[البقرة : 27] الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ
(الذين) نعت (ينقضون عهد الله) ما عهده إليهم في الكتب من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم (من بعد ميثاقه) توكيده عليهم (ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل) من الإيمان بالنبي والرحم وغير ذلك وأن بدل من ضمير به (ويفسدون في الأرض) بالمعاصي والتعويق عن الإيمان (أولئك) الموصوفون بما ذكر (هم الخاسرون) لمصيرهم إلى النار المؤبدة عليهم
قال أبو جعفر: وهذا وصف من الله جل ذكره الفاسقين الذين أخبر أنه لا يضل بالمثل الذي ضربه النفاق غيرهم، فقال: وما يضل الله بالمثل الذي يضربه على ما وصف قبل في الآيات المتقدمة إلا الفاسقين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه.
ثم اختلف أهل المعرفة في معنى العهد الذي وصف الله هؤلاء الفاسقين بنقضه:
فقال بعضهم: هو وصية الله إلى خلقه، وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته، في كتبه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. ونقضهم ذلك، تركهم العمل به.
وقال آخرون: إنما نزلت هذه الآيات في كفار أهل الكتاب والمنافقين منهم، وإياهم عنى الله جل ذكره بقوله: " إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم" (البقرة: 6)، وبقوله: " ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر" (البقرة: 8). فكل ما في هذه الآيات، فعذل لهم وتوبيخ إلى انقضاء قصصهم. قالوا: فعهد الله الذي نقضوه بعد ميثاقه، هو ما أخذه الله عليهم في التوراة من العمل بما فيها، واتباع محمد صلى الله عليه وسلم إذا بعث، والتصديق به وبما جاء به من عند ربهم. ونقضهم ذلك، هو جحودهم به بعد معرفتهم بحقيقته، وإنكارهم ذلك، وكتمانهم علم ذلك الناس، بعد إعطائهم الله من أنفسهم الميثاق ليبيننه للناس ولا يكتمونه. فأخبر الله جل ثناؤه أنهم نبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنًا قليلاً.
وقال بعضهم: إن الله عنى بهذه الآية جميع أهل الشرك والكفر والنفاق. وعهده إلى جميعهم في توحيده: ما وضع لهم من الأدلة الدالة على ربوبيته. وعهده إليهم في أمره ونهيه: ما احتج به لرسله من المعجزات التي لا يقدر أحد من الناس غيرهم أن يأتي بمثلها، الشاهدة لهم على صدقهم. قالوا: ونقضهم ذلك، تركهم الإقرار بما قد تبينت لهم صحته بالأدلة، وتكذيبهم الرسل والكتب، مع علمهم أن ما أتوا به حق.
وقال آخرون: العهد الذي ذكره الله جل ذكره، هو العهد الذي أخذه عليهم حين أخرجهم من صلب آدم، الذي وصفه في قوله: "وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين * أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون" (الأعراف: 172- 173). ونقضهم ذلك، تركهم الوفاء به.
وأولى الأقوال عندي بالصواب في ذلك قول من قال: إن هذه الآيات نزلت في كفار أحبار اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما قرب منها من بقايا بني إسرائيل، ومن كان على شركه من أهل النفاق الذين قد بينا قصصهم فيما مضى من كتابنا هذا.
وقد دللنا على أن قول الله جل ثناؤه: "إن الذين كفروا سواء عليهم" (البقرة: 6)، وقوله: "ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر" (البقرة: 8)، فيهم أنزلت، وفيمن كان على مثل الذي هم عليه من الشرك بالله. غير أن هذه الآيات عندي، وإن كانت فيهم نزلت، فإنه معني بها كل من كان على مثل ما كانوا عليه من الضلال، ومعني بما وافق منها صفة المنافقين خاصة، جميع المنافقين؟ وبما وافق منها صفة كفار أحبار اليهود، جميع من كان لهم نظيرًا في كفرهم.
وذلك أن الله جل ثناؤه يعم أحيانًا جميعهم بالصفة، لتقديمه ذكر جميعهم في أول الآيات التي ذكرت قصصهم، وشخص أحيانًا بالصفة بعضهم، لتفضيله في أول الآيات بين فريقيهم، أعني: فريق المنافقين من عبدة الأوثان وأهل الشرك بالله، وفريق كفار أحبار اليهود. فالذين ينقضون عهد الله، هم التاركون ما عهد الله إليهم من الإقرار بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، وتبيين نبوته للناس، الكاتمون بيان ذلك بعد علمهم به، وبما قد أخذ الله عليهم في ذلك، كما قال الله جل ذكره: "وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم" (آل عمران: 187)، ونبذهم ذلك وراء ظهورهم، هو نقضهم العهد الذي عهد اليهم في التوراة الذي وصفناه، وتركهم العمل به.
وإنما قلت: إنه عنى بهذه الآيات من قلت أنه عنى بها، لأن الآيات من مبتدأ الآيات الخمس والست من سورة البقرة فيهم نزلت، إلى تمام قصصهم. وفي الآية التي بعد الخبر عن خلق آدم وبيانه في قوله: "يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم" (البقرة: 40). وخطابه إياهم جل ذكره بالوفاء بذلك خاصة دون سائر البشر ما يدل على أن قوله: "الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه" مقصود به كفارهم ومنافقوهم، ومن كان من أشياعهم من مشركي عبدة الأوثان على ضلالهم. غير أن الخطاب وإن كان لمن وصفت من الفريقين فداخل في أحكامهم، وفيما أوجب الله لهم من الوعيد والذم والتوبيخ، كل من كان على سبيلهم ومنهاجهم من جميع الخلق وأصناف الأمم المخاطبين بالأمر والنهي.
فمعنى الآية إذًا: وما يضل به إلا التاركين طاعة الله، الخارجين عن اتباع أمره ونهيه، الناكثين عهود الله التي عهدها إليهم، في الكتب التي أنزلها إلى رسله وعلى ألسن أنبيائه، باتباع أمر رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به، وطاعة الله فيما افترض عليهم في التوراة من تبيين أمره للناس، وإخبارهم إياهم أنهم يجدونه مكتوبًا عندهم أنه رسول من عند الله مفترضة طاعته، وترك كتمان ذلك لهم. ونكثهم ذلك ونقضهم إياه، هو مخالفتهم الله في عهده إليهم فيما وصفت أنه عهد إليهم بعد إعطائهم ربهم الميثاق بالوفاء بذلك. كما وصفهم به ربنا تعالى ذكره بقوله: "فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق" (الأعراف: 169).
وأما قوله:"من بعد ميثاقه"، فإنه يعني: من بعد توثق الله فيه، بأخذ عهوده بالوفاء له، بما عهد إليهم في ذلك. غير أن التوثق مصدر من قولك: توثقت من فلان توثقًا، والميثاق اسم منه.
والهاء في الميثاق عائدة على اسم الله.
وقد يدخل في حكم هذه الآية كل من كان بالصفة التي وصف الله بها هؤلاء الفاسقين من المنافقين والكفار، في نقض العهد وقطع الرحم والإفساد في الأرض.
كما حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة، قوله: "الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه"، فإياكم ونقض هذا الميثاق، فإن الله قد كره نقضه وأوعد فيه، وقدم فيه في آي القرآن حجة وموعظة ونصيحة، وإنا لا نعلم الله جل ذكره أوعد في ذنب ما أوعد في نقض الميثاق. فمن أعطى عهد الله وميثاقه من ثمرة قلبه فليف به لله.
حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، في قوله: "الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون"، فهي ست خلال في أهل النفاق، إذا كانت لهم الظهرة، أظهروا هذه الخلال الست جميعًا: إذا حدثوا كذبوا، وإذا وعدوا أخلفوا، وإذا اؤتمنوا خانوا، ونقضوا عهد الله من بعد ميثاقه، وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل، وأفسدوا في الأرض. وإذا كانت عليهم الظهرة، أظهروا الخلال الثلاث إذا حدثوا كذبوا، وإذا وعدوا أخلفوا، و إذا اؤتمنوا خانوا.
القول في تأويل قوله تعالى: "ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل".
قال أبو جعفر: والذي رغب الله في وصله وذم على قطعه في هذه الآية: الرحم. وقد بين ذلك في كتابه، فقال تعالى:"فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم" (محمد: 22). وإنما عنى بالرحم، أهل الرحم الذين جمعتهم وإياه رحم والدة واحدة. وقطع ذلك: ظلمه في ترك أداء ما ألزم الله من حقوقها، وأوجب من برها. ووصلها: أداء الواجب لها إليها من حقوق الله التي أوجب لها، والتعطف عليها بما يحق التعطف به عليها.
وأن التي مع يوصل في محل خفض، بمعنى ردها على موضع الهاء التي في به : فكان معنى الكلام: ويقطعون الذي أمر الله بأن يوصل. والهاء التي في به، هي كناية عن ذكر أن يوصل. وبما قلنا في تأويل قوله: "ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل"، وأنه الرحم، كان قتادة يقول:
حدثنا بشر بن معاذ، قال حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة: "ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل"، فقطع والله ما أمر الله به أن يوصل بقطيعة الرحم والقرابة.
وقد تأول بعضهم ذلك: أن الله ذمهم بقطعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به وأرحامهم. واستشهد على ذلك بعموم ظاهر الآية، وأن لا دلالة على أنه معني بها بعض ما أمر الله بوصله دون بعض.
قال أبو جعفر: وهذا مذهب من تأويل الآية غير بعيد من الصواب، ولكن الله جل ثناؤه قد ذكر المنافقين في غير آية من كتابه، فوصفهم بقطع الأرحام. فهذه نظيرة تلك، غير أنها وإن كانت كذلك فهي دالة على ذم الله كل قاطع قطع ما أمر الله بوصله، رحمًا كانت أو غيرها.
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: "ويفسدون في الأرض".
قال أبو جعفر: وفسادهم في الأرض: هو ما تقدم وصفناه قبل من معصيتهم ربهم، وكفرهم به، وتكذيبهم رسوله، وجحدهم نبوته، وإنكارهم ما أتاهم به من عند الله أنه حق من عنده.
القول في تأويل قوله: "أولئك هم الخاسرون".
قال أبو جعفر: والخاسرون جمع خاسر، والخاسرون: الناقصون أنفسهم حظوظها بمعصيتهم الله من رحمته، كما يخسر الرجل في تجارته، بأن يوضع من رأس ماله في بيعه. فكذلك الكافر والمنافق، خسر بحرمان الله إياه رحمته التي خلقها لعباده في القيامة، أحوج ما كان إلى رحمته. يقال منه: خسر الرجل يخسر خسرًا وخسرانًا وخسارًا، كما قال جرير بن عطية:
إن سليطًا في الخسار إنه أولاد قوم خلقوا أقنه
يعني بقوله: في الخسار، أي فيما يوكسهم حظوظهم من الشرف والكرم. وقد قيل: إن معنى "أولئك هم الخاسرون": أولئك هم الهالكون. وقد يجوز أن يكون قائل ذلك أراد ما قلنا من هلاك الذي وصف الله صفته بالصفة التى وصفه بها فى هذه الآية، بحرمان الله إياه ما حرمه من رحمته، بمعصيته إياه وكفره به. فحمل تأويل الكلام على معناه، دون البيان عن تأويل عين الكلمة بعينها، فإن أهل التأويل ربما فعلوا ذلك لعلل كثيرة تدعوهم إليه.
وقال بعضهم في ذلك بما:
حدثت به عن المنجاب، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: كل شيء نسبه الله إلى غير أهل الإسلام من اسم مثل خاسر، فإنما يعني به الكفر. وما نسبه إلى أهل الإسلام، فإنما يعني به الذنب.
قوله تعالى : "الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون" .
فيه سبع مسائل :
الأولى : قوله تعالى : "الذين " الذين في موضع نصب على النعت للفاسقين ، وإن شئت جعلته في موضع رفع على أنه خبر ابتداء محذوف ، أي هم الذين .وقد تقدم .
الثانية : قوله تعالى : "ينقضون" النقض :إفساد ما أبرمته من بناء أو حبل أو عهد . والنقاضة . ما نقض من حبل الشعر . والمناقضة في القول : أن تتكلم بما تناقض معناه . والنقيضة في الشعر : ما ينقض به . والنقض به . والنقض : المنقوض . واحتلف الناس في تعيين هذا العهد ، فقيل : هو الذي أخذه الله عى بني آدم حين استخرجهم من ظهره . وقيل : هو وصية الله تعالى الى خلقه ، وأمره إياهم بما أمرهم به من طاته ، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصية في كتبه على ألسنة رسله ، ونقضهم ذلك ترك العمل به . وقيل: بل نصب الأدلة على وحدانيته بالسموات والأرض وسائر الصنعة هو بمنزلة العهد ، ونقضهم ترك النظر في تلك . وقيل : هو ما عهده إلى من أوتي الكتاب أن يبينوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولا يكتموا أمره . فالآية على هذا في أهل الكتاب . قال أبو إسحاق الزجاج : عهده جل وعز ما أخذه على النبيين ومن بعدهم ألا يكفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم . ودليل ذلك : "وإذ أخذ الله ميثاق النبيين" إلى قوله تعالى : "وأخذتم على ذلكم إصري" أي عهدي .
قلت : وظاهر ما قبل وما بعد يدل على أنها في الكفار . فهذه خمسة أقوال ، والقول الثاني يجمعها .
الثالثة : قوله تعالى : "من بعد ميثاقه" الميثاق : العهد المؤكد باليمين ، مفعال من الوثاقة والمعاهدة ، وهي الشدة في العقد والربط ونحوه . والجمع المواثيق على الأصل ، لأن أصل موثاق ، صارت الواء ياء لأنكسار ما قبلها ـ والمياثق والمياثيق أيضاً ، وأنشد ابن الأعرابي :
حمى لا يحل الدهر إلا بإذننا ولا نسأل الأقوام عهد المياثق
والموثق : الميثاق . والمواثقة : المعاهدة ، ومنه قوله تعالى : "وميثاقه الذي واثقكم به" .
الرابعة : قوله تعالى : "ويقطعون" القطع معروف ، والمصدر ـ في الرحم ـ القطعية ، يقال : قطع رحمه قطيعة فهو رجل قطع وقطعة ، مثال همزة . وقطعت الحبل قطعاً . وقطعت النهر قطوعاً . وقطعت الطير قطوعاً وقطاعاً وقطاعاً إذا خرجت من بلد إلى بلد . وأصاب الناس قطعة : إذا قلت مياههم ورجل به قطع : أي انبهار .
الخامسة : قوله تعالى : "ما أمر الله به أن يوصل" ما في موضع نصب بـ يقطعون .و أن إن شئت كانت بدلاً من ما وإن شئت من الهار في به وهو أحسن . ويجوز أن يكون لئلا يوصل ، أي كراهة أن يوصل . واختلف ما الشيء الذي أمر بوصله ؟ فقيل : صلة الأرحام . وقيل : امر ان يوصل القول بالعمل ، فقطعوا بينهما بأن قالوا ولم يعملوا . وقيل : أمر أن يوصل التصديق بجميع انبيائه فقطعوه بتصديق بعضهم وتكذيب بعضهم . وقيل : الإشارة إلى دين الله وعبادته في الأرض ، وإقامة شرائعه وحفظ حدوده . فهي عامة في كل أمر الله تعالى به أن يوصل . هذا قول الجمهور ، والرحم جزء من هذا .
السادسة : قوله تعالى : "ويفسدون في الأرض" أي يعبدون غير الله تعالى ويجورون في الأفعال ، إذ هي بحسب شهواتهم ، وهذا غاية الفساد .
"أولئك هم الخاسرون" ابتداء وخبر . و هم زائدة ، ويجوز أن تكون هم ابتداء ثان ، الخاسرون خبره ، والثاني وخبره خبر الأول كما تقدم . والخاسر : الذي نقص نفسه حظها من الفلاح والفوز . والخسران : النقصان ، كان في ميزان أو غيره ، قال جرير :
إن سليطا في الخسار إنه أولاد قوم خلقوا أقنة
يعني بالخسار ما ينقص من حظوظهم وشرفهم . قال الجوهري : وخسرت الشيء ( بالفتح ) وأخسرته نقصته . والخسار والخسارة والخيسرى : الضلال والهلاك . فقيل للهالك : خاسر ، لأنه خسر نفسه وأهله يوم القيامة ومنع منزله من الجنة .
السابعة : في هذه الآية دليل على أن الوفاء بالعهد والتزامه وكل عهد جائز ألزمه المرء نفسه فلا يحل له نقضه سواء أكان بين مسلم أو غيره ، لذم الله تعالى من نقص عهده . وقد قال : "أوفوا بالعقود" وقد قال لنبيه عليه السلام : "وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء" فنهاه عن الغدر ، وذلك لا يكون إلا بنقض العهد ، على ما يأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى .
قال السدي في تفسيره عن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة لما ضرب الله هذين المثلين للمنافقين يعني قوله تعالى: "مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً" وقوله: "أو كصيب من السماء" الايات الثلاث، قال المنافقون: الله أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال، فأنزل الله هذه الاية إلى قوله تعالى: "هم الخاسرون" وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة لما ذكر الله تعالى العنكبوت والذباب، قال المشركون: ما بال العنكبوت والذباب يذكران ؟ فأنزل الله "إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها" وقال سعيد عن قتادة أي إن الله لا يستحيي من الحق أن يذكر شيئاً مما قل أو كثر ، وإن الله حين ذكر في كتابه الذباب والعنكبوت قال أهل الضلالة: ما أراد الله من ذكر هذا ؟ فأنزل الله "إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها" (قلت) العبارة الأولى عن قتادة فيها إشعار أن هذه الاية مكية وليس كذلك، وعبارة رواية سعيد عن قتادة أقرب، والله أعلم. وروى ابن جريج عن مجاهد نحو هذا الثاني عن قتادة. وقال ابن أبي حاتم روي عن الحسن وإسماعيل بن أبي خالد نحو قول السدي وقتادة. وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس في هذه الاية قال هذا مثل ضربه الله للدنيا أن البعوضة تحيا ما جاعت فإذا سمنت ماتت وكذلك مثل هؤلاء القوم الذين ضرب لهم هذا مثل في القرآن إذا امتلؤوا من الدنيا رياً أخذهم الله عند ذلك ثم تلا: "فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء" هذا رواه ابن جرير ورواه ابن أبي حاتم من حديث أبي جعفر عن الربيع بن أنس عن أبي العالية بنحوه فالله أعلم، فهذا اختلافهم في سبب النزول. وقد اختار ابن جرير ما حكاه السدي لأنه أمس بالسورة وهو مناسب، ومعنى الاية أنه تعالى أخبر أنه لا يستحيي أي لا يستنكف وقيل لا يخشى أن يضرب مثلاً ما، أي: أي مثل كان بأي شيء كان صغيراً كان أو كبيراً وما ههنا للتقليل وتكون بعوضة منصوبة على البدل كما تقول لأضربن ضرباً ما، فيصدق بأدنى شيء أو تكون ما نكرة موصوفة ببعوضة، واختار ابن جرير أن ما موصولة وبعوضة معربة بإعرابها، قال وذلك سائغ في كلام العرب أنهم يعربون صلة ما ومن بإعرابهما لأنهما يكونان معرفة تارة ونكرة أخرى كما قال حسان بن ثابت:
يكفي بنا فضلاً على من غيرنا حب النبي محمد إيانا
قال ويجوز أن تكون بعوضة منصوبة بحذف الجار ، وتقدير الكلام: إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بين بعوضة إلى ما فوقها، وهذا الذي اختاره الكسائي والفراء وقرأ الضحاك وإبراهيم بن عبلة بعوضة بالرفع، قال ابن جني وتكون صلة لما وحذف العائد كما في قوله "تماماً على الذي أحسن" أي على الذي هو أحسن، وحكى سيبويه: ما أنا بالذي قائل لك شيئاً، أي بالذي هو قائل لك شيئاً وقوله تعالى: "فما فوقها" فيه قولان: أحدهما فما دونها في الصغر والحقارة كما إذا وصف رجل باللؤم والشح فيقول السامع نعم وهو فوق ذلك ـ يعني فيما وصفت ـ وهذا قول الكسائي وأبي عبيد قاله الرازي وأكثر المحققين. وفي الحديث "لو أن الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة لما سقى كافراً منها شربة ماء" والثاني: فما فوقها لما هو أكبر منها لأنه ليس شيء أحقر ولا أصغر من البعوضة وهذا قول قتادة بن دعامة واختيار ابن جرير، فإنه يؤيده ما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتب له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة" فأخبر أنه لا يستصغر شيئاً يضرب به مثلاً ولو كان في الحقارة والصغر كالبعوضة، كما لا يستنكف عن خلقها كذلك لا يستنكف من ضرب المثل بها كما ضرب المثل بالذباب والعنكبوت في قوله "يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب" وقال: "مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون" وقال تعالى: " ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء * تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون * ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار * يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء " وقال تعالى: "ضرب الله مثلاً عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء" الاية، ثم قال: " وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل " الاية، كما قال: " ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم " الاية. قال: "ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون" الاية. وقال: "وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون" وفي القرآن أمثال كثيرة، قال بعض السلف: إذا سمعت المثل في القرآن فلم أفهمه بكيت على نفسي لأن الله قال: "وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون" وقال مجاهد في قوله تعالى: "إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها" الأمثال صغيرها وكبيرها يؤمن بها المؤمنون ويعلمون أنها الحق من ربهم ويهديهم الله بها. وقال قتادة "فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم" أي يعلمون أنه كلام الرحمن وأنه من عند الله، وروي عن مجاهد والحسن والربيع بن أنس نحو ذلك. وقال أبو العالية "فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم" يعني هذا المثل "وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلاً" كما قال في سورة المدثر " وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وما يعلم جنود ربك إلا هو " وكذلك قال ههنا "يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً وما يضل به إلا الفاسقين" قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة يضل به كثيراً يعني به المنافقين ويهدي به المؤمنين، فيزيد هؤلاء ضلالة إلى ضلالتهم لتكذيبهم بما قد علموه حقاً يقيناً من المثل الذي ضربه الله بما ضرب لهم، وأنه لما ضرب له موافق، فذلك إضلال الله إياهم به، ويهدي به يعني المثل كثيراً من أهل الإيمان والتصديق فيزيدهم هدى إلى هداهم وإيماناً إلى إيمانهم لتصديقهم بما قد علموه حقاً يقيناً أنه موافق لما ضربه الله له مثلاً وإقرارهم به وذلك هداية من الله لهم به "وما يضل به إلا الفاسقين" قال هم المنافقون، وقال أبو العالية "وما يضل به إلا الفاسقين" قال هم أهل النفاق وكذا قال الربيع بن أنس، وقال ابن جريج عن مجاهد عن ابن عباس "وما يضل به إلا الفاسقين" قال يقول يعرفه الكافرون فيكفرون به. وقال قتادة "وما يضل به إلا الفاسقين" فسقوا فأضلهم الله على فسقهم، وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي عن إسحاق بن سليمان عن أبي سنان عن عمرو بن مرة عن مصعب بن سعد عن سعد "يضل به كثيراً" يعني الخوارج. وقال شعبة عن عمرو بن مرة عن مصعب بن سعد قال سألت أبي فقلت: قوله تعالى "الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه" إلى آخر الاية: فقال: هم الحرورية، وهذا الإسناد وإن صح عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه فهو تفسير على المعنى لا أن الاية أريد منها التنصيص على الخوارج الذين خرجوا على علي بالنهروان، فإن أولئك لم يكونوا حال نزول الاية وإنما هم داخلون بوصفهم فيها مع من دخل لأنهم سموا خوارج لخروجهم عن طاعة الإمام والقيام بشرائع الإسلام، والفاسق في اللغة هو الخارج عن الطاعة أيضاً، وتقول العرب فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرتها، ولهذا يقال للفأرة فويسقة لخروجها عن حجرها للفساد، وثبت في الصحيحين عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور" فالفاسق يشمل الكافر والعاصي، ولكن فسق الكافر أشد وأفحش، والمراد به من الاية الفاسق الكافر، والله أعلم بدليل أنه وصفهم بقوله تعالى "الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون" وهذه الصفات صفات الكفار المبانية لصفات المؤمنين كما قال تعالى في سورة الرعد " أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولو الألباب * الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق * والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب " الايات، إلى أن قال "والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار" وقد اختلف أهل التفسير في معنى العهد الذي وصف هؤلاء الفاسقين بنقضه, فقال بعضهم هو وصية الله إلى خلقه وأمره إياهم عما أمرهم به من طاعته ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته في كتبه وعلى لسان رسله، ونقضهم ذلك هو تركهم العمل به.
وقال آخرون بل هي في كفار أهل الكتاب والمنافقين منهم، وعهد الله الذي نقضوه هو ما أخذ الله عليهم في التوراة من العمل بما فيها واتباع محمد صلى الله عليه وسلم إذا بعث والتصديق به وبما جاء به من عند ربهم، ونقضهم ذلك هو جحودهم به بعد معرفتهم بحقيقته وإنكارهم ذلك وكتمانهم علم ذلك عن الناس بعد إعطائهم الله من أنفسهم الميثاق ليبيننه للناس ولا يكتمونه، فأخبر تعالى أنهم نبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً. وهذا اختيار ابن جرير رحمه الله وهو قول مقاتل بن حيان.
وقال آخرون بل عنى بهذه الاية جميع أهل الكفر والشرك والنفاق وعهده إلى جميعهم في توحيده ما وضع لهم من الأدلة الدالة على ربوبيته وعهد إليهم في أمره ونهيه ما احتج به لرسله من المعجزات التي لا يقدر أحد من الناس غيرهم أن يأتي بمثله، الشاهدة لهم على صدقهم، قالوا ونقضهم ذلك تركهم الإقرار بما قد تبينت لهم صحته بالأدلة، وتكذيبهم الرسل والكتب مع علمهم أن ما أتوا به حق. وروي عن مقاتل بن حيان أيضاً نحو هذا وهو حسن، وإليه مال الزمخشري فإنه قال، فإن قلت: فما المراد بعهد الله ؟ قلت: ما ركز في عقولهم من الحجة على التوحيد كأنه أمر وصاهم به ووثقه عليهم، وهو معنى قوله تعالى "وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى" إذ أخذ الميثاق عليهم من الكتب المنزلة عليهم كقوله "وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم" وقال آخرون: العهد الذي ذكره تعالى هو العهد الذي أخذه عليهم حين أخرجهم من صلب آدم الذي وصف في قوله "وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا" الايتين، ونقضهم ذلك تركهم الوفاء به، وهكذا روي عن مقاتل بن حيان أيضاً، حكى هذه الأقوال ابن جرير في تفسيره.
وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى: " الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون " قال هي ست خصال من المنافقين إذا كانت فيهم الظهرة على الناس أظهروا هذه الخصال، إذا حدثوا كذبوا، وإذا وعدوا أخلفوا، وإذا اؤتمنوا خانوا، ونقضوا عهد الله من بعد ميثاقه، وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل، وأفسدوا في الأرض، وإذا كانت الظهرة عليهم أظهروا الخصال الثلاث: إذا حدثوا كذبوا، وإذا وعدوا أخلفوا، وإذا اؤتمنوا خانوا. وكذا قال الربيع بن أنس أيضاً، وقال السدي في تفسيره بإسناده قوله تعالى "الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه" قال: هو ما عهد إليهم في القرآن، فأقروا به ثم كفروا فنقضوه.
وقوله: "ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل" قيل المراد به صلة الأرحام والقرابات كما فسره قتادة كقوله تعالى "فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم" ورجحه ابن جرير، وقيل المراد أعم من ذلك فكل ما أمر الله بوصله وفعله فقطعوه وتركوه. وقال مقاتل بن حيان في قوله تعالى: "أولئك هم الخاسرون" قال في الاخرة، وهذا كما قال تعالى: "أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار" وقال الضحاك عن ابن عباس كل شيء نسبه الله إلى غير أهل الإسلام من اسم مثل خاسر فإنما يعني به الكفر، وما نسبه إلى أهل الاسلام، فإنما يعني به الذنب. وقال ابن جرير في قوله تعالى "أولئك هم الخاسرون" الخاسرون جمع خاسر وهم الناقصون أنفسهم حظوظهم بمعصيتهم الله من رحمته كما يخسر الرجل في تجارته بأن يوضع من رأس ماله في بيعه وكذلك المنافق والكافر خسر بحرمان الله إياه رحمته التي خلقها لعباده في القيامة أحوج ما كانوا إلى رحمته، يقال منه خسر الرجل يخسر الرجل يخسر خسراً وخساراً كما قال جرير بن عطية:
إن سليطاً في الخسار إنه أولاد قوم خلقوا أقنه
وقوله: 27- "الذين ينقضون" في محل نصب وصفاً للفاسقين. والنقض: إفساد ما أبرم من بناء أو حبل أو عهد، والنقاضة: ما نقض من حبل الشعر. والعهد: قيل: هو الذي أخذه الله على بني آدم حين استخرجهم من ظهره، وقيل: هو وصية الله إلى خلقه وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته في كتبه على ألسن رسله، ونقضهم ذلك: ترك العمل به، وقيل: بل هو نصب الأدلة على وحدانيته بالسموات والأرض وسائر مخلوقاته، ونقضه: ترك النظر فيه، وقيل: هو ما عهده إلى الذين أوتوا الكتاب ليبيننه للناس. والميثاق: العهد المؤكد باليمين مفعال من الوثاقة وهي الشدة في العقد والربط، والجمع المواثيق والمياثيق، وأنشد ابن الأعرابي:
حمى لا يحل الدهر إلا بإذننا ولا نسأل الأقوام عهد المياثق
واستعمال النقض في إبطال العهد على سبيل الاستعارة. والقطع معروف، والمصدر في الرحم القطيعة، وقطعت الحبل قطعاً، وقطعت النهر قطعاً. وما في قوله: "ما أمر الله به" في موضع نصب بيقطعون و"أن يوصل" في محل نصب بأمر. ويحتمل أن يكون بدلاً من ما، أو من الهاء في به. واختلفوا ما هو الشيء الذي أمر الله بوصله: فقيل: الأرحام، وقيل: أمر أن يوصل القول بالعمل، وقيل: أمر أن يوصل التصديق بجميع شرائعه وحدوده التي أمر في كتبه المنزلة وعلى ألسن رسله بالمحافظة عليها فهي عامة، وبه قال الجمهور وهو الحق. والمراد بالفساد في الأرض الأفعال والأقوال المخالفة لما أمر الله به، كعبادة غيره والإضرار بعباده وتغيير ما أمر بحفظه، وبالجملة فكل ما خالف الصلاح شرعاً أو عقلاً فهو فساد. والخسران: النقصان، والخاسر، هو الذي نقص نفسه من الفلاح والفوز، وهؤلاء لما استبدلوا النقض بالوفاء والقطع بالوصل كان عملهم فساداً لما نقصوا أنفسهم من الفلاح والربح. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن مسعود وناس من الصحابة قال: لما ضرب الله هذين المثلين للمنافقين قوله: "مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً" وقوله: "أو كصيب من السماء" قال المنافقون: الله أعلا وأجل من أن يضرب هذه الأمثال فأنزل الله " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا " الآية. وأخرج الواحدي في تفسيره عن ابن عباس قال: إن الله ذكر آلهة المشركين فقال: "وإن يسلبهم الذباب شيئاً" وذكر كيد الآلهة فجعله كبيت العنكبوت، فقالوا: أرأيت حيث ذكر الله الذباب والعنكبوت فيما أنزل من القرآن على محمد أي شيء كان يصنع هذا؟ فأنزل الله "إن الله لا يستحي" وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة نحو قول ابن عباس. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: لما نزلت "يا أيها الناس ضرب مثل" قال المشركون: ما هذا من الأمثال فيضرب؟ فأنزل الله هذه الآية. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله تعالى: "فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم" قال: يؤمن به المؤمن، ويعلمون أنه الحق من ربهم ويهديهم الله به، ويعرفه الفاسقون فيكفرون به. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله: "يضل به كثيراً" يعني المنافقين "ويهدي به كثيراً" يعني المؤمنين "وما يضل به إلا الفاسقين" قال: هم المنافقون. وفي قوله: "ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه" قال: هو ما عهد إليهم في القرآن فأقروا به ثم كفروا فنقضوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وما يضل به إلا الفاسقين" يقول: يعرفه الكافرون فيكفرون به. وأخرج البخاري وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعد بن أبي وقاص قال: الحرورية هي الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، وكان يسميهم الفاسقين. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة قال: ما نعلم الله أوعد في ذنب ما أوعد في نقض هذا الميثاق، فمن أحاديث ثابتة في الصحيح وغيره من طريق جماعة من الصحابة النهي عن نقض العهد والوعيد الشديد عليه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله: "ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل" قال: الرحم والقرابة. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: "ويفسدون في الأرض" قال: يعلمون فيها بالمعصية. وأخرج ابن المنذر عن مقاتل في قوله: "أولئك هم الخاسرون" يقول: هم أهل النار. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كل شيء نسبه الله إلى غير أهل الإسلام مثل خاسر ومسرف وظالم ومجرم وفاسق فإنما يعني به الكفر، وما نسبه إلى أهل الإسلام فإنما يعني به الذم.
27. " الذين ينقضون " يخالفون ويتركون وأصل النقض الكسر " عهد الله " أمر الله الذي عهد إليهم يوم الميثاق بقوله: " ألست بربكم؟ قالوا بلى " ( 173-الأعراف) وقيل: أراد به العهد الذي أخذه على النبيين وسائر الأمم أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم في قوله: " وإذ أخذ الله ميثاق النبيين " (81-آل عمران) الآية وقيل: أراد به العهد الذي عهد إليهم في التوراة أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ويبينوا نعته " من بعد ميثاقه " توكيده. والميثاق: العهد المؤكد " ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل " يعنى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبجميع الرسل عليهم السلام لأنهم قالوا: نؤمن ببعض ونكفر ببعض وقال المؤمنون " لا نفرق بين أحد من رسله " (285-البقرة) وقيل: أراد به الأرحام " ويفسدون في الأرض " بالمعاصي وتعويق الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن " أولئك هم الخاسرون " المغبونون، ثم قال لمشركي العرب على وجه التعجب
27-" الذين ينقضون عهد الله " صفة للفاسقين للذم وتقرير الفسق . والنقض : فسخ التركيب ، وأصله في طاقات الحبل ، واستعماله في إبطال العهد من حيث إن العهد يستعار له الحبل لما فيه من ربط أحد المتعاهدين بالآخر ، فإن أطلق مع لفظ الحبل كان ترشيحاً للمجاز ، وإن ذكر مع العهد كان رمزاً إلى ما هو من روادفه وهو أن العهد حبل في شجاعته بحر بالنظر إلى إفادته . والعهد : الموثق ووضعه لما من شأنه أن يراعي ويتعهد كالوصية واليمين ، ويقال للدار ، من حيث إنها تراعي بالرجوع إليها . والتاريخ لأنه يحفظ ، وهذا العهد ك إما العهد المأخوذ بالعقل ، وهو الحجة القائمة على عبادة الدالة على توحيده ووجوب وجوده وصدق رسوله ، وعليه أول قوله تعالى : " وأشهدهم على أنفسهم " . أو : المأخوذ بالرسل على الأمم ، بأنهم إذا بعث إليهم رسول مصدق بالمعجزات صدقوه واتبعوه ، ولم يكتموا أمره ولم يخالفوا حكمه ، وأليه أشار بقوله : " وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب " ونظائره . وقيل : عهود الله تعالى ثلاثة : عهد أخذه على جميع ذرية آدم بأن يقروا بربوبيته ، وعهد أخذه على النبيين بأن يقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه ، وعهد أخذه على العلماء بأن يبينوا الحق ولا يكتموه .
" من بعد ميثاقه " الضمير للعهد والميثاق : اسم لما يقع به الوثاقة وهي الاستحكام ، والمراد به ما وثق الله به عهده من الآيات والكتب ، أو ما وثقوه به من الالتزام والقبول ، ويحتمل أن يكون بمعنى المصدر . و " من " للابتداء النقض بعد الميثاق .
" ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل " يحتمل كل قطيعة لا يرضاها الله تعالى ، كقطع الرحم ، والإعراض عن موالاة المؤمنين ، والتفرقة بين الأنبياء عليهم السلام ، والكتب في التصديق ، وترك الجماعات المفروضة ،وسائر ما فيه رفض خير . أو تعاطي شر فإنه يقطع الوصلة بين الله وبين العبد المقصودة بالذات من كل وصل وفصل ، والأمر هو للقول الطالب للفعل ، وقيل : مع العلو ، وقيل : مع الاستعلاء ، وبه سمي الأمر الذي هو واحد الأمور تسمية للمفعول به بالمصدر ، فإنه مما يؤمر به كما قيل : له شأن وهو الطلب . والقصد يقال : شأنت شأنه ، إذا قصدت قصده . و " أن يوصل " يحتمل النصب والخفض على أنه بدل من ما ، أو ضمير . والثاني أحسن لفظاً ومعنى .
" ويفسدون في الأرض " بالمنع عن الإيمان والاستهزاء بالحق ، وقطع الوصل التي بها نظام العالم وصلاحه .
" أولئك هم الخاسرون " الذين خسروا بإهمال العقل عن النظر واقتناص ما يفيدهم الحياة الأبدية ، واستبدال الإنكار والطعن في الآيات بالإيمان بها ، والنظر في حقائقها والاقتباس من أنوارها ، واشتراء النقض بالوفاء ، والفساد بالصلاح ، والعقاب بالثواب .
27. Those who break the covenant of Allah after ratifying it and sever that which Allah ordered to be joined, and (who) make mischief in the earth: Those are they who are the losers
27 - Those who brake God's Covenant after it is ratified, and who sunder what God has ordered to be joined, and do mischief on earth: these cause loss (only) to themselves.