[البقرة : 23] وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
وإن كنتم في ريب) شك (مما نزَّلنا على عبدنا) محمد من القرآن أنه من عند الله (فأتوا بسورة من مثله) أي المنزل ومن للبيان أي هي مثله في البلاغة وحسن النظم والإخبار عن الغيب . - والسورة قطعة لها أول وآخر أقلها ثلاث آيات - (وادعوا شهداءكم) آلهتكم التي تعبدونها (من دون الله) أي غيره لتعينكم (إن كنتم صادقين) في أن محمدا قاله من عند نفسه فافعلوا ذلك فإنكم عربيون فصحاءَ مثله
قال أبو جعفر: وهذا من الله عز وجل احتجاج لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم على مشركي قومه من العرب ومنافقيهم، وكفار أهل الكتاب وضلالهم، الذين افتتح بقصصهم قوله جل ثناؤه: " إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم" (البقرة: 6) وإياهم يخاطب بهذه الآيات، وضرباءهم يعني بها، قال الله جل ثناؤه لهم: وإن كنتم أيها المشركون من العرب والكفار من أهل الكتابين، في شك وهو الريب مما نزلنا على عبدنا محمد صلى الله عليه وسلم من النور والبرهان وآيات الفرقان: أنه من عندي، وأني الذي أنزلته إليه، فلم تؤمنوا به ولم تصدقوه فيما يقول، فأتوا بحجة تدفع حجته، لأنكم تعلمون أن حجة كل ذي نبوة على صدقه في دعواه النبوة: أن يأتي ببرهان يعجز عن أن يأتي بمثله جميع الخلق. ومن حجة محمد صلى الله عليه وسلم على صدقه، وبرهانه على حقيقة نبوته، وأن ما جاء به من عندي عجز جميعكم وجميع من تستعينون به من أعوانكم وأنصاركم، عن أن تأتوا بسورة من مثله. وإذا عجزتم عن ذلك وأنتم أهل البراعة في الفصاحة والبلاغة والذرابة فقد علمتم أن غيركم عما عجزتم عنه من ذلك أعجز. كما كان برهان من سلف من رسلي وأنبيائي على صدقه، وحجته على نبوته من الآيات، ما يعجز عن الإتيان بمثله جميع خلقي. فيتقرر حينئذ عندكم أن محمدًا لم يتقوله ولم يختلقه، لأن ذلك لو كان منه اختلافاً وتقولاً لم تعجزوا وجميع خلقي عن الإتيان بمثله. لأن محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يعد أن يكون بشرًا مثلكم، وفي مثل حالكم في الجسم وبسطة الخلق وذرابة اللسان. فيمكن أن يظن به اقتدار على ما عجزتم عنه، أو يتوهم منكم عجز عما اقتدر عليه.
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "فاتوا بسورة من مثله ".
فحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة: "فاتوا بسورة من مثله "، يعني: من مثل هذا القرآن حقاً وصدقاً، لا باطل فيه ولا كذب.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أنبأنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: "فاتوا بسورة من مثله "، يقول: بسورة مثل هذا القرآن.
حدثني محمد بن عمرو الباهلي، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى بن ميمون، عن عبدالله بن أبي نجيح، عن مجاهد: " فاتوا بسورة من مثله "، مثل القرآن.
حدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال. حدثني حجاج، عن ابن جريج عن مجاهد: " فاتوا بسورة من مثله "، قال: "مثله " مثل القرآن.
فمعنى قول مجاهد وقتادة الذي ذكرنا عنهما: أن الله جل ذكره قال لمن حاجه في نبيه محمد صلى الله عليه وسلم من الكفار: فأتوا بسورة من مثل هذا القرآن من كلامكم أيها العرب، كما أتى به محمد بلغاتكم ومعاني منطقكم.
وقد قال قوم آخرون: إن معنى قوله: "فاتوا بسورة من مثله "، من مثل محمد من البشر، لأن محمدًا بشر مثلكم.
قال أبو جعفر: والتأويل الأول، الذي قاله مجاهد وقتادة، هو التأويل الصحيح. لأن الله جل ثناؤه قال في سورة أخرى: " أم يقولون افتراه قل فاتوا بسورة مثله" (يونس: 38) ومعلوم أن السورة ليست لمحمد بنظير ولا شبيه، فيجوز أن يقال: فأتوا بسورة مثل محمد.
فإن قال قائل: فإنك ذكرت أن الله عنى بقوله: "فاتوا بسورة من مثله "، من مثل هذا القرآن، فهل للقرآن من مثل فيقال: ائتوا بسورة من مثله؟
قيل: إنه لم يعن به: ائتوا بسورة من مثله في التأليف والمعاني التي باين بها سائر الكلام غيره، وإنما عنى: ائتوا بسورة من مثله في البيان، لأن القرآن أنزله الله بلسان عربي، فكلام العرب لا شك له مثل في معنى العربية. فأما في المعنى الذي باين به القرآن سائر كلام المخلوقين، فلا مثل له من ذلك الوجه ولا نظيرولا شبيه.
وإنما احتج الله جل ثناؤه عليهم لنبيه صلى الله عليه وسلم بما احتج به له عليهم من القرآن، إذ ظهر عجز القوم عن أن يأتوا بسورة من مثله في البيان، إذ كان القرآن بياناً مثل بيانهم، وكلاماً نزل بلسانهم، فقال لهم جل ثناؤه: وإن كنتم في ريب من أن ما أنزلت على عبدي من القرآن من عندي، فأتوا بسورة من كلامكم الذي هو مثله في العربية، إذ كنتم عربًا، وهو بيان نظير بيانكم، وكلام شبيه كلامكم. فلم يكلفهم جل ثناؤه أن يأتوا بسورة من غير اللسان الذي هو نظير اللسان الذي نزل به القرآن، فيقدروا أن يقولوا: كلفتنا ما لو أحسناه أتينا به، وإنا لا نقدر على الاتيان به لأنا لسنا من أهل اللسان الذي كلفتنا الإتيان به، فليس لك علينا بهذا حجة. لآنا وإن عجزنا عن أن نأتي بمثله من غير ألسنتنا لأنا لسنا من أهله ففي الناس خلق كثير من غير أهل لساننا يقدر على أن يأتي بمثله من اللسان الذي كلفتنا الإتيان به. ولكنه جل ثناؤه قال لهم: ائتوا بسورة من مثله، لأن مثله من الألسن ألسنتكم، وأنتم إن كان محمد اختلقه وافتراه، إذا اجتمعتم وتظاهرتم على الاتيان بمثل سورة منه من لسانكم وبيانكم أقدر على اختلاقه ورصفه وتأليفه من محمد صلى الله عليه وسلم، وإن لم تكونوا أقدر عليه منه، فلن تعجزوا وأنتم جميع عما قدر عليه محمد من ذلك وهو وحيد، إن كنتم صادقين في دعواكم وزعمكم أن محمدًا افتراه واختلقه، وأنه من عند غيري.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين ".
فقال ابن عباس بما: حدثنا به محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحق، عن محمدبن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد، عن ابن عباس: "وادعوا شهداءكم من دون الله "، يعني أعوانكم على ما أنتم عليه، إن كنتم صادقين.
حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبوعاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "وادعوا شهداءكم "، ناس يشهدون.
حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد، قال: قوم يشهدون لكم.
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: "وادعوا شهداءكم "، قال: ناس يشهدون. قال ابن جريج: "شهداءكم " عليها إذا أتيتم بها أنها مثله، مثل القرآن.
وذلك قول الله لمن شك من الكفار فيما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله فادعوا، يعني: استنصروا واستغيثوا، كما قال الشاعر:
فلما التقت فرساننا ورجالهم دعوا: يالكعب! واعتزينا لعامر
يعني بقوله: دعوا يا لكعب ، استنصروا كعبًا واستغاثوا بهم. وأما الشهداء، فإنها جمع شهيد، كما الشركاء جمع شريك، والخطباء جمع خطيب. والشهيد يسمى به الشاهد على الشيء لغيره بما يحقق دعواه. وقد يسمى به المشاهد للشيء، كما يقال: فلان جليس فلان يعني به مجالسه، ونديمه يعني به منادمه، وكذلك يقال: شهيده يعني به مشاهده.
فإذا كانت الشهداء محتملة أن تكون جمع الشهيد الذي هو منصرف للمعنيين اللذين وصفت، فأولى وجهيه بتأويل الآية ما قاله ابن عباس، وهو أن يكون معناه: واستنصروا على أن تأتوا بسورة من مثله أعوانكم وشهداءكم الذين يشاهدونكم ويعاونونكم على تكذيبكم الله ورسوله، ويظاهرونكم على كفركم ونفاقكم، إن كنتم محقين في جحودكم أن ما جاءكم به محمد صلى الله عليه وسلم اختلاق وافتراء، لتمتحنوا أنفسكم وغيركم: هل تقدرون على أن تأتوا بسورة من مثله، فيقدر محمد على أن يأتي بجميعه من قبل نفسه اختلاقاً؟
وأما ما قاله مجاهد وابن جريج في تأويل ذلك، فلا وجه له. لأن القوم كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أصنافاً ثلاثة: أهل إيمان صحيح، وأهل كفر صحيح، وأهل نفاق بين ذلك. فأهل الايمان كانوا بالله وبرسوله مؤمنين، فكان من المحال أن يدعي الكفار أن لهم شهداء على حقيقة ما كانوا يأتون به، لو أتوا باختلاق من الرسالة، ثم ادعوا أنه للقرآن نظير من المؤمنين. فأما أهل النفاق والكفر، فلا شك أنهم لو دعوا إلى تحقيق الباطل وإبطال الحق لتنازعوا إليه مع كفرهم وضلالهم، فمن أي الفريقين كانت تكون شهداؤهم لو ادعوا أنهم قد أتوا بسورة من مثل القرآن؟
ولكن ذلك كماقال جل ثناؤه: "قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا" (الإسراء: 188) فأخبر جل ثناؤه في هذه الآية، أن مثل القرآن لا يأتي به الجن والإنس ولو تظاهروا وتعاونوا على الإتيان به، وتحداهم بمعنى التوبيخ لهم في ضض فقال تعالى: "وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فاتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين ". يعني بذلك: ان كنتم في شك في صدق محمد فيما جاءكم به من عندي أنه من عندي، فأتوا بسورة من مثله، وليستنصر بعضكم بعضاً على ذلك إن كنتم صادقين في زعمكم، حتى تعلموا أنكم إذ عجزتم عن ذلك أنه لا يقدر على أن يأتي به محمد صلى الله عليه وسلم، ولا من البشر أحد، ويصح عندكم أنه تنزيلي ووحيي إلى عبدي.
قوله تعالى : "وإن كنتم في ريب" أي في شك . "مما نزلنا" يعني القرآن ، والمراد المشركون الذين تحدوا ، فإنهم لما سمعوا القرآن قالوا : ما يشبه هذا كلام الله ، وإنا لفي شك منه ، فنزلت الآية . ووجه اتصالها بما قبلها أن الله سبحانه لما ذكر في الآية الأولى الدلالة على وحدانيته وقدرته بعدها الدلالة على نبوة نبيه ، وأن ما جاء به ليس مفترى من عنده .
قوله : "على عبدنا" يعني محمداً صلى الله عليه وسلم . والعبد مأخوذ من التعبد وهو التذلل ، فسمي المملوك ـ من جنس ما يفعله ـ عبداً لتذلله لمولاه ،قال طرفة :
إلى أن تحامتني العشيرة كلها وأفردت إفراد البعير المعبد
أي المذلل . قال بعضهم : لما كانت العبادة أشرف الخصال والتسمي بها أشرف الخطط ، سمى نبيه عبداً ، وأنشدوا :
يا قوم قلبي عند زهراء يعرفه السامع والرائي
لا تدعني إلا بيا عبدها فإنه أشرف أسمائي
"فاتوا بسورة" الفاء جواب الشرط ، ائتوا مقصور لأنه من باب المجيء ، قاله ابن كيسان . وهو أمر معناه التعجيز ، لأنه تعالى علم عجزهم عنه . والسورة واحدة السور . وقد تقدم الكلام فيها وفي إعجاز القرآن ، فلا معنى للإعادة . و من ـ في قوله : "من مثله" ـ زائدة ، كما قال : "فاتوا بسورة مثله" . والضمير في مثله عائد على القرآن عند الجمهور من العلماء ، كـ قتادة و مجاهد وغيرهما . وقيل : يعود على التوارة والإنجيل . فالمعنى فأتوا بسورة من كتاب مثله فإنها تصدق ما فيه . وقيل : يعود على النبي صلى الله عليه وسلم . المعنى : من بشر أمي مثله لا يكتب ولا يقرأ . فمن على هذين التأويلين للتبعيض . والوقف على مثله ليس بتام ، لأن "وادعوا" نسق عليه .
قوله تعالى : "وادعوا شهداءكم" معناه أعوانكم ونصراءكم . الفراء : آلهتكم . وقال ابن كيسان : فإن قيل كيف ذكر الشهداء ها هنا ، وإنما يكون الشهداء ليشهدوا أمراً ، أو ليخبروا بأمر شهدوه ، وإنما قيل لهم : "فاتوا بسورة من مثله" فالجواب : أن المعنى استعينوا بمن وجدتموه من علمائكم ، وأحضروهم ليشاهدوا ما تأتون به ، فيكون الرد على الجميع أوكد في الحجة عليهم .
قلت : هذا هو معنى قول مجاهد . قال مجاهد : معنى "وادعوا شهداءكم" أي ادعوا ناساً يشهدون لكم ، أي يشهدون أنكم عارضتموه . النحاس : شهداءكم نصب بالفعل جمع شهيد ، يقال : شاهد وشهيد ، مثل قادر وقدير . وقوله : "من دون الله" أي من غيره ، ودون نقيض فوق ، وهو تقصير عن الغاية ، ويكون ظرفاً . والدون : الحقير الخسيس ، قال :
إذا ما علا المرء رام العلاء ويقنع بالدون من كان دونا
ولا يشق منه فعل ، وبعضهم يقول منه : دان يدون دوناً . ويقال : هذا دون ذاك ، أي أقرب منه . ويقال في الإغراء بالشيء : دونكه . قالت تميم للحجاج : أقبرنا صالحاً ـ وكان قد صلبه ـ فقال : دونكموه .
قوله تعالى : "إن كنتم صادقين" فيما قلتم من أنكم تقدرون على المعارضة ، لقولهم في آية أخرى : "لو نشاء لقلنا مثل هذا" . والصدق : خلاف الكذب ، وقد صدق في الحديث . والصدق : الصلب من الرماح . ويقال : صدقوهم القتال . والصديق : اللازم للصدق . ويقال : رجل صدق ، كما يقال : نعم الرجل . والصداقة مشتقة من الصدقة في النصح والود .
ثم شرع تعالى في تقرير النبوة بعد أن قرر أنه لا إله إلا هو، فقال مخاطباً للكافرين: "وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا" يعني محمداً صلى الله عليه وسلم فأتوا بسورة من مثل ما جاء به إن زعمتم أنه من عند غير الله فعارضوه بمثل ما جاء به واستعينوا على ذلك بمن شئتم من دون الله فإنكم لا تستطيعون ذلك، قال ابن عباس: شهداءكم أعوانكم، وقال السدي عن أبي مالك شركاءكم أي قوماً آخرين يساعدونكم على ذلك، أي استعينوا بآلهتكم في ذلك يمدونكم وينصرونكم، وقال مجاهد وادعوا شهداءكم قال ناس يشهدون به يعني حكام الفصحاء، وقد تحداهم الله تعالى بهذا في غير موضع من القرآن فقال في سورة القصص " قل فاتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين " وقال في سورة سبحان " قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا " وقال في سورة هود: " أم يقولون افتراه قل فاتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين " وقال في سورة يونس: " وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين * أم يقولون افتراه قل فاتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين " وكل هذه الايات مكية، ثم تحداهم بذلك أيضاً في المدينة فقال في هذه الاية " وإن كنتم في ريب " أي شك " مما نزلنا على عبدنا " يعني محمدا صلى الله عليه وسلم " فاتوا بسورة من مثله " يعني من مثل القرآن، قاله مجاهد وقتادة واختاره ابن جرير والطبري والزمخشري والرازي، ونقله عن عمر وابن مسعود وابن عباس والحسن البصري، وأكثر المحققين، ورجح ذلك بوجوه من أحسنها أنه تحداهم كلهم متفرقين ومجتمعين سواء في ذلك أميهم وكتابيهم وذلك أكمل من التحدي وأشمل من أن يتحدى آحادهم الأميين ممن لا يكتب ولا يعاني شيئاً من العلوم وبدليل قوله تعالى: " فاتوا بعشر سور مثله " وقوله "لا يأتون بمثله" وقال بعضهم من مثل محمد صلى الله عليه وسلم، يعني من رجل أمي مثله، والصحيح الأول، لأن التحدي عام لهم كلهم مع أنهم أفصح الأمم وقد تحداهم بهذا في مكة والمدينة مرات عديدة مع شدة عداوتهم له وبغضهم لدينه ومع هذا عجزوا عن ذلك ولهذا قال تعالى: "فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا" ولن لنفي التأبيد في المستقبل أي ولن تفعلوا ذلك أبداً وهذه أيضاً معجزة أخرى، وهو أنه أخبر خبراً جازماً قاطعاً مقدماً غير خائف ولا مشفق أن هذا القرآن لا يعارض بمثله أبد الابدين ودهر الداهرين وكذلك وقع الأمر لم يعارض من لدنه إلى زماننا هذا ولا يمكن، وأنى يتأتى ذلك لأحد والقرآن كلام الله خالق كل شيء، وكيف يشبه كلام الخالق كلام المخلوقين، ومن تدبر القرآن وجد فيه من وجوه الإعجاز فنوناً ظاهرة وخفية من حيث اللفظ ومن جهة المعنى، قال الله تعالى: " الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير " فأحكمت ألفاظه وفصلت معانيه أو بالعكس على الخلاف فكل من لفظه ومعناه فصيح لا يحاذى ولا يدانى، فقد أخبر عن مغيبات ماضية كانت ووقعت طبق ما أخبر سواء بسواء، وأمر بكل خير، ونهى عن كل شر كما قال تعالى: "وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً" أي صدقاً في الأخبار وعدلاً في الأحكام، فكله حق وصدق وعدل وهدى ليس فيه مجازفة ولا كذب ولا افتراء كما يوجد في أشعار العرب وغيرهم من الأكاذيب والمجازفات التي لا يحسن شعرهم إلا بها، كما قيل في الشعر إن أعذبه أكذبه، وتجد القصيدة الطويلة المديدة قد استعمل غالبها في وصف النساء أو الخيل أو الخمر أو في مدح شخص معين أو فرس أو ناقة أو حرب أو كائنة أو مخافة أو سبع أو شيء من المشاهدات المتعينة التي لا تفيد شيئاً إلا قدرة المتكلم المعين على الشيء الخفي أو الدقيق أو إبرازه إلى الشيء الواضح، ثم تجد له فيه بيت أو بيتين أو أكثر هي بيوت القصيد وسائرها هذر لا طائل تحته، وأما القرآن فجميعه فصيح في غاية نهايات البلاغة عند من يعرف ذلك تفصيلاً وإجمالاً ممن فهم كلام العرب وتصاريف التعبير، فإنه إن تأملت أخباره وجدتها في غاية الحلاوة سواء كانت مبسوطة أو وجيزة وسواء تكررت أم لا، وكلما تكرر حلا وعلا، لا يخلق عن كثرة الرد، ولا يمل منه العلماء، وإن أخذ في الوعيد والتهديد جاء منه ما تقشعر منه الجبال الصم الراسيات، فما ظنك بالقلوب الفاهمات، وإن وعد أتى بما يفتح القلوب والاذان، ويشوق إلى دار السلام ومجاورة عرش الرحمن كما قال في الترغيب "فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون" وقال: "وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون" وقال في الترهيب: "أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر" "أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور * أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصباً فستعلمون كيف نذير" وقال في الزجر: "فكلاً أخذنا بذنبه" وقال في الوعظ : " أفرأيت إن متعناهم سنين * ثم جاءهم ما كانوا يوعدون * ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون " إلى غير ذلك من أنواع الفصاحة والبلاغة والحلاوة، وإن جاءت الايات في الأحكام والأوامر والنواهي، اشتملت على الأمر بكل معروف حسن نافع طيب محبوب، والنهي عن كل قبيح رذيل دنيء، كما قال ابن مسعود وغيره من السلف، إذا سمعت الله تعالى يقول في القرآن: "يا أيها الذين آمنوا" فأرعها سمعك فإنها خير يأمر به أو شر ينهى عنه، ولهذا قال تعالى: "يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم" الاية، وان جاءت الايات في وصف المعاد وما فيه من الأهوال وفي وصف الجنة والنار وما أعد الله فيهما لأوليائه وأعدائه من النعيم والجحيم والملاذ والعذاب الأليم، بشرت به وحذرت وأنذرت، ودعت إلى فعل الخيرات واجتناب المنكرات، وزهدت في الدنيا ورغبت في الاخرة، وثبتت على الطريقة المثلى، وهدت إلى صراط الله المستقيم وشرعه القويم، ونفت عن القلوب رجس الشيطان الرجيم. ولهذا ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه "عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما من نبي من الأنبياء إلا قد أعطي من الايات ما آمن على مثله البشر وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة" ـ لفظ مسلم ـ وقوله صلى الله عليه وسلم: "وإنما كان الذي أوتيته وحياً" أي الذي اختصصت به من بينهم هذا القرآن المعجز للبشر أن يعارضوه بخلاف غيره من الكتب الإلهية فإنها ليس معجزة عند كثير من العلماء والله أعلم، وله عليه الصلاة والسلام من الايات الدالة على نبوته وصدقه فيما جاء به ما لا يدخل تحت حصر ولله الحمد والمنة.
وقد قرر بعض المتكلمين الإعجاز بطريق يشمل قول أهل السنة وقول المعتزلة في الصرفة، فقال: إن كان هذا القرآن معجزاً في نفسه لا يستطيع البشر الإتيان بمثله ولا في قواهم معارضته فقد حصل المدعى وهو المطلوب، وإن كان في إمكانهم معارضته بمثله ولم يفعلوا ذلك مع شدة عداوتهم له كان ذلك دليلاً على أنه من عند الله لصرفه إياهم عن معارضته مع قدرتهم على ذلك، وهذه الطريقة وإن لم تكن مرضية لأن القرآن في نفسه معجز لا يستطيع البشر معارضته كما قررنا إلا أنها تصلح على سبيل التنزل والمجادلة والمنافحة عن الحق وبهذه الطريقة أجاب الرازي في تفسيره عن سؤاله في السور القصار كالعصر وإنا أعطيناك الكوثر.
وقوله تعالى: "فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين" أما الوقود، بفتح الواو، فهو ما يلقى في النار لإضرامها كالحطب ونحوه، كما قال تعالى: "وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطباً" وقال تعالى: "إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون * لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون" والمراد بالحجارة ههنا هي حجارة الكبريت العظيمة السوداء الصلبة المنتنة، وهي أشد الأحجار حراً إذا حميت أجارنا الله منها، وقال عبد الملك بن ميسرة الزراد عن عبد الرحمن بن سابط بن عمرو بن ميمون عن عبد الله بن مسعود في قوله تعالى: "وقودها الناس والحجارة" قال هي حجارة من كبريت، خلقها الله يوم خلق السموات والأرض في السماء الدنيا يعدها للكافرين. رواه ابن جرير وهذا لفظه وابن أبي حاتم والحاكم في مستدركه وقال على شرط الشيخين. وقال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة: اتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة، أما الحجارة فهي من كبريت أسود يعذبون به مع النار، وقال مجاهد حجارة من كبريت أنتن من الجيفة، وقال أبو جعفر محمد بن علي حجارة من كبريت، وقال ابن جريج حجارة من كبريت أسود في النار ، وقال لي عمرو بن دينار : أصلب من هذه الحجارة وأعظم. وقيل المراد بها حجارة الأصنام والأنداد التي كانت تعبد من دون الله كما قال تعالى: "إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم" الاية، حكاه القرطبي والرازي ورجحه على الأول، قال لأن أخذ النار في حجارة الكبريت ليس بمستنكر فجعلها هذه الحجارة أولى. وهذا الذي قاله ليس بقوي، وذلك أن النار إذا أضرمت بحجارة الكبريت كان ذلك أشد لحرها وأقوى لسعيرها ولا سيما على ما ذكره السلف من أنها حجارة من كبريت معدة لذلك، ثم أخذ النار بهذه الحجارة أيضاً مشاهد، وهذا الجص يكون أحجاراً فيعمل فيه بالنار حتى يصير كذلك. وكذلك سائر الأحجار تفخرها النار وتحرقها وإنما سيق هذا في حر هذه النار التي وعدوا بها، وشدة ضرامها وقوة لهبها كما قال تعالى : "كلما خبت زدناهم سعيراً" وهكذا رجح القرطبي أن المراد بها الحجارة التي تسعر بها النار لتحمر ويشتد لهبها قال ليكون ذلك أشد عذاباً لأهلها، قال وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كل مؤذ في النار" وهذا الحديث ليس بمحفوظ ولا معروف، ثم قال القرطبي وقد فسر بمعنيين، أحدهما أن كل من آذى الناس دخل النار، والاخر أن كل ما يؤذي في النار يتأذى به أهلها من السباع والهوام وغير ذلك.
وقوله تعالى: "أعدت للكافرين" الأظهر أن الضمير في أعدت عائد إلى النار التي وقودها الناس والحجارة، ويحتمل عوده إلى الحجارة كما قال ابن مسعود، ولا منافاة بين القولين في المعنى لأنهما متلازمان وأعدت أي رصدت وحصلت للكافرين بالله ورسوله كما قال ابن إسحاق عن محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس "أعدت للكافرين" أي لمن كان على مثل ما أنتم عليه من الكفر ، وقد استدل كثير من أئمة السنة بهذه الاية على أن النار موجودة الان لقوله تعالى: "أعدت" أي أرصدت وهيئت وقد وردت أحاديث كثيرة في ذلك منها "تحاجت الجنة والنار" ومنها "استأذنت النار ربها فقالت رب أكل بعضي بعضاً فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف" وحديث ابن مسعود سمعنا وجبة فقلنا ما هذه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا حجر ألقي به من شفير جهنم منذ سبعين سنة الان وصل إلى قعرها" وهو عند مسلم، وحديث صلاة الكسوف وليلة الإسراء وغير ذلك من الأحاديث المتواترة في هذا المعنى وقد خالفت المعتزلة بجهلهم في هذا ووافقهم القاضي منذر بن سعيد البلوطي قاضي الأندلس.
(تنبيه ينبغي الوقوف عليه)
قوله تعالى: " فاتوا بسورة من مثله " وقوله في سورة يونس: "بسورة مثله" يعم كل سورة في القرآن طويلة كانت أم قصيرة لأنها نكرة في سياق الشرط فتعم كما هي في سياق النفي عن المحققين من الأصوليين كما هو مقرر في موضعه، فالإعجاز حاصل في طوال السور وقصارها، وهذا ما لا أعلم فيه نزاعاً بين الناس سلفاً وخلفاً وقد قال الرازي في تفسيره فإن قيل قوله تعالى : " فاتوا بسورة من مثله " يتناول سورة الكوثر وسورة العصر ، وقل يا أيها الكافرون ونحن نعلم بالضرورة أن الإتيان بمثله أو بما يقرب منه ممكن فإن قلتم إن الإتيان بمثل هذه السور خارج عن مقدار البشر كان مكابرة والإقدام على هذه المكابرات مما يطرق بالتهمة إلى الدين (قلنا) فلهذا السبب اخترنا الطريق الثاني وقلنا إن بلغت هذه السور في الفصاحة حد الإعجاز فقد حصل المقصود، وإن لم يكن كذلك، كان امتناعهم من المعارضة مع شدة دواعيهم إلى توهين أمره معجزاً، فعلى التقديرين يحصل المعجز، هذا لفظه بحروفه والصواب أن كل سورة من القرآن معجزة لا يستطيع البشر معارضتها طويلة كانت أو قصيرة قال الشافعي رحمه الله، لو تدبر الناس هذه السورة لكفتهم " والعصر * إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر " وقد روينا عن عمرو بن العاص أنه وفد على مسيلمة الكذاب قبل أن يسلم، فقال له مسيلمة: ماذا أنزل على صاحبكم بمكة في هذا الحين؟ فقال له عمرو : لقد أنزل عليه سورة وجيزة بليغة فقال وما هي فقال " والعصر * إن الإنسان لفي خسر " ففكر ساعة ثم رفع رأسه فقال ولقد أنزل علي مثلها، فقال: وما هو؟ فقال: يا وبر يا وبر إنما أنت أذنان وصدر ، وسائرك حقر فقر، ثم قال كيف ترى يا عمرو ؟ فقال له عمرو : والله إنك لتعلم أني لأعلم أنك تكذب.
23- "في ريب" أي شك مما نزلنا على عبدنا: أي القرآن أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم. والعبد مأخوذ من التعبد وهو التذلل. والتنزيل التدريج والتنجيم. وقوله: "فأتوا" الفاء جواب الشرط وهو أمر معناه التعجيز. لما احتج عليهم بما يثبت الوحدانية ويبطل الشرك عقبه بما هو الحجة على إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وما يدفع الشبهة في كون القرآن معجزة، فتحداهم بأن يتلوا بسورة من سوره. والسورة الطائفة من القرآن المسماة باسم خاص، سميت بذلك لأنها مشتملة على كلماتها كاشتمال سور البلد عليها. ومن في قوله: "من مثله" زائدة لقوله: فأتوا بسورة مثله. والضمير في مثله عائد على القرآن عند جمهور أهل العلم. وقيل: عائد على التوراة والإنجيل، لأن المعنى: فأتوا بسورة من كتاب مثله فإنها تصدق ما فيه. وقيل: يعود على النبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى من بشر مثل محمد: أي لا يكتب ولا يقرأ. والشهداء جمع شهيد بمعنى الحاضر أو القائم بالشهادة أو المعاون، والمراد هنا بالآلهة. ومعنى "دون": أدنى مكان من الشيء واتسع فيه حتى استعمل في تخطي الشيء إلى شيء آخر، ومنه ما في هذه الآية، وكذلك قوله تعالى: "لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين" وله معان أخر، منها التقصير عن الغاية والحقارة، يقال: هذا الشيء دون: أي حقير، ومنه:
إذا ما علا المرء رام العلا ويقنع بالدون من كان دونا
والقرب يقال هذا دون ذاك: أي أقرب منه ويكون إغراء، تقول: دونك زيداً: أي خذه من أدنى مكان "من دون الله" متعلق بادعوا: أي ادعوا الذين يشهدون لكم من دون الله إن كنتم صادقين فيما قلتم من أنكم تقدرون على المعارضة، وهذا تعجيز لهم وبيان لانقطاعهم. والصدق خلاف الكذب، وهو مطابقة الخبر للواقع أو للاعتقاد أو لهما على الخلاف المعروف في علم المعاني.
23. " وإن كنتم في ريب " أي (وإن) كنتم في شك، لأن الله تعالى علم أنهم شاكون " مما نزلنا " يعني القرآن " على عبدنا " محمد " فأتوا " أمر تعجيز " بسورة " والسورة قطعة من القرآن معلومة الأول والآخر من أسأرت أي أفضلت، حذفت الهمزة، وقيل: السورة اسم للمنزلة الرفيعة / ومنه سور البناءلارتفاعه سميت سورة لأن القارئ ينال بقراءتها منزلة رفيعة حتى يستكمل المنازل باستكماله سور القرآن " من مثله " أي مثل القرآن (( ومن )) صلة، كقوله تعالى: " قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم " (30-النور) وقيل: الهاء في مثله راجعة لمحمد صلى الله عليه وسلم يعني: من مثل محمد صلى الله عليه وسلم أمي لا يحسن الخط والكتابة [ قال محمود هاهنا من مثله دون سائر السور، لأن من للتبعيض وهذه السورة أول القرآن بعد الفاتحة فأدخل من ليعلم أن التحدي واقع على جميع سور القرآن، ولو أدخل من في سائر السور كان التحدي واقعاً على جميع سور القرآن، ولو أدخل خفي سائر السور كان التحدي واقعاً على بعض السور ].
" وادعوا شهداءكم " أي واستعينوا بآلهتكم التي تعبدونها " من دون الله " وقال مجاهد : ناساً يشهدون لكم " إن كنتم صادقين " أن محمداً صلى الله عليه وسلم يقوله من تلقاء نفسه فلما تحداهم عجزوا فقال
23-" وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فاتوا بسورة " لما قرر وحدانيته تعالى وبين الطريق الموصل إلى العلم بها ، ذكر عقيبه ما هو الحجة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو القرآن المعجز بفصاحته التي بذت فصاحة كل منطق وإفحامه ، من طولب بمعارضته من مصاقع الخطباء من العرب العرباء مع كثرتهم وإفراطهم في المضادة والمضارة ، و تهالكهم على المعازة والمعارة ، وعرف ما يتعرف به إعجازه ويتيقن أنه من عند الله كما يدعيه . وإنما قال " مما نزلنا " لأن نزوله نجماً منجماً بحسب الوقائع على ما ترى أهل الشعر والخطابة مما يريبهم ، كما حكى الله عنهم فقال " وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة " فكان الواجب تحديهم على هذا الوجه إزاحة للشبهة وإلزاماً للحجة ، وأضاف العبد إلى نفسه تعالى تنويهاً بذكره ، وتنبيهاً على أنه مختص به منقاد لحمه تعالى ، وقرئ عبادنا يريد محمد صلى الله عليه وسلم وأمته . والسورة الطائفة من القرآن المترجمة التي أقلها ثلاث آيات ، وهي إن جعلت واوها أصلية منقولة من سور المدينة لأنها محيطة بطائفة من القرآن مفرزة محوزة على حيالها ، أو محتوية على أنواع من العلم احتواء سور المدينة على ما فيها ، أو من السور التي هي الرتبة ، قال النابغة :
ولرهط حراب وقدً سورة في المجد ليس غرابها بمطار
لأن السور كالمنازل والمراتب يترقى فيها القارئ ، أولها مراتب في الطول والقصر والفضل والشرف وثواب القراءة . وإن جعلت مبدلة من الهمزة فمن السورة التي هي البقية والقطعة من الشئ . والحكمة في تقطيع القرآن سوراً : إفراد الأنواع ، وتلاحق الأشكال ، وتجاوب النظم ، وتنشيط القارئ ، وتسهيل الحفظ ، والترغيب فيه ، فإنه إذا ختم سورة نفس ذلك عنه ، كالمسافر إذا علم أنه قطع ميلاً أو طوى بريداً ، والحافظ متى حذفها اعتقد أنه أخذ من القرآن حظاً تاماً ،وفاز بطائفة محدودة مستقلة بنفسها ، فعظم ذلك عنده و ابتهج به إلى غير ذلك من الفوائد .
" من مثله " صفة سورة أي : بسورة كائنة من مثله ، والضمير لما نزلنا ، و ( من ) للتبعيض أو للتبيين . وزائدة عند الأخفش أي بسورة مماثلة للقرآن العظيم في البلاغة وحسن النظم . أو لعبدنا ، و ( من ) للابتداء أي : بسورة كائنة ممن هو على حاله عليه الصلاة والسلام من كونه بشراً أمياً لم يقرأ الكتب ولم يتعلم العلوم . أو صلة " فأتوا " ، والضمير للعبد صلى الله عليه وسلم ، والرد إلى المنزل أوجه لأنه المطابق لقوله تعالى " فاتوا بسورة من مثله " ولسائر آيات التحدي ، ولأن الكلام فيه لا في المنزل عليه فحقه أن لا ينفك عنه ليتسق الترتيب والنظم ، ولأن مخاطبة الجم الغفير بأن يأتوا بمثل ما أتى به واحد من أبناء جلدتهم أبلغ في التحدي من أن يقال لهم : ليأت بنحو ما أوتي به هذا آخر مثله ، ولأنه معجز في نفسه لا بالنسبة إليه لقوله تعالى : " قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله " ولأن رده إلى عبدنا يوهم إمكان صدوره ممن لم يكن على صفته ، ولا يلائمه قوله تعالى " وادعوا شهداءكم من دون الله " فإنه أمر يستعينوا بكل من ينصرهم ويعينهم . والشهداء جمع شهيد بمعنى الحاضر ، أو القائم بالشهادة ، أو الناصر أو الإمام . وكأنه سمي به لأنه يحضر النوادي وتبرم بمحضره الأمور ، إذ التركيب للحضور ، إما بالذات أو بالتصور ، ومنه قيل : للمقتول في سبيل الله شهيد لأنه حضر ما كان يرجوه ، أو الملائكة حضروه . ومعنى " دون " أدنى مكان من الشئ ومنه تدوين الكتب ، لأنه إدناء البعض من البعض ، ودونك هذا أي : خذه من أدنى مكان منك ، ثم استعير للرتب فقيل : زيد دون عمرو أي : في الشرف ، ومنه الشئ الدون ، ثم اتسع فيه فاستعمل في كل تجاوز حد إلى حد وتخطي أمر إلى آخر ، قال تعالى : " لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين " أي لا يتجاوزوا ولاية المؤمنين إلى ولاية الكافرين . قال أمية :
يا نفس ما لك دون الله من واق
أي إذا تجاوزت وقاية الله فلا يقيك غيره ، و " من " متعلقة بـ " ادعوا " . والمعنى " وادعوا " للمعارضة من حضركم ، أو رجوتم معونته من إنسكم وجنكم وآلهتكم غير الله سبحانه وتعالى ، فإنه لا يقدر على أن يأتي بمثله إلا الله . أو : " وادعوا " من دون الله شهداء يشهدون لكم بأن ما أتيتم به مثله ، ولا تستشهدوا بالله فإنه من ديدن المبهوت العاجز عن إقامة الحجة . أو بـ" شهداءكم " أي الذين اتخذتموهم من دون الله أولياء وآلهة ، وزعمتم أنها تشهد لكم يوم القيامة . أو الذين يشهدون لكم بين يدي الله تعالى على زعمكم من قول الأعشى :
تريك القذى من دونها وهي دونه
ليعينوكم وفي أمرهم أن يستظهروا بالجماد في معارضة القرآن العزيز غاية التبكيت والتهكم بهم . وقيل : " من دون الله " أي من دون أوليائه ، يعني فصحاء العرب ووجوه المشاهد ليشهدوا لكم أن ما أتيتم به مثله ، فإن العاقل لا يرضى لنفسه أن يشهد بصحة ما اتضح فساده وبان اختلاله .
" إن كنتم صادقين " أنه من كلام البشر ، وجوابه محذوف دل عليه ما قبله . والصدق : الإخبار المطابق وقيل : اعتقاد المخبر أنه كذلك عن دلالة أو أمارة ، لأنه تعالى كذب المنافقين في قولهم : " إنك لرسول الله " ، لما لم يعتقدوا مطابقته ، ورد بصرف التكذيب إلى قولهم " نشهد " ، لأن الشهادة إخبار عما علمه وهم ما كانوا عالمين به .
23. And if ye are in doubt concerning that which We reveal unto Our slave (Muhammad), then produce a sura or the like thereof, and call your witnesses beside Allah if ye are truthful.
23 - And if ye are in doubt as to what we have revealed from time to time to our servant, then produce a Sura like thereunto; and call your witnesses or helpers (if there are any) besides God, if your (doubts) are true.