[البقرة : 207] وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ
(ومن الناس من يشري) يبيع (نفسه) أي يبذلها في طاعة الله (ابتغاء) طلب (مرضات الله) رضاه ، وهو صهيب لما آذاه المشركون هاجر إلى المدينة وترك لهم ماله (والله رؤوف بالعباد) حيث أرشدهم لما فيه رضاه
قوله تعالى ومن الناس من يشري نفسه الآية أخرج الحرث بن أبي أسامة في مسنده وابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب قال أقبل صهيب مهاجرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأتبعه نفر من قريش فنزل عن راحلته وانتشل ما في كنانته ثم قال يا معشر قريش لقد علمتم أني من أرماكم رجلا وأيم الله لا تصلون الي حتى أرمي كل سهم معي في كنانتي ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء ثم افعلوا ما شئتم وإن شئتم دللتكم على مالي بمكة وخليتم سبيلي قالوا نعم فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم المدينة قال ربح البيع أبا يحيى ربح أبي يحي ونزلت ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد
واخرج الحاكم في المستدرك نحوه من طريق ابن المسيب عن صهيب موصولا
وأخرج أيضا نحوه من مرسل عكرمة وأخرجه أيضا من طريق جاد بن سلمة عن ثابت عن أنس وفيه التصريح بنزول الآية وقال صحيح على شرط مسلم
وأخرج ابن جرير عن عكرمة قال نزلت في صهيب وأبي ذر وجندب ابن السكن أحد أهل أبي ذر
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه: ومن الناس من يبيع نفسه بما وعد الله المجاهدين في سبيله وابتاع. به أنفسهم بقوله: "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة" [التوبة: 111]. وقد دللنا على أن معنى شرى باع، في غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته. وأما قوله: "ابتغاء مرضاة الله"، فإنه يعني أن هذا الشاري يشري، إذا اشترى طلب مرضاة الله ونصب "ابتغاء" بقوله: "يشري". فكأنه قال: ومن الناس من يشري نفسه، من أجل ابتغاء مرضاة الله، ثم ترك من أجل ، وعمل فيه الفعل. وقد زعم بعض أهل العربية أنه نصب ذلك على الفعل، على "يشري"، كأنه قال: لابتغاء مرضاة الله، فلما نزع اللام عمل الفعل، قال: ومثله: "حذر الموت" [البقرة: 19]، وقال الشاعر، وهو حاتم:
وأغفر عوراء الكريم ادخاره وأعرض عن قول اللئيم تكرما
وقال: لما أذهب اللام أعمل فيه الفعل. وقال بعضهم: أيما مصدر وضع موضع الشرط، وموضع أن ، فتحسن فيها الباء واللام ، كتقول: أتيتك من خوف الشر- ولخوف الشر- وبأن خفت الشر، فالصفة غير معلومة، فحذفت وأقيم المصدر مقامها. قال: ولو كانت الصفة حرفا واحدا بعينه، لم يجز حذفها، كما غير جائز لمن قال: فعلت هذا لك ولفلان أن يسقط اللام ثم اختلف أهل التأويل فيمن نزلت هذه الآية فيه، ومن عني بها.فقال بعضهم: نزلت في المهاجرين والأنصار، وعني بها المجاهدون في سبيل الله. ذكر من قال ذلك:حدثنا الحسين بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله"، قال: المهاجرون والأنصار. وقال بعضهم: نزلت في رجال من المهاجرين بأعيانهم.
ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسمقال، حدثنا الحسين قال، حدثني ابن ابي نجيح، عن ابن جريج، عن عكرمة: "ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله"، قال: نزلت في صهيب بن سنان، وأبي ذر الغفاري جندب بن السكن. أخذ أهل أبي ذر أبا ذز، فانفلت منهم، فقدم على النبي-صلى الله عليه وسلم. فلما رجع مهاجرا عرضوا له، وكانوا بمر الظهران، فانفلت أيضا حتى قدم على النبي عليه السلام. وأما صهيب فأخذه أهله فافتدى منهم بماله، ئم خرج مهاجرا فأدركه قنفذ بن عميربن جدعان، فخرج له مما بقي من ماله وخلى سبيله. حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن ابي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: "ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله " الآية، قال: كان رجل من أهل مكة أسلم فأراد أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ويهاجر إلى المدينة، فمنعوه وحبسوه. فقال لهم: أعطيكم داري ومالي وما كان لي من شيء! فخلوا عني، فألحق بهذا الرجل! فأبوا. ثم إن بعضهم قال لهم: خذوا منه ما كان له من شيء وخلوا عنه! ففعلوا، فأعطاهم داره وماله، ثم خرج. فأنزل الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة: "ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله"، الاية. فلما دنا من المدينة تلقاه عمر في رجال، فقال له عمر: ربح البيع! قال: وبيعك فلا يخسر! قال: وما ذاك؟ قال: أنزل فيك كذا وكذا.وقال آخرون: بل عني بذلك كل شار نفسه في طاعة الله وجهاد في سبيله، أو أمر بمعروف. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا حسين بن الحسن أبو عبد الله قال، حدثنا أبو عون،عن
محمد قال: حمل هشام بن عامر على الصف حتى خرقه، فقالوا: ألقى بيده!! فقال أبو هريرة: "ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله". حدثنا أبو كريب قال، حدثنا مصعب بن المقدام قال، حدثنا إسرائيل، عن طارق. بن عبد الرحمن، عن قيس بن أبي حازم، عن المغيرة قال: بعث عمر جيشا فحاصروا أهل حصن، وتقدم رجل من بجيلة فقاتل فقتل، فأكثر الناس فيه يقولون: ألقى بيده إلى التهلكة! قال: فبلغ ذلك عمر.؟ الخطاب رضي الله عنه فقال: كذبوا! أليس الله عز وجل يقول: "ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد"؟. حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا هشام، عن قتادة قال، حمل هشام بن عامر على الصف حتى شقه، فقال أبو هريرة: "ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله".حدثنا سوار بن عبد الله العنبري قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا حزم بن أبي حزم قال: سمعت الحسن قرأ: "ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد"، أتدرون فيم أنزلت؟ نزلت في أن المسلم لقي الكافر فقال له: قل: لا إله إلا الله فإذا قلتها عصمت دمك ومالك إلا بحقهما! فأبى أن يقولها، فقال المسلم: والله لأشرين نفسي لله! فتقدم فقاتل ! حتى قتل. !حدثني أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا زياد بن أبي مسلم، عن أبي الخليل قال: سمع عمر إنسانا قرأ هذه الاية: "ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله"، قال استرجع عمر فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون! قام رجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فقتل. قال أبو جعفر: والذي هو أولى بظاهر هذه الاية من التأويل، ما روي عن عمربن الخطاب وعن علي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهم، من أن يكون عني بها الامر بالمعروف والناهي عن المنكر. وذلك أن الله جل ثناؤه وصف صفة فريقين: أحدهما منافق يقول بلسانه خلاف ما في نفسه، وإذا قتدر على معصية الله ركبها، وإذا لم يقتدر رامها، واذا نهي أخذته العزة بالإثم بما هو به آثم. والآخر منهما بائع نفسه، طالب من الله رضا الله. فكان الظاهر من التأويل أن الفريق الموصوف بأنه شرى نفسه لله وطلب رضاه، إنما شراها للوثوب بالفريق الفاجر طلب رضا الله. فهذا هو الأغلب الأظهر من تأويل الآية؟ وأما ما روي من نزول الاية في أمر صهيب، فإن ذلك غير مستنكر، إذ كان غير مدفوع جواز نزول اية من عند الله على رسوله صلى الله عليه وسلم بسبب من الأسباب، والمعني بها كل من شمله ظاهرها. فالصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله عز ذكره وصف شاريا نفسه ابتغاء مرضاته، فكل من باع نفسه في طاعته حتى قتل فيها، أو استقتل وإن لم يقتل، فمعني بموله: "ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله"- فى جهاد عدو المسلمين كان ذلك منه، أو في أمر بمعروف أو نهي عن منكر. قد دللنا فيما مضى على معنى الرأفة، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع، وأنها رقة الرحمة. فمعنى ذلك: والله ذو رحمة واسعة بعبده الذي يشري نفسه له في جهاد من حاده في أمره من أهل الشرك والفسوق، وبغيره من عباده المؤمنين في عاجلهم واجل معادهم، فينجز لهم الثواب على ما أبلوا في طاعته في الدنيا، ويسكنهم جناته على ما عملوا فيها من مرضاته.
قوله تعالى : " ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد " .
" ابتغاء " نصب على المفعول من أجله ، ولما ذكر صنيع المنافقين ذكر بعده صنيع المؤمنين ، قيل :
نزلت في صيهب فإنه أقبل مهاجراً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتبعه نفر من قريش ، فنزل عن راحلته ، وانتثل ما في كنانته ، وأخذ قوسه ، وقال : لقد علمتم أني من أرماكم ، وأيم الله لا تصلون إلي حتى أرمي بما في كنانتي ، ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء ، ثم افعلوا ما شئتم ، فقالوا : لا نتركك تذهب عنا غنياً وقد جئتنا صعلوكاً ، ولكن دلنا على مالك بمكة ، ونخلي عنك ، وعاهدوه على ذلك ففعل ، فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم نزلت : " ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله " ، الآية ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ربح البيع أبا يحيى ، وتلا عليه الآية ، أخرجه رزين وقاله سعيد بن المسيب رضي الله عنهما ، وقال المفسرون : أخذ المشركون صهيباً فعذبوه ، فقال لهم صهيب : إني شيخ كبير ، لا يضركم أمنكم كنت أم من غيركم ، فهل لكم أن تأخذوا مالي وتذروني وديني ؟ ففعلوا ذلك ، وكان شرط عليهم راحلة ونفقة ، فخرج إلى المدينة فتلقاه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ورجال ، فقال له أبو بكر : ربح بيعك أبا يحيى ، فقال له صهيب : و بيعك فلا يخسر ، فما ذاك ؟ فقال : أنزل الله فيك كذا ، وقرأ عليه الآية ، وقال الحسن : أتدرون فيمن نزلت هذه الآية ، نزلت في المسلم لقي الكافر فقال له : قل لا إله إلا الله ، فإذا قلتها عصمت مالك ونفسك ، فأبى أن يقولها ، فقال المسلم : والله لأشرين نفسي لله ، فتقدم فقاتل حتى قتل ، وقيل : نزلت فيمن أمر بالمعروف ونهى عن المنكر ، وعلى ذلك تأولها عمر وعلي وابن عباس رضي الله عنهم ، قال علي وابن عباس : اقتتل الرجلان ، أي قال المغير للمفسد : اتق الله ، فأبى المفسد وأخذته العزة ، فشرى المغير نفسه من الله وقاتل فاقتتلا ، وقال أبو الخليل : سمع عمر بن الخطاب إنساناً يقرأ هذه الآية ، فقال عمر : إنا لله وإنا إليه راجعون ، قام رجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فقتل : وقيل : إن عمر سمع ابن عباس يقول : اقتتل الرجلان عند قراءة القارئ هذه الآية ، فسأله عما قال المفسر له هذا التفسير ، فقال له عمر ، لله تلادك يا ابن عباس ! وقيل : نزلت فيمن يقتحم القتال ، حمل هشام بن عامر على الصف في القسطنطينية فقالتل حتى قتل : فقرأ أبو هريرة " ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله " ، ومثله عن أبي أيوب ، وقيل : نزلت في شهداء غزوة الرجيع ، وقال قتادة : هم المهاجرون والأنصار ، وقيل : نزلت في علي رضي الله عنه حين تركه النبي صلى الله عليه وسلم على فراشه ليلة خرج إلى الغار ، على ما يأتي بيانه في (( براءة )) إن شاء الله تعالى ، وقيل : الآية عمامة ، تتناول كل مجاهد ي سبيل الله ، أو مستشهد في ذاته أو مغير منكراً ، وقد تقدم حكم من حمل على الصف ، ويأتي ذكر المغير للمنكر وشروطه وأحكامه في (( آل عمران )) إن شاء الله تعالى .
و(( يشري )) معناه يبيع ، ومنه " وشروه بثمن بخس " [ يوسف : 20 ] ، أي باعوه ، وأصله الاستبدال ، ومنه قوله تعالى : " إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة " [ التوبة : 111 ] ، ومنه قول الشاعر :
وإن كان ريب الدهر أمضاك في الألى شروا هذه الدنيا بجناته الخلد
وقال آخر :
وشربت برداً ليتني من بعد برد كنت هامه
البرد هنا اسم غلام ، وقال آخر :
يعطى بها ثمناً فيمنعها ويقول صاحبها ألا فأشر
وبيع النفس هنا هو بذلها لأوامر الله ، (( إبتغاء )) مفعول من أجله ، ووقف الكسائي على (( مرضات )) بالتاء ، والباقون بالهاء ، قال أبو علي : وقف الكسائي بالتاء إما على لغة من يقول : طلحت وعلقمت ، ومنه قول الشاعر :
بل جوزتيهاء كظهر الحجفت
وإما أنه لما كان هذا المضاف إليه في ضمن اللفظة ولا بد أثبت التاء كما ثبتت في الوصل ليعلم أن المضاف إليه مراد ، والمرضاة الرضا ، يقال : رضي يرضى رضاً ومرضاة ، وحكى قوم أنه يقال : شرى بمعنى اشترى ، ويحتاج إلى هذا من تأول الآية في صهيب ، لأنه اشترى نفسه بماله ولم يبعها ، اللهم إلا أن يقال : إن عرض صهيب على قتالهم بيع لنفسه من الله ، فيستقيم اللفظ على معنى باع .
قال السدي: نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي, جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأظهر الإسلام وفي باطنه خلاف ذلك, وعن ابن عباس, أنها نزلت في نفر من المنافقين تكلموا في خبيب وأصحابه الذين قتلوا بالرجيع وعابوهم, فأنزل الله في ذم المنافقين ومدح خبيب وأصحابه " ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله " وقيل: بل ذلك عام في المنافقين كلهم وفي المؤمنين كلهم, وهذا قول قتادة ومجاهد والربيع بن أنس وغير واحد, وهو الصحيح, وقال ابن جرير: حدثني يونس, أخبرنا ابن وهب, أخبرني الليث بن سعد عن خالد بن أبي هلال, عن القرظي, عن نوف وهو البكالي وكان ممن يقرأ الكتب, قال: إني لأجد صفة ناس من هذه الأمة في كتاب الله المنزل: قوم يحتالون على الدنيا بالدين, ألسنتهم أحلى من العسل, وقلوبهم أمر من الصبر , يلبسون للناس مسوك الضأن, وقلوبهم قلوب الذئاب, يقول الله تعالى: فعلي يجترئون وبي يغترون, حلفت بنفسي لأبعثن عليهم فتنة تترك الحليم فيها حيران, قال القرظي: تدبرتها في القرآن فإذا هم المنافقون فوجدتها "ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه" الاية, وحدثني محمد بن أبي معشر: أخبرني أبو معشر نجيح, قال: سمعت سعيداً المقبري يذاكر محمد بن كعب القرظي, فقال سعيد: إن في بعض الكتب: إن عباداً ألسنتهم أحلى من العسل, وقلوبهم أمر من الصبر, لبسوا للناس مسوك الضأن من اللين, يجترون الدنيا بالدين, قال الله تعالى, علي تجترئون وبي تغترون ؟ وعزتي لأبعثن عليهم فتنة تترك الحليم منهم حيران, فقال محمد بن كعب هذا في كتاب الله, فقال سعيد: وأين هو من كتاب الله ؟ قال: قول الله "ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا" الاية, فقال سعيد: قد عرفت فيمن أنزلت هذه الاية ؟ فقال محمد بن كعب, إن الاية تنزل في الرجل ثم تكون عامة بعد, وهذا الذي قاله القرظي, حسن صحيح, وأما قوله "ويشهد الله على ما في قلبه" فقرأه ابن محيصن "ويشهد الله" بفتح الياء وضم الجلالة "على ما في قلبه" ومعناها أن هذا وإن أظهر لكم الحيل لكن الله يعلم من قلبه القبيح كقوله تعالى: "إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون" وقراءة الجمهور بضم الياء ونصب الجلالة, "يشهد الله على ما في قلبه" ومعناه أنه يظهر للناس الإسلام ويبارز الله بما في قلبه من الكفر والنفاق كقوله تعالى: "يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله" الاية, هذا معنى ما رواه ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد, عن عكرمة, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, وقيل: معناه أنه إذا أظهر للناس الإسلام حلف وأشهد الله لهم أن الذي في قلبه موافق للسانه, وهذا المعنى صحيح, وقاله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم, واختاره ابن جرير وعزاه إلى ابن عباس وحكاه عن مجاهد, والله أعلم.
وقوله "وهو ألد الخصام" الالد في اللغة الأعوج "وتنذر به قوماً لداً" أي عوجاً, وهكذا المنافق في حال خصومته, يكذب ويزور عن الحق ولا يستقيم معه, بل يفتري ويفجر, كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب, وإذا عاهد غدر, وإذا خاصم فجر". وقال البخاري: حدثنا قبيصة, حدثنا سفيان عن ابن جريج, عن ابن مليكة عن عائشة ترفعه, قال "إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم" قال: وقال عبد الله بن يزيد: حدثنا سفيان, حدثنا ابن جريج عن ابن مليكة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم, قال "إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم" وهكذا رواه عبد الرزاق عن معمر في قوله "وهو ألد الخصام" عن ابن جريج, عن ابن أبي مليكة, عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم, قال "إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم".
وقوله "وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد" أي هو أعوج المقال سيء الفعال, فذلك قوله وهذا فعله, كلامه كذب, واعتقاده فاسد, وأفعاله قبيحة, والسعي ـ ههنا ـ هو القصد, كما قال إخباراً عن فرعون " ثم أدبر يسعى * فحشر فنادى * فقال أنا ربكم الأعلى * فأخذه الله نكال الآخرة والأولى * إن في ذلك لعبرة لمن يخشى " وقال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله" أي اقصدوا واعمدوا ناوين بذلك صلاة الجمعة, فإن السعي الحسي إلى الصلاة منهي عنه بالسنة النبوية "إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون, وأتوها وعليكم السكينة والوقار" فهذا المنافق ليس له همة إلا الفساد في الأرض وإهلاك الحرث, وهو محل نماء الزروع والثمار والنسل, وهو نتاج الحيوانات الذين لا قوام للناس إلا بهما وقال مجاهد: إذا سعي في الأرض إفساداً, منع الله القطر فهلك الحرث والنسل "والله لا يحب الفساد" أي لا يحب من هذه صفته, ولا من يصدر منه ذلك.
وقوله "وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم" أي إذا وعظ هذا الفاجر في مقاله وفعاله, وقيل له اتق الله وانزع عن قولك وفعلك وارجع إلى الحق, امتنع وأبى وأخذته الحمية والغضب بالإثم, أي بسبب ما اشتمل عليه من الاثام, وهذه الاية شبيهة بقوله تعالى: " وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير " ولهذا قال في هذه الاية "فحسبه جهنم ولبئس المهاد" أي هي كافيته عقوبة في ذلك وقوله "ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله" لما أخبر عن المنافقين بصفاتهم الذميمة, ذكر صفات المؤمنين الحميدة فقال "ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله" قال ابن عباس وأنس وسعيد بن المسيب وأبو عثمان النهدي وعكرمة وجماعة: نزلت في صهيب بن سنان الرومي وذلك أنه لما أسلم بمكة وأراد الهجرة, منعه الناس أن يهاجر بماله, وإن أحب أن يتجرد منه ويهاجر فعل, فتخلص منهم وأعطاهم ماله, فأنزل الله فيه هذه الاية, فتلقاه عمر بن الخطاب وجماعة إلى طرف الحرة وقالوا له: ربح البيع فقال: وأنتم فلا أخسر الله تجارتكم وما ذاك ؟ فأخبره أن الله أنزل فيه هذه الاية, ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له "ربح البيع صهيب" قال ابن مردويه: حدثنا محمد بن إبراهيم, حدثنا محمد بن عبد الله بن رستة, حدثنا سليمان بن داود, حدثنا جعفر بن سليمان الضبي, حدثنا عوف عن أبي عثمان النهدي عن صهيب, قال: لما أردت الهجرة من مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالت لي قريش يا صهيب قدمت إلينا, ولا مال لك وتخرج أنت ومالك والله لا يكون ذلك أبداً, فقلت لهم: أرأيتم إن دفعت إليكم مالي تخلون عني ؟ قالوا: نعم, فدفعت إليهم مالي, فخلوا عني, فخرجت حتى قدمت المدينة, فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال "ربح صهيب ربح صهيب" مرتين, وقال حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب, قال: أقبل صهيب مهاجراً نحو النبي صلى الله عليه وسلم فاتبعه نفر من قريش, فنزل عن راحلته وأنثل ما في كنانته, ثم قال: يا معشر قريش قد علمتم أني من أرماكم رجلاً, وأنتم والله لا تصلون إلي حتى أرمي بكل سهم في كنانتي, ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء, ثم افعلوا ما شئتم وإن شئتم دللتكم على مالي وقنيتي بمكة وخليتم سبيلي, قالوا: نعم, فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم قال "ربح البيع" قال ونزلت "ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد" وأما الأكثرون فحملوا ذلك على أنها نزلت في كل مجاهد في سبيل الله كما قال تعالى: " إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم " ولما حمل هشام بن عامر بين الصفين أنكر عليه بعض الناس, فرد عليهم عمر بن الخطاب وأبو هريرة وغيرهما, وتلوا هذه الاية "ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد".
207- " ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد " ويشري بمعنى يبيع: أي يبيع نفسه في مرضاة الله كالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومثله قوله تعالى: "وشروه بثمن بخس" وأصله الاستبدال ومنه قوله: "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة"، ومنه قول الشاعر:
وشريت بردا ليتني من بعد برد كنت هامه
ومنه قول الآخر:
يعطي بها ثمناً فيمنعها ويقول صاحبه ألا تشرى
والمرضاة: الرضا، تقول: رضي يرضى، رضا ومرضاة. ووجه ذكر الرأفة هنا أنه أوجب عليهم ما أوجبه ليجازيهم ويثيبهم عليه، فكان ذلك رأفة بهم ولطفاً لهم.
وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: لما أسبت السرية التي فيها عاصم ومرثد قال رجال من المنافقين: يا ويح هؤلاء المقتولين الذي هلكوا هكذا، لا هم قعدوا في أهلهم، ولا هم أدوا رسالة صاحبهم؟ فأنزل الله: "ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا" أي ما يظهر من الإسلام بلسانه "ويشهد الله على ما في قلبه" أنه مخالف لما يقوله بلسانه: "وهو ألد الخصام" أي ذو جدال إذا كلمك وراجعك "وإذا تولى" خرج من عندك "سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد" أي لا يحب عمله ولا يرضى به "ومن الناس من يشري نفسه" الذين يشرون أنفسهم من الله بالجهاد في سبيله والقيام بحقه، حتى هلكوا على ذلك: يعني هذه السرية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن السدي في قوله: "ومن الناس من يعجبك" الآية، قال: نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة أقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وقال: جئت أريد الإسلام ويعلم الله أني لصادق، فأعجب النبي صلى الله عليه وسلم ذلك منه، فذلك قوله: "ويشهد الله على ما في قلبه". ثم خرج من عند النبي صلى الله عليه وسلم فمر بزرع لقوم من المسلمين وحمر، فأحرق الزرع، وعقر الحمر، فأنزل الله "وإذا تولى سعى في الأرض" الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وهو ألد الخصام" قال: هو شديد الخصومة. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد في قوله: "وإذا تولى سعى في الأرض" قال: عمل في الأرض "ويهلك الحرث" قال: نبات الأرض "والنسل" نسل كل شيء من الحيوان الناس والدواب. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد أيضاً أنه سئل عن قوله: "وإذا تولى سعى في الأرض" قال: يلي في الأرض فيعمل فيها بالعدوان والظلم، فيحبس الله بذلك القطر من السماء، فتهلك بحبس القطر الحرث والنسل والله لا يحب الفساد. ثم قرأ مجاهد: "ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس" الآية. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه سئل عن قوله: "ويهلك الحرث والنسل" قال: الحرث الزرع، والنسل: نسل كل دابة. وأخرج ابن المنذر والطبراني والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود قال: إن من أكبر الذنوب عند الله أن يقول الرجل لأخيه: اتق الله، فيقول عليك بنفسك أنت تأمرني. وأخرج ابن المنذر والبيهقي في الشعب عن سفيان قال: قال رجل لمالك بن مغول: اتق الله، فسقط فوضع خده على الأرض تواضعاً لله. وأخرج ابن أبي حاتم وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "ولبئس المهاد" قال: بئس المنزل. وأخرجا عن مجاهد قال: بئس ما شهدوا لأنفسهم. وأخرج ابن مردويه "عن صهيب قال: لما أردت الهجرة من مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالت لي قريش: يا صهيب قدمت إلينا ولا مال لك، وتخرج وأنت ومالك، والله لا يكون ذلك أبداً، فقلت لهم: أرأيتم إن دفعت إليكم مالي تخلون عني؟ قالوا: نعم، فدفعت إليهم مالي فخلوا عني، فخرجت حتى قدمت المدينة، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ربح البيع صهيب مرتين". وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية وابن عساكر عن سعيد بن المسيب نحوه. وأخرج الطبراني والحاكم والبيهقي في الدلائل عن صهيب نحوه. وأخرج ابن المنذر والحاكم وصححه عن أنس قال: نزلت في خروج صهيب إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن جرير عن قتادة قال: هم المهاجرون والأنصار.
207. قوله تعالى: " ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله " أي لطلب رضاء الله تعالى " والله رؤوف بالعباد " روي عن ابن عباس و الضحاك : أن هذه الآية نزلت في سرية الرجيع وذلك أن كفار قريش بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة: إنا قد أسلمنا فابعث إلينا نفراً من علماء أصحابك يعلموننا دينك، وكان ذلك مكراً منهم، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خبيب بن عدي الأنصاري ومرثد بن أبي مرثد الغنوي وخالد بن بكير وعبد الله بن طارق بن شهاب البلوي وزيد بن الدثنة وأمر عليهم عاصم ابن ثابت بن أبي الأفلح الأنصاري، قال أبو هريرة: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة عيناً وأمر عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري فساروا فنزلوا ببطن مكة والمدينة ومعهم تمر عجوة فأكلوا فمرت عجوز فأبصرت النوى فرجعت إلى قومها بمكة وقالت: قد سلك هذا الطريق أهل يثرب من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فركب سبعون رجلاً، منهم معهم الرماح حتى أحاطوا بهم، قال أبو هريرة رضي الله عنه: ذكروا لحي من هذيل يقال لهم بنو لحيان فنفروا لهم بقريب من مائة رجل رام فاقتفوا آثارهم حتى وجدوا مأكلهم التمر في منزل نزلوه فقالوا: تمر يثرب، فاتبعوا آثارهم، فلما أحس بهم عاصم وأصحابه لجأوا إلى فدفد فأحاط بهم القوم فقتلوا مرثداً وخالداً وعبد الله بن طارق، ونثر عاصم بن ثابت كنانته وفيها سبعة أسهم فقتل بكل سهم رجلاً من عظماء المشركين ثم قال: اللهم إني حميت دينك صدر النهار فاحك لحمي آخر النهار، ثم أحاط به المشركون فقتلوه، فلما قتلوه أرادوا حز رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعد بن شهيد وكانت قد نذرت حين أصاب ابنها يوم أحد لئن قدرت على رأس عاصم لتشرين في قحفه الخمر فأرسل الله رجلاً من الدبر - وهي الزنابير - فحمت عاصماً فلم يقدروا عليه فسمي حمي الدبر فقالوا دعوه حتى تمسي فتذهب عنه فنأخذه فجاءت سحابة سوداء وأمطرت مطراً كالعزالي فيعث الله الوادي غديراً فاحتمل عاصماً به فذهب به إلى الجنة وحمل خمسين من المشركين إلى النار وكان عاصم قد أعطى الله تعالى عهداً أن لايمسه مشرك ولا يمس مشركاً أبداً.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول حين بلغه أن الدبر منعته يقول: عجباً لحفظ الله المؤمن كان عاصم نذر أن لا يمسه مشرك ولا يمس مشركاً أبداً فمنعه الله بعد وفاته كما امتنع عاصم في حياته.
وأسر المشركون خبيب بن عدي الأنصاري، وزريد بن الدثنة فذهبوا بهما إلى مكة، فأما خبيب فابتاعه بنو الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف لقتلوه بأبيهم، وكان خبيب هو الذي قتل الحارث يوم بدر، فلبث خبيب عندهم أسيراً حتى أجمعوا على قتله فاستعار من بنات الحارث موسى ليستحد بها فأعارته فدرج بني لها وهي غافلة فما راع المرأة إلا خبيب قد أجلس الصبي على فخذه والموسى بيده، فصاحت المرأة فقال خبيب: أتخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك إن الغدر ليس من شأننا، فقالت المرأة بعد: والله ما رأيت أسيراً خيراً من خبيب، والله لقد وجدته يوماً يأكل قطفاً من عنب في يده وإنه لموثق بالحديد، وما بمكه من ثمرة، إن كان إلا رزقاً رزقه الله خبيباً، ثم إنهم خرجوا من الحرم ليقتلوه في الحل وأرادوا أن يصلبوه فقال لهم خبيب دعوني أصلي ركعتين، فتركوه فكان خبيب هو أول من سن لكل مسلم قتل صبراً الصلاة، فركع ركعتين، ثم قال لولا أن يحسبوا أن ما بي جزع لزدت، اللهم أحصهم عدداً واقتلهم بدداً ولا تبق منهم أحداً ثم أنشأ يقول:
فلست أبالي حين أقتل مسلماً على أي شق كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع
فصلبوه حياً فقال اللهم: إنك تعلم أنه ليس أحد حولي يبلغ سلامي رسولك فأبلغه سلامي، ثم قام أبو سروعة عقبة بن الحرث فقتله.
ويقال: كان رجل من المشركين يقال له سلامان، أبو ميسرة، معه رمح فوضعه بين ثديي خبيب فقال له خبيبك اتق الله فما زاده ذلك إلا عتواً فطعنه فأنفذه وذلك قوله عز وجل " وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم " يعني سلامان. وأما زيد بن الدثنة فابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه أمية بن خلف فبعثه مع مولى له يسمى نسطاس إلى التنعيم ليقتله بأبيه واجتمع رهط من قريش فيهم أبو سفيان بن حرب فقال له أبو سفيلن حين قدم ليقتل: أنشدك الله يا زيد أتحب أن محمداً عندنا الآن بمكانك نضرب عنقه وأنك في أهلك؟ فقال: والله ما أحب أن محمداً صلى الله عليه وسلم الآن في مكانه الذي هو فيه يصيبه شوكة تؤذيه وأنا جالس في أهلي. فقال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحداً يحب أحداً يحب أصحاب محمد محمداً، ثم قتله النسطاس. فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم هذا الخبر قال لأصحابه أيكم (ينزل) خبيباً عن خشبته وله الجنة؟ فقال الزبير: أنا يا رسول الله وصاحبي المقداد بن الأسود، فخرجا يمشيان بالليل ويكمنان بالنهار حتى أتيا التنعيم ليلاً وإذا حول الخشبة أربعون رجلاً من المشركين نائمون نشاوى فأنزلاه فإذا هو رطب ينثي لم يتغير منه شيء بعد أربعين يوماً، ويده على جراحته وهي تبض دماً اللون لون دم والريح ريح المسك، فحمله الزبير على فرسه وسارا فانتبه الكفار وقد فقدوا خبيباً فأخبروا قريشاً فركب منهم سبعون، فلما لحقوهما قذف الزبير خبيباً فابتلعته الأرض فسمي بليع الأرض.
فقال الزبير: ما جرأكم علينا يا معشر قريش، ثم رفع العمامة عن رأسه وقال: أنا الزبير بن العوام وأمي صفية بنت عبد المطلب وصاحبي المقداد بن الأسود أسدان رابضان يدفعان عن شبليهما فإن شئتم ناضلتكم وإن شئتم نازلتكم وإن شئتم انصرفتم، فانصروا إلى مكة، وقدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم وجبريل عنده فقال يا محمد إن الملائكة لتباهي بهذين من أصحابك فنزل في الزبير والمقداد بن الأسود " ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله " حين شريا أنفسهما لإنزال خبيب عن خشبته.
وقال أكثر المفسرين: نزلت في صهيب بن سنان الرومي حين أخذه المشركون في رهط من المؤمنين فعذبوهم، فقال لهم صهيب إني شيخ كبير لا يضركم أمنكم كنت أم من غيركم فهل لكم أن تأخذوا مالي وتذروني وديني؟ ففعلوا، وكان شرط عليهم راحلة ونفقة، فأقام بمكة ما شاء الله ثم خرج إلى المدينة فتلقاه أبو بكر وعمر في رجال، فقال له أبو بكر ربح بيعك يا أبا يحيى، فقال له صهيب: وبيعك فلا تتحسر، قال صهيب: ما ذاك؟ فقال قد أنزل الله فيك، وقرأ عليه هذه الآية.
وقال سعيد بن المسيب و عطاء : أقبل صهيب مهاجراً نحو النبي صلى الله عليه وسلم فاتبعه نفر من مشركي قريش فنزل عن راحلته ونثل ما كان في كنانته ، ثم قال : يا معشر قريش لقد علمتم أني لمن أرماكم رجلاً والله لا أضع سهماً مما في كنانتي إلا في قلب رجل منكم وايم الله لا تصلون إلي حتى أرمي بكل سهم في كنانتي ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي ثم افعلوا ما شئتم ، وإن شئتم دللتكم على مالي بمكة وخليتم سبيلي قالوا : نعم . ففعل ذلك ، فأنزل الله هذه الآية .
وقال الحسن : أتدرون فيمن نزلت هذه الآية ؟ نزلت في المسلم يلقى الكافر فيقول له قل لا إله إلا الله فيأبى أن يقولها ، فقال المسلم والله لأشرين نفسي لله . فتقدم فقاتل وحده حتى قتل .
وقيل نزلت الآية في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ، قال ابن عباس : أرى من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله يقوم فيأمر هذا بتقوى الله ، فإذا لم يقبل وأخذته العزة بالإثم ، قال وأنا أشري نفسي لله فقاتله فاقتتل الرجلان لذلك ، وكان علي إذا قرأ هذه الآية يقول : اقتتلا ورب الكعبة ، وسمع عمر بن الخطاب إنساناً يقرأ هذه " ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله " فقال عمر ( إنا لله وإنا إليه راجعون ) قام رجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فقتل .
أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا عبد الرحمن بن شريح أخبرنا أبو القاسم البغوي أخبرنا علي بن الجعد أخبرني حماد بن سلمه عن أبي غالب عن أبي أمامه أن رجلاً قال : يا رسول الله أي الجهاد أفضل ؟ قال : " أفضل الجهاد من قال كلمة حق عند سلطان جائر ".

207-" ومن الناس من يشري نفسه " يبيعها أي يبذلها في الجهاد أو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر حتى يقتل " ابتغاء مرضاة الله " طلباً لرضاه . قيل : إنها نزلت في صهيب بن سنان الرومي ، أخذه المشركون وعذبوه ليرتد فقال ك إني شيخ كبير لا ينفعكم إن كنت معكم ولا يضركم إن كنت عليكم فخلوني وما أنا عليه وخذوا مالي فقبلوه منه وأتى المدينة . " والله رؤوف بالعباد " حيث أرشدهم إلى مثل هذا الشراء وكلفهم بالجهاد فعرضهم لثواب الغزاة والشهداء .
207. And of mankind is he who would sell himself, seeking the pleasure of Allah; and Allah hath compassion on (His) bondmen.
207 - And there is the type of man who gives his life to earn the pleasure of God; and God is full of kindness to (his) devotees.