[البقرة : 245] مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
(من ذا الذي يقرض الله) بإنفاق ماله في سبيل الله (قرضاً حسناً) بأن ينفقه لله عز وجل عن طيب قلب (فيضاعفَه) وفي قراءة {فيضعِّفه} بالتشديد (له أضعافا كثيرة) من عشر إلى أكثر من سبعمائة كما سيأتي (والله يقبض) يمسك الرزق عمن يشاء ابتلاء (ويبسط) يوسعه لمن يشاء امتحانا (وإليه ترجعون) في الآخرة بالبعث فيجازيكم بأعمالكم
قوله تعالى من ذا الذي يقرض الله الآية روى ابن حبان في صحيحه وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عمر قال لما نزلت مثل الذين ينفقون أموإلهم في سبيل الله كمثل حبة إلى آخرها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رب زد أمتي فنزلت من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: من هذا الذي ينفق في سبيل الله، فيعين مضعفا، أو يقوي ذا فاقة أراد الجهاد في سبيل الله، وبعطي منهم مقترا؟ وذلك هو القرض الحسن الذي يقرض العبد ربه. وإنما سماه الله تعالى ذكره "قرضا"، لأن معنى القرض إعطاء الرجل. غيره ماله مملكا له،ليقضيه مثله إذا اقتضاه. فلما كان إعطاء من أعطى أهل الحاجة والفاقة في سبيل الله، إنما يعطيهم ما يعطيهم من ذلك ابتغاء ما وعده الله عليه من جزيل الثواب عنده يوم القيامة، سماه "قرضا"، إذ كان معنى القرض في لغة العرب ما وصفنا.وإنما جعله تعالى ذكره "حسنا"، لأن المعطي يعطي ذلك عن ندب الله إياه وحثه له عليه، احتسابا منه. فهو لله طاعة، وللشيطان معصية. وليس ذلك لحاجة بالله إلى أحد من خلقه، ولكن ذلك كقول العرب: عندي لك قرض صدق، وقرض سوء، للأمر تأتي فيه للرجل مسرته أو مساءته، كما قال الشاعر:
كل امرىء سوف يجزى قرضه حسنا أو سيئا، ومدينا بالذي دانا
فقرض المرء: ما سلف من صالح عمله أو سيئه. وهذه الاية نظيرة الآية التي قال فيها تعالى ذكره:" مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم " [البقرة: 261]. وبنحو الذي قلنا في ذلك كان ابن زيد يقول:حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: "من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا"، قال: هذا في سبيل الله، "فيضاعفه له أضعافا كثيرة"، قال: بالواحد سبعمئة ضعف. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن زيد بن أسلم قال: لما نزلت: "من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة"، جاء ابن الدحداح إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله، ألا أرى ربنا يستقرضنا؟ إنما أعطانا لأنفسنا! وإن لي أرضين: إحداهما بالعالية، والأخرى بالسافلة، وإني قد جعلت خيرهما صدقة! قال: فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "كم من عذق مذلل لابن الدحداح في الجنة ".حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: أن رجلا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم لما سمع بهذه الآية قال: أنا أقرض الله ، فعمد إلى خيرحائط له فتصدق به. قال، وقال قتادة: يستقرضكم ربكم كما تسمعون، وهو الولي الحميد ويستقرض عباده.حدثنا محمد بن معاوية الأنماطي النيسابوري قال، حدثنا خلف بن خليفة، عن حميد الأعرج، عن عبد الله بن الحارث، عن عبد الله بن مسعود قال: لما نزلت: "من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا"، قال أبو الدحداح: يا رسول الله، أو إن الله يريد منا القرض؟! قال: نعم يا أبا الدحداح! قال: يدك! قال: فناوله يده، قال: فإني قد أقرضت ربي حائطي، حائطا فيه ستمئة نخلة ، ثم جاء يمشي حتى أتى الحائط وأم الدحداح فيه في عيالها، فناداها: يا أم الدحداح! قالت: لبيك! قال: اخرجي! قد أقرضت ربي حائطا فيه ستمئة نخلة.وأما قوله: "فيضاعفه له أضعافا كثيرة"، فإنه عدة من الله تعالى ذكره مقرضه ومنفق ماله في سبيل الله من إضعاف الجزاء له على قرضه ونفقته، ما لا حد له ولا نهاية، كما: حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة"، قال: هذا التضعيف لا يعلم أحد ما هو. وقد:-حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن ابن عيينة، عن صاحب له يذكر عن بعض العلماء قال: إن الله أعطاكم الدنيا قرضا، وسألكموها قرضا، فإن أعطيتموها طيبة بها أنفسكم، ضاعف لكم ما بين الحسنة إلى العشر إلى السبعمئة، إلى أكثر من ذلك. وإن أخذها عم وأنتم كارهون، فصبرتم وأحسنتم، كانت لكم الصلاة والرحمة، وأوجب لكم الهدى.قال أبو جعفر: وقد اختلفت القرأة في قراءة قوله: (فيضاعفه) بالألف ورفعه، بمعنى: الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له، نسق أيضاعف على قوله: يقرض .وقرأه اخرون بذلك المعنى: (فيضعفه)، غير أنهم قرأوه بتشذيد العين وإسقاط الألف .
وقرأه آخرون: (فيضاعفه له) بإثبات الألف في يضاعف ونصبه، بمعنى الاستفهام. فكأنهم تأولوا الكلام: من المقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له؟ فجعلوا قوله: فيضاعفه جوابا للاستفهام، وجعلوا: "من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا" اسما. لأن "الذي" وصلته، بمنزلة عمرو و زيد. فكأنهم وجهوا تأويل الكلام إلى قول القائل: من أخوك فتكرمه ، لأن الأفصح في جواب الاستفهام بالفاء، إذالم يكن قبله ما يعطف به عليه من فعل مستقبل، نصبه.قال أبو جعفر: وأولى هذه القرا آت عندنا بالصواب، قراءة من قرأ: "فيضاعفه له" بإثبات الألف. ورفع يضاعف . لأن في قوله: "من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا" معنى الجزاء. والجزاء إذا دخل في جوابه الفاء، لم يكن جوابه ب الفاء إلا رفعا. فلذلك كان الرفع في يضاعفه أولى بالصواب عندنا من النصب.
وإنما اخترنا الألف في يضاعف من حذفها وتشديد العين، لأن ذلك أفصح اللغتين وأكثرهما على ألسنة العرب.
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: أنه الذي بيده قبض أرزاق العباد وبسطها، دون غيره ممن ادعى أهل الشرك به أنهم آلهة، واتخذوه ربا دونه يعبدونه. وذلك نظير الخبر الذي روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي:- حدثنا به محمد بن المثنى ومحمد بن بشار قالا، حدثنا حجاج، وحدثني عبد الملك بن محمد الرقاشي قال، حدثنا حجاج وأبو ربيعة قالا، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت وحميد وقتادة، عن أنس قال: "غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فقالوا: يا رسول الله، غلا السعر فأسعر لنا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله الباسط القابض الرازق، و إني لأرجو أن ألقى الله ليس أحد يطلبني بمظلمة في نفس ومال".قال أبو جعفر: يعني بذلك صلى الله عليه وسلم: أن الغلاء والرخص والسعة والضيق بيد الله دون غيره. فكذلك قوله تعالى ذكره: "والله يقبض ويبسط"، يعني بقوله: "يقبض"، يقتر بقبضه الرزق عمن يشاء من خلقه، ويعني بقوله: "ويبسط"، يوسع ببسطه الرزق على من يشاء منهم.
وإنما أراد تعالى ذكره بقيله ذلك، حث عباده المؤمنين- الذين قد بسط عليهم من فضله، فوسع عليهم من رزقه- على تقوية ذوي الإقتار منهم بماله، ومعونته بالإنفاق عليه وحمولته على النهوض لقتال عدوه من المشركين في سبيله، فقال تعالى ذكره: من يقدم لنفسه ذخرا عندي بإعطائه ضعفاء المؤمنين وأهل الحاجة منهم ما يستعين به على القتال في سبيلي، فأضاعف له من ثوابي أضعافا كثيرة مما أعطاه وقواه به؟ فإني- أيها الموسع- الذي قبضت الرزق عمن ندبتك إلى معونته وإعطائه، لأبتليه بالصبر على ما ابتليته به، والذي بسطت عليك لأمتحنك بعملك فيما بسطت عليك، فأنظر كيف طاعتك إياي فيه، فأجازي كل واحد منكما على قدر طاعتكما فيما ابتليتكما فيه وامتحنتكما به، من غنى وفاقة، وسعة وضيق، عند رجوعكما إلي في اخرتكما، ومصيركما إلي في معادكما.وبنحو الذي قلنا في ذلك قال من بلغنا قوله من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا" الآية، قال: علم أن فيمن يقاتل في سبيله من لا يجد قوة، وفيمن لا يقاتل في سبيله من يجد غنى، فندب هؤلاء فقال: " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط "؟ قال: بسط عليك وأنت ثقيل عن الخروج لا تريده، وقبض عن هذا وهو يطيب نفسا بالخروج ويخص له، فقوه مما في يدك، يكن لك في ذلك حظ.
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: وإلى الله معادكم، أيها الناس، فاتقوا الله في أنفسكم أن تضيعوا فرائضه وتتعدوا حدوده، وأن يعمل من بسط عليه منكم في رزقه بغير ما أذن له بالعمل فيه ربه، وأن يحمل المقتر منكم- إذ قبض عنه رزقه- إقتاره على معصيته والتقدم على ما نهاه، فيستوجب بذلك عند مصيره إلى خالقه، ما لا قبل له به من أليم عقابه
وكان قتادة يتأول قوله: "وإليه ترجعون"، وإلى التراب ترجعون.حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: "وإليه ترجعون"، من التراب خلقهم، وإلى التراب يعودون.
فيه إحدى عشرة مسألة :
الأولى : قوله تعالى : " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا " لما أمر الله تعالى بالجهاد والقتال على الحق ، إذ ليس شيء من الشريعة إلا ويجوز القتال عليه وعنه ، وأعظمها دين الإسلام كما قال مالك حرض على الإنفاق في ذلك ، فدخل في هذا الخبر المقاتل في سبيل الله ، فإنه يقرض به رجاء الثواب .
كما فعل عثمان رضي الله عنه في جيش العسرة ، و (( من )) رفع بالإبتداء ، و(( ذا )) خبره ، و(( الذي )) نعت لذا ، وإن شئت بدل ، ولما نزلت هذه الآية بادر أبو الدحداح إلى التصدق بماله ابتغاء ثواب ربه أخبرنا الشيخ الفقيه الإمام المحدث القاضي أبو عامر يحيى بن عامر بن أحمد بن منيع الأشعري نسباً ومذهباً بقرطبة ، أعادها الله في ربيع الآخر عام ثمانية وعشرين وستمائة قراءة مني عليه قال : أخبرنا ابي إجازة قال : قرأت علي أبي بكر عبد العزيز بن خلف بن مدين الأزدي عن أبي عبد الله بن سعدون سماعاً عليه ، قال : حدثنا أبو الحسن علي بن مهران قال : حدثنا أبو الحسن محمد بن عبد الله بن زكريا بن حيوة النيسابوري سنة ست وستين وثلاثمائة ، قال : أنبأنا عمي أبو زكريا يحيى بن زكريا قال : حدثنا محمد بن معاوية بن صالح قال : حدثنا خلف بن خليفة عن حميد الأعرج عن عبد الله بن الحارث " عن عبد بن مسعود قال : لما نزلت : " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا " قال أبو الدحداح : يا رسول الله أو إن الله تعالى يريد منا القرض ؟ قال : نعم يا أبا الدحداح قال : أرني يدك قال فناوله ، قال : فإني أقرضت الله حائطاً فيه ستمائة نخلة ، ثم جاء يمشي حتى أتى الحائط وأم الدحداح فيه وعياله ، فناداها ، يا أم الدحداح ، قالت : لبيك ، قال : أخرجي قد أقرضت ربي عز وجل حائطاً فيه ستمائة نخلة " ، و" قال زيد بن أسلم : لما نزل : " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا " قال أبو الدحداح : فداك أبي وأمي يا رسول الله ! إن الله يستقرضنا وهو غني عن القرض ؟ قال : نعم يريد أن يدخلكم الجنة به ، قال : فإني إن أقرضت ربي قرضاً يضمن لي به ولصبيتي الدحداحة معي الجنة ؟ قال : نعم قال : فناولني يدك ، فناوله رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فقال : إن لي حديقتين إحداهما بالسافلة والأخرى بالعالية ، والله لا أملك غيرهما ، قد جعلتهما قرضاً لله تعالى ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أجعل إحداهما لله والأخرى دعها معيشة لك ولعيالك ، قال : فأشهدك يا رسول الله أني قد جعلت خيرهما لله تعالى ، وهو حائط فيه ستمائة نخلة ، قال : إذا يجزيك الله به الجنة ، فانطلق أبو الدحداح حتى جاء أم الدحداح وهي مع صبيانها في الحديقة تدور تحت النخل فأنشأ يقول :
هداك ربي سبل الرشاد إلى سبيل الخير والسداد
بيني من الحائظ بالوداد فقد مضى قرضاً إلى التناد
أقرضته الله على اعتمادي بالطوع لا من ولا ارتداد
إلا رجاء الضعف في المعاد فارتحلي بالنفس والأولاد
والبر لا شك فخير زاد قدمه المرء إلى المعاد
قالت أم الدحداح : ربح بيعك ! بارك الله لك فيما اشتريت ، ثم أجابته أم الدحداح وأنشأت تقول :
بشرك الله بخير وفرح مثلك أدى ما لديها ونصح
قد متع الله عيالي ومنح بالعجوة السوداء والزهو البلح
والعبد يسعى وله ما قد كدح طول الليالي وعليه ما اجترح
ثم أقبلت أم الدحداح على صبيانها تخرج ما في أفواهم وتنفض ما في أكمامهم حتى أفضت إلى الحائظ الآخر ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : : كم من عذق رداح ودار فياح لأبي الدحداح " .
الثانية : قال ابن العربي : انقسم الخلق بحكم الخالق وحكمته وقدرته ومشيئته وقضائه وقدره حين سمعوا هذه الآية أقساماً ، فتفرقوا فرقاً ثلاثة : الفرقة الأولى الرذلى قالوا : إن رب محمد محتاج فقير إلينا ونحن أغنياء ، فهذه جهالة لا تخفى على ذي لب ، فرد الله عليهم بقوله : " لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء " [ آل عمران : 181 ] ، الفرقة الثانية لما سمعت هذا القول آثرت الشح والبخل وقدمت الرغبة في المال ، فما أنفقت في سبيل الله ولا فكت أسيراً ولا أعانت أحداً ، تكاسلاً عن الطاعة وركوناً إلى هذه الدار ، الفرقة الثالثة لما سمعت بادرت إلى امتثاله وآثر المجيب منهم بسرعة بماله كأبي الدحداح رضي الله عنه وغيره ، والله أعلم .
الثالثة : قوله تعالى : " قرضا حسنا " القرض : اسم لكل ما يلتمس عليه الجزاء وأقرض فلان فلاناً أي أعطاه ما يتجازاه ، قال الشاعر وهو لبيد :
وإذا جوزيت قرضاً فاجزه إنما يجزي الفتى ليس الجمل
والقرض بالكسر لغة فيه حكاه الكسائي ، واستقرضت من فلان أي طلبت منه القرض فاقرضني ، واقترضت منه أي أخذت القرض ، وقال الزجاج : القرض في اللغة البلاء الحسن والبلاء السيء ، قال أمية :
كل امرئ سوف يجزى قرضه حسناً أو سيئاً ومديناً مثل ما دانا
وقال آخر :
تجازى القروض بأمثالها فبالخير خيراً وبالشر شراً
وقال الكسائي : القرض ما أسلفت من عمل صالح أو سيء ، وأصل الكلمة القطع ، ومنه المقراض ، وأقرضته أي قطعت له من مالي قطعة يجازي عليها ، وانقرض القوم : انقطع أثرهم وهلكوا والقرض هاهنا : اسم ، ولولاه لقال هاهنا إقراضاً ، واستدعاء القرض في هذه الآية إنما هو تأنيس وتقريب بما يفهمونه ، والله هو الغني الحميد ، لكنه تعالى شبه عطاء المؤمن في الدنيا بما يرجو به ثوابه في الآخرة بالقرض كما شبه إعطاء النفوس والأموال في أخذ الجنة بالبيع والشراء ، حسب ما يأتي بيانه في (( براءة )) إن شاء الله تعالى ، وقيل المراد بالآية الحث على الصدقة وإنفاق المال على الفقراء والمحتاجين والتوسعة عليهم ، وفي سبيل الله بنصرة الدين ، وكنى الله سبحانه عن الفقير بنفسه العلية المنزهة عن الحاجات ترغيباً في الصدقة ، كما كنى عن المريض والحائج والعطشان بنفسه المقدسة عن النقائص والآلام ، ففي صحيح الحديث إخباراً عن الله تعالى : " يا ابن آدم مرضت فلم تعدني واستطعمتك فلم تطعمني واستسقيتك لم تسقني ، قال رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين ! ؟ قال : استسقاك عبدي فلان فلم تسقه أما إنك لو سقيته وجدت ذلك عندي " ، وكذا فيما قبل ، أخرجه مسلم و البخاري وهذا كله خرج مخرج التشريف لمن كنى عنه ترغيباً لمن خوطب به .
الرابعة : يجب على المستقرض رد القرض ، لأن الله تعالى بي، أن من أنفق في سبيل الله لا يضيع عند الله تعالى بل يرد الثواب قطعاً وأبهم الجزاء . وفي الخبر : " النفقة في سبيل الله تضاعف إلى سبعمائة ضعف وأكثر " ن على ما يأتي بيانه في هذه السورة عند قوله تعالى : " مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل " [ البقرة : 261 ] ، الآية ، وقال هاهنا : " فيضاعفه له أضعافا كثيرة " ، وهذا لا نهاية له ولا حد .
الخامسة : ثواب القرض عظيم ، لأن فيه توسعة على المسلم وتفريجاً عنه خرج ابن ماجة في سننه " عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : رأيت ليلة أسري بي على باب الجنة مكتوباً الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثمانية عشر فقلت لجبريل : ما بال القرض أفضل من الصدقة قال : لأن السائل يسأل وعنده ، والمستقرض لا يستقرض إلا من حاجة " ، قال حدثنا محمد بن خلف العسقلاني حدثنا يعلى حدثنا سليمان بن يسير عن قيس بن رومي قال : كان سليمان بن أذنان يقرض علقمة ألف درهم إلى عطائه ، فلما خرج عطاؤه تقاضاها منه ، واشتد عليه فقضاه ، فكأن علقمة غضب فمكث أشهراً ثم أتاه فقال : أقرضني ألف درهم إلى عطائي ، قال : نعم وكرامة ! يا أم عتبة هلمي تلك الخريطة المختومة التي عندك ، قال : فجاءت بها فقال : أما والله إنها لدراهمك التي قضيتني ما حركت منها درهماً واحداً ، قال : فلله أبوك ؟ ما حملك على ما فعلت بي ؟ قال : ما سمعت منك ، قال : ما سمعت مني ؟ سمعتك تذكر عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما من مسلم يقرض مسلماً قرضاً مرتين إلا كان كصدقتها مرة " ، قال : كذلك أنبأني ابن مسعود .
السادسة : قرض الآدمي للواحد واحد ، أي يرد عليه مثله ما أقرضه وأجمع أهل العلم على أن استقراض الدنانير والدراهم والحنطة والشعير والتمر والزبيب وكل ما له مثل من سائر الأطعمة جائز ، وأجمع المسلمون نقلاً عن نبيهم صلى الله عليه وسلم ان اشتراط الزيادة في السلف رباً ولو كان قبضة من علف ، كما قال ابن مسعود أو حبة واحدة ويجوز أن يرد أفضل مما يستلف إذا لم يشترط ذلك عليه ، لأن ذلك من باب المعروف ، استدلالاً بحديث أبي هريرة في البكر : " إن خياركم أحسنكم قضاء " ، رواه الأئمة : البخاري و مسلم وغيرهما ، فأثنى صلى الله عليه وسلم على من أحسن القضاء ، وأطلق ذلك ولم يقيده بصفة ، وكذلك قضى هو صلى الله عليه وسلم في البكر وهو الفتي المختار من الإبل جملاً خياراً رباعياً والخيار : المختار ، والرباعي هو الذي دخل في السنة الرابعة ، لأنه يلقي فيها رباعيته وهي التي تلي الثنايا وهي أربع رباعيات مخففة الباء وهذا الحديث دليل على جواز قرض الحيوان ، وهو مذهب الجمهور ، ومنع من ذلك أبو حنيفة وقد تقدم .
السابعة : ولا يجوز أن يهدي من استقرض هدية للمقرض ، ولا يحل للمقرض قبولها إلا أن يكون عادتهما ذلك ، بهذا جاءت السنة : خرج ابن ماجة حدثنا هشام بن عمار قال : حدثنا إسماعيل بن عياش حدثنا عتبة بن حميد الضبي عن يحيى بن أبي إسحاق الهناني قال : سألت أنس بن مالك عن الرجل منا يقرض أخاه المال فيهدي إليه ؟ قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا أقرض أحدكم أخاه قرضاً فأهدى له أو حمله على دابته قلا يقبلها ولا يركبها إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك " .
الثامنة : القرض يكون من المال وقد بينا حكمه ويكون من العرض ، وفي الحديث " عن النبي صلى الله عليه وسلم : أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم كان إذا خرج من بيته قال اللهم إني قد تصدقت بعرضي على عبادك " ، وروي عن ابن عمر : أقرض من عرضك ليوم فقرك ، يعني من سبك فلا تأخذ منه حقاً ولا تقم عليه حداً حتى تأتي يوم القيامة موفر الأجر ، وقال أبو حنيفة : لا يجوز التصدق بالعرض لأنه حق الله تعالى ، وروي عن مالك ابن العربي : وهذا فاسد ، قال عليه السلام في الصحيح : " إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام "، الحديث ، وهذا يقتضي أن تكون هذه المحرمات الثلاث تجري مجرى واحداً في كونها باحترامها حقاً للآدمي .
التاسعة : قوله تعالى : " حسنا " قال الواقدي : محتسباً طيبة به نفسه ، وقال عمرو بن عثمان الصدفي : لا يمن به ولا يؤذي ، وقال سهل بن عبد الله : لا يعتقد في قرضه عوضاً .
العاشرة : قوله تعالى : " فيضاعفه له " قرأ عاصم وغيره (( فيضاعفه )) بالألف ونصف الفاء ، وقرأ ابن عامر و يعقوب بالتشديد في العين مع سقوط الألف ونصب الفاء .
وقرأ ابن كثير و أبو جعفر و شيبة بالتشديد ، ورفع الفاء ، وقرأ الآخرون بالألف ورفع الفاء ، فمن رفعه نسقه على قوله : (( يقرض )) وقيل : على تقدير هو يضاعفه ، ومن نصب فجواباً للإستفهام بالفاء ، وقيل : بإضمار (( أن )) والتشديد والتخفيف لغتان ، دليل التشديد " أضعافا كثيرة " لأن التشديد للتكثير ، وقال الحسن و السدي : لا نعلم هذا التضعيف إلا لله وحده ، لقوله تعالى : " ويؤت من لدنه أجرا عظيما " [ النساء : 40 ] ، قال أبو هريرة : هذا في نفقة الجهاد ، وكنا نحسب والنبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا نفقة الرجل على نفسه ورفقائه وظهره بألفي ألف .
الحادية عشرة : قوله تعالى : " والله يقبض ويبسط " هذا عام في كل شيء فهو القابض الباسط ، وقد أتينا عليهما في شرح الأسماء الحسنى في الكتاب الأسنى .
" وإليه ترجعون " وعيد ، فيجازي كلا بعمله .
روي عن ابن عباس أنهم كانوا أربعة آلاف, وعنه كانوا ثمانية آلاف وقال أبو صالح: تسعة آلاف, وعن ابن عباس أربعون ألفاً, وقال وهب بن منبه وأبو مالك: كانوا بضعة وثلاثين ألفاً. وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس, قال: كانوا أهل قرية يقال لها داوردان. وكذا قال السدي وأبو صالح وزاد من قبل واسط , وقال سعيد بن عبد العزيز: كانوا من أهل أذرعات, وقال ابن جريج عن عطاء قال: هذا مثل. وقال علي بن عاصم: كانوا من أهل داوردان قرية على فرسخ من قبل واسط . وقال وكيع بن الجراح في تفسيره: حدثنا سفيان عن ميسرة بن حبيب النهدي, عن المنهال بن عمرو الأسدي, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس "ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت" قال: كانوا أربعة آلاف خرجوا فراراً من الطاعون قالوا: نأتي أرضاً ليس بها موت حتى إذا كانوا بموضع كذا وكذا قال الله لهم "موتوا" فماتوا, فمر عليهم نبي من الأنبياء, فدعا ربه أن يحييهم فأحياهم, فذلك قوله عز وجل "ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت" الاية. وذكر غير واحد من السلف, أن هؤلاء القوم, كانوا أهل بلدة في زمان بني إسرائيل استوخموا أرضهم, وأصابهم بها وباء شديد, فخرجوا فراراً من الموت, هاربين إلى البرية, فنزلوا وادياً أفيح, فملؤوا ما بين عدوتيه, فأرسل الله إليهم ملكين, أحدهما من أسفل الوادي, والاخر من أعلاه, فصاحا بهم صيحة واحدة, فماتوا عن آخرهم موتة رجل واحد, فحيزوا إلى حظائر, وبني عليهم جدران وقبور, وفنوا وتمزقوا وتفرقوا, فلما كان بعد دهر, مر بهم نبي من أنبياء بني إسرائيل, يقال له حزقيل, فسأل الله أن يحييهم على يديه, فأجابه إلى ذلك, وأمره أن يقول: أيتها العظام البالية, إن الله يأمرك أن تجتمعي, فاجتمع عظام كل جسد بعضها إلى بعض, ثم أمره فنادى: أيتها العظام إن الله يأمرك أن تكتسي لحماً وعصباً وجلداً, فكان ذلك وهو يشاهد, ثم أمره فنادى: أيتها الأرواح, إن الله يأمرك أن ترجع كل روح إلى الجسد الذي كانت تعمره فقاموا أحياءً ينظرون قد أحياهم الله بعد رقدتهم الطويلة وهم يقولون: سبحانك لا إله إلا أنت. وكان في إحيائهم عبرة ودليل قاطع على وقوع المعاد الجسماني يوم القيامة, ولهذا قال: "إن الله لذو فضل على الناس", أي فيما يريهم من الايات الباهرة والحجج القاطعة والدلالات الدامغة "ولكن أكثر الناس لا يشكرون" أي لا يقومون بشكر ما أنعم الله به عليهم في دينهم ودنياهم. وفي هذه القصة عبرة ودليل, على أنه لن يغني حذر من قدر, وأنه لا ملجأ من الله إلا إليه, فإن هؤلاء خرجوا فراراً من الوباء, طلباً لطول الحياة, فعوملوا بنقيض قصدهم, وجاءهم الموت سريعاً في آن واحد. ومن هذا القبيل, الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى, أخبرنا مالك وعبد الرزاق, أخبرنا معمر كلاهما عن الزهري عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب عن عبد الله بن الحارث بن نوفل, عن عبد الله بن عباس, أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام حتى إذا كان بسرغ, لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه, فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام, فذكر الحديث, فجاءه عبد الرحمن بن عوف, وكان متغيباً لبعض حاجته فقال: إن عندي من هذا علماً, سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا كان بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه, وإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه" فحمد الله عمر ثم انصرف, وأخرجاه في الصحيحين من حديث الزهري به بطريق أخرى لبعضه. قال أحمد: حدثنا حجاج ويزيد العمي, قالا: أخبرنا ابن أبي ذئب عن الزهري عن سالم عن عبد الله بن عامر بن ربيعة أن عبد الرحمن بن عوف أخبر عمر وهو في الشام عن النبي صلى الله عليه وسلم "أن هذا السقم عذب به الأمم قبلكم فإذا سمعتم به في أرض, فلا تدخلوها, وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً" قال: فرجع عمر من الشام, وأخرجاه في الصحيحين من حديث مالك, عن الزهري بنحوه. وقوله: "وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم" أي كما أن الحذر لا يغني من القدر, كذلك الفرار من الجهاد وتجنبه, لا يقرب أجلاً ولا يبعده, بل الأجل المحتوم والرزق المقسوم مقدر مقنن لا يزاد فيه ولا ينقص منه, كما قال تعالى: " الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرؤوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين ", وقال تعالى: " وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا * أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة " وروينا عن أمير الجيوش, ومقدم العساكر, وحامي حوزة الإسلام, وسيف الله المسلول على أعدائه: أبي سليمان خالد بن الوليد رضي الله عنه, أنه قال وهو في سياق الموت: لقد شهدت كذا وكذا موقفاً. وما من عضو من أعضائي إلا وفيه رمية أو طعنة أو ضربة وها أنا ذا أموت على فراشي كما يموت العير, فلا نامت أعين الجبناء ـ يعني أنه يتألم لكونه ما مات قتيلاً في الحرب, ويتأسف على ذلك, ويتألم أن يموت على فراشه. وقوله: "من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة", يحث تعالى عباده على الانفاق في سبيل الله, وقد كرر تعالى هذه الاية في كتابه العزيز في غير موضع, وفي حديث النزول أنه يقول تعالى: "من يقرض غير عديم ولا ظلوم" وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن عرفة, حدثنا خلف بن خليفة, عن حميد الأعرج, عن عبد الله بن الحارث, عن عبد الله بن مسعود, قال: لما نزلت "من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له", قال أبو الدحداح الأنصاري: يا رسول الله, وإن الله عز وجل ليريد منا القرض ؟ قال: "نعم يا أبا الدحداح". قال: أرني يدك يا رسول الله. قال: فناوله يده, قال: فإني قد أقرضت ربي عز وجل حائطي, قال: وحائط له فيه ستمائة نخلة, وأم الدحداح فيه وعيالها. قال فجاء أبو الدحداح فنادها: يا أم الدحداح. قالت: لبيك. قال: اخرجي, فقد أقرضته ربي عز وجل. وقد رواه ابن مردويه من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه, عن عمر رضي الله عنه مرفوعاً بنحوه, وقوله: "قرضاً حسناً" روي عن عمر وغيره من السلف هو النفقة في سبيل الله, وقيل: هو النفقة على العيال, وقيل: هو التسبيح والتقديس. وقوله: "فيضاعفه له أضعافاً كثيرة" كما قال تعالى: "مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء" الاية, وسيأتي الكلام عليها. وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد, أخبرنا مبارك بن فضالة, عن علي بن زيد, عن أبي عثمان النهدي, قال: أتيت أبا هريرة رضي الله عنه, فقلت له: إنه بلغني أنك تقول إن الحسنة تضاعف ألف ألف حسنة, قال: وما أعجبك من ذلك, لقد سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم يقول "إن الله يضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة" هذا حديث غريب, وعلي بن زيد بن جدعان عنده مناكير, لكن رواه ابن أبي حاتم من وجه آخر فقال: حدثنا أبو خلاد سليمان بن خلاد المؤدب, حدثنا يونس بن محمد المؤدب, حدثنا محمد بن عقبة الرفاعي عن زياد الجصاص عن أبي عثمان النهدي, قال: لم يكن أحد أكثر مجالسة لأبي هريرة مني, فقدم قبلي حاجاً, قال: وقدمت بعده, فإذا أهل البصرة يأثرون عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم, يقول "إن الله يضاعف الحسنة ألف ألف حسنة" فقلت: ويحكم, والله ما كان أحد أكثر مجالسة لأبي هريرة مني, فما سمعت هذا الحديث, قال: فتحملت أريد أن ألحقه فوجدته قد انطلق حاجاً, فانطلقت إلى الحج ألقاه في هذا الحديث, فلقيته لهذا, فقلت: يا أبا هريرة, ما حديث سمعت أهل البصرة يأثرون عنك ؟ قال: ما هو ؟ قلت: زعموا أنك تقول: إن الله يضاعف الحسنة ألف ألف حسنة, قال: يا أبا عثمان, وما تعجب من ذا, والله يقول "من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة" ويقول " فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل " والذي نفسي بيده لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم, يقول: "إن الله يضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة". وفي معنى هذا الحديث ما رواه الترمذي وغيره من طريق عمرو بن دينار, عن سالم, عن عبد الله بن عمر بن الخطاب, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال "من دخل سوقاً من الأسواق فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد, وهو على كل شيء قدير ـ كتب الله له ألف ألف حسنة, ومحا عنه ألف ألف سيئة" الحديث, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة إسماعيل بن إبراهيم بن بسام, حدثنا أبو إسماعيل المؤدب عن عيسى بن المسيب, عن نافع, عن ابن عمر, قال: لما نزلت "مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل" إلى آخرها, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "رب زد أمتي", فنزلت "من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة". قال "رب زد أمتي", فنزلت "إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب". وروى ابن أبي حاتم أيضاً. عن كعب الأحبار: أنه جاءه رجل فقال: إني سمعت رجلاً يقول: من قرأ "قل هو الله أحد" مرة واحدة, بنى الله له عشرة آلاف ألف غرفة من در وياقوت في الجنة, أفأصدق ذلك ؟ قال: نعم, أو عجبت من ذلك ؟ قال: نعم, وعشرين ألف ألف وثلاثين ألف ألف وما لا يحصي ذلك إلا الله, ثم قرأ "من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة" فالكثير من الله لا يحصى وقوله "والله يقبض ويبسط" أي أنفقوا ولا تبالوا, فالله هو الرازق يضيق على من يشاء من عباده في الرزق, ويوسعه على آخرين, له الحكمة البالغة في ذلك "وإليه ترجعون" أي يوم القيامة.
وقوله: 245- "من ذا الذي يقرض الله" لما أمر سبحانه بالقتال والجهاد أمر بالإنفاق في ذلك، ومن استفهامية مرفوعة المحل بالابتداء، وذا خبره، والذي وصلته وصف له أو بدل منه، وإقراض الله مثل لتقديم العمل الصالح الذي يستحق به فاعله الثواب، وأصل القرض اسم لكل ما يلتمس عليه الجزاء، يقال: أقرض فلان فلاناً: أي أعطاه ما يتجازاه. قال الشاعر
وإذا جوزيت قرضاً فاجزه
وقال الزجاج: القرض في اللغة: البلاء الحسن والبلاء السيء.
قال أمية:
كل امرئ سوف يجزى قرضه حسناً أو سيئاً ومديناً مثل ما دانا
وقال آخر:
فجازى القروض بأمثالها فبالخير خيراً وبالشر شراً
وقال الكسائي القرض: ما أسلفت من عمل صالح أو سيء، وأصل الكلمة القطع، ومنه المقراض واستدعاء القرض في الآية إنما هو تأنيس وتقريب للناس بما يفهمونه. والله هو الغني الحميد: شبه عطاء المؤمن ما يرجو ثوابه في الآخرة بالقرض، كما شبه إعطاء النفوس والأموال في أخذ الجنة بالبيع والشراء. وقوله: "حسناً" أي: طيبة به نفسه من دون من ولا أذى. وقوله: "فيضاعفه" قرأ عاصم وغيره بالألف ونصب الفاء. وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي بإثبات الألف ورفع الفاء، وقرأ ابن عامر ويعقوب فيضعفه بإسقاط الألف مع تشديد العين ونصب الفاء. وقرأ ابن كثير وأبو جعفر بالتشديد ورفع الفاء. فمن نصب فعلى أنه جواب الاستفهام، ومن رفع فعلى تقدير مبتدأ: أي هو يضاعفه. وقد اختلف في تقدير هذا التضعيف على أقوال. وقيل: لا يعلمه إلا الله وحده. وقوله: "والله يقبض ويبسط" هذا عام في كل شيء فهو القابض الباسط، والقبض: التقتير، والبسط: التوسيع، وفيه وعيد بأن من بخل من البسط يوشك أن يبدل بالقبض، ولهذا قال: "وإليه ترجعون" أي هو يجازيكم بما قدمتم عند الرجوع إليه، وإذا أنفقتم مما وسع به عليكم أحسن إليكم، وإن بخلتم عاقبكم.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر والحاكم عن ابن عباس في قوله: "ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم" قال: كانوا أربعة آلاف خرجوا فراراً من الطاعون وقالوا: نأتي أرضاً ليس بها موت، حتى إذا كانوا بموضع كذا وكذا قال لهم الله: موتوا فماتوا، فمر عليهم نبي من الأنبياء فدعا ربه أن يحييهم حتى يعبدون فأحياهم. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه: أن القرية التي خرجوا منها داودان. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم هذه القصة مطولة عن أبي مالك وفيها أنهم بضعة وثلاثون ألفاً. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن عبد العزيز: أن ديارهم هي أذرعات. وأخرج أيضاً عن أبي صالح قال: كانوا تسعة آلاف. وأخرج جماعة من محدثي المفسرين هذه القصة على أنحاء، ولا يأتي الاستكثار من طرقها بفائدة. وقد ورد في الصحيحين وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن الفرار من الطاعون، وعن دخول الأرض التي هو بها من حديث عبد الرحمن بن عوف. وأخرج سعيد بن منصور وابن سعد والبزار وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود قال: "لما نزلت "من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً" قال أبو الدحداح الأنصاري: يا رسول الله إن الله ليريد منا القرض؟ قال: نعم يا أبا الدحداح، قال: أرني يدك يا رسول الله، فناوله يده، قال: فإني قد أقرضت ربي حائطي، وله فيه ستمائة نخلة". وقد أخرج هذه القصة عبد الرزاق وابن جرير من طريق زيد بن أسلم زاد الطبراني عن أبيه عن عمر بن الخطاب وابن مردويه عن أبي هريرة وابن إسحاق وابن المنذر عن ابن عباس. وأخرج ابن جرير عن السدي في قوله: "أضعافاً كثيرة" قال: هذا التضعيف لا يعلم أحد ما هو. وأخرج أحمد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي عثمان النهدي قال: بلغني عن أبي هريرة حديث أنه قال: "إن الله ليكتب لعبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة" فحججت ذلك العام ولم أكن أريد أن أحج إلا لألقاه في هذا الحديث، فلقيت أبا هريرة فقلت له، فقال: ليس هذا، قلت: ولم يحفظ هذا الحديث الذي حدثك إنما قلت: "إن الله ليعطي العبد المؤمن بالحسنة الواحدة ألفي ألف حسنة" ثم قال أبو هريرة: أو ليس تجدوه هذا في كتاب الله؟ "من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة" فالكثيرة عند الله أكثر من ألفي ألف وألفي ألف، والذي نفسي بيده لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله يضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة". وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان في صحيحه وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر قال: "لما نزلت "مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل" إلى آخره، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رب زد أمتي فنزلت "من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة" قال: رب زد أمتي فنزلت "إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب"". وأخرج ابن المنذر عن سفيان قال: "لما نزلت "من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها" قال: رب زد أمتي، فنزلت "من ذا الذي يقرض الله" قال: رب زد أمتي، فنزلت "مثل الذين ينفقون أموالهم" قال: رب زد أمتي، فنزلت "إنما يوفى الصابرون"" وفي الباب أحاديث هذه أحسنها وستأتي عند تفسير قوله تعالى: "كمثل حبة أنبتت سبع سنابل" فابحثها. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "والله يقبض ويبسط" قال: يقبض الصدقة، ويبسط: قال: يخلف "وإليه ترجعون" قال: من التراب وإلى التراب تعودون. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في الآية قال: علم الله أن فيمن يقاتل في سبيل الله من لا يجد قوة وفيمن لا يقاتل في سبيل الله من يجد غنى، فندب هؤلاء إلى القرض فقال: "من ذا الذي يقرض الله" قال: يبسط عليك وأنت ثقيل عن الخروج لا تريده، ويقبض عن هذا وهو يطيب نفساً بالخروج ويخف له، فقوه مما بيدك يكن لك الحظ.
245. قوله تعالى: " من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً " القرض اسم لكل ما يعطيه الإنسان ليجازى عليه، فسمى الله تعالى عمل المؤمنين له رجاء ما وعدهم من الثواب قرضاً، لأنهم يعملونه لطلب ثوابه، قال الكسائي : القرض ما اسلفت من عمل صالح أو سيئ، وأصل القرض في اللغة القطع، سمي به عباد الله والمحتاجين من خلقه، كقوله تعالى: " إن الذين يؤذون الله ورسوله " (57-الأحزاب) أي يؤذون عباد الله، كما جاء في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله تعالى يقول يوم القيامة يابن آدم استطعمتك فلم تطعمني قال: يارب كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي ".
قوله تعالى: " يقرض الله " أي ينفق في طاعة الله " قرضاً حسناً " قال الحسين بن علي الواقدي : يعني محتسباً، طيبة بها نفسه، وقال ابن المبارك : من مال حلال وقيل لا يمن به ولا يؤذي " فيضاعفه له " قرأ ابن كثير و أبو جعفر و ابن عامر و يعقوب " فيضاعفه " وبابه بالتشديد، ووافق أبو عمرو فغي سورة الأحزاب وقرأ الآخرون " فيضاعفه " بالألف مخففاً وهما لغتان، ودليل التشديد قوله " أضعافاً كثيرة " لأن التشديد للتكثير، وقرأ ابن عامر و عاصم و يعقوب بنصب الفاء، وكذلك في سورة الحديد على جواب الاستفهام، وقيل بإضمار أن، وقرأ الآخرون برفع الفاء نسقاً على قوله: يقرض " أضعافاً كثيرة " قال السدي هذا التضعيف لا يعلم إلا الله عز وجل، وقيل سبعمائة ضعف " والله يقبض ويبسط " قرأ أهل البصرة و جمزة يبسط، هاهنا وفي الأعراف، بسطة، بالسين كنظائرهما، وقرأهما الآخرون بالصاد قيل يقبض بإمساك الرزق والنفس والتقتير ويبسط بالتوسيع وقيل يقبض بقبول التوبة والصدقة ويبسط بالخلف والثواب، وقيل هو الإحياء والإماتة فمن أماتة فقد قبضه ومن مد له في عمره فقد بسط له، وقيل هذا في القلوب، لما أمرهم الله تعالى بالصدقة أخبر أنهم لا يمكنهم ذلك إلا بتوفيقه، قال: يقبض بعض القلوب فلا ينشط بخير ويبسط بعضها فيقدم لنفسه خيراً ككما جاء في الحديث " القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء "الحديث.
" وإليه ترجعون " أي إلى الله تعودون فيجزيكم بأعمالكم، قال قتادة : الهاء راجعة إلى التراب كناية عن غير مذكور، أي من التراب خلقهم وإليه يعودون.
245-" من ذا الذي يقرض الله " "من " استفهامية مرفوعة الموضع بالابتداء ، و " ذا " خبره ، و " الذي " صفة ذا أو بدله ، وإقراض الله سبحانه وتعالى مثل لتقديم العمل الذي به يطلب ثوابه . " قرضاً حسناً " إقراضاً حسناً مقروناً بالإخلاص وطيب النفس أو مقرضاً حلالاً طيباً . وقيل : القرض الحسن بالمجاهدة والإنفاق في سبيل الله " فيضاعفه له " فيضاعف جزاءه ، أخرجه على صورة المغالبة للمبالغة ، وقرأ عاصم بالنصب على جواب الاستفهام حملاً على المعنى ، فإن " من ذا الذي يقرض الله " في معنى أيقرض الله أحد . وقرأ ابن كثير فيضعفه بالرفع والتشديد و ابن عامر و يعقوب بالنصب . " أضعافاً كثيرةً " كثرة لا يقدرها إلا الله سبحانه وتعالى . وقيل الواحد بسبعمائة ، و أضعافاً جمع ضعف ونصبه على الحال من الضمير المنصوب ، أو المفعول الثاني لتضمن المضاعفة معنى التصيير أو المصدر على أن الضعف اسم مصدر وجمعه للتنويع . " والله يقبض ويبسط " يقتر على بعض ويوسع على بعض حسب ما اقتضت حكمته ، فلا تبخلوا عليه بما وسع عليكم كيلا يبدل حالكم . وقرأ نافع و الكسائي و البزي و أبو بكر بالصاد ومثله في الأعراف في قوله تعالى : " وزادكم في الخلق بسطة " " وإليه ترجعون " فيجازيكم على حسب ما قدمتم .
245. Who is it that will lend unto Allah a goodly loan, so that He may give it increase manifold? Allah straiteneth and enlargeth. Unto Him ye will return.
245 - Who is he that will loan to God a beautiful loan, which God will double unto his credit and multiply many times? it is God that giveth (you) want or plenty, and to him shall be your return.