[البقرة : 280] وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(وإن كان) وقع غريم (ذو عسرة فنَظِرة) له أي عليكم تأخيره (إلى ميسَرة) بفتح السين وضمها أي وقت يسر (وأن تصَّدقوا) بالتشديد على إدغام التاء في الأصل في الصاد وبالتخفيف على حذفها أي تتصدقوا على المعسر بالإبراء (خير لكم إن كنتم تعلمون) أنه خير فافعلوه وفي الحديث "من أنظر معسراً أو وضع عنه أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله" رواه مسلم
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: "وإن كان" ممن تقبضون منه من غرمائكم رؤوس أموالكم، "ذو عسرة" يعني: معسراً برؤوس أموالكم التي كانت لكم عليهم قبل الإرباء: فأنظروهم إلى ميسرتهم.
وقوله: "ذو عسرة"، مرفوع بـ"كان"، فالخبر متروك، وهو ما ذكرنا. وإنما صلح ترك خبرها، من أجل أن النكرات تضمر لها العرب أخبارها. ولو وجهت "كان" في هذا الموضع، إلى أنها بمعنى الفعل المكتفي بنفسه التام، نكان وجهاً صحيحاً، ولم يكن بها حاجة حينئذ إلى خبر. فيكون تأويل الكلام عند ذلك: وإن وجد ذو عسرة من غرمائكم برؤوس أموالكم، فنظرة إلى ميسرة.
وقد ذكر أن ذلك في قراءة أبي كعب: وإن كان ذا عسرة، يمعنى: وإن حان الغريم ذا عسرة، "فنظرة إلى ميسرة". وذلك وإن كان في العربية جائزاً، فغير جائزة القراءة به عندنا، لخلافه خطوط مصاحف المسلمين.
وأما قوله: "فنظرة إلى ميسرة"، فإنه يعني: فعليكم أن تنظروه إلى ميسرة، كما قال: "فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام" [البقرة: 196]، وقد ذكرنا وجه رفع ما كان من نظائرها فيما مضى قبل، فأغنى عن تكريره.
والميسرة، المفعلة من اليسر، مثل المرحمة و المشأمة.
ومعنى الكلام: وإن كان من غرمائكم ذو عسرة، فعليكم أن تنظروه حتى يوسر بالدين الذي لكم، فيصير من أهل اليسر به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني واصل بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن فضيل، عن يزيد بن أبى زياد، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله: "وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة"، قال: نزلت في الربا.
حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، حدثنا هشام، عن ابن سيرين: أن رجلاً خاصم رجلاً إلى شريح، قال: فقضى عليه وأمر بحبسه، قال: فقال رجل عند شريح: إنه معسر، والله يقول في كتابه: "وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة"! قال: فقال شريح: إنما ذلك في الربا! وإن اللة قال في كتابه: "إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل" [النساء: 58]، ولا يأمرنا الله بشيء ثم يعذبنا عليه.
حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم في قوله: "وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة"، قال: ذلك في الربا.
حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن الشعبي أن الربيع بن خثيم كان له على رجل حق، فكان يأتيه ويقوم على بابه ويقول: أي فلان، إن كنت موسراً فأد، وإن كنت معسراً فإلى ميسرة.
حدثنا يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن محمد قال: جاء رجل إلى شريح فكلمه فجعل يقول: إنه معسر، إنه معسر!! قال: فظننت أنه يكلمه في محبوس، فقال شريح: إن الربا كان في هذا الحي من الأنصار، فأنزل الله عز وجل: "وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة"، وقال الله عز وجل: "إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها" [النساء: 58]، فما كان الله عز وجل يأمرنا بأمر ثم يعذبنا عليه! أدوا الأمانات إلى أهلها.
حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن سعيد، عن قتادة في قوله: "وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة"، قال: فنظرة إلى ميسرة برأس ماله.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: "وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة"، إنما أمر في الربا أن ينظر المعسر، وليست النظرة في الأمانة، ولكن يؤدي الأمانة إلى أهلها.
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "وإن كان ذو عسرة فنظرة" برأس المال، "إلى ميسرة"، يقول: إلى غنىً.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال ابن عباس: "وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة"، هذا في شأن الربا.
حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال: سمعت الضحاك في قوله: "وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة"، هذا في شأن الربا، وكان أهل الجاهلية بها يتبايعون، فلما أسلم من أسلم منهم، أمروا أن يأخذوا رؤوس أموالهم.
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: "وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة"، يعني المطلوب.
حدثني ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن أبي جعفر في قوله: "وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة"، قال: الموت.
حدثنا أحمد بن إسحق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل، عن جابر، عن محمد بن علي مثله.
حدثني المثنى قال، حدثنا قبيصة بن عقبة قال، حدثنا سفيان، عن المغيرة، عن إبراهيم: "وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة"، قال: هذا في الربا.
حدثنا أحمد بن إسحق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا شريك، عن منصور، عن إبراهيم، في الرجل يتزوج إلى الميسرة، قال: إلى الموت، أو إلى فرقة.
حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم، "فنظرة إلى ميسرة"، قال: ذلك في الربا.
حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا مندل، عن ليث، عن مجاهد: "فنظرة إلى ميسرة"، قال: يؤخره، ولا يزد عليه. وكان إذا حل دين أحدهم فلم يجد ما يعطيه، زاد عليه وأخره.
وحدثني أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا مندل، عن ليث، عن مجاهد: "وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة"، قال: يؤخره ولا يزد عليه.
وقال آخرون: هذه الآية عامة في كل من كان له قبل رجل معسر حق، من أي وجهة كان ذلك الحق، من دين حلال أو رباً.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك قال: من كان ذا عسرة فنظرة إلى ميسرة، وأن تصدقوا خير لكم. قال: وكذلك كل دين على مسلم، فلا يحل لمسلم له دين على أخيه يعلم منه عسرةً أن يسجنه، ولا يطلبه حتى ييسره الله عليه. وإنما جعل النظرة في الحلال، فمن أجل ذلك كانت الديون على ذلك.
حدثني علي بن حرب قال، حدثنا ابن فضيل، عن يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن ابن عباس: "وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة"، قال: نزلت في الدين.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في قوله: "وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة"، أنه معني به غرماء الذين كانوا أسلموا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهم عليهم ديون قد أربوا فيها في الجاهلية، فأدركهم الإسلام قبل أن يقبضوها منهم، فأمر الله بوضع ما بقي من الربا بعد ما أسلموا، وبقبض رؤوس أموالهم ممن كان منهم من غرمائهم موسراً، أو إنظار من كان منهم معسراً برؤوس أموالهم إلى ميسرتهم.
فذلك حكم كل من أسلم وله رباً قد أربى على غريم له، فإن الإسلام يبطل عن غريمه ما كان له عليه من قبل الربا، ويلزمه أداء رأس ماله -الذي كان أخذ منه أو لزمه من قبل الإرباء- إليه، إن كان موسراً، وإن كان معسراً، كان منظراً برأس مال صاحبه إلى ميسرته، وكان الفضل على رأس المال مبطلاً عنه.
غير أن الآية وإن كانت نزلت فيمن ذكرنا، وإياهم عنى بها، فإن الحكم الذي حكم الله به: من إنظاره المعسر برأس مال المربي بعد بطول الربا عنه، حكم واجب لكل من كان عليه دين لرجل قد حل عليه، وهو بقضائه معسر: في أنه منظر إلى ميسرته. لأن دين كل ذي دين، في مال غريمه، وعلى غريمه قضاؤه منه- لا في رقبته. فإذا عدم ماله، فلا سبيل له على رقبته بحبس ولا بيع. وذلك أن مال رب الدين لن يخلو من أحد وجوه ثلاثة: إما أن يكون في رقبة غريمه، أو في ذمته يقضيه من ماله، أو في مال له بعينه.
فإن يكن في مال له بعينه، فمتى بطل ذلك المال وعدم، فقد بطل دين رب المال. وذلك ما لا يقوله أحد.
أو يكون في رقبته، فإن يكن كذلك، فمتى عدمت نفسه، فقد بطل دين رب الدين، وإن خلف الغريم وفاءً بحقه وأضعاف ذلك. وذلك أيضاً لا يقوله أحد.
فقد تبين إذاً، إذ كان ذلك كذلك، أن دين رب المال في ذمة غريمه يقضيه من ماله، فإذا عدم ماله فلا سبيل له على رقبته، لأنه قد عدم ما كان عليه أن يؤدي منه حق صاحبه لو كان موجوداً. وإذا لم يكن على رقبته سبيل، لم يكن إلى حبسه وهو معدوم بحقه، سبيل. لأنه غير مانعه حقاً، له إلى قضائه سبيل، فيعاقب بمطله إياه بالحبس.
قال أبو جعفر: يعني جل وعز بذلك: وأن تتصدقوا برؤوس أموالكم على هذا المعسر، "خير لكم" أيها القوم من أن تنظروه إلى ميسرته، لتقبضوا رؤوس أموالكم منه إذا أيسر، "إن كنتم تعلمون" موضع الفضل في الصدقة، وما أوجب الله من الثواب لمن وضع عن غريمه المعسر دينه.
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: معنى ذلك: "وأن تصدقوا" برؤوس أموالكم على الغني والفقير منهم، "خير لكم".
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: "وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم"، والمال الذي لهم على ظهور الرجال. جعل لهم رؤوس أموالهم حين نزلت هذه الآية. فأما الربح والفضل فليس لهم، ولا ينبغي لهم أن يأخذوا منه شيئاً، "وأن تصدقوا خير لكم"، يقول: أن تصدقوا بأصل المال خير لكم.
حدثني يعقوب قال حدثنا ابن علية، عن سعيد، عن قتادة: "وأن تصدقوا"، أي برأس المال، فهو خير لكم.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم: "وأن تصدقوا خير لكم"، قال: من رؤوس أموالكم.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى، عن سفيان، عن المغيرة، عن إبراهيم بمثله.
حدثني المثنى قال، حدثنا قبيصة بن عقبة قال، حدثنا سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم: "وأن تصدقوا خير لكم"، قال: أن تصدقوا برؤوس أموالكم.
وقال آخرون: معنى ذلك: وأن تصدقوا به على المعسر، خير لكم- نحو ما قلنا في ذلك.
ذكر من قال ذلك:
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "وأن تصدقوا خير لكم"، قال: وأن تصدقوا برؤوس أموالكم على الفقير، فهو خير لكم. فتصدق به العباس.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: "وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم"، يقول: وإن تصدقت عليه برأس مالك، فهو خير لك.
حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك في قوله: "وأن تصدقوا خير لكم"، يعني: على المعسر، فأما الموسر فلا، ولكن يؤخذ منه رأس المال. والمعسر الأخذ منه حلال، والصدقة عليه أفضل.
حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك: وأن تصدقوا برؤوس أموالكم، خير لكم من نظرة إلى ميسرة. فاختار الله عز وجل الصدقة على النظارة.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: "وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم"، قال: من النظرة، "إن كنتم تعلمون".
حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك: "فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم"، والنظرة واجبة. وخير الله عز وجل الصدقة على النظرة، والصدقة لكل معسر، فأما الموسر فلا.
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالصواب تأويل من قال: معناه: وأن تصدقوا على المعسر برؤوس أموالكم خير لكم. لأنه يلي ذكر حكمه في المعنيين. وإلحاقه بالذي يليه، أحب إلي من إلحاقه بالذي بعد منه.
قال أبو جعفر: وقد قيل إن هذه الآيات في أحكام الربا، هن آخر آيات نزلت من القرآن.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، وحدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب: أن عمر بن الخطاب قال: كان آخر ما نزل من القرآن آية الربا، وإن نبي الله صلى الله عليه وسلم قبض قبل أن يفسرها، فدعوا الربا والريبة.
حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا داود، عن عامر: أن عمر رضي الله عنه قام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإنه والله ما أدري لعلنا نأمركم بأمر لا يصلح لكم، وما أدري لعلنا ننهاكم عن أمر يصلح لكم، وإنه كان من آخر القرآن تنزيلاً آيات الربا، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يبينه لنا، فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم.
حدثني أبو زيد عمر بن شبة قال، حدثنا قبيصة قال، حدثنا سفيان الثوري، عن عاصم الأحول، عن الشعبي، عن ابن عباس قال: آخر ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية الربا، وإنا لنأمر بالشيء لا ندري لعل به بأساً، وننهى عن الشيء لعله ليس به بأس.
قوله تعال : "وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون" .
فيه تسع مسائل :
الأولى : قوله تعالى : "وإن كان ذو عسرة" لما حكم جل وعز لأرباب الربا برؤوس أموالهم عند الواجدين للمال ، حكم في ذي العسرة بالنظرة إلى حال الميسرة ، وذلك أن ثقيفاً لما طلبوا أموالهم التي لهم على بني المغيرة شكوا العسرة ـ يعني بني المغيرة ـ وقالوا : ليس لنا شيء ، وطلبوا الأجل إلى وقت ثمارهم ، فنزلت هذه الآية : "وإن كان ذو عسرة" .
الثانية : قوله تعالى : "وإن كان ذو عسرة" مع قوله : "وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم" يدل على ثبوت المطالبة لصاحب الدين على المدين وجواز أخذ ماله بغير رضاه . ويدل على أن الغريم متى امتنع من اداء الدين مع الإمكان كان ظالماً ، فإن الله تعالى يقول : "فلكم رؤوس أموالكم" فجعل له المطالبة برأس ماله . فإذا كان له حق المطالبة فعلى من عليه الدين لا محالة وجوب قضائه .
الثالثة : قال المهدوي : وقال بعض العلماء : هذه الآية ناسخة لما كان في الجاهلية من بيع من أعسر . وحكى مكي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به في صدر الإسلام . قال ابن عطية : فإن ثبت فعل النبي صلى الله عليه وسلم فهو نسخ وإلا فليس بنسخ . قال الطحاوي : كان الحر يباع في الدين أول الإسلام إذا لم يكن له مال يقضيه عن نفسه حتى نسخ الله ذلك فقال جل وعز : "وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة" . واحتجوا بحديث رواه الدار قطني من حديث مسلم بن خالد الزنجي أخبرنا زيد بن أسلم " عن ابن البيلماني عن سرق قال : كان لرجل علي مال ـ أو قال دين ـ فذهب بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يصب لي مالاً فباعني منه ، أو باعني له" . أخرجه البزار بهذا إسناد أطول منه . و مسلم بن خالد الزنجي وعبد الرحمن بن البيلماني لا يحتج بهما . وقال جماعة من أهل العلم : قوله تعالى : "فنظرة إلى ميسرة" عامة في جميع الناس ،فكل من أعسر أنظر ، وهذا قول أبي هريرة و الحسن وعامة الفقهاء . قال النحاس : وأحسن ما قيل في هذه الآية قول عطاء والضحاك و الربيع بن خيثم . قال : هي لكل معسر ينظر في الربا والدين كله . فهذا قول يجمع الأقوال ، لأنه يجوز أن تكون ناسخة عامة نزلت في الربا صم صار حكم غيره كحكمه ، ولأن القراءة بالرفع بمعنى وإن وقع ذو عسرة من الناس أجمعين . ولو كان في الربا خاصة لكان النصب الوجه ، بمعنى وإن كان الذي عليه الربا ذا عسرة . وقال ابن عباس و شريح : ذلك في الربا خاصة ، فأما الديون وسائر المعاملات فليس فيها نظرة بل يؤدي إلى أهلها أو يحبس فيه حتى يوفيه ، وهو قول إبراهيم . واحتجوا بقول الله تعالى : "إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها" الآية . قال ابن عطية : فكان هذا القول يترتب إذا لم يكن فقر مدقع ، وأما مع العدم والفقر الصريح فالحكم هو النظرة ضرورة .
الرابعة : من كثرت ديونه وطلب غرماؤه مالهم فللحاكم أن يخلعه عن كل ماله ويترك له ما كان من ضرورته . روى ابن نافع عن مالك أنه لا يترك له إلا ما يواريه . والمشهور أنه يترك له كسوته المعتاده ما لم يكن فيها فضل ، ولا ينزع منه وداؤه وإن كان ذلك مزرياً به . وفي ترك كسوة زوجته وفي بيع كتبه إن كان عالماً خلاف . ولا يترك له مسكن ولا خادم ولا ثوب جمعة ما لم تقل قيمتها ، وعند هذا يحرم حبسه . والأصل في هذا قول تعالى : "وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة" . روى الأئمة واللفظ لـمسلم عن ابي سعيد الخدري قال :
"أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها فكثر دينه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :تصدقوا عليه ، فتصدق الناس عليه فلم يبلغ ذلك وفاء دينه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لغرمائه : خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك" . وفي مصنف أبي داود : فلم يزد رسول الله صلى الله عليه وسلم غرماءه على أن خلع لهم ماله . وهذا نص ، فلم يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحبس الرجل ، وهو معاذ بن جبل كما قال شريح ، ولا بملازمته ، خلافاً لـ أبي حنيفة فإنه قال : يلازم لإمكان أن يظهر له مال ، ولا يكلف أن يكتسب لما ذكرنا . وبالله توفيقنا .
الخامسة : ويحبس المفلس في قول مالك و الشافعي و أبي حنيفة وغيرهم حتى يتبين عدمه . ولا يحبس عند مالك إن لم يتهم أنه غيب ماله ولم يتبين لدده . وكذلك لا يحبس إن صح عسره على ما ذكرنا .
السادسة : فإن جمع مال المفلس ثم تلف قبل وصوله إلى أربابه وقبل البيع ، فعلى المفلس ضمانه ، ودين الغرماء ثابت في ذمته . فإن باع الحاكم ماله وقبض ثمنه ثم تلف الثمن قبل قبض الغرماء له ، كان عليهم ضمانه وقد برىء المفلس منه . وقال محمد بن عبد الحكم : ضمانه من المفلس ابداً يصل إلى الغرماء .
السابعة : العسرة ضيق الحال من جهة عدم المال ، ومنه جيش العسرة . والنظرة التأخير . والميسرة مصدر بمعنى اليسر . وارتفع ذو بكان التامة التي بمعنى وجد وحدث ، هذا قول سيبويه وابي علي وغيرهما . وأنشد سيبويه :
فدى لبني ذهل بن شيبان ناقتي إذا كان يوم ذو كواكب أشهب
ويجوز النصب . وفي مصحف أبي بن كعب وإن كان ذا عسرة على معنى وإن كان المطلوب ذا عسرة . وقرأ الأعمش وإن كان معسراً فنظرة . قال أبو عمرو الداني عن أحمد بن موسى : وكذلك في مصحف أبي بن كعب . قال النحاس و مكي و النقاش : وعلى هذا يختص لفظ الآية بأهل الربا ، وعلى من قرأ ذو فهي عامة في جميع من عليه دين ، وقد تقدم وحكى المهدوي أن في مصحف عثمان فإن كان ـ بالفاء ـ ذو عسر . وروى المعتمر عن حجاج الوراق قال : في مصحف عثمان وإن كان ذا عسرة ذكره النحاس . وقراءة الجماعة نظرة بكسر الظاء . وقرأ مجاهد وابو رجاء و الحسن فنظرة بسكون الظاء ، وهي لغة تميمية وهم الذين يقولون : في كرم زيد بمعنى كرم زيد ، ويقولون كبد في كبد . وقرأ نافع وحده ميسرة بضم السين ، والجمهور بفتحها .
وحكى النحاس عن مجاهد و عطاء فناظرة ـ على الأمر ـ إلى ميسرهي بضم السين وكسر الراء وإثبات الياء في الإدراج . وقرىء فناظرة قال أبو حاتم لا يجوز فناظرة ، إنما ذلك في النمل لأنها امراة تكلمت بهذا لنفسها ، من نظرت فهي ناظرة ، وما في البقرة فمن التأخير ، من قولك : أنظرتك بالدين ، أي أخرتك به . ومنه قوله : "فأنظرني إلى يوم يبعثون" . وأجاز ذلك أبو إسحاق الزجاج وقال : هي من أسماء المصادر ، كقوله تعالى : "ليس لوقعتها كاذبة" . وكقوله تعالى : "تظن أن يفعل بها فاقرة" وكـ "خائنة الأعين" وغيره .
الثامنة : قوله تعالى : "وأن تصدقوا" ابتداء وخبره "خير" : ندب الله تعالى بهذه الألفاظ إلى الصدقة على المعسر وجعل ذلك خيراً من إنظاره ، قاله السدي وابن زيد والضحاك . وقال الطبري : وقال آخرون : معنى الآية وأن تصدقوا على الغني والفقير خير لكم . والصحيح الأول ، وليس في مدخل للغني .
التاسعة : روى أبو جعفر الطحاوي عن بريدة بن الخصيب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"من أنظر معسراً كان له بكل يوم صدقته" ثم قلت : بكل يوم مثله صدقة ، قال فقال : "بكل يوم صدقة مالم يحل الدين فإذا انظره بعد الحل فله بكل يوم مثله صدقة" . وروى مسلم عن ابي مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"حوسب رجل ممن كان قبلكم فلم يوجد له من الخير شيء إلا أنه كان يخالط الناس وكان موسراً فكان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر قال قال الله عز وجل نحن أحق بذلك منه تجاوزوا عنه" . وروي :
عن أبي قتادة أنه طلب غريماً له فتوارى عنه ثم وجده فقال : إني معسر . فقال : آلله ؟ قال : الله : فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه" ، وفي حديث أبي اليسر الطويل ـ واسمه كعب بن عمرو ـ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
"من أنظر معسراً أو وضع عنه أظله الله في ظله" . ففي هذه الأحاديث من الترغيب ما هو منصوص فيها . وحديث أبي قتادة يدل على أن رب الدين إذا علم عسرة غريمه أو ظنها حرمت عليه مطالبته ، وإن لم تثبت عسرته عند الحاكم . وإنظار المعسر تأخيره إلى أن يوسر . والوضع عنه إسقاط الدين عن ذمته . وقد جمع المعنيين أبو اليسر لغريمه حيث محا عنه الصحيفة وقال له : إن وجدت قضاء فاقض وإلا فأنت في حل .
يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين بتقواه, ناهياً لهم عما يقربهم إلى سخطه ويبعدهم عن رضاه, فقال "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله" أي خافوه وراقبوه فيما تفعلون "وذروا ما بقي من الربا" أي اتركوا ما لكم على الناس من الزيادة على رؤوس الأموال, بعد هذا الإنذار "إن كنتم مؤمنين" أي بما شرع الله لكم من تحليل البيع وتحريم الربا وغير ذلك, وقد ذكر زيد بن أسلم, وابن جريج ومقاتل بن حيان والسدي, أن هذا السياق نزل في بني عمرو بن عمير من ثقيف, وبني المغيرة من بني مخزوم, كان بينهم ربا في الجاهلية, فلما جاء الإسلام ودخلوا فيه, طلبت ثقيف أن تأخذه منهم, فتشاورا وقالت بني المغيرة لا نؤدي الربا في الإسلام بكسب الإسلام, فكتب في ذلك عتاب بن أسيد, نائب مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الاية, فكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين * فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله" فقالوا نتوب إلى الله, ونذر ما بقي من الربا فتركوه كلهم, وهذا تهديد ووعيد أكيد, لمن استمر على تعاطي الربا بعد الإنذار قال ابن جريج: قال ابن عباس: "فأذنوا بحرب", أي استيقنوا بحرب من الله ورسوله, وتقدم من رواية ربيعة بن كلثوم, عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس, قال: يقال يوم القيامة لاكل الربا: خذ سلاحك للحرب, ثم قرأ "فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله" وقال علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس "فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله" فمن كان مقيماً على الربا لا ينزع عنه, كان حقاً على إمام المسلمين أن يستتيبه, فإن نزع وإلا ضرب عنقه, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا محمد بن بشار, حدثنا عبد الأعلى, حدثنا هشام بن حسان, عن الحسن وابن سيرين, أنهما قالا: والله إن هؤلاء الصيارفة لأكلة الربا, وإنهم قد أذنوا بحرب من الله ورسوله, ولو كان على الناس إمام عادل لاستتابهم, فإن تابوا وإلا وضع فيه السلاح. وقال قتادة: أوعدهم الله بالقتل كما يسمعون, وجعلهم بهرجاً أين ما أتوا, فإياكم ومخالطة هذه البيوع من الربا, فإن الله قد أوسع الحلال وأطابه, فلا يلجئنكم إلى معصيته فاقة. رواه ابن أبي حاتم, وقال الربيع بن أنس: أوعد الله آكل الربا بالقتل, رواه ابن جرير, وقال السهيلي: ولهذا قالت عائشة لأم محبة مولاة زيد بن أرقم في مسألة العينة: أخبريه أن جهاده مع النبي صلى الله عليه وسلم قد بطل إلا أن يتوب, فخصت الجهاد لأنه ضد قوله: "فأذنوا بحرب من الله ورسوله" قال: وهذا المعنى ذكره كثير , قال: ولكن هذا إسناده إلى عائشة ضعيف.
ـ ثم قال تعالى: "وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون" أي بأخذ الزيادة " ولا تظلمون " أي بوضع رؤوس الأموال أيضاً, بل لكم ما بذلتم من غير زيادة عليه ولا نقص منه, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن الحسين بن أشكاب, حدثنا عبيد الله بن موسى عن شيبان, عن شبيب بن غرقدة المبارقي, عن سليمان بن عمرو بن الأحوص, عن أبيه, قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع, فقال "ألا إن كل رباً كان في الجاهلية موضوع عنكم كله, لكم رؤس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون, وأول ربا موضوع ربا العباس بن عبد المطلب, موضوع كله" وكذا وجده سليمان بن الأحوص, وقال ابن مردويه: حدثنا الشافعي, حدثنا معاذ بن المثنى, أخبرنا مسدد, أخبرنا أبو الأحوص, حدثنا شبيب بن غرقدة, عن سليمان بن عمرو, عن أبيه, قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع, فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون" وكذا رواه من حديث حماد بن سلمة عن علي بن زيد, عن أبي حمزة الرقاشي عن عمر وهو ابن خارجة, فذكره.
وقوله "وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون" يأمر تعالى بالصبر على المعسر الذي لا يجد وفاء, فقال "وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة" لا كما كان أهل الجاهلية يقول أحدهم لمدينه إذا حل عليه الدين: إما أن تقضي وإما أن تربي, ثم يندب إلى الوضع عنه, ويعد على ذلك الخير والثواب الجزيل, فقال: "وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون" أي وأن تتركوا رأس المال بالكلية وتضعوه عن المدين, وقد وردت الأحاديث من طرق متعددة عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.
(فالحديث الأول) عن أبي أمامة أسعد بن زرارة. قال الطبراني: حدثنا عبد الله بن محمد بن شعيب الرجاني, حدثنا يحيى بن حكيم المقوم, حدثنا محمد بن بكر البرساني, حدثنا عبد الله بن أبي زياد, حدثني عاصم بن عبيد الله, عن أبي أمامة أسعد بن زرارة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سره أن يظله الله يوم لا ظل إلا ظله, فلييسر على معسر أو ليضع عنه".
(حديث آخر) عن بريدة. قال الإمام أحمد: حدثنا عفان, حدثنا عبد الوارث, حدثنا محمد بن جحادة, عن سليمان بن بريدة, عن أبيه, قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول "من أنظر معسراً فله بكل يوم مثله صدقة" قال: ثم سمعته يقول: "من أنظر معسراً فله بكل يوم مثلاه صدقة" قلت: سمعتك يا رسول الله تقول "من أنظر معسراً فله بكل يوم مثله صدقة". ثم سمعتك تقول "من أنظر معسراً فله بكل يوم مثلاه صدقة", قال: "له لكل يوم مثله صدقة قبل أن يحل الدين, فإذا حل الدين فأنظره, فله بكل يوم مثلاه صدقة".
(حديث آخر) عن أبي قتادة الحارث بن ربعي الأنصاري. قال أحمد: حدثنا حماد بن سلمة, أخبرنا أبو جعفر الخطمي, عن محمد بن كعب القرظي, أن أبا قتادة كان له دين على رجل, وكان يأتيه يتقاضاه فيختبئ منه, فجاء ذات يوم فخرج صبي, فسأله عنه, فقال: نعم هو في البيت يأكل خزيرة, فناداه, فقال: يا فلان, اخرج فقد أخبرت أنك هاهنا, فخرج إليه, فقال: ما يغيبك عني ؟ فقال إني معسر وليس عندي شيء, قال: آلله أنك معسر ؟ قال: نعم, فبكى أبو قتادة, ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "من نفس عن غريمه, أو محا عنه, كان في ظل العرش يوم القيامة", ورواه مسلم في صحيحه.
(حديث آخر) عن حذيفة بن اليمان, قال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا الأخنس أحمد بن عمران, حدثنا محمد بن فضيل, حدثنا أبو مالك الأشجعي, عن ربعي بن خراش, عن حذيفة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتى الله بعبد من عبيده يوم القيامة قال: ماذا عملت في الدنيا ؟ فقال: ما عملت لك يا رب مثقال ذرة في الدنيا أرجوك بها ـ قالها ثلاث مرات ـ قال العبد عند آخرها: يا رب إنك كنت أعطيتني فضل مال, وكنت رجلاً أبايع الناس, وكان من خلقي الجواز, فكنت أيسر على الموسر وأنظر المعسر, قال: فيقول الله عز وجل: أنا أحق من ييسر, ادخل الجنة". وقد أخرجه البخاري ومسلم وابن ماجه من طرق عن ربعي بن حراش, عن حذيفة, زاد مسلم وعقبة بن عامر وأبي مسعود البدري عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه, ولفظ البخاري: حدثنا هشام بن عمار, حدثنا يحيى بن حمزة, حدثنا الزهري عن عبد الله بن عبد الله, أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم, قال: "كان تاجر يداين الناس, فإذا رأى معسراً قال لفتيانه: تجاوزا عنه لعل الله يتجاوز عنا, فتجاوز الله عنه".
(حديث آخر) عن سهل بن حنيف, قال الحاكم في مستدركه: حدثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب, حدثنا يحيى بن محمد بن يحيى, حدثنا أبو الوليد هشام بن عبد الملك, حدثنا عمرو بن ثابت, حدثنا عبد الله بن محمد بن عقيل, عن عبد الله بن سهل بن حنيف, أن سهلاً حدثه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: "من أعان مجاهداً في سبيل الله أو غازياً أو غارماً في عسرته أو مكاتباً في رقبته أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله" ثم قال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
(حديث آخر) عن عبد الله بن عمر, قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن عبيد, عن يوسف بن صهيب, عن زيد العمي عن ابن عمر, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أراد أن تستجاب دعوته وأن تكشف كربته, فليفرج عن معسر". انفرد به أحمد.
(حديث آخر) عن أبي مسعود عقبة بن عمرو. قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون, أخبرنا أبو مالك عن ربعي بن حراش, عن حذيفة, أن رجلاً أتى به الله عز وجل, فقال: ماذا عملت في الدنيا ؟ فقال له الرجل: ما عملت مثقال ذرة من خير, فقال ثلاثاً, وقال في الثالثة: إني كنت أعطيتني فضلاً من المال في الدنيا, فكنت أبايع الناس, فكنت أيسر على الموسر , وأنظر المعسر. فقال تبارك وتعالى: نحن أولى بذلك منك, تجاوزا عن عبدي, فغفر له. قال أبو مسعود: هكذا سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم, وهكذا رواه مسلم من حديث أبي مالك سعد بن طارق به.
(حديث آخر) عن عمران بن حصين. قال الإمام أحمد: حدثنا أسود بن عامر, أخبرنا أبو بكر, عن الأعمش, عن أبي دواد, عن عمران بن حصين قال, قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان له على رجل حق فأخره, كان له بكل يوم صدقة", غريب من هذا الوجه, وقد تقدم عن بريدة نحوه.
(حديث آخر) عن أبي اليسر كعب بن عمرو. قال الإمام أحمد: حدثنا معاوية بن عمرو, حدثنا زائدة, عن عبد الملك بن عمير, عن ربعي, قال: حدثنا أبو اليسر, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال "من أنظر معسراً أو وضع عنه, أظله الله عز وجل في ظله يوم لا ظل إلا ظله". وقد أخرجه مسلم في صحيحه ومن وجه آخر من حديث عباد بن الوليد بن عبادة بن الصامت, قال: خرجت أنا وأبي نطلب العلم في هذا الحي من الأنصار قبل أن يهلكوا, فكان أول من لقينا أبا اليسر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم, ومعه غلام له معه ضمامة من صحف, وعلى أبي اليسر بردة ومعافري, وعلى غلامة بردة ومعافري, فقال له أبي: يا عم, إني أرى في وجهك سفعة من غضب, قال: أجل كان لي على فلان بن فلان ـ الحرامي ـ مال, فأتيت أهله, فسلمت فقلت: أثم هو ؟ قالوا: لا , فخرج علي ابن له جفر , فقلت: أين أبوك ؟ فقال: سمع صوتك فدخل أريكة أمي, فقلت: اخرج إلي فقد علمت أين أنت, فخرج, فقلت ما حملك على أن اختبأت مني ؟ قال: أنا والله أحدثك ثم لا أكذبك, خشيت والله أن أحدثك فأكذبك أو أعدك فأخلفك, وكنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكنت والله معسراً. قال: قلت: آلله. قال: قلت: آلله ؟ قال: الله, ثم قال: فأتى بصحيفته فمحاها بيده, ثم قال: فإن وجدت قضاء فاقضني وإلا فأنت في حل, فأشهد بصر عيناي هاتان ـ ووضع أصبعيه على عينيه ـ وسمع أذناي هاتان, ووعاه قلبي ـ وأشار إلى نياط قلبه, رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: من أنظر معسراً أو وضع عنه, أظله الله في ظله. وذكر تمام الحديث.
(حديث آخر) عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان, قال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثني أبو يحيى البزاز محمد بن عبد الرحمن, حدثنا الحسن بن أسد بن سالم الكوفي, حدثنا العباس بن الفضل الأنصاري, عن هشام بن زياد القرشي, عن أبيه, عن محجن مولى عثمان, عن عثمان, قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "أظل الله عيناً في ظله يوم لا ظل إلا ظله, من أنظر معسراً, أو ترك لغارم".
(حديث آخر) عن ابن عباس. قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن يزيد, حدثنا نوح بن جعونة السلمي الخراساني, عن مقاتل بن حيان, عن عطاء, عن ابن عباس, قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد وهو يقول بيده: هكذا, وأومأ عبد الرحمن بيده إلى الأرض "من أنظر معسراً أو وضع عنه, وقاه الله من فيح جهنم ألا إن عمل الجنة حزن بربوة ـ ثلاثاً ـ ألا إن عمل النار سهل بسهوة, والسعيد من وقي الفتن, وما من جرعة أحب إلى الله من جرعة غيظ يكظمها عبد, ما كظمها عبد لله إلا ملأ الله جوفه إيماناً" تفرد به أحمد.
(طريق آخر) قال الطبراني: حدثنا أحمد بن محمد البوراني قاضي الحديبية من ديار ربيعة, حدثنا الحسن بن علي الصدائي, حدثنا الحكم بن الجارود, حدثنا ابن أبي المتئد خال ابن عيينة, عن أبيه, عن عطاء, عن ابن عباس قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم "من أنظر معسراً إلى ميسرته أنظره الله بذنبه إلى توبته".
ثم قال تعالى يعظ عباده, ويذكرهم زوال الدنيا, وفناء ما فيها من الأموال وغيرها, وإتيان الاخرة, والرجوع إليه تعالى, ومحاسبته تعالى خلقه على ما عملوا, ومجازاته إياهم بما كسبوا من خير وشر, ويحذرهم عقوبته, فقال: "واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون", وقد روي أن هذه الاية آخر آية نزلت من القرآن العظيم, فقال ابن لهيعة: حدثني عطاء بن دينار, عن سعيد بن جبير قال: آخر ما نزل من القرآن كله "واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون", وعاش النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الاية تسع ليال, ثم مات يوم الإثنين لليلتين خلتا من ربيع الأول, رواه ابن أبي حاتم, وقد رواه ابن مردويه من حديث المسعودي عن حبيب ابن أبي ثابت, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: آخر آية نزلت "واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله" وقد رواه النسائي من حديث يزيد النحوي, عن عكرمة, عن عبد الله بن عباس, قال: آخر شيء نزل من القرآن "واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون", وكذا رواه الضحاك والعوفي عن ابن عباس, وروى الثوري عن الكلبي, عن أبي صالح, عن ابن عباس, قال: آخر آية نزلت "واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله" فكان بين نزولها وموت النبي صلى الله عليه وسلم واحد وثلاثون يوماً, وقال ابن جريج: يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم عاش بعدها تسع ليال وبدء يوم السبت ومات يوم الإثنين, رواه ابن جرير, ورواه ابن عطية عن أبي سعيد, قال آخر آية نزلت"واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون"
قوله: 280- "وإن كان ذو عسرة" لما حكم سبحانه لأهل الربا برؤوس أموالهم عند الواجدين للمال حكم في ذوي العسرة بالنظر إلى يسار، والعسرة: ضيق الحال من جهة عدم المال، ومنه جيش العسرة. والنظرة: التأخير، والميسرة مصدر بمعنى اليسر، وارتفع ذو بكان التامة التي بمعنى وجد، وهذا قول سيبويه وأبو علي الفارسي وغيرهما. وأنشد سيبويه:
فدى لبني ذهل بن شيبان يا فتى إذا كان يوم ذو كواكب أشهب
وفي مصحف أبي وإن كان ذا عسرة على معنى: وإن كان المطلوب ذا عسرة. وقرأ الأعمش وإن كان معسراً قال أبو عمرو الداني عن أحمد بن موسى وكذلك في مصحف أبي بن كعب. وروى المعتمر عن حجاج الوراق قال في مصحف عثمان: " وإن كان ذو عسرة " قال النحاس ومكي والنقاش: وعلى هذا يختص لفظ الآية بأهل الربا، وعلى من قرأ ذو فهي عامة في جميع من عليه دين، وإليه ذهب الجمهور. وقرأ الجماعة "فنظرة" بكسر الظاء. وقرأ مجاهد وأبو رجاء والحسن بسكونها وهي لغة تميم. وقرأ نافع وحده "ميسرة" بضم السين والجمهور بفتحها، وهي اليسار. قوله: "وأن تصدقوا" بحذف إحدى التاءين، وقرئ بتشديد الصاد: أي وأن تصدقوا على معسري غرمائكم بالإبراء خير لكم، وفيه الترغيب لهم بأن يتصدقوا برؤوس أموالهم على من أعسر وجعل ذلك خيراً من إنظاره، قاله السدي وابن زيد والضحاك. قال الطبري: وقال آخرون: معنى الآية وأن تصدقوا على الغني والفقير خير لكم. والصحيح الأول، وليس في الآية مدخل للغني. قوله: "إن كنتم تعلمون" جوابه محذوف: أي إن كنتم تعلمون أنه خير لكم عملتم به.
280. فأنزل الله تعالى " وإن كان ذو عسرة " يعني وإن كان الذي عليه الدين معسراً، رفع الكلام باسم كان ولم يأت لها بخبر وذلك جائز في النكرة، تقول، إن كان رجل صالح فأكرمه، وقيل (( كان )) بمعنى وقع، وحينئذ لا يحتاج إلى خبر، قرأ أبو جعفر عسرة بضم السين " فنظرة " أمر في صيغة الخبر تقديره فعليه نظرة " إلى ميسرة " قرأ نافع ميسرة بضم السين وقرأ الآخرون بفتحها وقرأ الآخرون بفتحها وقرأ مجاهد ميسرة بضم السين مضافاً ومعناها اليسار والسعة " وأن تصدقوا " أي تتركوا رؤوس أموالكم إلى المعسر " خير لكم إن كنتم تعلمون " قرأ عاصم تصدقوا بتخفيف الصاد والآخرون بتشديدها.
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ، أخبرنا أبو الطيب سهل بن محمد بن سليمان ، أخبرنا أبو العباس إسماعيل بن عبد الله الميكالي ، أخبرنا عبد الله بن أحمد بن موسى بن عبدان الحافظ ، أخبرنا أبو طاهر أحمد بن عمرو بن السرح ، أخبرنا ابن وهب عن جرير عن حازم عن أيوب عن يحيى ابن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه أنه كان يطلب رجلاً بحق فاختبا منه فقال: ما حملك على ذلك قال: العسرة، فاستحلفه على ذلك فحلف فدعا بصكه فأعطاه إياه وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من أنظر معسراً أو وضع عنه أنجاه الله من كرب يوم القيامة ".
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أبو منصور محمد بن سمعان أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني ، أخبرنا حميد بن زنجويه ، أخبرنا عبيد اله بن موسى ، أخبرنا إسرائيل عن منصور عن ربعي عن أبي مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم " إن الملائكة لتلقت روح رجل كان قبلكم فقالوا هل عملت خيراً قط؟ قال: لا، قالوا : تذكر، قال: لا إلا أني رجل كنت أداين الناس فكنت آمر فتياني أن ينظروا الموسر ويتجاوزا عن المعسر، قال الله تبارك وتعالى تجاوزوا عنه ".
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أبو منصور السمعاني أخبرنا أبو جعفر الرياني ، أخبرنا حميد بن زنجويه ، أخبرنا أحمد بن عبد الله ، أخبرنا زائدة عن عبد الملك بن عمير عن ربعي عن أبي اليسر قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول " من أنظر معسراً أو وضع عنه أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ".
فصل في الدين وحسن قضائه وتشديد أمره
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا أبو الوليد ، أخبرنا شعبة، أخبرنا سلمة بن كهيل قال: سمعت أبا سلمة بمنى يحدث عن أبي هريرة رضي الله عنه" أن رجلاً تقاضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأغلظ له فهم أصحابه فقال: دعوه فإن لصاحب الحق مقالاً، واشتروا له بعيراً فأعطوه إياه ، قالوا: لا نجد إلا أفضل من سنه قال: اشتروه فأعطوه إياه فإن خياركم أحسنكم قضاء ".
أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد السرخسي ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " مطل الغني ظلم وإذا أتبع أحدكم على ملأ فليتبعه ".
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أخبرنا أبو العباس الأصم ، أخبرنا الربيع ، أخبرنا الشافعي ، أخبرنا إبراهيم بن سعيد بن إبراهيم عن أبيه عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه ".
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد السرخسي ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن عبد الله بن قتادة الأنصاري عن أبيه أنه قال:" جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يارسول الله أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابراً محتسباً، مقبلاً غير مدبر، يكفر الله عن خطاياي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم فلما أدبر ناداه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أمر به فنودي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف قلت؟ فأعاد عليه قوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم إلا الدين كذلك قال جبريل".

280-" وإن كان ذو عسرة " وإن وقع غريم ذو عسرة . وقرئ ذا عسرة أي وإن كان الغريم ذا عسرة . " فنظرة " فالحكم نظرة ، أو فعليكم نظرة ، أو فليكن نظرة وهي الإنظار . وقرئ فناظره على الخبر أي فالمستحق ناظره بمعنى منتظره ، أو صاحب نظرته على طريق النسب وفناظره على الأمر أي فسامحه بالنظرة . " إلى ميسرة " يسار ، وقرأ نافع و حمزة بضم السين ، وهما لغتان كمشرقة ومشرقة . وقرئ بهما مضافين بحذف التاء عند الإضافة كقوله : " أخلفوا الله ما وعدوه " . " وأن تصدقوا " بالإبراء . وقرأ عاصم بتخفيف الصاد . " خيراً لكم " أكثر ثواباً من الإنظار ، أو خير مما تأخذون لمضاعفة ثوابه ودوامه . وقيل : المراد بالتصدق الإنظار لقوله عليه الصلاة والسلام ، " لا يحل دين رجل مسلم فيؤخره إلا كان له بكل يوم صدقة " " إن كنتم تعلمون " ما فيه من الذكر الجميل الجزيل .
280. And if the debtor is in straitened circumstances, then (let there be) postponement to (the time of) ease; and that ye remit the debt as alms giving would be better for you if ye did but know.
280 - If the debtor is in a difficulty, grant him them till it is easy for him to repay. but if ye remit it by way of charity, that is best for you if ye only knew.