[البقرة : 222] وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ
(ويسألونك عن المحيض) أي الحيض أو مكانه ماذا يفعل بالنساء فيه (قل هو أذى) قذر أو محله (فاعتزلوا النساء) اتركوا وطأهن (في المحيض) أي وقته أو مكانه (ولا تقربوهن) بالجماع (حتى يطَّهَّرن) بسكون الطاء وتشديدها والهاء وفيه إدغام التاء في الأصل في الطاء أي يغتسلن بعد انقطاعه (فإذا تطهرن فأتوهن) بالجماع (من حيث أمركم الله) بتجنبه في الحيض وهو القبل ولا تعدوه إلى غيره (إن الله يحب) يثيب ويكرم (التوابين) من الذنوب (ويحب المتطهرين) من الأقذار
قوله تعالى ويسألونك عن المحيض الآية روى مسلم والترمذي عن أنس أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوها في البيوت فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل ويسألونك عن المحيض الآية إصنعوا كل شيء إلا النكاح
وأخرج البارودي في الصحابة من طريق ابن إسحق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد عن ابن عباس أن ثابت بن الدحداح سأل النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت ويسألونك عن المحيض الآية وأخرج ابن جرير عن السدي نحوه
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: "ويسألونك عن المحيض" ويسألك يا محمد أصحابك عن الحيض. وقيل: المحيض ، لأن ما كان من الفعل ماضيه بفتح عين الفعل، وكسرها في الاستقبال، مثل قول القائل: ضرب يضرب، وحبس يحبس، ونزل ينزل، فإن العرب تبني مصدره على المفعل والاسم على المفعل، مثل المضرب، والمضرب من ضربت، ونزلت منزلا ومنزلا. ومسموع في ذوات الياء والألف والياء، المعيش والمعاش و المعيب والمعاب، كما قال رؤبة في المعيش:
إليك أشكو شدة المعيش ومر أعوام نتفن ريشي
وانما كان القوم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما ذكر لنا- عن الحيض، لأنهم كانوا قبل بيان الله لهم ما يتبينون من أمره، لا يساكنون حائضا في بيت، ولا يؤاكلونهن في إناء ولا يشاربونهن. فعرفهم الله بهذه الآية، أن الذي عليهم في أيام حيض نسائهم: أن يتجنبوا جماعهن فقط، دون ما عدا ذلك من مضاجعتهن ومؤاكلتهن ومشاربتهن، كما:-حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "ويسألونك عن المحيض" حتى بلغ "حتى يطهرن"، فكان أهل الجاهلية لا تساكنهم حائض في بيت، ولا تؤاكلهم في إناء فأنزل الله تعالى ذكره في ذلك، فحرم فرجها ما دامت حائضا، وأحل ما سوى ذلك: أن تصبغ لك رأسك، وتؤاكلك من طعامك، وأن تضاجعك في فراشك، إذا كان عليها إزار متحجزة به دونك. حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله. وقد قيل: إنهم سألوا عن ذلك، لأنهم كانوا في أيام حيضهن يجتنبون إتيانهن في مخرج الدم، ويأتونهن في أدبارهن، فنهاهم الله عن أن يقربوهن في أيام حيضهن حتى يطهرن، ثم أذن لهم- إذا تطهرن من حيضهن- في إتيانهن من حيث أمرهم باعتزالهن، وحرم إتيانهن في أدبارهن بكل حال. ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال، حدثنا عبد الواحد قال، حدثنا خصيف قال، حدثني مجاهد قال: كانوا يجتنبون النساء في المحيض ويأتونهن في أدبارهن، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأنزل الله: "ويسألونك عن المحيض" إلى " فإذا تطهرن فاتوهن من حيث أمركم الله "- في الفرج، لا تعدوه. وقيل: إن السائل الذي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك كان ثابت بن الدحداح الأنصاري. حدثني بذلك موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي.
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: قل لمن سألك من أصحابك يا محمد عن المحيض: "هو أذى". والأذى هو ما يؤذى به من مكروه فيه. وهو في هذا الموضع يسمى أذى لنتن ريحه وقذره ونجاسته، وهو جامع لمعان شتى من خلال الأذى، غير واحدة. وقد اختلف أهل التأويل في البيان عن تأويل ذلك، على تقارب معاني بعض ما قالوا فيه من بعض. فقال بعضهم: قوله: "قل هو أذى"، قل هو قذر. ذكر من قال ذلك: حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: "قل هو أذى"، قال: أما "أذى" فقذر. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتاده في قوله:"قل هو أذى"، قال: "قل هو أذى"، قال: قذر. وقال آخرون: قل هو دم. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: "ويسألونك عن المحيض قل هو أذى"، قال: الأذى الدم. قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: "فاعتزلوا النساء في المحيض"، فاعتزلوا جماع النساء ونكاحهن في محيضهن، كما:- حدثني علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: "فاعتزلوا النساء في المحيض"، يقول: اعتزلوا نكاح فروجهن. واختلف أهل العلم في الذى يجب على الرجل اعتزاله من الحائض. فقال بعضهم: الواجب على الرجل، اعتزال جميع بدنها أن يباشره بشيء من بدنه. ذكر من قال ذلك:حدثنا ابن بشار قال، حدثنا حماد بن مسعدة قال، حدثنا عوف، عن محمد قال: قلت لعبيدة: ما يحل لي من امرأتي إذا كانت حائضا؟ قال: الفراش واحد، واللحاف شتى. حدثني تميم بن المنتصر قال، أخبرنا يزيد قال، حدثنا محمد، عن الزهري، عن عروة، " عن ندبة مولاة آل عباس قالت: بعثتني ميمونة ابنة الحارث ـ أو: حفصة ابنة عمر ـ إلى امرأة عبد الله بن عباس، وكانت بينهما قرابة من قبل النساء، فوجدت فراشها معتزلا فراشه، فظننت أن ذلك عن الهجران، فسألتها عن اعتزال فراشه فراشها، فقالت: إني طامث، وإذا طمثت اعتزل فراشي. فرجعت فأخبرت بذلك ميمونة- أو حفصة- فردتني إلى ابن عباس، تقول لك أمك: أرغبت عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فو الله لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ينام مع المرأة من نسائه وإنها لحائض، وما بينه وبينها إلا ثوب ما يجاوز الركبتين ". حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب بن عون، عن محمد قال: قلت لعبيدة: ما للرجل من امرأته إذا كانت حائضا؟ قال: الفراش واحد واللحاف شتى، فإن لم يجد إلا أن يرد عليها من ثوبه، رد عليها منه. واعتل قائلو هذه المقالة: بأن الله تعالى ذكره أمر باعتزال النساء في حال حيضهن، ولم يخصص منهن شيئا دون شيء، وذلك عام على جميع أجسادهن، واجب اعتزال كل شيء من أبدانهن في حيضهن. وقال آخرون: بل الذي أمر الله تعالى ذكره باعتزاله منهن، موضع الأذى، وذلك موضع مخرج الدم. ذكر من قال ذلك:حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثني عيينة بن عبد الرحمن بن جوشن قال، حدثنا مروان الأصفر، عن مسروق بن الأجدع قال: قلت لعائشة: ما يحل للرجل من امرأته اذا كانت حائضا؟ قالت: كل شيء إلا الجماع. حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد- وحدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد- عن قتادة قال: ذكر لنا عن عائشة أنها قالت: وأين كان ذو الفراشين وذو اللحافين؟!. حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن مسروق قال: قلت لعائشة: ما يحرم على الرجل من امرأته إذا كانت حائضا؟ قالت: فرجها. حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا أيوب، عن كتاب أبي قلابة: أن مسروقا ركب إلى عائشة فقال: السلام على النبي وعلى أهل بيته. فقالت عائشة: أبو عائشة! مرحبا! فأذنوا له فدخل، فقال: إني أريد أن أسألك عن شيء وأنا أستحيي! فقالت: إنما أنا أمك، وأنت ابني ! فقال: ما للرجل من امرأته وهي حائض؟ قالت له: كل شيء إلا فرجها.حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، حدثنا حجاج، عن ميمون بن مهران، عن عائشة قالت: له ما فوق الإزار. حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا أيوب، عن نافع: أن عائشة قالت في مضاجعة الحائض: لا بأس بذلك إذا كان عليها إزار. حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن أبي معشر قال: سألت عائشة: ما للرجل من امرأته إذا كانت حائضا؟ فقالت: كل شيء إلا الفرج. حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن أبي زائدة، عن محمدبن عمرو، عن محمد بن ابراهيم بن الحارث قال، قال ابن عباس: إذا جعلت الحائض على فرجها ثوبا أو ما يكف الأذى، فلا بأس أن يباشر جلدها زوجها. حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا يزيد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أنه سئل: ما للرجل من امرأته إذا كانت حائضا؟ قال: ما فوق الإزار. حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هاشم بن القاسم قال، حدثنا الحكم بن فضيل، عن خالد الحذاء، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: اتق من الدم مثل موضع النعل. حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا أيوب، عن عكرمة، عن أم سلمة قالت في مضاجعة الحائض: لا بأس بذلك إذا كان على فرجها خرقة
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن قال: للرجل من امرأته كل شيء ما خلا الفرج- يعني وهي حائض. حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن عوف، عن الحسن قال: يبيتان في لحاف واحد- يعني الحائض- إذا كان على الفرج ثوب.حدثنا تميم قال، أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن ليث قال: تذاكرنا عند مجاهد الرجل يلاعب امرأته وهي حائض، قال: اطعن بذكرك حيث شئت فيما بين الفخذين والأليتين والسرة، ما لم يكن في الدبر أو الحيض.حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن أبي زائدة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عامر قال
يباشر الرجل امرأته وهي حائض؟ قال: إذا كفت الأذى.حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثني عمران بن حدير قال، سمعت عكرمة يقول: كل شيء من الحائض لك حلال غير مجرى الدم. قال أبو جعفر: وعلة قائل هذه المقالة، قيام الحجة بالأخبار المتواترة "عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يباشر نساءه وهن حيض"، ولو كان الواجب اعتزال جميعهن، لما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما صح ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، علم أن مراد الله تعالى ذكره بقوله: "فاعتزلوا النساء في المحيض"، هو اعتزال بعض جسدها دون بعض. وإذ كان ذلك كذلك، وجب أن يكون ذلك هو الجماع المجمع على تحريمه على الزوج في قبلها، دون ما كان فيه اختلاف من جماعها في سائر بدنها. وقال آخرون: بل الذي أمر الله تعالى ذكره باعتزاله منهن في حال حيضهن، ما بين السرة إلى الركبة، وله ما فوق ذلك ودونه منها. ذكر من قال ذلك:حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن أبي زائدة، عن ابن عون، عن ابن سيرين، عن شريح قال: له ما فوق السرة- وذكر الحائض. حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا، حدثنا ابن إدريس قال، أخبرنا يزيد، عن سعيد بن جبير قال: سئل ابن عباس عن الحائض: ما لزوجها منها؟ فقال: ما فوق الإزار. حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب وابن عون، عن محمد قال: قال شريح: له ما فوق سرتها.
حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن واقد بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر قال: سئل سعيد بن المسيب: ما للرجل من الحائض؟ قال: ما فوق الإزار. وعلة من قال هذه المقالة، صحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما:- حدثني به ابن أبي الشوارب قال، حدثنا عبد الواحد بن زياد قال، حدثنا سليمان الشيباني- وحدثني. أبو السائب قال، حدثنا حفص قال، حدثنا الشيباني- قال حدثنا عبد الله بن شداد بن الهاد قال، سمعت ميمونة تقول: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يباشر امرأة من نسائه وهي حائض، أمرها فأتزرت".حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن الشيباني، عن عبد الله بن شداد، " عن ميمونة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يباشرها وهي حائض فوق الإزار " .
حدثني سفيان بن وكيع قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: كانت إحدانا إذا كانت حائضا، أمرها فأتزرت بإزار ثم يباشرها.حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا المحاربي، عن الشيباني، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن عائشة قالت: كانت إحدانا إذا كانت حائضا أمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تأتزر، ثم يباشرها.ونظائر ذلك من الأخبار التي يطول باستيعاب ذكر جميعها الكتاب.قالوا: فما فعل النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك فجائز، وهو مباشرة الحائض ما دون الإزار وفوقه، وذلك دون الركبة وفوق السرة؟ وما عدا ذلك من جسد الحائض فواجب اعتزاله، لعموم الآية. قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: إن للرجل من امرأته الحائض ما فوق المؤتزر ودونه، لما ذكرنا من العلة لهم. قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأه بعضهم: "حتى يطهرن" بضم الهاء وتخفيفها. وقرأه آخرون بتشديدالهاء وفتحها. وأما الذين قرأوه بتخفيف الهاء وضمها، فإنهم وجهوا معناه إلى: ولا تقربوا النساء في حال حيضهن حتى ينقطع عنهن دم الحيض ويطهرن. وقال بهذا التأويل جماعة من أهل التأويل ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن مهدي ومؤمل قالا، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: "ولا تقربوهن حتى يطهرن"، قال: انقطاع الدم.حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن سفيان،- او عثمان بن الأسود-:
"ولا تقربوهن حتى يطهرن "، حتى ينقطع عنهن الدم.حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عبيد الله العتكي، عن عكرمة في قوله: "ولا تقربوهن حتى يطهرن"، قال: حتى ينقطع الدم. وأما الذين قرأوا ذلك بتشديد الهاء وفتحها، فإنهم عنوا به: حتى يغتسلن بالماء. وشددوا الطاء لأنهم قالوا: معنى الكلمة: حتى يتطهرن، أدغمت التاء في الطاء لتقارب مخرجيهما. قال أبو جعفر: وأولى القرائتين بالصواب في ذلك قراءة من قرأ: حتى يطهرن بتشديدها وفتحها، بمعنى: حتى يغتسلن- لإجماع الجميع على أن حراما على الرجل أن يقرب امرأته بعد انقطاع دم حيضها حتى تطهر. وإنما اختلف في التطهر الذي عناه الله تعالى ذكره، فأحل له جماعها. فقال بعضهم: هو الاغتسال بالماء، لا يحل لزوجها أن يقربها حتى تغسل جميع بدنها.وقال بعضهم: هو الوضوء للصلاة. وقال آخرون: بل هو غسل الفرج، فإذا غسلت فرجها، فذلك تطهرها الذي يحل به لزوجها غشيانها. فإذا كان إجماع من الجميع أنها لا تحل لزوجها بانقطاع الدم حتى تطهر، كان بئنا أن أولى القرائتين بالصواب أنفاهما للبس عن فهم سامعها. وذلك هو الذي اخترنا، إذ كان في قراءة قارئها بتخفيف الهاء وضمها، ما لا يؤمن معه اللبس على سامعها من الخطأ في تأويلها، فيرى أن لزوج الحائض غشيانها بعد انقطاع دم حيضها عنها، وقبل اغتسالها وتطهرها. فتأويل الآية إذا: ويسألونك عن المحيض قل هو أذى، فاعتزلوا جماع نسائكم في وقت حيضهن، ولا تقربوهن حتى يغتسلن فيتطهرن من حيضهن بعد انقطاعه. قال: أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: " فإذا تطهرن فاتوهن "، فإذا اغتسلن فتطهرن بالماء فجامعوهن. فإن قال قائل: أففرض جماعهن حينئذ؟ قيل: لا. فإن قال: فما معنى قوله إذا: " فاتوهن "؟. قيل: ذلك إباحة ما كان منع قبل ذلك من جماعهن، وإطلاق لما كان حظر في حال الحيض،
وذلك كقوله: "وإذا حللتم فاصطادوا" [المائدة: 2]. وقوله: "فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض" [الجمعة: 10]، وما أشبه ذلك.واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "فإذا تطهرن".فقال بعضهم: معنى ذلك، فإذا اغتسلن.ذكر من قال ذلك:حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: "فإذا تطهرن" يقول: فإذا طهرت من الدم وتطهرت بالماء.حدثنا محمد بن بشار قال، حدثني ابن مهدي ومؤمل قالا، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "فإذا تطهرن"، فإذا اغتسلن.حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عبيد الله العتكي، عن عكرمة في قوله: "فإذا تطهرن"، يقول: اغتسلن.حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن سفيان- أو عثمان بن الأسود:- "فإذا تطهرن"، إذا اغتسلن. حدثنا عمران بن موسى، حدثنا عبد الوارث، حدثنا عامر، عن الحسن: في الحائض ترى الطهر، قال: لا يغشاها زوجها حتى تغتسل وتحل لها الصلاة. حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم: أنه كره أن يطأها حتى تغتسل- يعني المرأة إذا طهرت. وقال آخرون: معنى ذلك: فإذا تطهرن للصلاة.ذكر من قال ذلك حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا ليث، عن طاوس ومجاهد أنهما قالا: إذا طهرت المرأة من الدم فشاء زوجها أن يأمرها بالوضوء قبل أن تغتسل- إذا أدركه الشبق فليصب. قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بتأويل الآية، قول من قال: معنى قوله: "فإذا تطهرن"، فإذا اغتسلن، لإجماع الجميع على أنها لا تصير بالوضوء بالماء طاهرا الطهر الذي يحل لها به الصلاة. وإن القول لا يخلو في ذلك من أحد أمرين:إما أن يكون معناه: فإذا تطهرن من النجاسة فأتوهن. فإن كان ذلك معناه، فقد ينبغي أن يكون متى انقطع عنها الدم فجائز لزوجها جماعها، إذا لم تكن هنالك نجاسة ظاهرة. هذا، إن كان قوله: "فإذا تطهرن" جائزا استعماله في التطهر من النجاسة، ولا أعلمه جائزا الا على استكراه الكلام. أو يكون معناه: فإذا تطهرن للصلاة. وفي إجماع الجميع من الحجة على أنه غير جائز لزوجها غشيانها بانقطاع دم حيضها، إذا لم يكن هنالك نجاسة، دون التطهر بالماء إذا كانت واجدته، أدل الدليل على أن معناه: فإذا تطهرن الطهر الذي يجزيهن به الصلاة. وفي إجماع الجميع من الأمة على أن الصلاة لا تحل لها إلا بالاغتسال، أوضح الدلالة على صحة ما قلنا: من أن غشيانها حرام إلا بعد الاغتسال، وأن معنى قوله: "فإذا تطهرن"، فإذا اغتسلن فصرن طواهر الطهر الذي يجزيهن به الصلاة. قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: " فاتوهن من حيث أمركم الله ". فقال بعضهم: معنى ذلك: فأتوا نساءكم إذا تطهرن من الوجه الذي نهيتكم عن إتيانهن منه في حال حيضهن، وذلك: الفرج الذي أمر الله بترك جماعهن فيه في حال الحيض. ذكر من قال ذلك:حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني أبان بن صالح، عن مجاهد قال، قال ابن عباس في قوله: " فاتوهن من حيث أمركم الله "، قال: من حيث أمركم أن تعتزلوهن.حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: " فاتوهن من حيث أمركم الله "، يقول: في الفرج، لا تعدوه إلى غيره، فمن فعل شيئا من ذلك فقد اعتدى. حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا خالد الحذاء، عن عكرمة في قوله: " فاتوهن من حيث أمركم الله "، قال: من حيث أمركم أن تعتزلوا. حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال، حدثنا أبو صخر، عن أبي معاوية البجلي، عن سعيد بن جبير أنه قال: بينا أنا ومجاهد جالسان عند ابن عباس: أتاه رجل فوقف على رأسه فقال: يا أبا العباس- أو: يا أبا الفضل- ألا تشفيني عن آية المحيض؟ قال: بلى! فقرأ: "ويسألونك عن المحيض" حتى بلغ آخر الآية، فقال ابن عباس: من حيث جاء الدم، من ثم أمرت أن تأتي.حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن أبي زائدة، عن عثمان، عن مجاهد قال: دبر المرأة مثله من الرجل، ثم قرأ: "ويسألونك عن المحيض" إلى " فاتوهن من حيث أمركم الله "، قال: من حيث أمركم أن تعتزلوهن.حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" فاتوهن من حيث أمركم الله "، قال: أمروا أن يأتوهن من حيث نهوا عنه.حدثنا ابن أبي الشوارب قال، حدثنا عبد الواحد قال، حدثنا خصيف قال، حدثني مجاهد: " فاتوهن من حيث أمركم الله "، في الفرج، ولا تعدوه.حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبوعاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: " فاتوهن من حيث أمركم الله "، يقول: إذا تطهرن فأتوهن من حيث نهى عنه في المحيض. حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن سفيان- أو: عثمان بن الأسود-: " فاتوهن من حيث أمركم الله " باعتزالهن منه. حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: " فاتوهن من حيث أمركم الله "، أي: من الوجه الذي يأتي منه المحيض، طاهرا غير حائض، ولا تعدوا ذلك إلى غيره. حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله: " فاتوهن من حيث أمركم الله "، قال: طواهر من غير جماع ومن غير حيض، من الوجه الذي يأتي [منه] المحيض، ولا يتعده إلى غيره. قال سعيد: ولا أعلمه الا عن ابن عباس. حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: " فإذا تطهرن فاتوهن من حيث أمركم الله "، من حيث نهيتم عنه في المحيض. وعن أبيه، عن ليث، عن مجاهد في قوله: " فإذا تطهرن فاتوهن من حيث أمركم الله "، من حيث نهيتم عنه، واتقوا الأدبار. حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت أبي، عن يزيد بن الوليد، عن إبراهيم في قوله: " فاتوهن من حيث أمركم الله "، قال: في الفرج. وقال آخرون: معناها: فأتوهن من الوجه الذي أمركم الله فيه أن تأتوهن منه. وذلك الوجه، هو الطهر دون الحيض. فكان معنى قائل ذلك في الآية: فأتوهن من قبل طهرهن لا من قبل حيضهن. ذكر من قال ذلك:حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: " فاتوهن من حيث أمركم الله "، يعني: أن يأتيها طاهرا غير حائض.حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن أبي رزين في قوله: " فاتوهن من حيث أمركم الله "، قال: من قبل الطهر.حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا محمد بن يحيى قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي رزين بمثله.حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن أبي رزين: " فاتوهن من حيث أمركم الله "، يقول: ائتوهن من عند الطهر. حدثني محمد بن عبيد المحاربي قال، حدثنا علي بن هاشم، عن الزبرقان، عن أبي رزين: " فاتوهن من حيث أمركم الله "، قال: من قبل الطهر، ولا تأتوهن من قبل الحيضة. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عبيد الله العتكي، عن عكرمة قوله: " فاتوهن من حيث أمركم الله "، يقول: إذا اغتسلن فأتوهن من حيث أمركم الله. يقول: طواهر غير حيض. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: " فاتوهن من حيث أمركم الله "، قال يقول: طواهر غير حيض.
حدثني موسى بن هارون قال حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله : "من حيث أمركم الله"، من الطهر.حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك: " فاتوهن "، طهرا غير حيض.حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان، عن الضحاك قوله: " فاتوهن من حيث أمركم الله "، قال: ائتوهن طاهرات غير حيض.حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا وكيع قال، حدثنا سلمة بن نبيط، عن الضحاك: " فاتوهن من حيث أمركم الله "، قال: طهرا غير حيض في القبل. وقال آخرون: بل معنى ذلك: فأتوا النساء من قبل النكاح، لا من قبل الفجور. ذكر من قال ذلك: حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا وكيع قال، حدثنا إسماعيل الأزرق، عن أبي عمر لأسدي، عن ابن الحنفية: " فاتوهن من حيث أمركم الله "، قال: من قبل الحلال، من قبل التزويج. قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك عندي قول من قال: معنى ذلك: فأتوهن من بل طهرهن. وذلك أن كل أمر بمعنى، فنهي عن خلافه وضده. وكذلك النهي عن الشيء أمر بضده يخلافه. فلو كان معنى قوله: " فاتوهن من حيث أمركم الله "، فأتوهن من قبل مخرج الدم الذي نهيتكم ن تأتوهن من قبله في حال حيضهن- لوجب أن يكون قوله: "ولا تقربوهن حتى يطهرن"، تأويله: ولا قربوهن في مخرج الدم، دون ما عدا ذلك من أماكن جسدها، فيكون مطلقا في حال حيضها إتيانهن في دبارهن. وفي إجماع الجميع: على أن الله تعالى ذكره لم يطلق في حال الحيض من إتيانهن في أدبارهن شيئا حرمه في حال الطهر، ولا حرم من ذلك في حال الطهر شيئا أحله في حال الحيض، ما يعلم به فساد هذا القول. وبعد، فلو كان معنى ذلك على ما تأوله قائلو هذه المقالة، لوجب أن يكون الكلام: فإذا تطهرن فأتوهن في حيث أمركم الله، حتى يكون معنى الكلام حينئذ على التأويل الذي تأوله، ويكون ذلك أمرا بإتيانهن في فروجهن. لأن الكلام المعروف إذا أريد ذلك، أن يقال: أتى فلان زوجته من قبل فرجها- ولا يقال: أتاها من فرجها- إلا أن يكون أتاها من قبل فرجها في مكان غير الفرج.
فإن قال لنا قائل: فإن ذلك وإن كان كذلك، فليس معنى الكلام: فأتوهن في فروجهن- وإنما معناه: فأتوهن من قبل قبلهن في فروجهن-، كما يقال: أتيت هذا الأمر من مأتاه. قيل له: إن كان ذلك كذلك، فلا شك أن مأتى الأمر ووجهه غيره، وأن ذلك مطلبه. فإن كان ذلك على ما زعمتم، فقد يجب أن يكون معنى قوله: " فاتوهن من حيث أمركم الله "، غير الذي زعمتم أنه معناه بقولكم: ائتوهن من قبل مخرج الدم، ومن حيث أمرتم باعتزالهن- ولكن الواجب أن يكون تأويله على ذلك: فأتوهن من قبل وجوههن في أقبالهن، كما كان قول القائل: ائت الأمر من مأتاه ، إنما معناه: اطلبه من مطلبه، ومطلب الأمر غير الأمر المطلوب. فكذلك يجب أن يكون مأتى الفرج- الذي أمر الله في قولهم بإتيانه- غير الفرج. وإذا كان كذلك، وكان معنى الكلام عندهم: فأتوهن من قبل وجوههن في فروجهن- وجب أن يكون على قولهم محرما اتيانهن في فروجهن من قبل أدبارهن. وذلك إن قالوه، خرج من قاله من قيل أهل الإسلام، وخالف نص كتاب الله تعالى ذكره، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذلك أن الله يقول: "نساؤكم حرث لكم فاتوا حرثكم أنى شئتم"، وأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في إتيانهن في فروجهن من قبل أدبارهن. فقد تبين إذا، إذ كان الأمر على ما وصفنا، فساد تأويل من قال ذلك: فأتوهن في فروجهن حيث نهيتكم عن إتيانهن في حال حيضهن، وصحة القول الذي قلناه، وهو أن معناه: فأتوهن في فروجهن من الوجه الذي أذن الله لكم بإتيانهن، وذلك حال طهرهن وتطهرهن، دون حال حيضهن. قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: "إن الله يحب التوابين"، المنيبين من الإدبار عن الله وعن طاعته، اليه والى طاعته. وقد بينا معنى التوبة قبل. واختلف في معنى قوله: "ويحب المتطهرين".فقال بعضهم: هم المتطهرون بالماء.ذكر من قال ذلك:حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا طلحة، عن عطاء قوله: "إن الله يحب التوابين"، قال: التوابين من الذنوب، "ويحب المتطهرين"، قال: المتطهرين بالماء للصلاة. حدثني أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا طلحة، عن عطاء مثله.حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء: "إن الله يحب التوابين" من الذنوب، لم يصيبوها، "ويحب المتطهرين"، بالماء للصلوات. وقال آخرون: معنى ذلك: "إن الله يحب التوابين"، من الذنوب، "ويحب المتطهرين"، من أدبار النساء أن يأتوها. ذكر من قال ذلك:حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا إبراهيم بن نافع قال، سمعت سليمان مولى أم علي قال، سمعت مجاهدا يقول: من أتى امرأته في دبرها فليس من المتطهرين. وقال آخرون: معنى ذلك: "ويحب المتطهرين"، من الذنوب أن يعودوا فيها بعد التوبة منها.ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد:"يحب التوابين"، من الذنوب، لم يصيبوها، "ويحب المتطهرين" ، من الذنوب، لا يعودون فيها. قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: إن الله يحب التوابين من الذنوب، ويحب المتطهرين بالماء للصلاة. لأن ذلك هو الأغلب من ظاهر معانيه. وذلك أن الله تعالى ذكره ذكر أمر المحيض، فنهاهم عن أمور كانوا يفعلونها في جاهليتهم: من تركهم مساكنة الحائض ومؤ اكلتها ومشاربتها، وأشياء غيرذلك مما كان تعالى ذكره يكرهها من عباده. فلما استفتى أصحاب رسول الله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، أوحى الله تعالى اليه في ذلك، فبين لهم ما يكرهه مما- يرضاه ويحبه، وأخبرهم أنه يحب من خلقه من أناب إلى رضاه ومحبته، تائبا مما يكرهه. وكان مما بين لهم من ذلك، أنه قد حرم عليهم إتيان نسائهم وإن طهرن من حيضهن حتى يغتسلن، ثم قال: ولا تقربوهن حتى يطهرن، فإذا تطهرن فأتوهن، فإن الله يحب المتطهرين، يعني بذلك: المتطهرين من الجنابة والأحداث للصلاة، والمتطهرات بالماء- من الحيضن والنفاس والجنابة والأحداث- من النساء.
وإنما قال: "ويحب المتطهرين"- ولم يقل المتطهرات- وإنما جرى قبل ذلك ذكر التطهر للنساء، لأن ذلك بذكر، المتطهرين لا يجمع الرجال والنساء. ولو ذكر ذلك بذكر المتطهرات، لم يكن للرجال في ذلك حظ، وكان للنساء خاصة. فذكر الله تعالى ذكره بالذكر العام جميع عباده المكلفين، إذ كان قد تعبد جميعهم بالتطهر بالماء، وإن اختلفت الأسباب التي توجب التطهر عليهم بالماء في بعض المعاني، واتفقت في بعض.
فيه أربع عشرة مسألة :
الأولى : قوله تعالى : " ويسألونك عن المحيض " ذكر الطبري عن السدي أن السائل ثابت بن الدحاح وقيل : أسيد بن حضير وعباد بن بشر ، وهو قول الأكثرين وسبب السؤال فيما قال قتادة وغيره ، أن العرب في المدينة ما والاها كانوا قد أستنوا بسنة بني إسرائيل في تجنب مؤاكلة الحائض ومساكنتها ، فنزلت هذه الآية ، وقال مجاهد : كانوا يتجنبون النساء في الحيض ، ويأتونهن في أدبارهن مدة زمن الحيض ، فنزلت ، وفي صحيح مسلم " عن أنس : أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوهن في البيوت ، فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى : " ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض " إلى آخر الآية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اصنعوا كل شيء إلا خالفنا إلا النكاح " ، فبلغ ذلك اليهود ، فقالوا : ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه ، فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر فقالا : يا رسول الله ، إن اليهود تقول كذا وكذا ، أفلا نجامعهن ؟ فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننا أن قد وجد عليهما ، فخرجا فاستقبلهما هدية من لبن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأرسل في آثارهما فسقاهما ، فعرفا أن لم يجد عليهما ، قال علماؤنا : كانت اليهود والمجوس تجتنب الحائض ، وكانت النصارى يجامعون الحيض ، فأمر الله بالقصد بين هذين .
الثانية : قوله تعالى : " عن المحيض " المحيض : الحيض وهو مصدر ، يقال حاضت المرأة حيضاً ومحاضاً ومحيضاً ، فهي حائض ، وحائضة أيضاً ، عن الفراء وأنشد :
كحائضة يزني بها غير طاهر
ونساء حيض وحوائض ، والحيضة : المرة الواحدة ( بالكسر ) الاسم ، والجمع الحيض ، الحيضة أيضاً ، الخرقة التي تستفر بها المرأة قالت عائشة رضي الله عنها : ليتني كنت حيضة ملقاة ، وكذلك المحيضة ، والجمع المحائض ، وقيل : المحيض عبارة عن الزمان والمكان ، وعن الحيض نفسه ، وأصله في الزمان والمكان مجاز في الحيض ، وقال الطبري : المحيض اسم للحيض ، ومثله قول رؤبة في العيش :
إليك أشكو شدة المعيش ومر أعوام نتفن ريشي
وأصل الكلمة من السيلان والإنفجار ، يقال : حاض السيل وفاض ، وحاضت الشجرة أي سالت رطوبتها ، ومنه الحيض أي الحوض ، لأن الماء يحيض إليه أي يسيل ، والعرب تدخل الواو على الياء والياء على الواو ، لأنهما من حيز واحد ، قال ابن عرفة : المحيض والحيض اجتماع الدم إلى ذلك الموضع ، وبه سمي الحوض لاجتماع الماء فيه ، يقال : حاضت المرأة وتحيضت ،ودرست وعركت ، وطمثت ، تحيض حيضاً ومحاضاً ومحيضاً إذا سال الدم منها في أوقات معلومة ، فإذا سال في غير أيام معلومة ، ومن غير عرق المحيض قلت : استحيضت ، فهي مستحاضة ، ابن العربي ،ولها ثمانية اسماء ، الأول حائض ، الثاني عارك الثالث فارك الرابع طامس الخامس دارس ، السادس كابر ، السابع ضاحك ، الثامن طامث ، قال مجاهد في قوله تعالى : " فضحكت " [ هود : 71 ] يعني حاضت ، وقيل في قوله تعالى : " فلما رأينه أكبرنه " [ يوسف : 31 ] يعني حضن ، وسيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى .
الثالثة : أجمع العلماء على أن للمرأة ثلاثة أحكام في رؤيتها الدم الظاهر السائل من فرجها ، فمن ذلك الحيض المعروف ، ودمه أسود خاثر تعلوه حمرة ، تترك له الصلاة والصوم ، لا خلاف في ذلك ، وقد يتصل وينقطع وقد يتصل وينقطع ، فإن اتصل فالحكم ثابت له ، وإن انقطع فرأت الدم يوماً والطهر يوماً ، أو رأت الدم يومين والطهر يومين أو يوماً فإنها تترك الصلاة في أيام الدم ، وتغتسل عند انقطاعه وتصلي ، ثم تلفق أيام الدم وتلغي أيام الطهر المتخللة لها ، ولا تحتسب بها طهراً في عدة ولا استبراء والحيض خلقة في النساء وطبع معتاد معروف منهن ، روى البخاري عن أبي سعيد الخدري قال : " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أضحى أو فطر إلى المصلى فمر على النساء فقال : يا معشر النساء تصدقن فإني أريتكن أكثر أهل النار ، فقلن وبم يا رسول الله ؟ قال : تكثرن اللعن وتكفرن العشير ما رأيت من ناقصات عقل ودين أهذب للب الرجل الحازم من إحداكن ، قلن : وما نقصان عقلنا وديننا يا رسول الله ؟ قال : أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل ، قلن : بلى ، قال : فذلك من نقصان عقلها أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم ، قلن : بلى يا رسول الله ، قال : فذلك من نقصان دينها " .
وأجمع العلماء على أن الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة ، لحديث معاذة قالت : سألت عائشة فقلت : ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة ؟ قالت : أحرورية أنت ؟ قلت : بحرورية ، ولكني أسأل ، قالت : كان يصيبنا ذلك فنؤمر الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة ، خرجه مسلم فإذا أنقطع عنها كان طهرها منه الغسل ، على ما يأتي .
الرابعة : واختلف العلماء في مقدار الحيض ، فقال فقهاء المدينة ، إن الحيض لا يكون أكثر من خمسة عشر يوماً ، وجائز أن يكون خمسة عشر يوماً فما دون ، وما زاد على خمسة عشر يوماً لا يكون حيضاً وإنما هواستحاضة ، هذا مذهب مالك وأصحابه وقد روي عن مالك أنه لا وقت لقليل الحيض ولا لكثيره إلا ما يوجد في النساء ، فكأنه ترك قوله الأول ورجع إلى عادة النساء ، وقال محمد بن مسلمة أقل الطهر خمسة عشر يوماً ، وهو إختيار أكثر البغداديين من المالكيين ، وهو قول الشافعي و أبي حنيفة وأصحابهما و الثوري ، وهو الصحيح في الباب ، لأن الله تعالى قد جعل عدة ذوات الأقراء ثلاث حيض ، وجعل عدة من لا تحيض من كبر أو صغر ثلاثة أشهر ، فكان كل قرء عرضاً من شهر ، والشهر يجمع الطهر والحيض ، فإذا قل الحيض كثر الطهر ، وإذا كثر الحيض قل الطهر ، فلما كان أكثر الحيض خمسة عشر يوماً ليكمل في الشهر الواحد حيض وطهر ، وهو المتعارف في الأغلب من خلقة النساء وجبلتهن مع دلائل القرآن والسنة وقال الشافعي : أقل الحيض يوم وليلة ، وأكثره خمسة عشر يوماً ، وقد روي عنه مثل قول مالك : إن ذلك مردود إلى عرف النساء ، وقال أبو حنيفة وأصحابه ، أقل الحيض ثلاثة أيام ، وأكثره عشرة ، قال ابن عبد البر : ما نقص عند هؤلاء عن ثلاثة أيام فهو استحاضة ، لا يمنع من الصلاة إلا عند أول ظهوره ، لأنه يعلم مبلغ مدته ، ثم على المرأة قضاء صلاة تلك الأوقات ، وكذلك ما زاد على عشرة أيام عند الكوفيين ، وعند الحجازيين ما زاد على خمسة عشر يوماً فهو استحاضة ،وما كان أقل من يوم وليلة عند الشافعي فهو استحاضة ، وهو قول الأوزاعي و الطبري وممن قال أقل الحيض يوم وليلة وأكثره خمسة عشر يوماً عطاء بن أبي رباح و أبو ثور و أحمد بن حنبل ، قال الأوزاعي : وعندنا امرأة تحيض غدوة وتطهر عشية ، وقد أتينا على ما للعلماء في هذا الباب من أكثر الحيض وأقله وأقل الطهر ، وفي الاستظهار ، والحجة في ذلك في المقتبس في شرح موطأ مالك بن أنس ، فإن كانت بكر مبتدأة فإنها تجلس أول ما ترى الدم في قول الشافعي خمسة عشر يوماً ، ثم تغتسل وتعيد صلاة أربعة عشر يوماً ، وقال مالك : لا تقضي الصلاة ويمسك عنها زوجها .
علي بن زياد عنه : تجلس قد لداتها ، وهذا قول عطاء و الثوري وغيرهما ، ابن حنبل : تجلس يوماً وليلة ، ثم تغتسل تصلي ولا يأتيها زوجها ، أبو حنيفة و أبو يوسف : تدع الصلاة عشراً ، ثم تغتسل وتصلي عشرين يوماً ، ثم تترك الصلاة بعد العشرين عشراً ، فيكون هذا حالها حتى ينقطع الدم عنها ، أما التي لها أيام معلومة فإنها تستظهر على أيامها المعلومة بثلاثة أيام ، عن مالك : ما لم تجاوز خمسة عشر يوماً الشافعي : تغتسل إذا انقضت أيامها بغير استظهار .
والثاني من الدماء : دم النفاس عند الولادة ، وله أيضاً عند العلماء حد معلوم اختلفوا فيه ، فقيل : شهران ، وهو قول مالك وقيل : أربعون يوماً ، وهو قول الشافعي وقيل غير ذلك ، وطهرها عند انقطاعه ، والغسل منه كالغسل من الجنابة ، قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب : ودم الحيض والنفاس يمنعان أحد عشر شيئاً : وهي وجوب الصلاة وصحة فعلها وفعل الصوم دون وجوبه وفائدة الفرق لزوم القضاء للصوم ونفيه في الصلاة والجماع في الفرج وما دونه والعدة والطلاق والطواف ومس المصحف ودخول المسجد والاعتكاف فيه ، وفي قراءة القرآن روايتان .
والثالث من الدماء : دم ليس بعادة ولا طبع منهن ولا خلقة ، وإنما هو عرق انقطع ، سائله دم أحمر لا انقطاع له إلا عند البرء منه ، فهذا حكمه أن تكون المرأة منه طاهرة لا يمنعها من صلاة ولا صوم بإجماع من العلماء واتفاق من الآثار المرفوعة إذا كان معلوماً أنه دم عرق لا دم حيض روى مالك عن هشام بن عروة عن أبيه " عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : قالت فاطمة بنت أبي حبيش : يا رسول الله ، إني لا أطهر ! افأدع الصلاة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما ذلك عرق وليس بالحيضة إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي " ، وفي الحديث مع صحته وقلة ألفاظه ما يفسر لك أحكام الحائض والمستحاضة ، وهو أصح ما روي في هذا الباب ، وهو يرد ما روي عن عقبة بن عامر و مكحول : أن الحائض تغتسل وتتوضأ عند كل وقت صلاة ، وتستقبل القبلة ذاكرة الله عز وجل جالسة ، وفيه أن الحائض لا تصلي ، وهو إجماع من كافة العلماء إلا طوائف من الخوارج يرون على الحائض الصلاة ، وفيه ما يدل على أن المستحاضة لا يلزمها غير ذلك الغسل الذي تغتسل من حيضها ، ولو لزمها غيره لأمرها به ،وفيه رد لقول من رأى ذلك عليها لكل صلاة ، ولقول من رأى عليها أن تجمع بين صلاتي النهار بغسل واحد ، وصلاتي الليل بغسل واحد وتغتسل للصبح ، ولقول من قال : تغتسل من طهر إلى طهر ، ولقول سعيد بن المسيب من طهر إلى طهر ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمرها بشيء من ذلك ، وفيه رد لقول من قال بالإستظهار ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها إذا علمت أن حيضتها قد أدبرت وذهبت أن تغتسل وتصلي ، ولم يأمرها أن تترك الصلاة ثلاثة أيام لأنتظار حيض يجيء أو لا يجيء ، والإحتياط إنما يكون في عمل الصلاة لا في تركها .
الخامسة : قوله تعالى : " قل هو أذى " أي هو شيء تتأذى به المرأة وغيرها أي برائحة دم الحيض ، والأذى كناية عن القذر على الجملة ، ويطلق على القول المكروه ، ومنه قوله تعالى : " لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى " [ البقرة : 264 ] ، أي بما تسمعه من المكروه ، ومنه قوله تعالى : " ودع أذاهم " [ الأحزاب : 48 ] ، أي دع أذى المنافقين لا تجازهم إلا أن تؤمر فيهم ، وفي الحديث : " وأميطوا عنه الأذى " يعني بـ(( الأذى )) الشعر الذي كون على رأس الصبي حين يولد ، يحلق عنه يوم أسبوعه ، وهي العقيقة ، وفي حديث الإيمان : " وأدناها إماطة الأذى عن الطريق " ، أي تنحيته ، يعني الشوك والحجر ، وما أشبه ذلك مما يتأذى به المار وقوله تعالى : " ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر " [ النساء : 102 ] وسيأتي .
السادسة : استدل من منع وطء المستحاضة بسيلان دم الإستحاضة ، فقالوا : كل دم فهو أذى ، يجب غسله من الثوب والبدن ، فلا فرق في المباشرة بين دم الحيض والإستحاضة لأنه كله رجس ، وأما الصلاة فرخصة وردت بها السنة كما يصلى بسلس البول ، وهذا قول إبراهيم النخعي و سليمان بن يسار و الحكم بن عيينة و عامر الشعبي و ابن سيرين و الزهري ، وأختلف فيه عن الحسن ، وهو قول عائشة ، لا يأتيها زوجها ، وبه قال ابن علية و المغيرة بن عبد الرحمن ، وكان من أعلى أصحاب مالك ، و أبو مصعب ، وبه كان يفتى ، وقال جمهور العلماء : المستحاضة تصوم وتصلي وتطوف وتقرأ ، ويأتيها زوجها قال مالك : أمر أهل الفقه والعلم على هذا ، وإن كان دمها كثيراً ، رواه ابن وهب ، وكان أحمد يقول : أحب إلي ألا يطأها إلا أن يطول ذلك بها ، وعن ابن عباس في المستحاضة : لا بأس أن يصيبها زوجها وإن كان الدم يسيل على عقبيها وقال مالك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنما ذلك عرق وليس بالحيضة " فإذا لم تكن حيصة فما يمنعه أن يصيبها وهي تصلي ‍ قال ابن عبد البر : لما حكم الله عز وجل في دم المستحاضة بأنه لا يمنع الصلاة وتعبد فيه بعبادة غير عبادة الحائض وجب ألا يحكم له بشيء من حكم الحيض إلا فيما أجمعوا عليه من غسله كسائر الدم .
السابعة : قوله تعالى : " فاعتزلوا النساء في المحيض " أي في زمن الحيض ، إن حملت المحيض على المصدر ، أو في محل الحيض إن حملته على الإسم ، ومقصود هذا النهي ترك المجامعة ، وقد اختلف العلماء في مباشرة الحائض وما يستباح منها ، فروي عن ابن عباس وعبيدة السلماني أنه يجب أن يعتزل الرجل فراش زوجته إذا حاضت ، وهذا قول شاذ خارج عن قول العلماء ، وإن كان عموم الآية يقتضيه فالسنة الثابتة بخلافه ، وقد وقفت على ابن عباس خالته ميمونة وقالت له : أراغب أنت عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ‍ وقال مالك و الشافعي و أبو حنيفة و أبو يوسف وجماعة عظيمة من العلماء ، له منها ما فوق الإزار ، لـ " قوله عليه السلام للسائل حين سأله : ما يحل لي من امرأتي وهي حائض ؟ فقال : لتشد عليها إزارها ثم شأنك بأعلاها " ، و " قوله عليه السلام لعائشة حين حاضت : شدي على نفسك إزارك ثم عودي إلى مضجعك " ، وقال الثوري و محمد بن الحسن وبعض أصحاب الشافعي : يجتنب موضع الدم ، لـ" قوله عليه السلام : اصنعوا كل شيء إلا النكاح " ، وقد تقدم وهو قول داود ، وهو الصحيح من قول الشافعي ، وروى أبو معشر عن إبراهيم عن مسروق قال : سألت عائشة ما يحل لي من امرأتي وهي حائض ؟ فقالت : كل شيء إلا الفرج قال العلماء : مباشرة الحائض وهي متزرة على الاحتياط والقطع للذريعة ، ولأنه لو أباح فخذيها كان ذلك منه ذريعة إلى موض الدم المحرم بإجماع فأمر بذلك إحتياطاً ، والمحرم نفسه موضع الدم ، فتتفق بذلك معاني الآثار ، ولا تضاد ، وبالله التوفيق .
الثامنة : واختلفوا في الذي يأتي امرأته وهي حائض ماذا عليه ، فقال مالك و الشافعي و أبو حنيفة : يستغفر الله ولا شيء عليه ، وهو قول ربيعة و يحيى بن سعيد ، وبه قال داود ، وروي عن محمد بن الحسن : يتصدق بنصف دينار ، وقال أحمد : ما أحسن حديث عبد الحميد عن مقسم عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم : " يتصدق بدينار أو نصف دينار " ، أخرجه أبو داود وقال : هكذا الرواية الصحيحة ، قال : دينار أو نصف دينار ، واستحبه الطبري ، فإن لم يفعل فلا شيء عليه ، وهو قول الشافعي ببغداد ، وقالت فرقة من أهل الحديث : إن وطئ في الدم فعليه دينار ، وإن وطئ في انقطاعه فنصف دينار ، وقال الأوزاعي : من وطئ امرأته وهي حائض تصدق بخمسي دينار ، والطرق لهذا كله في سنن أبو داود و الدارقطني وغيرهما ، وفي كتاب الترمذي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا كان دماً أحمر فدينار وإن كان دماً أصفر فنصف دينار " ، قال أبو عمر : حجة من لم يوجب عليه كفارة إلا الاستغفار والتوبة اضطراب هذا الحديث عن ابن عباس ، وأن مثله لا تقوم به حجة ، وأن الذمة على البراءة ، ولا يجب أن يثبت فيها شيء لمسكين ولا غيره إلا بدليل لا مدفع فيه ولا مطعن عليه ، وذلك معدوم في هذه المسألة .
التاسعة : قوله تعالى : " ولا تقربوهن حتى يطهرن " قال ابن العربي : سمعت الشاشي في مجلس النظر يقول : إذا قيل لا تقرب ( بفتح الراء ) كان معناه : لا تلبس بالفعل ، وإن كان بضم الراء كان معناه : لا تدن منه ، وقرأ نافع و أبو عمرو و ابن كثير و ابن عامر و عاصم في رواية حفص عنه (( يطهرن )) بتشديد الطاء والهاء وفتحهما ، وفي مصحف أبي وعبد الله (( يتطهرن )) ، وفي مصحف أنس بن مالك (( ولا تقربوا النساء في محيضهن واعتزلوهن حتى يتطهرن )) ورجع الطبري قراءة تشديد الطاء ، وقال : هي بمعنى يغتسلن ، لإجماع الجميع على أن حراماً على الرجل أن يقرب امرأته بعد انقطاع الدم حتى تطهر ، قال : وإنما الخلاف في الطهر ما هو ، فقال قوم : هو الإغتسال بالماء ، وقال قوم : هو وضوء كوضوء الصلاة ، وقال قوم : هو غسل الفرج ، وذلك يحلها لزوجها وإن لم تغتسل من الحيضة ، ورجح أبو علي الفارسي قراءة تخفيف الطاء ، إذ هو ثلاثي مضاد لطمث وهو ثلاثي .
العاشرة : قوله تعالى : " فإذا تطهرن " يعني بالماء ، وإليه ذهب مالك وجمهور العلماء وإن الطهر الذي يحل به جماع الحائض الذي يذهب عنها الدم هو تطهرها بالماء كطهر الجنب ، ولا يجزيء من ذلك تيمم ولا غيره ، وبه قال مالك و الشافعي و الطبري و محمد بن مسلمة وأهل المدينة وغيرهم ، وقال يحيى بن بكير و محمد بن كعب القرظي : إذا طهرت الحائض وتيممت حيث لا ماء حلت لزوجها وإن لم تغتسل ، وقال مجاهد و عكرمة و طاوس : إنقطاع الدم يحلها لزوجها ، ولكن بأن تتوضأ ، وقال أبو حنيفة و أبو يوسف و محمد : إن انقطع الدم بعد مضي عشرة أيام جاز له أن يطأها قبل الغسل ، وإن كان إنقطاعه قبل العشرة لم يجز حتى تغتسل أو يدخل عليها وقت الصلاة وهذا تحكم لا وجه له ، وقد حكموا للحائض بعد انقطاع دمها بحكم الحبس في العدة وقالوا لزوجها : عليها الرجعة ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة ، فعلى قياس قولهم هذا لا يجب أن توطأ حتى تغتسل ، مع موافقة أهل المدينة ،ودليلنا أن الله سبحانه علق الحكم فيها على شرطين : أحدهما انقطاع الدم ،وهو قوله تعالى : " حتى يطهرن " ،والثاني الإغتسال بالماء ، وهو قوله تعالى : " فإذا تطهرن " أي يفعلن الغسل بالماء ، وهذا مثل جواز دفع المال على شرطين : أحدهما - بلوغ المكلف النكاح ، والثاني - إيناس الرشد ، وكذلك قوله تعالى في المطلقة : " فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره " [ البقرة : 230 ] ، ثم جاءت السنة بإشتراط العسيلة ، فوقف التحليل على الأمرين جميعاً ، وهو انعقاد النكاح ووجود الوطء ، احتج أبو حنيفة فقال : إن معنى الآية ، الغاية في الشرط هو المذكور في الغاية قبلها ، فيكون قوله : " حتى يطهرن " مخففاً هو بمعنى قوله : " يطهرن " مشدداً بعينه ، ولكنه جمع بين اللغتين في الآية ، كما قال تعالى : " فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين " [ التوبة : 108 ] ، قال الكميت :
وما كانت الأنصار فيها أذلة ولا غيباً فيها إذا الناس غيب ‌
وأيضاً فإن القراءتين كالآيتين فيجب أن يعمل بهما ، ونحن نحمل كل واحدة منهما على معنى ، فنحمل المخففة على ما إذا انقطع دمها للأقل ، فإنا لا نجوز وطأها حتى تغتسل ، لأنه لا يؤمن عوده ، ونحمل القراءة الأخرى على ما إذا انقطع دمها للأكثر فيجوز وطؤها وإن لم تغتسل قال ابن العربي : وهذا أقوى ما لهم ، فالجواب عن الأول : أن ذلك ليس من كلام الفصحاء ، ولا ألسن البلغاء ، فإن ذلك يقتضي التكرار في التعداد ، وإذا أمكن حمل اللفظ على فائدة مجردة لم يحمل على التكرار في كلام الناس ، فكيف في كلام العليم الحكيم ! وعن الثاني : أن كل واحدة منهما محمولة على معنى دون معنى الأخرى ، فيلزمهم إذا انقطع الدم ألا يحكم لها بحكم الحيض قبل أن تغتسل في الرجعة ، وهم لا يقولون ذلك كما بيناه ، فهي إذاً حائض ،والحائض لا يجوز وطؤها اتقاقاً ، وأيضاً ما قالوه يقتضي إباحة الوطء عند انقطاع الدم للأكثر وما قلناه يقتضي الحظر ، وإذا تعارض ما يقتضي الحظر وما يقتضي الإباحة ويغلب باعثاهما غلب باعث الحظر ، كما قال علي وعثمان في الجمع بين الأختين بملك اليمين ، أحلتهما آية وحرمتهما أخرى ، والتحريم أولى ،والله أعلم .
الحادية عشر : واختلف علماؤنا في الكتابية هل تجبر على الإغتسال أم لا ، فقال مالك في رواية ابن القاسم : نعم ، ليحل للزوج وطؤها ، قال الله تعالى : " ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن " يقول بالماء ، ولم يخص مسلمة من غيرها ، وروى أشهب عن مالك أنها لا تجبر على الإغتسال من المحيض ، لأنها غير معتقدة لذلك ، لقوله تعالى : " ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر " [ البقرة : 228 ] ، وهو الحيض والحمل ، وإنما خاطب الله عز وجل بذلك المؤمنات ، وقال : " لا إكراه في الدين " [ البقرة : 256 ] ، وبهذا كان يقول محمود بن عبد الحكم .
الثانية عشر : وصفة غسل الحائض صفة غسلها من الجنابة ، وليس عليها نقض شعرها في ذلك ، لما رواه مسلم ، " عن أم سلمة قالت ، قلت : يا رسول الله ، إني أشد ضفر رأسي أفأنقضه لغسل الجنابة ؟ قال : لا إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين " ، في رواية " أفأنقضه للحيضة والجنابة ؟ فقال : لا " ، زاد أبو داود : " واغمري قرونك عند كل حفنة " ،
الثالثة عشر : قوله تعالى : " فاتوهن من حيث أمركم الله " ، أي فجامعوهن ، وهو أمر إباحة ، وكنى بالإتيان عن الوطء ، وهذا الأمر يقوي ما قلناه من أن المراد بالتطهر الغسل بالماء ، لأن صيغة الأمر من الله تعالى لا تقع إلا على الوجه الأكمل ، والله أعلم و(( من )) بمعنى في ، أي في حيث أمركم الله تعالى وهو القبل ، ونظيره قوله تعالى : " أروني ماذا خلقوا من الأرض " [ فاطر : 40 ] ، أي في الأرض ، وقوله : " إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة " [ الجمعة : 9 ] ، أي في يوم الجمعة ، وقيل : المعنى ، أي من الوجه الذي أذن لكم فيه ، أي من غير صوم وإحرام وإعتكاف ، قاله الأصم وقال ابن عباس و أبو رزين : من قبل الطهر لا من قبل الحيض ، وقاله الضحاك وقال محمد بن الحنفية : المعنى من قبل الحلال لا من قبل الزنى .
الرابعة عشرة : قوله تعالى : " إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين " اختلف فيه ، فقيل : التوابين من الذنوب والشرك ، والمتطهرين أي بالماء من الجنابة والأحداث ، قاله عطاء وغيره ، وقال مجاهد من الذنوب ، وعنه أيضاً : من إتيان النساء في أدبارهن ، ابن عطية : كأنه نظر إلى قوله تعالى حكاية عن قوم لوط : " أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون " [ الأعراف : 82 ] ، وقيل : المتطهرون الذي لم يذنبوا ، فإن قيل : كيف قدم بالذكر الذي أذنب على من لم يذنب ، قيل : قدمه لئلا يقنط التائب من الرحمة ولا يعجب المتطهر بنفسه ، كما ذكر في آية آخرى : " فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات " [ فاطر : 32 ] ، على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى .
قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي, حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت, عن أنس, أن اليهود كانت إذا حاضت المرأة منهم لم يواكلوها ولم يجامعوها في البيوت فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, فأنزل الله عز وجل "ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن" حتى فرغ من الاية, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اصنعوا كل شيء إلا النكاح" فبلغ ذلك اليهود فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئاً, إلا خالفنا فيه, فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر, فقالا: يا رسول الله, إن اليهود قالت: كذا وكذا, أفلا نجامعهن ؟ فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننا أن قد وجد عليهما, فخرجا فاستقبلنهما هدية من لبن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأرسل في آثارهما فسقاهما فعرفا أن لم يجد عليهما, رواه مسلم من حديث حماد بن زيد بن سلمة, فقوله "فاعتزلوا النساء في المحيض" يعني الفرج, لقوله "اصنعوا كل شيء إلا النكاح" ولهذا ذهب كثير من العلماء أو أكثرهم, إلى أنه يجوز مباشرة الحائض فيما عدا الفرج, قال أبو داود أيضاً: حدثنا موسى بن إسماعيل, حدثنا حماد عن أيوب, عن عكرمة, عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم, كان إذا أراد من الحائض شيئاً يلقي على فرجها ثوباً, وقال أبو داود أيضاً: حدثنا القعنبي, حدثنا عبد الله يعني ابن عمر بن غانم, عن عبد الرحمن يعني ابن زياد, عن عمارة بن غراب أن عمة له حدثته أنها سألت عائشة قال: إحدانا تحيض وليس لها ولزوجها فراش إلا فراش واحد, قالت: أخبرك بما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم, دخل فمضى إلى مسجده, قال أبو داود: تعني مسجد بيتها فما انصرف حتى غلبتني عيني فأوجعه البرد فقال ادني مني فقلت: إني حائض, فقال اكشفي عن فخذيك فكشفت فخذي, فوضع خده وصدره على فخذي وحنيت عليه حتى دفىء ونام صلى الله عليه وسلم, وقال أبو جعفر بن جرير : حدثنا عبد الوهاب, حدثنا أيوب عن كتاب أبي قلابة, أن مسروقاً ركب إلى عائشة فقال: السلام على النبي وعلى أهله, فقالت عائشة: مرحباً مرحباً, فأذنوا له فدخل فقال: إني أريد أن أسألك عن شيء وأنا أستحي, فقالت: إنما أنا أمك وأنت ابني, فقال: ما للرجل من امرأته وهي حائض ؟ فقالت له: كل شيء إلا فرجها. ورواه أيضاً عن حميد بن مسعدة, عن يزيد بن زريع, عن عيينة بن عبد الرحمن بن جوشن, عن مروان الأصفر, عن مسروق قال: قلت لعائشة: ما يحل للرجل من امرأته إذا كانت حائضاً ؟ قالت: كل شيء إلا الجماع. وهذا قول ابن عباس ومجاهد والحسن وعكرمة, وروى ابن جرير أيضاً عن أبي كريب عن ابن أبي زائدة, عن حجاج, عن ميمون بن مهران, عن عائشة, قالت له: ما فوق الإزار. (قلت) ويحل مضاجعتها ومواكلتها بلا خلاف, قالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم, يأمرني فأغسل رأسه وأنا حائض, وكان يتكئ في حجري وأنا حائض فيقرأ القرآن. وفي الصحيح عنها, قالت: كنت أتعرق العرق وأنا حائض فأعطيه النبي صلى الله عليه وسلم, فيضع فمه في الموضع الذي وضعت فمي فيه, وأشرب الشراب فأناوله فيضع فمه في الموضع الذي كنت أشرب منه, وقال أبو داود: حدثنا مسدد, حدثنا يحيى عن جابر بن صبح, سمعت خلاساً الهجري قال: سمعت عائشة تقول: كنت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعار الواحد وأنا حائض طامث, فإن أصابه مني شيء غسل مكانه لم يعده وإن أصابه ـ يعني ثوبه ـ شيء غسل مكانه لم يعده وصلى فيه, فأما ما رواه أبو داود حدثنا سعيد بن الجبار , حدثنا عبد العزيز يعني ابن محمد, عن أبي اليمان, عن أم ذرة, عن عائشة أنها قالت: كنت إذا حضت نزلت عن المثال على الحصير, فلم نقرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ندن منه حتى نطهر, فهو محمول على التنزه والاحتياط . وقال آخرون: إنما تحل له مباشرتها فيما عدا ما تحت الإزار, كما ثبت في الصحيحين عن ميمونة بنت الحارث الهلالية قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يباشر امرأة من نسائه أمرها فاتزرت وهي حائض, وهذا لفظ البخاري, ولهما عن عائشة نحوه, وروى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث العلاء, عن حزام بن حكيم, عن عمه عبد الله بن سعد الأنصاري أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يحل لي من امرأتي وهي حائض ؟ قال: ما فوق الإزار. ولأبي داود أيضاً "عن معاذ بن جبل, قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يحل لي من امرأتي وهي حائض ؟ قال: ما فوق الإزار والتعفف عن ذلك أفضل" وهو رواية عن عائشة كما تقدم وابن عباس وسعيد بن المسيب وشريح. فهذه الأحاديث وما شابهها حجة من ذهب إلى أنه يحل ما فوق الإزار منها, وهو أحد القولين في مذهب الشافعي رحمه الله, الذي رجحه كثير من العراقيين وغيرهم, ومأخذهم أنه حريم الفرج فهو حرام لئلا يتوصل إلى تعاطي ما حرم الله عز وجل الذي أجمع العلماء على تحريمه وهو المباشرة في الفرج, ثم من فعل ذلك فقد أثم, فيستغفر الله ويتوب إليه, وهل يلزمه مع ذلك كفارة أم لا ؟ فيه قولان: (أحدهما) نعم, لما رواه الإمام أحمد وأهل السنن عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يأتي امرأته وهي حائض, يتصدق بدينار أو نصف دينار, وفي لفظ للترمذي "إذا كان دماً أحمر فدينار, وإن كان دماً أصفر فنصف دينار" وللإمام أحمد أيضاً عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, جعل في الحائض تصاب ديناراً, فإن أصابها وقد أدبر الدم عنها ولم تغتسل, فنصف دينار. (والقول الثاني) وهو الصحيح الجديد من مذهب الشافعي وقول الجمهور أنه لا شيء في ذلك, بل يستغفر الله عز وجل لأنه لم يصح عندهم رفع هذا الحديث, فإنه قد روي مرفوعاً كما تقدم, وموقوفاً وهو الصحيح عند كثير من أئمة الحديث, فقوله تعالى: "ولا تقربوهن حتى يطهرن" تفسير قوله "فاعتزلوا النساء في المحيض" ونهى عن قربانهن بالجماع ما دام الحيض موجوداً, ومفهومه حله إذا انقطع. قال الإمام أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل فيما أملاه في الطاعة: وقوله " ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فاتوهن من حيث " الاية, الطهر يدل على أن يقربها, فلما قالت ميمونة وعائشة: كانت إحدانا إذا حاضت اتزرت ودخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعاره, دل ذلك على أنه إنما أراد الجماع.
وقوله " فإذا تطهرن فاتوهن من حيث أمركم الله " فيه ندب وإرشاد إلى غشيانهن بعد الاغتسال وذهب ابن حزم إلى وجوب الجماع بعد كل حيضة لقوله " فإذا تطهرن فاتوهن من حيث أمركم الله " وليس له في ذلك مستند, لأن هذا أمر بعد الحظر. وفيه أقوال لعلماء الأصول منهم من يقول إنه على الوجوب كالمطلق, هؤلاء يحتاجون إلى جواب ابن حزم, ومنهم من يقول: إنه للإباحة, ويجعلون تقدم النهي عليه قرينة صارفة له من الوجوب, وفيه نظر , والذي ينهض عليه الدليل أنه يرد عليه الحكم إلى ما كان عليه الأمر قبل النهي, فإن كان واجباً, فواجب كقوله "فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين" أو مباحاً فمباح كقوله "وإذا حللتم فاصطادوا" "فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض" وعلى هذا القول تجتمع الأدلة, وقد حكاه الغزالي وغيره, فاختاره بعض أئمة المتأخرين وهو الصحيح, وقد اتفق العلماء على أن المرأة إذا انقطع حيضها لا تحل حتى تغتسل بالماء أو تتيمم إن تعذر ذلك عليها بشرطه, إلا أن أبا حنيفة رحمه الله يقول, فيما إذا انقطع دمها لأكثر الحيض وهو عشرة أيام عنده: أنها تحل بمجرد الانقطاع ولا تفتقر إلى غسل, والله أعلم, وقال ابن عباس "حتى يطهرن" أي من الدم "فإذا تطهرن" أي بالماء, وكذا قال مجاهد وعكرمة والحسن ومقاتل بن حيان والليث بن سعد وغيرهم.
وقوله "من حيث أمركم الله" قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد: يعني الفرج. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس " فاتوهن من حيث أمركم الله " يقول: في الفرج ولا تعدوه إلى غيره, فمن فعل شيئاً من ذلك فقد اعتدى. وقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة "من حيث أمركم الله" أي تعتزلوهن, وفيه دلالة حينئذ على تحريم الوطء في الدبر, كما سيأتي تقريره قريباً إن شاء الله تعالى. وقال أبو رزين وعكرمة والضحاك وغير واحد " فاتوهن من حيث أمركم الله " يعني طاهرات غير حيض, ولهذا قال "إن الله يحب التوابين" أي من الذنب وإن تكرر غشيانه "ويحب المتطهرين" أي المتنزهين عن الأقذار والأذى, وهو ما نهوا عنه من إتيان الحائض أو في غير المأتي.
وقوله "نساؤكم حرث لكم" قال ابن عباس: الحرث موضع الولد " فاتوا حرثكم أنى شئتم " أي كيف شئتم, قال: سمعت جابراً قال: كانت اليهود تقول: إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول, فنزلت " نساؤكم حرث لكم فاتوا حرثكم أنى شئتم " ورواه مسلم وأبو داود من حديث سفيان الثوري به. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن عبد الأعلى, أخبرنا ابن وهب, أخبرني مالك بن أنس وابن جريج وسفيان بن سعيد الثوري: أن محمد بن المنكدر حدثهم: أن جابر بن عبد الله أخبره أن اليهود قالوا للمسلمين: من أتى امرأة وهي مدبرة جاء الولد أحول, فأنزل الله " نساؤكم حرث لكم فاتوا حرثكم أنى شئتم " قال ابن جريج في الحديث: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "مقبلة ومدبرة إذا كان ذلك في الفرج" وفي حديث بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة القشيري, عن أبيه, عن جده, أنه قال: يا رسول الله, نساؤنا ما نأتي منها وما نذر ؟ قال "حرثك ائت حرثك أنى شئت, غير أن لا تضرب الوجه, ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت" الحديث, رواه أحمد وأهل السنن.
(حديث آخر) ـ قال ابن أبي حاتم حدثنا يونس, أخبرنا ابن وهب, أخبرني ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب, عن عامر بن يحيى, عن حنش بن عبد الله, عن عبد الله بن عباس, قال: أتى ناس من حمير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فسألوه عن أشياء, فقال له رجل: إني أحب النساء فكيف ترى في ؟ فأنزل الله " نساؤكم حرث لكم فاتوا حرثكم أنى شئتم " ورواه الإمام أحمد, حدثنا يحيى بن غيلان, حدثنا رشدين, حدثني الحسن بن ثوبان عن عامر بن يحيى المغافري عن حنش, عن ابن عباس, قال: أنزلت هذه الاية "نساؤكم حرث لكم" في أناس من الأنصار أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه, فقال النبي صلى الله عليه وسلم "ائتها على كل حال إذا كان في الفرج".
(حديث آخر) ـ قال أبو جعفر الطحاوي في كتابه مشكل الحديث: حدثنا أحمد بن داود بن موسى, حدثنا يعقوب بن كاسب, حدثنا عبد الله بن نافع عن هشام بن سعد, عن زيد بن أسلم, عن عطاء بن يسار, عن أبي سعيد الخدري, أن رجلاً أصاب امرأة في دبرها, فأنكر الناس عليه ذلك, فأنزل الله "نساؤكم حرث لكم" الاية, ورواه ابن جرير عن يونس, عن يعقوب, ورواه الحافظ أبو يعلى الموصلي عن الحارث بن شريح, عن عبد الله بن نافع به.
(حديث آخر) ـ قال الإمام أحمد: حدثنا عفان, حدثنا وهيب, حدثنا عبيد الله بن عثمان بن خثيم عن عبد الله بن سابط , قال: دخلت على حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر , فقلت: إني لسائلك عن أمر وأنا أستحي أن أسألك, قالت: فلا تستحي يا ابن أخي, قال: عن إتيان النساء في أدبارهن ؟ قالت: حدثتني أم سلمة أن الأنصار كانوا يحبون النساء وكانت اليهود تقول: إنه من أجبى امرأته, كان ولده أحول, فلما قدم المهاجرون المدينة نكحوا في نساء الأنصار فأجبوهن, فأبت امرأة أن تطيع زوجها وقالت: لن تفعل ذلك حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم, فدخلت على أم سلمة فذكرت لها ذلك, فقالت: اجلسي حتى يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم, استحت الأنصارية أن تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم, فخرجت فسألته أم سلمة, فقال: ادعي الأنصارية فدعتها, فتلا عليها هذه الاية " نساؤكم حرث لكم فاتوا حرثكم أنى شئتم " "صماماً واحداً". ورواه الترمذي عن بندار, عن ابن مهدي, عن سفيان, عن أبي خثيم به, وقال حسن. (قلت) وقد روي من طريق حماد بن أبي حنيفة عن أبيه, عن ابن خثيم, عن يوسف بن ماهك, عن حفصة أم المؤمنين أن امرأة أتتها, فقالت: إن زوجي يأتيني مجبية ومستقبلة فكرهته, فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال "لا بأس إذا كان في صمام واحد".
(حديث آخر) ـ قال الإمام أحمد: حدثنا حسن, حدثنا يعقوب يعني القمي, عن جعفر, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: جاء عمر بن الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: يا رسول الله هلكت, قال ما الذي أهلكك ؟ قال: حولت رحلي البارحة, قال, فلم يرد عليه شيئاً. قال: فأوحى الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الاية " نساؤكم حرث لكم فاتوا حرثكم أنى شئتم " "أقبل وأدبر واتق الدبر والحيضة". ورواه الترمذي عن عبد بن حميد, عن حسن بن موسى الأشيب به, وقال: حسن غريب. وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا الحارث بن شريح, حدثنا عبد الله بن نافع, حدثنا هشام بن سعد عن زيد بن أسلم, عن عطاء بن يسار , عن أبي سعيد, قال: أثفر رجل امرأته على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أثفر فلان امرأته, فأنزل الله عز وجل: " نساؤكم حرث لكم فاتوا حرثكم أنى شئتم ". قال أبو داود: حدثنا عبد العزيز بن يحيى أبو الأصبغ, قال: حدثني محمد يعني ابن سلمة, عن محمد بن إسحاق, عن أبان بن صالح, عن مجاهد عن ابن عباس, قال: إن ابن عمر قال ـ والله يغفر له ـ أوهم وإنما كان الحي من الأنصار, وهم أهل وثن مع هذا الحي من يهود, وهم أهل كتاب, وكانوا يرون لهم فضلاً عليهم في العلم, فكانوا يقتدون كثيراً من فعلهم, وكان من أمر أهل الكتاب لا يأتون النساء إلا على حرف وذلك أستر ما تكون المرأة, فكان هذا الحي من الأنصار قد أخذوا بذلك من فعلهم, وكان هذا الحي من قريش يشرحون النساء شرحاً منكراً, ويتلذذون بهن مقبلات ومدبرات ومستلقيات, فلما قدم المهاجرون المدينة, تزوج رجل منهم امرأة من الأنصار, فذهب يصنع بها ذلك, فأنكرته عليه, وقالت: إنما كنا نؤتى على حرف, فأصنع ذلك, وإلا فاجتنبني, فسرى أمرهما فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأنزل الله " نساؤكم حرث لكم فاتوا حرثكم أنى شئتم " أي مقبلات ومدبرات ومستلقيات يعني بذلك موضوع الولد, تفرد به أبو داود, ويشهد له بالصحة ما تقدم له من الأحاديث ولا سيما رواية أم سلمة, فإنها مشابهة لهذا السياق, وقد روى هذا الحديث الحافظ أبو القاسم الطبراني من طريق محمد بن إسحاق, عن أبان بن صالح, عن مجاهد, قال, عرضت المصحف على ابن عباس من فاتحته إلى خاتمته, أوقفه عند كل آية منه, وأسأله عنها, حتى انتهيت إلى هذه الاية " نساؤكم حرث لكم فاتوا حرثكم أنى شئتم " فقال ابن عباس: إن هذا الحي من قريش كانوا يشرحون النساء بمكة ويتلذذون بهن, فذكر القصة بتمام سياقها, وقول ابن عباس إن ابن عمر ـ والله يغفر له ـ أوهم, كأنه يشير إلى ما رواه البخاري: حدثنا إسحاق حدثنا النضر بن شميل, أخبرنا ابن عون عن نافع, قال, كان ابن عمر إذا قرأ القرآن لم يتكلم حتى يفرغ منه, فأخذت عنه يوماً فقرأ سورة البقرة حتى انتهى إلى مكان قال: أتدري فيم أنزلت ؟ قلت: لا. قال: أنزلت في كذا وكذا, ثم مضى, وعن عبد الصمد قال, حدثني أبي, حدثنا أيوب عن نافع, عن ابن عمر " فاتوا حرثكم أنى شئتم " قال: أن يأتيها في... هكذا رواه البخاري, وقد تفرد به من هذا الوجه. وقال ابن جرير, حدثني يعقوب, حدثنا ابن عون عن نافع, قال قرأت ذات يوم " نساؤكم حرث لكم فاتوا حرثكم أنى شئتم " فقال ابن عمر أتدري فيم نزلت ؟ قلت: لا. قال: نزلت في إيتان النساء في أدبارهن. وحدثني أبو قلابة. حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث, حدثني أبي عن أيوب, عن نافع, عن ابن عمر " فاتوا حرثكم أنى شئتم " قال: في الدبر. وروي من حديث مالك عن نافع عن ابن عمر ولا يصح. وروى النسائي عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم, عن أبي بكر بن أبي أويس, عن سليمان بن بلال, عن زيد بن أسلم, عن ابن عمر, أن رجلاً أتى امرأته في دبرها فوجد في نفسه من ذلك وجداً شديداً, فأنزل الله " نساؤكم حرث لكم فاتوا حرثكم أنى شئتم ". قال أبو حاتم الرازي, لو كان هذا عند زيد بن أسلم عن ابن عمر, لما أولع الناس بنافع, وهذا تعليل منه لهذا الحديث. وقد رواه عبد الله بن نافع عن داود بن قيس, عن زيد بن أسلم, عن عطاء بن يسار, عن ابن عمر, فذكره, وهذا الحديث محمول على ما تقدم وهو أنه يأتيها في قبلها من دبرها, لما رواه النسائي عن علي بن عثمان النفيلي عن سعيد بن عيسى, عن الفضل بن فضالة عن عبد الله بن سليمان الطويل, عن كعب بن علقمة, عن أبي النضر, أنه أخبره أنه قال لنافع مولى ابن عمر, أنه قد أكثر عليك القول, أنك تقول عن ابن عمر أنه أفتى أن تؤتى النساء في أدبارهن, قال: كذبوا علي, ولكن سأحدثك كيف كان الأمر, إن ابن عمر عرض المصحف يوماً وأنا عنده حتى بلغ " نساؤكم حرث لكم فاتوا حرثكم أنى شئتم " فقال: يا نافع, هل تعلم من أمر هذه الاية ؟ قلت: لا. قال, إنا كنا معشر قريش نجبي النساء, فلما دخلنا المدينة ونكحنا نساء الأنصار أردن منها مثل ما كنا نريد, فإذا هن قد كرهن ذلك وأعظمنه وكانت نساء الأنصار قد أخذن بحال اليهود إنما يؤتين على جنوبهن, فأنزل الله " نساؤكم حرث لكم فاتوا حرثكم أنى شئتم " وهذا إسناد صحيح, وقد رواه ابن مردويه عن الطبراني, عن الحسين بن إسحاق, عن زكريا بن يحيى الكاتب العمري, عن مفضل بن فضالة, عن عبد الله بن عياش, عن كعب بن علقمة, فذكره, وقد روينا عن ابن عمر خلاف ذلك صريحاً, وأنه لا يباح ولا يحل كما سيأتي, وإن كان قد نسب هذا القول إلى طائفة من فقهاء المدينة وغيرهم, وعزاه بعضهم إلى الإمام مالك في كتاب السر, وأكثر الناس ينكر أن يصح ذلك عن الإمام مالك رحمه الله. وقد وردت الأحاديث المروية من طرق متعددة بالزجر عن فعله وتعاطيه, فقال الحسن بن عرفة: حدثنا إسماعيل بن عياش عن سهيل بن أبي صالح, عن محمد بن المنكدر, عن جابر, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "استحيوا إن الله لا يستحي من الحق, لا يحل أن تأتوا النساء في حشوشهن". وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن, حدثنا سفيان عن عبد الله بن شداد, عن خزيمة بن ثابت, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يأتي الرجل امرأته في دبرها.
(طريق أخرى) قال أحمد: حدثنا يعقوب, سمعت أبي يحدث عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد, أن عبيد الله بن الحصين الوالبي حدثه أن عبد الله الواقفي, حدثه أن خزيمة بن ثابت الخطمي, حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال "استحيوا إن الله لا يستحي من الحق لا تأتوا النساء في أعجازهن" رواه النسائي وابن ماجه من طريق عن خزيمة بن ثابت وفي إسناده اختلاف كثير.
(حديث آخر) قال أبو عيسى الترمذي والنسائي: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا أبو خالد الأحمر عن الضحاك بن عثمان, عن مخرمة بن سليمان عن كريب, عن ابن عباس, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا ينظر الله إلى رجل أتى رجلاً أو امرأة في الدبر" ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب, وهكذا أخرجه ابن حبان في صحيحه, وصححه ابن حزم أيضاً, ولكن رواه النسائي أيضاً عن هناد, عن وكيع, عن الضحاك به موقوفاً. وقال عبد: أخبرنا عبد الرزاق, أخبرنا معمر عن ابن طاوس, عن أبيه, أن رجلاً سأل ابن عباس عن إتيان المرأة في دبرها, قال: تسألني عن الكفر, إسناده صحيح, وكذا رواه النسائي من طريق ابن المبارك عن معمر به نحوه, وقال عبد أيضاً في تفسيره: حدثنا إبراهيم بن الحاكم عن أبيه عن عكرمة, قال, جاء رجل إلى ابن عباس وقال: كنت آتي أهلي في دبرها, وسمعت قول الله " نساؤكم حرث لكم فاتوا حرثكم أنى شئتم " فظننت أن ذلك لي حلال, فقال: يا لكع إنما قوله: " فاتوا حرثكم أنى شئتم " قائمة وقاعدة ومقبلة ومدبرة في أقبالهن لا تعدوا ذلك إلى غيره.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد, حدثنا قتادة عن عمرو بن شعيب, عن أبيه, عن جده, أن النبي صلى الله عليه وسلم, قال: "الذي يأتي امرأته في دبرها هي اللوطية الصغرى" وقال عبد الله بن أحمد: حدثني هدبة, حدثنا همام, قال: سئل قتادة عن الذي يأتي امرأته في دبرها, فقال قتادة: أخبرنا عمرو بن شعيب عن أبيه, عن جده, أن النبي صلى الله عليه وسلم, قال: "هي اللوطية الصغرى". قال قتادة: وحدثني عقبة بن سعيد القطان عن سعيد بن أبي عروبة, عن قتادة, عن أبي أيوب, عن عبد الله بن عمرو بن العاص قوله, وهذا أصح, والله أعلم. وكذلك رواه عبد بن حميد عن يزيد بن هارون, عن حميد الأعرج, عن عمرو بن شعيب, عن أبيه, عن عبد الله بن عمرو موقوفاً من قوله.
(طريق أخرى) قال جعفر الفريابي: حدثنا ابن لهيعة عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم, عن أبي عبد الرحمن الحبلي, عن عبد الله بن عمر, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "سبعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة, ولا يزكيهم, ويقول ادخلوا النار مع الداخلين: الفاعل, والمفعول به, والناكح يده, وناكح البهيمة, وناكح المرأة في دبرها, وجامع بين المرأة وابنتها, والزاني بحليلة جاره, ومؤذي جاره حتى يلعنه" ابن لهيعة وشيخه ضعيفان.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا سفيان عن عاصم, عن عيسى بن حطان, عن مسلم بن سلام, عن علي بن طلق, قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تؤتى النساء في أدبارهن, فإن الله لا يستحي من الحق, وأخرجه أحمد أيضاً عن أبي معاوية وأبي عيسى الترمذي من طريق أبي معاوية أيضاً, عن عاصم الأحول به, وفيه زيادة, وقال: هو حديث حسن, ومن الناس من يورد هذا الحديث في مسند علي بن أبي طالب كما وقع في مسند الإمام أحمد بن حنبل, والصحيح أنه علي بن طلق.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا معمر عن سهيل بن أبي صالح, عن الحارث بن مخلد, عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم, قال "إن الذي يأتي امرأته في دبرها لا ينظر الله إليه". وقال أحمد أيضاً حدثنا عفان, حدثنا وهيب, حدثنا سهيل عن الحارث بن مخلد, عن أبي هريرة يرفعه, قال "لا ينظر الله إلى رجل جامع امرأته في دبرها", وكذا رواه ابن ماجه من طريق سهيل وقال أحمد أيضاً: حدثنا وكيع عن سهيل بن أبي صالح. عن الحارث بن مخلد, عن أبي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ملعون من أتى امرأته في دبرها", وهكذا رواه أبو داود والنسائي من طريق وكيع به.
(طريق أخرى) قال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني: أخبرنا أحمد بن القاسم بن الريان, حدثنا أبو عبد الرحمن النسائي, حدثنا هناد ومحمد بن إسماعيل واللفظ له, قالا: حدثنا وكيع, حدثنا سفيان عن سهيل بن أبي صالح, عن أبيه, عن أبي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ملعون من أتى امرأة في دبرها" ليس هذا الحديث هكذا في سنن النسائي, وإنما الذي فيه عن سهيل عن الحارث بن مخلد كما تقدم, قال شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي: ورواية أحمد بن القاسم بن الريان هذا الحديث بهذا السند, وهم منه وقد ضعفوه.
(طريق أخرى) ـ رواها مسلم بن خالد الزنجي عن العلاء بن عبد الرحمن, عن أبيه, عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم, قال "ملعون من أتى النساء في أدبارهن" ومسلم بن خالد فيه كلام, والله أعلم.
(طريق أخرى) ـ رواها الإمام أحمد وأهل السنن من حديث حماد بن سلمة عن حكيم الأثرم, عن أبي تميمة الهجيمي, عن أبي هريرة, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال "من أتى حائضاً أو امرأة في دبرها أو كاهناً فصدقه, فقد كفر بما أنزل على محمد" وقال الترمذي: ضعف البخاري هذا الحديث, والذي قاله البخاري في حديث الترمذي عن أبي تيمية: لا يتابع على حديثه.
(طريق أخرى) ـ قال النسائي: حدثنا عثمان بن عبد الله, حدثنا سليمان بن عبد الرحمن من كتابه عن عبد الملك بن محمد الصنعاني, عن سعيد بن عبد العزيز, عن الزهري, عن أبي سلمة رضي الله عنه, عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم, قال "استحيوا من الله حق الحياء لا تأتوا النساء في أدبارهن" تفرد به النسائي من هذا الوجه. قال حمزة بن محمد الكناني الحافظ: هذا حديث منكر باطل من حديث الزهري ومن حديث أبي سلمة ومن حديث سعيد فإن كان عبد الملك سمعه من سعيد, فإنما سمعه بعد الاختلاف, وقد رواه الترمذي عن أبي سلمة أنه كان ينهي عن ذلك, فأما عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم, فلا, انتهى كلامه, وقد أجاد وأحسن الانتقاد, إلا أن عبد الملك بن محمد الصنعاني لا يعرف أنه اختلط , ولم يذكر ذلك أحد غير حمزة عن الكناني وهو ثقة, ولكن تكلم فيه دحيم وأبو حاتم وابن حبان, وقال: لا يجوز الاحتجاج به, والله أعلم. وقد تابعه زيد بن يحيى بن عبيد عن سعيد بن عبد العزيز. وروي من طريقين آخرين عن أبي سلمة, ولا يصح منها كل شيء.
(طريق أخرى) ـ قال النسائي: حدثنا إسحاق بن منصور, حدثنا عبد الرحمن بن مهدي, عن سفيان الثوري, عن ليث بن أبي سليم, عن مجاهد, عن أبي هريرة, قال: إتيان الرجال النساء في أدبارهن كفر, ثم رواه النسائي من طريق الثوري عن ليث, عن مجاهد, عن أبي هريرة مرفوعاً, وكذا رواه من طريق علي بن نديمة عن مجاهد, عن أبي هريرة موقوفاً, ورواه بكر بن خنيس عن ليث, عن مجاهد, عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم, قال: "من أتى شيئاً من الرجال والنساء في الأدبار فقد كفر" والموقف أصح, وبكر بن خنيس ضعفه غير واحد من الأئمة, وتركه آخرون.
(حديث آخر) ـ قال محمد بن أبان البلخي: حدثنا وكيع, حدثني زمعة بن صالح عن ابن طاوس, عن أبيه, وعن عمرو بن دينار, عن عبيد الله بن يزيد بن الهاد, قالا: قال عمر بن الخطاب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله لا يستحي من الحق, لا تأتوا النساء في أدبارهن" وقد رواه النسائي, حدثنا سعيد بن يعقوب الطالقاني عن عثمان بن اليمان عن زمعة بن صالح, عن ابن طاوس عن أبيه, عن ابن الهاد, عن عمر, قال: لا تأتوا النساء في أدبارهن وحدثنا إسحاق بن إبراهيم, حدثنا يزيد بن أبي حكيم عن زمعة بن صالح, عن عمرو بن دينار , عن طاوس, عن عبد الله بن الهاد الليثي, قال: قال عمر رضي الله عنه: استحيوا من الله فإن الله لا يستحي من الحق, لا تأتوا النساء في أدبارهن, والموقوف أصح.
(حديث آخر) ـ قال الإمام أحمد: حدثنا غندر ومعاذ بن معاذ, قالا: حدثنا شعبة عن عاصم الأحول عن عيسى بن حطان, عن مسلم بن سلام, عن طلق بن يزيد أو يزيد بن طلق, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إن الله لا يستحي من الحق, لا تأتوا النساء في أستاههن" وكذا رواه غير واحد عن شعبة, ورواه عبد الرزاق عن معمر , عن عاصم الأحول, عن عيسى بن حطان, عن مسلم بن سلام, عن طلق بن علي, والأشبه أنه علي بن طلق كما تقدم, والله أعلم.
(حديث آخر) ـ قال أبو بكر الأثرم في سننه: حدثنا أبو مسلم الحرمي, حدثنا أخو أنيس بن إبراهيم, أن أباه إبراهيم بن عبد الرحمن بن القعقاع أخبره عن أبيه أبي القعقاع, عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم, قال "محاش النساء حرام" وقد رواه إسماعيل بن عليه وسفيان الثوري وشعبة وغيرهم عن أبي عبد الله الشقري واسمه سلمة بن تمام ثقة, عن أبي القعقاع عن ابن مسعود موقوفاً وهو أصح.
(طريق أخرى) ـ قال ابن عدي: حدثنا أبو عبد الله المحاملي, حدثنا سعيد بن يحيى الثوري, حدثنا محمد بن حمزة, عن زيد بن رفيع, عن أبي عبيدة, عن عبد الله, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تأتوا النساء في أعجازهن" محمد بن حمزة هو الجزري وشيخه فيهما مقال. وقد روي من حديث أبي بن كعب والبراء بن عازب وعقبة بن عامر وأبي ذر وغيرهم, وفي كل منها مقال لا يصح معه الحديث, والله أعلم. وقال الثوري, عن الصلت بن بهرام, عن أبي المعتمر , عن أبي جويرية, قال: سأل رجل علياً عن إتيان المرأة في دبرها, فقال: سفلت, سفل الله بك, ألم تسمع قول الله عز وجل: "أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين". وقد تقدم قول ابن مسعود وأبي الدرداء وأبي هريرة وابن عباس وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه يحرمه. قال أبو محمد عبد الرحمن بن عبد الله الدارمي في مسنده: حدثنا عبد الله بن صالح, حدثنا الليث عن الحارث بن يعقوب, عن سعيد بن يسار أبي الحباب, قال: قلت: لابن عمر : ما تقول في الجواري أيحمض لهن ؟ قال: وما التحميض ؟ فذكر الدبر , فقال: وهل يفعل ذلك أحد من المسلمين ؟ وكذا رواه ابن وهب وقتيبة عن الليث به وهذا إسناد صحيح ونص صريح منه بتحريم ذلك. فكل ما ورد عنه مما يحتمل فهو مردود إلى هذا المحكم. قال ابن جرير: حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم, حدثنا أبو زيد أحمد بن عبد الرحمن بن أحمد بن أبي العمر , حدثني عبد الرحمن بن القاسم عن مالك بن أنس, أنه قيل له: يا أبا عبد الله, إن الناس يروون عن سالم بن عبد الله أنه قال: كذب العبد أو العلج علي أبي عبد الله قال مالك أشهد على يزيد بن رومان أنه أخبرني عن سالم بن عبد الله عن ابن عمر مثل ما قال نافع. فقيل له فإن الحارث بن يعقوب يروي عن أبي الحباب سعيد بن يسار أنه سأل ابن عمر فقال له يا أبا عبد الرحمن إنا نشتري الجواري أفنحمض لهن ؟ فقال وما التحميض ؟ فذكر له الدبر, فقال: ابن عمر: أف أف! وهل يفعل ذلك مؤمن, أو قال مسلم ؟ فقال مالك: أشهد على ربيعة لأخبرني عن أبي الحباب عن ابن عمر مثل ما قال نافع. وروى النسائي عن الربيع بن سليمان, عن أصبغ بن الفرج الفقيه, حدثنا عبد الرحمن بن القاسم, قال: قلت لمالك: إن عندنا بمصر الليث بن سعد يحدث عن الحارث بن يعقوب عن سعيد بن يسار قال: قلت لابن عمر إنا نشتري الجواري أفنحمض لهن؟ قال: وما التحميض؟ قلت: نأتيهن في أدبارهن فقال أف أف أو يعمل هذا مسلم فقال لي مالك فأشهد على سعيد بن يسار, أنه سأل ابن عمر, فقال: لا بأس به. وروى النسائي أيضاً من طريق يزيد بن رومان, عن عبيد الله بن عبد الله: أن ابن عمر كان لا يرى بأساً أن يأتي الرجل المرأة في دبرها. وروى معمر بن عيسى عن مالك أن ذلك حرام. وقال أبو بكر بن زياد النيسابوري: حدثني إسماعيل بن حسين, حدثني إسرائيل بن روح, سألت مالك بن أنس: ما تقول في إتيان النساء في أدبارهن ؟ قال: ما أنتم إلا قوم عرب, هل يكون الحرث إلا موضع الزرع, لا تعدوا الفرج, قلت: يا أبا عبد الله, إنهم يقولون إنك تقول ذلك. قال: يكذبون علي يكذبون علي, فهذا هو الثابت عنه, وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وأصحابهم قاطبة, وهو قول سعيد بن المسيب وأبي سلمة وعكرمة وطاوس وعطاء وسعيد بن جبير وعروة بن الزبير ومجاهد بن جبر والحسن وغيرهم من السلف, أنهم أنكروا ذلك أشد الأنكار, ومنهم من يطلق على فعله الكفر وهو مذهب جمهور العلماء, وقد حكي في هذا شيء عن بعض فقهاء المدينة حتى حكوه عن الإمام مالك, وفي صحته نظر, قال الطحاوي: روى أصبغ بن الفرج عن عبد الرحمن بن القاسم, قال: ما أدركت أحداً أقتدي به في ديني يشك أنه حلال, يعني وطء المرأة في دبرها, ثم قرأ "نساؤكم حرث لكم" ثم قال: فأي شيء أبين من هذا ؟ هذه حكاية الطحاوي, وقد روى الحاكم والدارقطني والخطيب البغدادي عن الإمام مالك من طرق ما يقتضي إباحة ذلك, ولكن في الأسانيد ضعف شديد, وقد استقصاها شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي في جزء جمعه في ذلك, والله أعلم. وقال الطحاوي: حكى لنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم, أنه سمع الشافعي يقول: ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في تحليله ولا تحريمه شيء والقياس أنه حلال وقد روى ذلك أبو بكر الخطيب عن أبي سعيد الصيرفي عن أبي العباس الأصم سمعت محمد بن عبد الله بن عبد الحكم سمعت الشافعي يقول, فذكره, قال أبو نصر الصباغ: كان الربيع يحلف بالله لا إله إلا هو, لقد كذب ـ يعني ابن عبد الحكم ـ على الشافعي في ذلك, لأن الشافعي نص على تحريمه في ستة كتب من كتبه, والله أعلم.
وقوله "وقدموا لأنفسكم" أي من فعل الطاعات مع امتثال ما أنهاكم عنه من ترك المحرمات, ولهذا قال "واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه" أي فيحاسبكم على أعمالكم جميعها "وبشر المؤمنين" أي المطيعين الله فيما أمرهم, التاركين ما عنه زجرهم. وقال ابن جرير: حدثنا القاسم, حدثنا الحسين, حدثني محمد بن عبد الله بن واقد, عن عطاء, قال: أراه عن ابن عباس "وقدموا لأنفسكم" قال: تقول باسم الله التسمية عند الجماع, وقد ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله, قال: باسم الله, اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا, فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك, لن يضره الشيطان أبداً".
قوله: 222- "المحيض" هو الحيض، وهو مصدر، يقال: حاضت المرأة حيضاً ومحيضاً فهي حائض وحائضة، كذا قال الفراء وأنشد:
كحائضة تزني بها غير طاهرة
ونساء حيض وحوائض، والحيضة بالكسرة، المرة الواحدة وقيل: الاسم، وقيل: المحيض عبارة عن الزمان والمكان، وهو مجاز فيهما. وقال ابن جرير الطبري: المحيض اسم الحيض، ومثله قول رؤبة:
إليك أشكو شدة المعيش
أي العيش، وأصل هذه الكلمة من السيلان والانفجار يقال: حاض السيل وفاض، وحاضت الشجرة: أي سالت رطوبتها، ومنه الحيض: أي الحوض، لأن الماء يحوض إليه: أي يسيل. وقوله: "قل هو أذى" أي قل: هو شيء يتأذى به: أي برائحته، والأذى كناية عن القذر ويطلق على القول المكروه ومنه قوله تعالى: "لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى". ومنه قوله تعالى: "ودع أذاهم" وقوله: "فاعتزلوا النساء في المحيض" أي فاجتنبوهن في زمان الحيض إن حمل المحيض على المصدر أو في محل الحيض إن حمل على الإسم. والمراد من هذا الاعتزال ترك المجامعة لا ترك المجالسة أو الملامسة فإن ذلك جائز، بل يجوز الاستمتاع منها بما عدا الفرج أو بما دون الإزار على خلاف في ذلك، وما يروى عن ابن عباس وعبيدة السلماني أنه يجب على الرجل أن يعتزل فراش زوجته إذا حاضت فليس ذلك بشيء، ولا خلاف بين أهل العلم في تحريم وطء الحائض وهو معلوم من ضرورة الدين. قوله: "ولا تقربوهن حتى يطهرن" قرأ نافع وأبو عمرو وابن كثير وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر يطهرن بتشديد الطاء وفتحها وفتح الهاء وتشديدها. وفي مصحف أبي وابن مسعود ويتطهرن والطهر انقطاع الحيض، والتطهر: الاغتسال. وبسبب اختلاف القراء اختلف أهل العلم، فذهب الجمهور إلى أن الحائض لا يحل وطؤها لزوجها حتى تتطهر بالماء. وقال محمد بن كعب القظي ويحيى بن بكير: إذا طهرت الحائض وتيممت حيث لا ماء حلت لزوجها وإن لم تغتسل. وقال مجاهد وعكرمة: إن انقطاع الدم يحلها لزوجها، ولكن تتوضأ. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: إن انقطع دمها بعد مضي عشرة أيام جاز له أن يطأها قبل الغسل، وإن كان انقطاعه قبل العشر لم يجز حتى تغتسل أو يدخل عليها وقت الصلاة. وقد رجح ابن جرير الطبري قراءة التشديد. والأولى أن يقال: إن الله سبحان جعل للحل غايتين كما تقتضيه القراءتان: إحداهما انقطاع الدم، والأخرى التطهر منه، والغاية الأخرى مشتملة على زيادة على الغاية الأولى، فيجب المصير إليها. وقد دل أن الغاية الأخرى هي المعتبرة. قوله تعالى بعد ذلك: "فإذا تطهرن" فإن ذلك يفيد أن المعتبر التطهر، لا مجرد انقطاع الدم. وقد تقرر أن القراءتين بمنزلة الآيتين، فكما أنه يجب الجمع بين الآيتين المشتملة إحداهما على زيادة بالعمل بتلك الزيادة، كذلك يجب الجمع بين القراءتين. قوله: " فاتوهن من حيث أمركم الله " أي فجامعوهن، وكنى عنه بالإتيان. والمراد أنهم يجامعونهن في المأتى الذي أباحه الله، وهو القبل قيل: و"من حيث" بمعنى في حيث، كما في قوله تعالى: "إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة" أي في يوم الجمعة، وقوله: "ماذا خلقوا من الأرض" أي في الأرض، وقيل: إن المعنى من الوجه الذي أذن الله لكم فيه: أي من غير صوم وإحرام واعتكاف، وقيل: إن المعنى من قبل الطهر لا من قبل الحيض، وقيل: من قبل الحلال، لا من قبل الزنا. قوله: "إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين" قيل: المراد التوابون من الذنوب، والمتطهرون من الجنابة والأحداث، وقيل: التوابون من إتيان النساء في أدبارهن، وقيل: من إتيانهن في الحيض، والأول أظهر.
222. قوله تعالى: " ويسألونك عن المحيض " أخبرنا أبو طاهر عمر بن عبد العزيز القاشاني أنا أبو عمر القاسم بن جعفر بن عبد الواحد الهاشمي أنا أبو علي محمد بن أحمد بن عمر اللؤلؤي أنا أبو داود سليمان الأشعث السجستاني أنا موسى بن إسماعيل أنا حماد بن سلمة أنا ثابت البناني عن أنس بن مالك أن اليهود كانت إذا حاضت المرأة أخرجوها من البيت ولم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجامعوها في البيت فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأنزل الله تعالى " ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض " الآية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " جامعوهن في البيوت واصنعوا كل شيء إلا النكاح " فقالت اليهود ما يريد هذا الرجل أن يدع شيئاً من أمرنا إلا حلافنا فيه فجاء أسيد بن حضير و عباد بن بشر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله ان اليهود تقول كذا وكذا أفلا ننكحهن في المحيض؟ فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننا أن قد وجد عليهما فخرجا فاستقبللتهما هدية من لبن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث في آثارهما فسقاهما فظننا أنه لم يجد عليهما.
قوله تعالى: " ويسألونك عن المحيض " أي عن الحيض وهو مصدر حاضت المرأة تحيض حيضاً ومحيضاً كالسير والمسير، وأصل الحيض الانفجار والسلان وقوله " قل هو أذى " أي قذر، والأذى كل ما يكره من كل شيء " فاعتزلوا النساء في المحيض " أراد بالاعتزال ترك الوطء " ولا تقربوهن " أي لا تجامعوهن، أما الملامسة والمضاجعة معها فجائزة.
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا قبيصة أنا سفيان عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة رضي الله عنها قالت: (( كنت اغتسل أنا والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد كلانا جنب وكان يأمرني أن أتزر فيباشرني وأنا حائض وكان يخرج رأسه إلي وهو معتكف فأغسله وأنا حائض )).
أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أبو أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا سعد بن حفص أنا شيبان عن يحيى عن أبي سلمة عن زينب بنت أبي سلمة حدثته عن أم سلمة قالت: (( حضت وأنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخميلة فانسللت فخرجت منها فأخذت ثياب حيضي فلبستها فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنفست؟ قلت: نعم، فدعاني فأدخلني معه في الخميلة )).
أخبرنا أبو القاسم بن عبد الله بن محمد الحنيفي أنا أبو الحارث طاهر بن محمد الطاهري أنا أبو محمد الحسن بن محمد بن حكيم أنا أبو الموجه محمد بن عمرو أنا صدقة أنا وكيع أنا مسعر و سفيان عن المقدام بن شريح عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: (( كنت أشرب وأنا حائض فأناوله النبي صلى الله عليه وسلم فيضع فاه على موضع في وأتعرق العرق فيتناوله فيضع فاه على موضع في )).
فوطء الحائض حرام، ومن فعله يعصي الله عز وجل ويعزره الإمام، إن علم منه ذلك، واختلف أهل العلم في وجوب الكفارة عليه، فذهب أكثرهم إلى أنه لا كفارة عليه فيستغفر الله ويتوب إليه.
وذهب قوم إلى وجوب الكفارة عليه منهم: قتادة و الأوزاعي و أحمد و إسحاق ، لما أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا عبد الرحمن بن أبي شريح أنا القاسم البغوي أنا علي بن الجعد أنا أبو جعفر الرازي عن عبد الكريم بن أبي المخارق عن مقسم عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال رجل جامع امرأته وهي حائض قال: " إن كان الدم عبيطاً فليتصدق بدينار، وإن كان صفرة فبنصف دينار ".ويروى هذا موقوفاً عن ابن عباس، ويمنع الحيض جواز الصلاة ووجوبها، ويمنع جواز الصوم، ولا يمنع وجوبه، حتى إذا طهرت يجب عليها قضاء الصوم ولا يجب قضاء الصلاة، وكذلك النفساء.
أخبرنا أبو عثمان بن اسماعيل الضبي أنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي أنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي أنا أبو عيسى الترمذي أنا علي بن حجر أنا علي بن مسهر عن عبيده بن معتب الضبي عن إبراهيم النخعي عن الأسود عن عائشة قالت: (( كنا نحيض عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نطهر فيأمرنا بقضاء الصيام ولا يأمرنا بقضاء الصلاة )).
ولا يجوز للحائض الطواف بالبيت ولا الاعتكاف في المسجد، ولا مس المصحف، ولا قراءة القرآن، ولا يجوز للزوج غشيانها.
أخبرنا عمر بن عبد العزيز أنا القاسم بن جعفر أنا أبو علي اللؤلؤي أنا أبو داود أنا مسدد أنا عبد الواحد بن زياد أنا أفلت بن خليفة قال: حدثني جسرة بنت دجاجة قالت: سمعت عائشة تقول جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد فقال: " وجهوا هذه البيوت عن المسجد فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب ".
قوله تعالى: " حتى يطهرن " قرأ عاصم برواية أبي بكر و حمزة و الكسائي بتشديد الطاء والهاء يعني: حتى يغتسلن، وقرأ الآخرون بسكون الطاء وضم الهاء، فخفف، ومعناه حتى يطهرن من الحيض وينقطع دمهن " فإذا تطهرن " يعني اغتسلن " فاتوهن " أي فجامعوهن " من حيث أمركم الله " أي من حيث أمركم أن تعتزلوهن منه، وهو الفرج، قاله مجاهد و قتادة و عكرمة ، وقال ابن عباس: طؤوهن في الفرج ولا تعدوه إلى غيره أي اتقوا الأدبار، وقيل (من) بمعنى (في) أي في حيث أمركم الله تعالى وهو الفرج، كقوله تعالى: " إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة " (9-الجمعة) أي في يوم الجمعة وقيل " فاتوهن " من الوجه الذي أمركم الله أن تأتوهن وهو الطهر، وقال ابن الحنفية: من قبل الحلال دون الفجور، وقيل: لا تأتوهن صائمات ولا معتكفات ولا محرمات: وأتوهن وغشيانهن لكم حلال، واعلم أنه لا يرتفع تحريم شيء مما منعه الحيض بانقطاع الدم ما لم تغتسل أو تتيمم عند عدم الماء إلا تحريم الصوم، فإن الحائض إذا انقطع دمها بالليل ونوت الصوم فوقع غسلها بالنهار صح صومها، والطلاق في حال الحيض يكون بدعياً، وإذا طلقها بعد انقطاع الدم قبل الغسل لا يكون بدعياً، وذهب
أبو حنيفة رضي الله عنه إلى أنه إذا انقطع دمها لأكثر الحيض وهو عدة عشرة أيام يجوز للزوج غشيانها قبل الغسل، وقال مجاهد و طاووس : إذا غسلت فرجها جاز للزوج غشيانها قبل الغسل.
وأكثر أهل العلم على التحريم ما لم تغتسل أو تتيمم عند عدم الماء، لأن الله تعالى علق جواز وطئها بشرطين: بانقطاع الدم والغسل، فقال (حتى يطهرن) يعني من الحيض (فإذا تطهرن) يعني اغتسلن (فأتوهن) ومن قرأ يطهرن بالتشديد فالمراد من ذلك: الغسل كقوله تعالى " وإن كنتم جنباً فاطهروا " (6-المائدة) أي فاغتسلوا فدل على أن قبل الغسل لا يحل الوطء.
قوله تعالى: " إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين " قال عطاء و مقاتل بن سليمان و الكلبي : يحب التوابين من الذنوب، ويحب المتطهرين بالماء من الأحداث والنجاسات، وقال مقاتل بن حيان : يحب التوابين من الذنوب والمتطهرين من الشرك، وقال سعيد بن جبير : التوابين من الشرك والمتطهرين من الذنوب، وقال مجاهد التوابين من الذنوب لا يعودون فيها والمتطهرين منها لم يصيبوها، والتواب: الذي كلما أذنب تاب، نظيره قوله تعالى: " فإنه كان للأوابين غفوراً " (25-الاسراء).
222-" ويسألونك عن المحيض " روي ( أن أهل الجاهلية كانوا لا يساكنون الحيض ولا يؤاكلونها ،كفعل اليهود والمجوس ، واستمر ذلك إلى أن سأل أبو الدحداح في نفر من الصحابة عن ذلك فنزلت . والمحيض مصدر كالمجيء والمبيت ،ولعله سبحانه وتعالى إنما ذكر يسألونك بغير واو ثلاثاً ،لأن السؤالات الأول كانت في أوقات متفرقة والثلاثة الأخيرة كانت في وقت واحد فلذلك ذكرها بحرف الجمع . " قل هو أذىً " أي الحيض شيء مستقذر مؤذ من يقربه نفرة منه . " فاعتزلوا النساء في المحيض " فاجتنبوا مجامعتهم لقوله عليه الصلاة والسلام " إنما أمرتم أن تعتزلوا مجامعتهن إذا حضن ولم يأمركم بإخراجهن من البيوت كفعل الأعاجم " . وهو الاقتصاد بين إفراط اليهود ، وتفريط النصارى فإنهم كانوا يجامعوهن ولا يبالون بالحيض . وإنما وصفه بأنه أذى ورتب الحكم عليه بالفاء إشعاراً بأنه العلة . " ولا تقربوهن حتى يطهرن " تأكيد للحكم وبيان لغايته ، وهو أن يغتسلن بعد الانقطاع ويدل عليه صريحاً قراءة حمزة و الكسائي و عاصم في رواية ابن عباس " يطهرن " أي يتطهرن بمعنى يغتسلن والتزاماً لقوله : " فإذا تطهرن فاتوهن " فإنه يقتضي بأخير جواز الإتيان عن الغسل . وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه إذا طهرت لأكثر الحيض جاز قربانها قبل الغسل . " من حيث أمركم الله " أي المأتي الذي أمركم الله به وحلله لكم . " إن الله يحب التوابين " من الذنوب . " ويحب المتطهرين " أي المتنزهين عن الفواحش والأقذار ،كمجامعة الحائض والإتيان في غير المآتي .
222. They question thee (O Muhammad) concerning menstruation. Say: It is an illness, so let women alone at such time and go not in unto them till they are cleansed. And when they have purified themselves, then go in unto them as Allah hath enjoined upon you. Truly Allah loveth those who turn unto Him, and loveth those who have a care for cleanness.
222 - They ask thee concerning women's courses. say: they are a hurt and a pollution, so keep away from women in their courses, and do not approach them until they are clean. but when they have purified themselves, ye may approach them in any manner, time, or place ordained for you by God. for God loves those who turn to him constantly and he loves those who keep themselves pure and clean.