه العبادة ، فإن الله تعالى لم يخل زماناً من شرع ، ولم يخل شرع من صلاة ، حكاه أبو نصر القشيري .
قلت : فعلى هذا القول لا اشتقاق لها ، وعلى قول الجمهور وهي :
الحادية عشرة : اختلف الأصولين هل هي مبقاة على أصلها اللغوي الوضعي الابتدائي ، وكذلك الإيمان والزكاة والصيام والحج ، والشرع إنما تصرف بالشروط والأحكام ، أو هل تلك الزيادة من الشرع تصيرها موضوعة كالوضع الابتدائي من قبل الشرع . هنا اختلافهم والأول أصح ، لأن الشريعة ثبتت بالعربية ، والقرآن نزل بها بلسان عربي مبين ، ولكن للعرب تحكم في الأسماء ، كالدابة وضعت لكل ما يدب ، ثم خصصها العرف بالبهائم ، فكذلك لعرف الشرع تحكم في الأسماء ، والله أعلم .
الثانية عشرة : واختلف في المراد بالصلاة هنا ، فقيل : الفرائض . وقيل: الفرائض والنوافل معاً ، وهو الصحيح ، لأن اللفظ عام والمتقي يأتي بهما .
الثالثة عشرة : الصلاة سبب للرزق ، قال الله تعالى : "وأمر أهلك بالصلاة" الآية ، على مايأتي بيانه في طه إن شاء الله تعالى . وشفاء من وجع البطن وغيره ، روى ابن ماجة " عن أبي هريرة قال : هجر النبي صلى الله عليه وسلم فهجرت فصليت ثم جلست ، فالتفت إلي النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أشكمت درده قلت : نعم يا رسول الله ، قال : قم فصل فإن في الصلاة شفاء" .في رواية : " أشكمت درد " يعني تشتكي بطنك بالفارسية .
وان عليه الصلاة والسلام إذا حزبه أمر فزع الى الصلاة .
الرابعة عشرة :الصلاة لا تصح إلا بشروط وفروض ، فمن شروطها : الطهارة ، وسيأتي بيان أحكامها في سورة النساء والمائدة . وستر العورة ، يأتي في الأعراف القول فيها إن شاء الله تعالى .
وأما فروضها : فاستقبال القبلة ، والنية ، وتكبيرة الإحرام والقيام لها ، وقراءة أم القرآن والقيام لها ، والركوع والطمأنينة فيه ، ورفع الرأس من الركوع والاعتدال فيه ، والسجود والطمأنينة فيه ، ورفع الرأس من السجود ، والجلوس بين السجدتين والطمأنينة فيه ، والسجود الثاني والطمأنينة فيه . والأصل في هذه الجملة حديث أبي هريرة في الرجل الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم لما أخل بها ، فقال له :
إذا قمت الى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة ثم كبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعاً ثم ارفع حتى تعتدل قائماً ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ثم ارفع حتى تطئمن جالساً ثم افعل ذلك في صلاتك كلها خرجه مسلم .
ومثله حديث : رفاعة بن رافع ، أخرجه الدار قطني وغيره . قال علماؤنا . فبين قوله صلى الله عليه وسلم أركان الصلاة ، وسكت عن الإقامة ورفع اليدين وعن حد القراءة وعن تكبير الانتقالات ، وعن التسبيح في الركوع والسجود ، وعن الجلسة الوسطى ، وعن التشهد وعن الجلسة الأخيرة وعن السلام . أما الإقامة وتعيين الفاتحة فقد مضى الكلام فيهما . وأما رفع اليدين فليس بواجب عند جماعة العلماء وعامة الفقهاء ، لحديث أبي هريرة وحديث رفاعة بن رافع . وقال داود وبعض أصحابه بوجوب ذلك عند تكبيرة الإحرام . وقال بعض أصحابه : الرفع عند الإحرام وعند الركوع وعند الرفع من الركوع واجب ، وإن من لم يرفع يديه فصلاته باطلة ، وهو قول الحميدي ، ورواية عن الأوزاعي . واحتجوا بقوله عليه السلام :
"صلوا كما رأيتموني أصلي" أخرجه البخاري . قالوا : فوجب علينا أن نفعل كما رأيناه يفعل ، لأنه المبلغ عن الله مراده . وأما التكبير ما عدا تكبيرة الإحرام فمسنون عند الجمهور للحديث المذكور . وكان ابن قاسم صاحب مالك يقول : من أسقط من التكبير في الصلاة ، وإن نسي تكبيرة واحدة أو اثنتين سجد أيضاً للسهو ، فإن لم يفعل فلا شيء عليه ، وروي عنه أن التكبيرة الواحدة لا سهو على من سها فيها . وهذا يدل على أن عظم التكبير وجملته عنده فرض ، وأن اليسير منه متجاوز عنه . وقال أصبغ بن الفرج وعبد الله بن عبد الحكم : ليس على من لم يكبر في الصلاة من أولها ألى آخرها شيء إذا كبر تكبيرة الإحرام ، فإن تركه ساهياً سجد للسهو ، فإن لم يسجد فلا شيء عليه ، ولا ينبغي لأحد أن يترك التكبير عامداً ، لأنه سنة من سنن الصلاة ، فإن فعل فقد أساء ولا شيء عليه وصلاته ماضية .
قلت : هذا هو الصحيح ، وهو الذي عليه جماعة فقهاء الأمصار من الشافعيين والكوفيين وجماعة أهل الحديث والمالكيين غير من ذهب مذهب ابن القاسم . وقد ترجم البخاري رحمه الله ( باب إتمام التكبير في الركوع والسجود ) وساق حديث مطرف بن عبد الله قال :
صليت خلف علي بن ابي طالب أنا وعمران بن حصين ، فكان إذا سجد كبر ، وإذا رفع رأسه كبر ، وإذا نهض من الركعتين كبر ، فلما قضى الصلاة أخذ بيدي عمران بن حصين فقال : لقد ذكرني هذا صلاة محمد صلى الله عليه وسلم ، أو قال : لقد صلى بنا صلاة محمد صلى الله عليه وسلم . وحديث عكرمة قال :
رأيت رجلاً عند المقام يكبر في كل خفض ورفع ، وإذا قام وإذا وضع ، فأخبرت ابن عباس فقال : أو ليس تلك صلاو النبي صلى الله عليه وسلم لا أم لك ! فدلك البخاري رحمه الله بهذا الباب على أن التكبير لم يكن معمولاً به عندهم . روى أبو إسحاق السبيعي عن يزيد بن أبي مريم عن ابي موسى الأشعري قال : صلى بنا علي يوم الجمل صلاة أذكرنا بها صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان يكبر في كل خفض ورفع ، وقيام وقعود ، قال أبو موسى : فإما نسيناها وإما تركناها عمداً .
قلت : أتراهم أعادوا الصلاة ! فكيف يقال من ترك التكبير بطلت صلاته ! ولو كان ذلك لم فرق بين السنة والفرض ، والشيء إذا لم يجب أفراده لم يجب جميعه ، وبالله التوفيق .
الخامسة عشرة : وأما التسبيح في الركوع والسجود فغير واجب عند الجمهور للحديث المذكور ، وأوجبه إسحاق بن راهوية ، وأن من تركه أعاد الصلاة ، لقوله عليه السلام :
"أما الركوع فعظموا فيه الرب وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم" .
السادسة عشرة : وأما الجلوس والتشهد فاختلف العلماء في ذلك ، فقال مالك وأصحابه : الجلوس الأول والتشهد له سنتان . وأوجب جماعة من العلماء الجلوس الأول وقالوا : هو مخصوص من بين سائر الفروض بأن ينوب عنه السجود كالعرايا من المزابنة ، والقراض من الإجارات ، وكالوقوف بعد الإحرام لمن وجد الإمام راكعاً . واحتجوا بأنه لو كان سنة ما كان العامد لتركه تبطل صلاته كما لا تبطل بترك سنن الصلاة . احتج من لم يوجبه بأن قالوا : لو كان من فرائض الصلاة لرجع الساهي عنه إليه حتى يأتي به ، كما لو ترك سجدة أو ركعة ، ويراعي فيه ما يراعى في الركوع والسجود من الولاء والرتبة ، ثم يسجد لسهوه كما يصنع من ترك ركعة أو سجدة وأتى بهما . وفي حديث عبد الله ابن بحينة :
"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام من ركعتين ونسي ان يتشهد فسبح الناس خلفه كيما يجلس فثبت قائماً فقاموا ، فلما فرغ من صلاته سجد سجدتي السهو قبل التسليم" ، فلو كان الجلوس فرضاً لم يسقطه النسيان والسهو ، لأن الفرائض في الصلاة يستوي في تركها السهو والعمد إلا في المؤتم .
واختلفوا في حكم الجلوس الأخير في الصلاة وما الغرض من ذلك . وهي :
السابعة عشرة : على خمسة أقوال :
أحدها : أن الجلوس فرض والتشهد فرض والسلام فرض . وممن قال ذلك الشافعي و أحمد بن حنبل في رواية ، وحكاه أبو مصعب في مختصره عن مالك وأهل المدينة ، وبه قال داود . قال الشافعي من ترك التشهد الأول والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فلا إعادة عليه وعليه سجدتا السهو لتركه . وإذا ترك التشهد الأخير ساهياً أو عامداً أعاد . واحتجوا بأن بيان النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة فرض ، لأن أصل فرضها مجمل يفتقر الى البيان إلا ما خرج بدليل . وقد قال صلى الله عليه وسلم :
"صلوا كما رأيتموني أصلي" .
الذين يؤمنون بالغيب قال أبو جعفر الرازي عن العلاء بن المسيب بن رافع عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله قال : الإيمان التصديق ، وقال علي بن أبي طلحة وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما يؤمنون يصدقون وقال معمر عن الزهري : الإيمان العمل ، وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس يؤمنون يخشون .
قال ابن جرير : والأولى أن يكونوا موصوفين بالإيمان بالغيب قولاً وعملاً واعتقاداً وقد تدخل الخشية لله في معنى الإيمان الذي هو تصديق القول بالعمل ، والإيمان كلمة جامعة للإقرار بالله وكتبه ورسله وتصديق الإقرار بالفعل (قلت) أما الإيمان في اللغة فيطلق على التصديق المحض وقد يستعمل في القرآن والمراد به ذلك كما قال تعالى "يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين" وكما قال إخوة يوسف لأبيهم "وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين" وكذلك إذا استعمل مقروناً مع الأعمال كقوله تعالى "إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات" فأما إذا استعمل مطلقاً فالإيمان الشرعي المطلوب لا يكون إلا اعتقاداً وقولاً وعملاً . هكذا ذهب إليه أكثر الأئمة بل قد حكاه الشافعي وأحمد بن حنبل وأبو عبيدة وغير واحد إجماعاً : أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص وقد ورد فيه آثار كثيرة وأحاديث أفردنا الكلام فيها في أول شرح البخاري ولله الحمد والمنة . ومنهم من فسره بالخشية كقوله تعالى : "إن الذين يخشون ربهم بالغيب" وقوله : "من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب" والخشية خلاصة الإيمان والعلم كما قال تعالى : "إنما يخشى الله من عباده العلماء" وقال بعضهم يؤمنون بالغيب كما يؤمنون بالشهادة وليسوا كما قال تعالى عن المنافقين " وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون " وقال: "إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون" فعلى هذا يكون قوله بالغيب حالاً أي في حال كونهم غيباً عن الناس .
وأما الغيب المراد ههنا فقد اختلفت عبارات السلف فيه وكلها صحيحة ترجع إلى أن الجميع مراد ، قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية قوله تعالى : "يؤمنون بالغيب" قال ويؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الاخر وجنته وناره ولقائه ويؤمنون بالحياة بعد الموت وبالبعث ، فهذا غيب كله . وكذا قال قتادة بن دعامة وقال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أما الغيب فما غاب عن العباد من أمر الجنة وأمر النار وما ذكر في القرآن ، وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس بالغيب قال بما جاء منه ـ يعني من الله تعالى ـ وقال سفيان الثوري عن عاصم عن زر قال : الغيب القرآن وقال عطاء بن أبي رباح من آمن بالله فقد آمن بالغيب وقال إسماعيل بن أبي خالد يؤمنون بالغيب قال : بغيب الإسلام وقال زيد بن أسلم : الذين يؤمنون بالغيب قال : بالقدر . فكل هذه متقاربة في معنى واحد لأن جميع المذكورات من الغيب الذي يجب الإيمان به .
وقال سعيد بن منصور : حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمارة بن عمير عن عبد الرحمن بن يزيد قال : كنا عند عبد الله بن مسعود جلوساً فذكرنا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وما سبقونا به فقال عبد الله : إن أمر محمد صلى الله عليه وسلم كان بيناً لمن رآه والذي لا إله غيره ما آمن أحد قط إيماناً أفضل من إيمان بغيب ثم قرأ " الم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين * الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون * والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون * أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون " وهكذا رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم في مستدركه من طرق عن الأعمش به . وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه . وفي معنى هذا الحديث الذي رواه أحمد حدثنا أبو المغيرة أنبأ الأوزاعي حدثني أسد بن عبد الرحمن عن خالد بن دريك عن ابن محيريز قال قلت لأبي جمعة حدثنا حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال نعم أحدثك حديثاً جيداً : تغدينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا أبو عبيدة بن الجراح قال : يا رسول الله هل أحد خير منا ؟ أسلمنا معك وجاهدنا معك . قال "نعم قوم من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني" طريق أخرى قال أبو بكر بن مردويه في تفسيره حدثنا عبد الله بن جعفر حدثنا إسماعيل عن عبد الله بن مسعود حدثنا عبد الله بن صالح حدثنا معاوية بن صالح عن صالح بن جبير قال قدم علينا أبو جمعة الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيت المقدس يصلي فيه ومعنا يومئذ رجاء بن حيوة رضي الله عنه فلما انصرف خرجنا نشيعه فلما أراد الانصراف قال إن لكم جائزة وحقاً أحدثكم بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا : هات رحمك الله قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا معاذ بن جبل عاشر عشرة فقلنا يا رسول الله هل من قوم أعظم منكم أجراً ؟ آمنا بالله واتبعناك ، قال : "ما يمنعكم من ذلك ورسول الله بين أظهركم يأتيكم بالوحي من السماء بل قوم بعدكم يأتيهم كتاب من بين لوحين يؤمنون به ويعملون بما فيه أولئك أعظم منكم أجراً مرتين" ثم رواه من حديث ضمرة بن ربيعة عن مرزوق بن نافع عن صالح بن جبير عن أبي جمعة بنحوه . وهذا الحديث فيه دلالة على العمل بالوجادة التي اختلف فيها أهل الحديث كما قررته في أول شرح البخاري لأنه مدحهم على ذلك وذكر أنهم أعظم أجراً من هذه الحيثية لا مطلقاً وكذا الحديث الاخر الذي رواه الحسن بن عرفة العبدي حدثنا إسماعيل بن عياش الحمصي عن المغيرة بن قيس التميمي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أي الخلق أعجب إليكم إيماناً ؟ قالوا الملائكة قال : وما لهم لا يؤمنون وهم عند ربهم ؟ قالوا فالنبيون قال : وما لهم لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم ؟ قالوا فنحن قال : وما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم ؟ قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا إن أعجب الخلق إلي إيماناً لقوم يكونون من بعدكم يجدون صحفاً فيها كتاب يؤمنون بما فيها" قال أبو حاتم الرازي : المغيرة بن قيس البصري منكر الحديث (قلت) ولكن قد روى أبو يعلى في مسنده وابن مردويه في تفسيره والحاكم في مستدركه من حديث محمد بن حميد ـ وفيه ضعف ـ عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله أو نحوه وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه وقد روى نحوه عن أنس بن مالك مرفوعاً والله أعلم ، وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا عبد الله بن محمد المسندي حدثنا إسحاق بن إدريس أخبرني إبراهيم بن جعفر بن محمود بن سلمة الأنصاري أخبرني جعفر بن محمود عن جدته نويلة بنت أسلم قالت صليت الظهر أو العصر في مسجد بني حارثة فاستقبلنا مسجد إيلياء فصلينا سجدتين ثم جاءنا من يخبرنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقبل البيت الحرام فتحول النساء مكان الرجال والرجال مكان النساء فصلينا السجدتين الباقيتين ونحن مستقبلون البيت الحرام قال إبراهيم فحدثني رجال من بني حارثة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه ذلك قال : "أولئك قوم آمنوا بالغيب" هذا حديث غريب من هذا الوجه .
ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون
قال ابن عباس ويقيمون الصلاة أي يقيمون الصلاة بفروضها وقال الضحاك عن ابن عباس إقامة الصلاة إتمام الركوع والسجود والتلاوة والخشوع والإقبال عليها فيها ، وقال قتادة إقامة الصلاة المحافظة على مواقيتها ووضوئها وركوعها وسجودها وقال مقاتل بن حيان إقامتها المحافظة على مواقيتها وإسباغ الطهور بها وتمام ركوعها وسجودها وتلاوة القرآن فيها والتشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فهذا إقامتها .
وقال علي بن أبي طلحة وغيره عن ابن عباس "ومما رزقناهم ينفقون" قال زكاة أموالهم ، وقال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم "ومما رزقناهم ينفقون" قال نفقة الرجل على أهله وهذا قبل أن تنزل الزكاة وقال جويبر عن الضحاك كانت النفقات قرباناً يتقربون بها إلى الله على قدر ميسرتهم وجهدهم حتى نزلت فرائض الصدقات سبع آيات في سورة براءة مما يذكر فيهن الصدقات هن الناسخات المثبتات وقال قتادة "ومما رزقناهم ينفقون" فأنفقوا مما أعطاكم الله ، هذه الأموال عوار وودائع عندك يا ابن آدم يوشك أن تفارقها .
واختار ابن جرير أن الاية عامة في الزكاة والنفقات فإنه قال وأولى التأويلات وأحقها بصفة القوم أن يكونوا لجميع اللازم لهم في أموالهم مؤدين ـ زكاة كانت ذلك أو نفقة من لزمته نفقته من أهل أو عيال وغيرهم ممن يجب عليهم نفقته بالقرابة والملك وغير ذلك لأن الله تعالى عم وصفهم ومدحهم بذلك وكل من الإنفاق والزكاة ممدوح به محمود عليه (قلت) كثيراً ما يقرن الله تعالى بين الصلاة والإنفاق من الأموال فإن الصلاة حق الله وعبادته وهي مشتملة على توحيده والثناء عليه وتمجيده والابتهال إليه ودعائه والتوكل عليه ، والإنفاق هو الإحسان إلى المخلوقين بالنفع المتعدي إليهم ، وأولى الناس بذلك القرابات والأهلون والمماليك ، ثم الأجانب فكل من النفقات الواجبة والزكاة المفروضة داخل في قوله تعالى : "ومما رزقناهم ينفقون" ولهذا ثبت في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت" والأحاديث في هذا كثيرة وأصل الصلاة في كلام العرب الدعاء . قال الأعشى :
لها حارس لا يبرح الدهر بيتها وإن ذبحت صلى عليها وزمزما
وقال أيضاً :
وقابلها الريح في دنها وصلى على دنها وارتسم
أنشدهما ابن جرير مستشهداً على ذلك وقال الاخر وهو الأعشى أيضاً .
تقول بنتي وقد قربت مرتحلا يارب جنب أبي الأوصاب والوجعا
عليك مثل الذي صليت فاغتمضي نوماً فإن لجنب المرء مضطجعا
يقول عليك من الدعاء مثل الذي دعيته لي . هذا ظاهر ثم استعملت الصلاة في الشرع في ذات الركوع والسجود والأفعال المخصوصة في الأوقات المخصوصة بشروطها المعروفة وصفاتها وأنواعها المشهورة . قال ابن جرير وأرى أن الصلاة سميت صلاة لأن المصلي يتعرض لاستنجاح طلبته من ثواب الله بعلمه مع ما يسأل ربه من حاجاته وقيل هي مشتقة من الصلوين إذا تحركا في الصلاة عند الركوع والسجود وهما عرقان يمتدان من الظهر حتى يكتنفان عجب الذنب ومنه سمي المصلي وهو التالي للسابق في حلبة الخيل ، وفيه نظر . وقيل هي مشتقة من الصلى وهو الملازمة للشيء من قوله تعالى : "لا يصلاها" أي لا يلزمها ويدوم فيها "إلا الأشقى" وقيل مشتقة من تصلية الخشبة في النار لتقوم كما أن المصلي يقوم عوجه بالصلاة "إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر" واشتقاقها من الدعاء أصح وأشهر والله أعلم .
وأما الزكاة فسيأتي الكلام عليها في موضعه إن شاء الله تعالى.
3- "الذين يؤمنون بالغيب" هو وصف للمتقين كاشف. والإيمان في اللغة: التصديق، وفي الشرع ما سيأتي. والغيب في كلام العرب: كل ما غاب عنك. قال القرطبي: واختلف المفسرون في تأويل الغيب هنا، فقالت فرقة: الغيب في هذه الآية هو الله سبحانه، وضعفه ابن العربي. وقال آخرون: القضاء والقدر. وقال آخرون: القرآن وما فيه من الغيوب. وقال آخرون: الغيب كل ما أخبر به الرسول مما لا تهتدي إليه العقول من أشراط الساعة وعذاب القبر والحشر والنشر والصراط والميزان والجنة والنار. قال ابن عطية: وهذه الأقوال لا تتعارض بل يقع الغيب على جميعها، قال: وهذا هو الإيمان الشرعي المشار إليه في حديث جبريل حين قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: صدقت" انتهى. وهذا الحديث هو ثابت في الصحيح بلفظ: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، والقدر خيره وشره". وقد أخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن منده وأبو نعيم كلاهما في معرفة الصحابة عن تويلة بنت أسلم قالت: "صليت الظهر أو العصر في مسجد بني حارثة، فاستقبلنا مسجد إيليا فصلينا سجدتين، ثم جاءنا من يخبرنا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقبل البيت، فتحول الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال، فصلينا السجدتين الباقيتين ونحن مستقبلون البيت الحرام، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أولئك قوم آمنوا بالغيب". وأخرج البزار وأبو يعلى والحاكم وصححه عن عمر بن الخطاب قال: كنت جالساً مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أنبئوني بأفضل أهل الإيمان إيماناً؟ فقالوا: يا رسول الله الملائكة، قال: هم كذلك ويحق لهم، وما يمنعهم وقد أنزلهم الله المنزلة التي أنزلهم بها، قالوا: يا رسول الله الأنبياء الذين أكرمهم الله برسالته والنبوة، قال: هم كذلك ويحق لهم، وما يمنعهم وقد أنزلهم الله المنزلة التي أنزلهم بها، قالوا: يا رسول الله الشهداء الذين استشهدوا مع الأنبياء، قال: هم كذلك، وما يمنعهم وقد أكرمهم الله بالشهادة، قالوا: فمن يا رسول الله؟ قال: أقوام في أصلاب الرجال يأتون من بعدي يؤمنون بي ولم يروني ويصدقوني ولم يروني، يجدون الورق المعلق فيعملون بما فيه، فهؤلاء أفضل أهل الإيمان إيماناً" وفي إسناده محمد بن أبي حميد وفيه ضعف. وأخرج الحسن بن عرفة في حزبه المشهور والبيهقي في الدلائل عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر نحو الحديث الأول، وفي إسناده المغيرة بن قيس البصري وهو منكر الحديث. وأخرج نحوه الطبراني عن ابن عباس مرفوعاً، والإسماعيلي عن أبي هريرة مرفوعاً أيضاً، والبزار عن أنس مرفوعاً، وأخرج ابن أبي شيبة في مسنده عن عوف بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا ليتني قد لقيت إخواني. قالوا: يا رسول الله ألسنا إخوانك؟ قال: بلى، ولكن قوم يجيئون من بعدكم يؤمنون بي إيمانكم ويصدقوني تصديقكم وينصروني نصركم، فيا ليتني قد لقيت إخواني" وأخرج نحوه ابن عساكر في الأربعين السباعية من حديث أنس، وفي إسناده أبو هدبة وهو كذاب، وزاد فيه "ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم "الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة" الآية". وأخرج أحمد والدارمي والبارودي وابن قانع معاً في معجم الصحابة والبخاري في تاريخه والطبراني والحاكم عن أبي جمعة الأنصاري قال: "قلت: يا رسول الله هل من قوم أعظم منا أجراً آمنا بك واتبعناك؟ قال: ما يمنعكم من ذلك ورسول الله بين أظهركم يأتيكم بالوحي من السماء، بل قوم يأتون من بعدكم ياتيهم كتاب الله بين لوحين فيؤمنون بي ويعملون بما فيه أولئك أعظم منكم أجراً". وأخرج أحمد وابن أبي شيبة والحاكم عن أبي عبد الرحمن الجهني قال: "بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ طلع راكبان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كنديان أو مذحجيان حتى أتيا، فإذا رجلان من مذحج، فدنا أحدهما ليبايعه، فلما أخذ بيده قال: يا رسول الله أرأيت من جاءك فآمن بك واتبعك وصدقك فماذا له؟ قال: طوبى له فمسح على زنده وانصرف، ثم جاء الآخر حتى أخذ بيده ليبايعه فقال: يا رسول الله أرأيت من آمن بك وصدقك واتبعك ولم يرك؟ قال: طوبى له ثم طوبى له، ثم مسح على زنده وانصرف". وأخرج الطيالسي وأحمد والبخاري في تاريخه والطبراني والحاكم عن أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طوبى لمن رآني وآمن بي، وطوبى لمن آمن بي ولم يرني سبع مرات". وأخرج أحمد وابن حبان عن أبي سعيد "أن رجلاً قال: يا رسول الله طوبى لمن رآك وآمن بك؟ قال: طوبى لمن رأني وآمن بي، وطوبى ثم طوبى ثم طوبى لمن آمن بي ولم يرني" وأخرج الطيالسي وعبد بن حميد عن ابن عمر نحوه. وأخرج أحمد وأبو يعلى والطبراني من حديث أنس نحو حديث أبي أمامة الباهلي المتقدم. وأخرج سفيان بن عيينة وسعيد بن منصور وأحمد بن منيع في مسنده، وابن أبي حاتم وابن الضباري والحاكم وصححه عن ابن مسعود أنه قال: والذي لا إله غيره ما آمن أحد أفضل من إيمان بغيب، ثم قرأ " الم* ذلك الكتاب لا ريب فيه " إلى قوله: "المفلحون". وللتابعين أقوال، والراجح ما تقدم من أو الإيمان الشرعي يصدق على جميع ما ذكر هنا. قال بن جرير: والأولى أن تكونوا موصوفين بالإيمان بالغيب قولاً واعتقاداً وعملاً. قال: وتدخل الخشية لله في معنى الإيمان الذي هو تصديق القول بالعمل. والإيمان كلمة جامعة للإقرار بالله وكتبه ورسله وتصديق الإقرار بالفعل. وقال ابن كثير: إن الإيمان الشرعي المطلوب لا يكون إلا اعتقاداً وقولاً وعملاً، هكذا ذهب إليه أكثر الأئمة. بل قد حكاه الشافعي وأحمد بن حنبل وأبو عبيد وغير واحد إجماعاً أن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص. وقد ورد فيه آيات كثيرة. انتهى.
" ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون "
هو معطوف على "يؤمنون" والإقامة في الأصل: الدوام والثبات. يقال: قام الشيء: أي دام وثبت. وليس من القيام على الرجل، وإنما هو من قولك قام الحق: أي ظهر وثبت، قال الشاعر:
وقامت الحرب بنا على ساق
وقال آخر:
إذا يقال أقيموا لم تبرحوا حتى تقيم الخيل سوق طعان
وإقامة الصلاة أداؤها بأركانها وسننها وهيئاتها في أوقاتها. والصلاة أصلها في اللغة: الدعاء من صلى يصلي إذا دعا. وقد ذكر هذا الجوهري وغيره. وقال قوم: هي مأخوذة من الصلا، وهو عرق في وسط الظهر ويفترق عند العجب. ومنه أخذ المصلي في سبق الخيل، لأنه يأتي في الحلبة ورأسه عند صلوى السابق، فاشتقت منه الصلاة لأنها ثانية للإيمان فشبهت بالمصلي من الخيل. وإما لأن الراكع يثني صلويه، والصلا مغرز الذنب من الفرس والاثنان صلوان، والمصلي تالي السابق لأن رأسه عند صلوه. ذكر هذا القرطبي في تفسيره. وقد ذكر المعنى الثاني في الكشاف هذا المعنى اللغوي. وأما المعنى الشرعي فهو هذه الصلاة التي هي ذات الأركان والأذكار. وقد اختلف أهل العلم هل هي مبقاة على أصلها اللغوي أو موضوعة وضعاً شرعياً ابتدائياً. فقيل: بالأول، وإنما جاء الشرع بزيادات هي الشروط والفروض الثابتة فيها. وقال قوم: بالثاني. والرزق عند الجمهور ما صلح للانتفاع به حلالاً كان أو حراماً خلافاً للمعتزلة. فقالوا: إن الحرام ليس برزق، وللبحث في هذه المسألة موضع غير هذا. والإنفاق: إخراج المال من اليد، وفي المجيء بمن التبعضية ههنا نكتة سرية هي الإرشاد إلى ترك الإسراف. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن إسحاق عن ابن عباس في قوله: "يقيمون الصلاة" قال: الصلوات الخمس "ومما رزقناهم ينفقون" قال: زكاة أموالهم. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة أن إقامة الصلاة المحافظة على مواقيتها ووضوئها وركوعها وسجودها "ومما رزقناهم ينفقون" قال: أنفقوا في فرائض الله التي افترض عليهم في طاعته وسبيله. وأخرج ابن المنذر عن سعيد بن جبير ونحوه. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله: "ومما رزقناهم ينفقون" قال: هي نفقة الرجل على أهله. وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال: كانت النفقات قربات يتقربون بها إلى الله عز وجل على قدر ميسورهم وجهدهم حتى نزلت فرائض الصدقات في سورة براءة هن الناسخات المبينات. واختار ابن جرير أن الآية عامة في الزكاة والنفقات، وهو الحق من غير فرق بين النفقة على الأقارب وغيرهم وصدقة الفرض والنفل، وعدم التصريح بنوع من الأنواع التي يصدق عليها مسمى الإنفاق يشعر أتم إشعار بالتعميم.
3. قوله تعالى: " الذين يؤمنون " موضع الذين خفض نعتاً للمتقين. يؤمنون: يصدقون [ ويترك الهمزة أبو عمرو وورش، والآخرون يهمزونه وكذلك يتركان كل همزة ساكنة هي فاء الفعل نحو يؤمن ومؤمن إلا أحرفاً معدودة ].
وحقيقة الإيمان التصديق بالقلب، قال الله تعالى " وما أنت بمؤمن لنا " (17-يوسف) [ أي بمصدق لنا ] وهو في الشريعة: الاعتقاد بالقلب والإقرار باللسان والعمل بالأركان، فسمي الإقرار والعمل إيماناً، لوجه من المناسبة، لأنه من شرائعه.
والإسلام: هو الخضوع والانقياد، فكل إيمان إسلام وليس كل إسلام إيماناً، إذا لم يكن معه تصديق، قال الله تعالى: " قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا " (14- الحجرات) وذلك لأن الرجل قد يكون مستسلماً في الظاهر غير مصدق في الباطن. وقد يكون مصدقاً في الباطن غيرمنقاد في الظاهر.
وقد اختلف جواب النبي صلى الله عليه وسلم عنهما حين سأله جبريل عليه السلام وهو ما أخبرنا أبو طاهر محمد ابن علي بن محمد بن علي بن محمد بن بويه الزراد البخاري: أنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي ثنا أبو سعيد الهيثم بن كليب الشاشي ثنا أبو أحمد عيسى / بن أحمد العسقلاني أنا يزيد بن هارون أنا كهمس بن الحسن عن عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر قال: كان أول من تكلم في القدر، يعني بالبصرة، معبداً الجهني فخرجت أنا و حميد بن عبد الرحمن نريد مكة فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقوله هؤلاء فلقينا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، فعلمت أنه سيكل الكلام إلي فقلت: يا أبا عبد الرحمن إنه قد ظهر قبلنا ناس يتقفرون هذا العلم ويطلبونه يزعمون أن لا قدر إنما الأمر أنف قال: فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني منهم بريء شيئاً حتى يؤمن بالقدر خيره وشره ثم قال:
حدثنا عمر بن الخطاب قال: " بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر ما يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد فأقبل حتى جلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم [وركبته تمس ركبته] فقال: يامحمد أخبرني عن الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا فقال: صدقت فتعجبنا من سؤاله وتصديقه. ثم قال: فما الإيمان قال: أن تؤمن بالله وحده وملائكته وكتبه ورسوله وبالبعث بعد الموت والجنة والنار وبالقدر خيره وشره فقال: صدقت. ثم قال: فما الإحسان قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإنك إن لم تكن تراه فإنه يراك قال: صدقت ثم قال: فأخبرني عن الساعة فقال ما المسؤول عنها بأعلم بها من السائل قال: صدقت قال: فأخبرني عن أماراتها قال: أن تلد الأمة ربتها ، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في بنيان المدر قال: صدقت ثم انطلق فلما كان بعد ثالثة قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عمر هل تدري من الرجل؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال: ذلك جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم وما أتاني في صورة إلا عرفته فيها إلا في صورته هذه ".
فالنبي صلى الله عليه وسلم جعل الإسلام في هذا الحديث إسماً لما ظهر من الأعمال، والإيمان اسماً لما بطن من الاعتقاد وليس ذلك لأن الأعمال ليست من الإيمان أو التصديق بالقلب ليس من الإسلام بل ذلك تفصيل لجملة هي كلها شيء واحد وجماعها الدين، ولذلك قال ذاك جبرائيل أتاكم يعلمكم أمر دينكم.
والدليل على أن الأعمال من الإيمان ما أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أنا أبو القاسم إبراهيم بن محمد بن علي بن الشاه ثنا أبو أحمد بن محمد بن قريش بن سليمان ثنا بشر بن موسى ثنا خلف بن الوليد عن جرير الرازي عن سهل بن أبي صالح عن عبد الله بن دينار عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الإيمان بضع وسبعون شعبة أفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان ".
وقيل: الإيمان مأخوذ من الأمان، فسمي المؤمن مؤمناً لأنه يؤمن نفسه من عذاب الله، والله تعالى مؤمن لأنه يؤمن العباد من عذابه.
قوله تعالى " بالغيب ": والغيب مصدر وضع موضع الاسم فقيل للغائب غيب [ كما قيل للعادل عدل وللزائر زور. والغيب ما كان مغيباً عن العيون قال ابن عباس: الغيب هاهنا كل ما أمرت بالإيمان به فيما غاب عن بصرك مثل الملائكة والبعث والجنة والنار والصراط والميزان. وقيل الغيب هاهنا: هو الله تعالى، وقيل: القرآن،وقال الحسن: بالآخرة وقال زر بن حبيش وابن جريح: بالوحي. نظيره " أعنده علم الغيب " (35-النجم) وقال ابن كيسان : بالقدر وقال عبد الرحمن بن يزيد: كنا عند عبد الله بن مسعود فذكرنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم [وما سبقونا به] فقال عبد الله: إن أمر محمد كان بيناً لمن رآه والذي لا إله غيره ما آمن أحد قط إيماناً أفضل من إيمان بغيب ثم قرأ " الم * ذلك الكتاب " إلى قوله "المفلحون". قرأ أبو جعفر وأبو عمرو وورش يومنون بترك الهمزة وكذلك أبو جعفر بترك كل همزة ساكنة إلا في أنبئهم ونبئهم ونبئنا ويترك أبو عمرو كلها إلا أن تكون علامة للجزم نحو نبئهم وأنبئهم وتسؤهم وإن نشأ وننسأها ونحوها أو يكون خروجاً من لغة إلى أخرى نحو مؤصدة ورئياً. ويترك ورش كل همزة ساكنة كانت فاء الفعل إلا تؤوي وتؤويه ولا يترك من عين الفعل: إلا الرؤيا وبابه، إلا ما كان على وزن فعل. مثل: ذئب].
قوله تعالى: " ويقيمون الصلاة " أي يديمونها ويحافظون عليها في مواقيتها بحدودها، وأركانها وهيئاتها يقال: قام بالأمر، وأقام الأمر إذا أتى به معطىً حقوقه، والمراد بها الصلوات الخمس ذكر بلفظ (الواحد) كقوله تعالى: " فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق " (213-البقرة) يعني الكتب.
والصلاة في اللغة: الدعاء، قال الله تعالى: " وصل عليهم " (103-التوبة) أي ادع لهم، وفي الشريعة اسم لأفعال مخصوصة من قيام وركوع وسجود وقعود ودعاء وثناء. وقيل في قوله تعالى " إن الله وملائكته يصلون على النبي " (56-الأحزاب) الآية إن الصلاة من الله في هذه الآية الرحمة ومن الملائكة الاستغفار، ومن المؤمنين: الدعاء.
قوله تعالى: " ومما رزقناهم " (أي) أعطيناهم والرزق اسم لكل ما ينتفع به حتى الولد والعبد وأصله في اللغة الحظ والنصيب " ينفقون " يتصدقون. قال قتادة : ينفقون في سبيل الله وطاعته. وأصل الإنفاق: الإخراج عن اليد والملك، ومنه نفاق السوق، لأنه تخرج فيه السلعة عن اليد، ومنه: نفقت الدابة إذا أخرجت روحها. فهذه الآية في المؤمنين من مشركي العرب.

3- " الذين يؤمنون بالغيب " إما موصول بالمتقين على أنه صفة مجرورة مقيدة له إن فسر التقوى بترك مترتبة عليه ترتيب التحلية على التخلية ، والتصوير على التصقيل . أو موضحة إن فسر بما يعم فعل الحسنات وترك السيئات لاشتماله على ما هو أصل الأعمال وأساس الحسنات من الإيمان والصلاة والصدقة ، فإنها أمهات الأعمال النفسانية والعبادات البدنية والمالية المستتبعة لسائر الطاعات والتجنب عن المعاصي غالباً ، ألا ترى إلى قوله تعالى : " إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر " . وقوله عليه الصلاة والسلام : " الصلاة عماد الدين ،والزكاة قنطرة الإسلام " . أو مسوقة للمدح بما تضمنه المتقين . وتخصيص الإيمان بالغيب وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة بالذكر إظهار لفضلها على سائر ما يدخل تحت اسم التقوى . أو على أنه مدح منصوب ، أو مرفوع بتقدير أعني أو هم الذين . وإما مفصول عنه مرفوع بالابتداء وخبره أولئك على هدى ، فيكون الوقف على المتقين تاماً .
والإيمان في اللغة عبارة عن التصديق مأخوذ من الأمن ، كأن المصدق أمن من المصدق التكذيب والمخالفة ، وتعديته بالياء لتضمنه معنى الاعتراف وقد يطلق بمعنى الوثوق من حيث إن الواثق بالشئ صار ذا أمن منه ، ومنه ما أمنت أن أجد صحابة وكلا الوجهين حسن في يؤمنون بالغيب .
وأما في الشرع : فالتصديق بما علم بالضرورة أنه من دين محمد صلى الله عليه وسلم كالتوحيد والنبوة والبعث والجزاء ، ومجموع ثلاثة أمور : اعتقاد الحق ، والإقرار به ، والعمل بمقتضاه عند جمهور المحدثين والمعتزلة والخوارج . فمن أخل بالاعتقاد وحده فهو منافق ، ومن أخل بالإقرار فكافر ، ومن أخل بالعمل ففاسق وفاقاً ، وكافر عند الخوارج ، وخارج عن الإيمان غير داخل في الكفر عند المعتزلة ، والذي يدل على أنه التصديق وحده أنه سبحانه وتعالى أضاف الإيمان إلى القلب فقال : " أولئك كتب في قلوبهم الإيمان " ،" وقلبه مطمئن بالإيمان " ، "ولم تؤمن قلوبهم" ، " ولما يدخل الإيمان في قلوبكم " ، وعطف عليه العمل الصالح في مواضع لا تحصى وقرنه بالمعاصي فقال تعالى : " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا " ، " يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى " ، " الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم " مع ما فيه من قلة التغيير فإنه أقرب إلى الأصل وهو متعين الإرادة في الآية ، إذ المعدى بالياء هو التصديق وفاقا ً. ثم اختلف في أن مجرد التصديق بالقلب هل هو كاف لأنه المقصود أم لا بد من انضمام الإقرار به للمتمكن منه ، ولعل الحق هو الثاني لأنه تعالى ذم المعاند أكثر من ذم الجاهل المقصر، وللمانع أن يجعل الذم للإنكار لا لعدم الإقرار للمتمكن منه .
والغيب مصدر ، وصف به للمبالغة كالشهادة في قوله تعالى: " عالم الغيب والشهادة " والعرب تسمي المطمئن من الأرض والخمصة التي تلي الكلية غيباً ، أو فيعل خفيف كقيل ، والمراد به الخفي الذي لا يدركه الحس ولا تقتضيه بديهة العقل، وهو قسمان : قسم لا دليل عليه وهو المعني بقوله تعالى : " وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو " وقسم نصب موقع عليه دليل : كالصانع وصفاته واليوم الآخر وأحواله وهو المراد به في هذه الآية ، هذا إذا جعلته صلة للإيمان وأوقعته موقع المفعول به . وإن جعلته حالاً على تقدير ملتبسين بالغيب كان بمعنى الغيبة والخفاء . والمعنى أنهم يؤمنون غائبين عنكم لا كالمنافقين الذين إذا " لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون " . أو عن المؤمن به لما روي أن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال : والذي لا إله غيره ما آمن أحد أفضل من إيمان بغيب ، ثم قرأ هذه الآية . وقيل المراد بالغيب : القلب لأنه مستور ، والمعنى يؤمنون بقلوبهم لا كمن يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم . فالباء على الأول للتعدية . وعلى الثاني للمصاحبة . وعلى الثالث للآلة .
" ويقيمون الصلاة " أي يعدلون أركانها ويحفظونها من أن يقع زيغ في أفعالها ، من أقام العود إذا قومه أو يواظبون عليها ، من قامت السوق إذا نفقت وأقمتها إذا جعتها نافقة قال:
أقامت غزالة سوق الضراب لأهل العراقين حولاً قميطا
فإنه إذا حوفظ عليها كانت كالنافق الذي يرغب فيه ، وإذا ضيعت كانت كالكاسد المرغوب عنه ، أو يتشمرون لأدائها من غير فتور ولا توان ، من قولهم قام بالأمر وأقامه إذا جد فيه وتجلد ، وضده قعد عن الأمر ، وتقاعد . أو يؤدونها .
عبر عن الأداء بالإقامة لاشتمالها على القيام ، كما عبر عنها بالقنوت والركوع والسجود والتسبيح . والأول أظهر لأنه أشهر وإلى الحقيقة أقرب وأفيد ، لتضمنه التنبيه على أن الحقيق بالمدح من راعي حدودها الظاهرة من الفرائض والسنن ، وحقوقها الباطنة من الخشوع والإقبال بقلبه على الله تعالى ، لا " للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون " ، لذلك ذكر في سياق المدح والمقيمين الصلاة ، وفي معرض الذم فويل للمصلين ، والصلاة فعلة من صلى إذا دعا كالزكاة من زكى ، كتبتا بالواو على لفظ المفخم ، وإنما سمي الفعل المخصوص بها لاشتماله على الدعاء .
وقيل : أصل صلى حرك الصلوين لأن المصلي يفعله في ركوعه وسجوده ، واشتهار هذا اللفظ في المعنى الثاني مع عدم اشتهاره في الأول لا يقدح في نقله عنه ، وإنما سمي الداعي مصلياً تشبيهاً له في تخشعه بالراكع الساجد .
" ومما رزقناهم ينفقون " الرزق في اللغة : الحظ قال تعالى : " وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون " . والعرف خصصه بتخصص الشئ بالحيوان للانتفاع به وتمكينه منه . وأما المعتزلة لما استحالوا على الله تعالى أن يمكن من الحرام لأنه منع من الانتفاع به وأمر بالزجر عنه ، قالوا : الحرام ليس برزق ، ألا ترى أنه تعالى أسند الرزق ههنا إلى نفسه إيذاناً بأنهم ينفقون الحلال المطلق . فإن إنفاق الحرام لا يوجب المدح ، وذم المشركين على تحريم بعض ما رزقهم الله تعالى بقوله : " قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا " . وأصحابنا جعلوا الإسناد للتعظيم والتحريض على الإنفاق ، والذم لتحريم ما لم يحرم . واختصاص ما رزقناهم بالحلال للقرينة . وتمسكوا لشمول الرزق له بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عمرو بن قرة : " لقد رزقك الله طيباً فاخترت ما حرم الله عليك من رزقه مكان ما أحل الله لك من حلاله " . وبأنه لو لم يكن رزقاً لم يكن المتغذي به طول عمره مرزوقاً ، وليس كذلك لقوله تعالى : " وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها " . وأنفق الشئ وأنفذه أخوان ، ولو استقريت الألفاظ وجدت كل ما فاؤه نون وعينه فاء دالاً على معنى الذهاب والخروج ، والظاهر من هذا الإنفاق صرف المال في سبيل الخير من الفرض والنفل . ومن فسره بالزكاة ذكر أفضل أنواعه والأصل فيه ، أو خصصه بها لاقترانه بما هو شقيقها . وتقديم المفعول للاهتمام به وللمحافظة على رؤوس الآي ، وإدخال من التبعيضية عليه لمنع المكلف عن الإسراف المنهي عنه . ويحتمل أن يراد به الإنفاق من جميع المعاون التي أتاهم الله من النعم الظاهرة والباطنة ، ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام : " إن علماً لا يقال به ، ككنز لا ينفق منه " . وإليه ذهب من قال : ومما خصصناهم به من أنوار المعرفة يفيضون .
3. Who believe in the unseen, and establish worship, and spend of that We have bestowed upon them;
3 - Who believe in the Unseen, Are steadfast in prayer And spend out of What We Have provided for them;