[البقرة : 2] ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ
ذلك) أي هذا (الكتاب) الذي يقرؤه محمد (لا ريب) لا شك (فيه) أنه من عند الله ، وجملة النفي خبر مبتدؤه ذلك والإشارة به للتعظيم (هدى) خبر ثان أي هاد (للمتقين) الصائرين إلى التقوى بامتثال الأوامر واجتناب النواهي لاتقائهم بذلك النار
قال عامة المفسرين: تأويل قول الله تعالى " ذلك الكتاب ": هذا الكتاب.
ذكر من قال ذلك:
حدثني هرون بن إدريس الأصم الكوفي، قال: حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن ابن جريج، عن مجاهد: " ذلك الكتاب" قال: هو هذا الكتاب.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، قال: أخبرنا خالد الحذاء، عن عكرمة، قال: " ذلك الكتاب": هذا الكتاب.
حدثنا أحمد بن إسحق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا الحكم بن ظهير، عن السدي، في قوله " ذلك الكتاب"، قال: هذا الكتاب.
حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين بن داود. قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قوله: " ذلك الكتاب": هذا الكتاب. قال: قال ابن عباس: " ذلك الكتاب": هذا الكتاب.
فإن قال قائل: وكيف يجوز أن يكون " ذلك" بمعنى هذا وهذا لا شك إشارة إلى حاضر معاين، و " ذلك" إشارة إلى غائب غير حاضر ولا معاين؟
قيل: جاز ذلك، لأن كل ما تقضى، بقرب تقضيه من الإخبار، فهو وإن صار بمعنى غير الحاضر فكالحاضر عند المخاطب. وذلك كالرجل يحدث الرجل الحديث فيقول السامع: إن ذلك والله لكما قلت ، وهذا والله كما قلت، وهو والله كما ذكرت، فيخبر عنه مرة بمعنى الغائب، إذ كان قد تقضى ومضى، ومرة بمعنى الحاضر، لقرب جوابه من كلام مخبره، كأنه غير منقض. فكذلك " ذلك" في قوله " ذلك الكتاب" لأنه جل ذكره لما قدم قبل " ذلك الكتاب" " الم "، التي ذكرنا تصرفها في وجوهها من المعاني على ما وصفنا، قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: يا محمد، هذا الذي ذكرته وبينته لك، الكتاب. ولذلك حسن وضع " ذلك" في مكان هذا، لأنه أشير به إلى الخبر عما تضمنه قوله " الم " من المعاني، بعد تقضي الخبر عنه بـ " الم"، فصار لقرب الخبرعنه من تقضيه، كالحاضر المشار إليه، فأخبر به بـ " ذلك" لانقضائه، ومصير الخبر عنه كالخبر عن الغائب، وترجمه المفسرون: أنه بمعنى هذا، لقرب الخبر عنه من انقضائه، فكان كالمشاهد المشار إليه بـ هذا، نحو الذي وصفناه من الكلام الجاري بين الناس في محاوراتهم، وكما قال جل ذكره: " واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الأخيار * هذا ذكر" (ص: 48، 49) فهذا ما في " ذلك" إذا عنى بها هذا.
وقد يحتمل قوله جل ذكره " ذلك الكتاب"، أن يكون معنيًا به السور التي نزلت قبل سورة البقرة بمكة والمدينة، فكأنه قال جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد، اعلم أن ما تضمنته سور الكتاب التي قد أنزلتها إليك، هو الكتاب الذي لا ريب فيه. ثم ترجمه المفسرون بأن معنى " ذلك" هذا الكتاب، إذ كانت تلك السور التي نزلت قبل سورة البقرة، من جملة جميع كتابنا هذا، الذي أنزله الله عز وجل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وكان التأويل الأول أولى بما قاله المفسرون، لأن ذلك أظهر معاني قولهم الذي قالوه في " ذلك".
وقد وجه معنى " ذلك" بعضهم، إلى نظير معنى بيت خفاف بن ندبة السلمي:
فإن تك خيلي قد أصيب صميمها فعمدًا على عين تيممت مالكا
أقول له، والرمح ياطر متنه،: تأمل خفافًا، إنني أنا ذلكا
كأنه أراد: تأملني أنا ذلك. فزعم أن " ذلك الكتاب" بمعنى هذا، نظيره. أظهر خفاف من اسمه على وجه الخبر عن الغائب، وهو مخبر عن نفسه. فكذلك أظهر " ذلك " بمعنى الخبر عن الغائب، والمعنى فيه الإشارة إلى الحاضر المشاهد.
والقول الأول أولى بتأويل الكتاب، لما ذكرنا من العلل.
وقد قال بعضهم: " ذلك الكتاب "، يعني به التوراة والإنجيل، وإذا وجه تأويل " ذلك " إلى هذا الوجه، فلا مؤونة فيه على متأوله كذلك، لأن " ذلك " يكون حينئذ إخبارًا عن غائب على صحة.
القول في تأويل قوله: " لا ريب فيه ".
وتأويل قوله: " لا ريب فيه " لا شك فيه. كما:
حدثني هرون بن إدريس الأصم، قال: حدثنا عبد الرحمن المحاربي عن ابن جريج، عن مجاهد:" لا ريب فيه "، قال: لا شك فيه.
حدثني سلام بن سالم الخزاعي، قال: حدثنا خلف بن ياسين الكوفي، عن عبد العزيز بن أبي رواد، عن عطاء، " لا ريب فيه ": قال: لا شك فيه.
حدثني أحمد بن إسحق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا الحكم بن ظهير، عن السدي، قال: " لا ريب فيه "، لا شك فيه.
حدثني موسى بن هرون الهمداني، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: " لا ريب فيه "، لا شك فيه.
حدثنا محمد بن حميد، قال حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: " لا ريب فيه "، قال: لا شك فيه.
حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: " لا ريب فيه "، يقول: لا شك فيه.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال حدثنا عبد الرزاق، قال أخبرنا معمر، عن قتادة: " لا ريب فيه "، يقول: لا شك فيه.
حدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبدالله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس: قوله " لا ريب فيه "، يقول: لا شك فيه.
وهو مصدر من قول القائل: رابني الشيء يريبني ريبًا. ومن ذلك قول ساعدة بن جؤية الهذلي:
فقالوا: تركنا الحي قد حصروا به، فلا ريب أن قد كان ثم لحيم
ويروى: حصروا و حصروا والفتح أكثر، والكسر جائز. يعني بقوله حصروا به : أطافوا به. ويعني بقوله لا ريب: لا شك فيه. وبقوله أن قد كان ثم لحيم ، يعني قتيلاً، يقال: قد لحم، إذا قتل.
والهاء التي في فيه عائدة على الكتاب، كأنه قال: لا شك في ذلك الكتاب أنه من عند الله هدى للمتقين.
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: " هدى".
حدثني أحمد بن حازم الغفاري، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا سفيان، عن بيان، عن الشعبي، " هدى" قال: هدى من الضلالة.
حدثني موسى بن هرون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط بن نصر، عن إسمعيل السدي، في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، " هدى للمتقين "، يقول: نور للمتقين.
والهدى في هذا الموضع مصدر من قولك: هديت فلانًا الطريق إذا أرشدته إليه، ودللته عليه، وبينته له أهديه هدى وهداية.
فإن قال لنا قائل: أو ما كان كتاب الله نورًا إلا للمتقين، ولا رشادًا إلا للمؤمنين؟
قيل: ذلك كما وصفه ربنا عز وجل. ولو كان نورًا لغير المتقين، ورشادًا لغير المؤمنين، لم يخصص الله عز وجل المتقين بأنه لهم هدى، بل كان يعم به جميع المنذرين. ولكنه هدى للمتقين، وشفاء لما في صدور المؤمنين، ووقر في آذان المكذبين، وعمى لأبصار الجاحدين، وحجة لله بالغة على الكافرين. فالمؤمن به مهتد، والكافر به محجوج.
وقوله " هدى" يحتمل أوجهًا من المعاني.
أحدها: أن يكون نصبًا، لمعنى القطع من الكتاب، لأنه نكرة والكتاب معرفة. فيكون التأويل حينئذ: الم ذلك الكتاب هاديا للمتقين. و "ذلك" مرفوع بـ "الم"، و "الم" به،. والكتاب نعت لـ "ذلك".
وقد يحتمل أن يكون نصبًا، على القطع من راجع ذكر الكتاب الذي في "فيه"، فيكون معنى ذلك حينئذ: الم الذي لا ريب فيه هادياً.
وقد يحتمل أن يكون أيضًا نصبًا على هذين الوجهين، أعني على وجه القطع من الهاء التي
في "وفيه"، ومن "الكتاب"، على أن "الم" كلام تام، كما قال ابن عباس إن معناه: أنا الله أعلم. ثم يكون "ذلك الكتاب" خبرًا مستأنفًا، فيرفع حينئذ "الكتاب" بـ "ذلك"، و "ذلك" بـ "الكتاب"، ويكون "هدى" قطعًا من "الكتاب"، وعلى أن يرفع "ذلك" بالهاء العائدة عليه التي في "فيه"، و "الكتاب" نعت له والهدى قطع من الهاء التي في "فيه". وإن جعل الهدى في موضع رفع، لم يجز أن يكون "ذلك الكتاب" إلا خبرًا مستأنفًا، و "الم" كلامًا تامًا مكتفيًا بنفسه، إلا من وجه واحد، وهو أن يرفع حينئذ "هدى" بمعنى المدح، كما قال الله جل وعز: "الم * تلك آيات الكتاب الحكيم * هدى ورحمة للمحسنين" (لقمان: 1-3) في قراءة من قرأ رحمة. بالرفع، على المدح للآيات.
والرفع في "هدى" حينئذ يجوز من ثلاثة أوجه: أحدها ما ذكرنا من أنه مدح مستأنف. والآخر: على أن يجعل مرافع "ذلك"، و "الكتاب" نعت لذلك. والثالث: أن يجعل تابعًا لموضع "لا ريب فيه"، ويكون "ذلك الكتاب" مرفوعًا بالعائد في "فيه". فيكون كما قال تعالى ذكره: "وهذا كتاب أنزلناه مبارك" (الأنعام: 92).
وقد زعم بعض المتقدمين في العلم بالعربية من الكوفيين، أن "الم" مرافع "ذلك الكتاب" بمعنى: هذه الحروف من حروف المعجم، ذلك الكتاب الذي وعدتك أن أوحيه إليك. ثم نقض ذلك من قوله فأسرع نقضه، وهدم ما بنى فأسرع هدمه، فزعم أن الرفع في "هدى" من وجهين، والنصب من وجهين. وأن أحد وجهي الرفع: أن يكون "الكتاب" نعتًا لـ "ذلك" و "الهدى" في موضع رفع خبر لـ "ذلك ". كأنك قلت: ذلك هدى لا شك فيه. قال: وإن جعلت "لا ريب فيه" خبره، رفعت أيضًا "هدى"، بجعله تابعًا لموضع "لا ريب فيه"، كما قال الله جل ثناؤه: "وهذا كتاب أنزلناه مبارك"، كأنه قال: وهذا كتاب هدى من صفته كذا وكذا. قال: وأما أحد وجهي النصب فأن تجعل الكتاب خبرًا لـ "ذلك"، وتنصب "هدى" على القطع، لأن "هدى" نكرة اتصلت بمعرفة، وقد تم خبرها فنصبتها، لأن النكرة لا تكون دليلاً على معرفة. وإن شئت نصبت "هدى" على القطع من الهاء التي في "فيه" كأنك قلت: لا شك فيه هاديًا.
قال أبو جعفر: فترك الأصل الذي أصله في "الم" وأنها مرفوعة بـ "ذلك الكتاب"، ونبذه وراء ظهره. واللازم كان له على الأصل الذي أصله، أن لا يجيز الرفع في "هدى" بحال إلا من وجه واحد، وذلك من قبل الاستئناف، إذ كان مدحًا. فأما على وجه الخبر لـ "ذلك"، أو على وجه الإتباع لموضع "لا ريب فيه"، فكان اللازم له على قوله أن يكون خطأ. وذلك أن "الم" إذا رافعت "ذلك الكتاب"، فلا شك أن "هدى" غير جائز حينئذ أن يكون خبرًا لـ "ذلك"، بمعنى المرافع له، أو تابعًا لموضع "لا ريب فيه"، لأن موضعه حينئذ نصب، لتمام الخبر قبله، وانقطاعه بمخالفته إياه عنه.
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: "للمتقين".
حدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن الحسن، قوله: "للمتقين" قال: اتقوا ما حرم عليهم، وأدوا ما افترض عليهم.
حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: "للمتقين"، أي الذين يحذرون من الله عز وجل عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدى، ويرجون رحمته بالتصديق بما جاء به.
حدثني موسى بن هرون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: "هدى للمتقين"، قال: هم المؤمنون.
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، قال: سألني الأعمش عن المتقين، قال: فأجبته، فقال لي: سل عنها الكلبي. فسألته، فقال: الذين يجتنبون كبائر الإثم. قال: فرجعت إلى الأعمش، فقال: نرى أنه كذلك. ولم ينكره.
حدثني المثنى بن إبراهيم الطبري، قال: حدثنا إسحق بن الحجاج، عن عبد الرحمن بن عبدالله، قال حدثنا عمر أبو حفص، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة: "هدى للمتقين"، هم من نعتهم ووصفهم فأثبت صفتهم، فقال: "الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون".
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: "للمتقين" قال: للمؤمنين الذين يتقون الشرك بي، ويعملون بطاعتي.
وأولى التأويلات بقول الله جل ثناؤه "هدى للمتقين"، تأويل من وصف القوم بأنهم الذين اتقوا الله تبارك وتعالى في ركوب ما نهاهم عن ركوبه، فتجنبوا معاصيه، واتقوه فيما أمرهم به من فرائضه، فأطاعوه بأدائها. وذلك أن الله عز وجل وصفهم بالتقوى، فلم يحصر تقواهم إياه على بعض ما هو أهل له منهم دون بعض. فليس لأحد من الناس أن يحصر معنى ذلك، على وصفهم بشيء من تقوى الله عز وجل دون شيء، إلا بحجة يجب التسليم لها. لأن ذلك من صفة القوم لو كان محصورًا على خاص من معاني التقوى دون العام منها لم يدع الله جل ثناؤه بيان ذلك لعباده: إما في كتابه، لاما على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، إذ لم يكن في العقل دليل على استحالة وصفهم بعموم التقوى.
فقد تبين إذًا بذلك فساد قول من زعم أن تأويل ذلك إنما هو: الذين اتقوا الشرك وبرئوا من النفاق. لأنه قد يكون كذلك، وهو فاسق غير مستحق أن يكون من المتقين، إلا أن يكون عند قائل هذا القول معنى النفاق: ركوب الفواحش التي حرمها الله جل ثناؤه، وتضييع فرائضه التي فرضها عليه. فإن جماعة من أهل العلم قد كانت تسمي من كان يفعل ذلك منافقًا. فيكون وإن كان مخالفًا في تسميته من كان كذلك بهذا الاسم مصيبًا تأويل قول الله عز وجل "للمتقين".
قوله تعالى : "ذلك الكتاب" قيل : المعنى هذا الكتاب . و ذلك قد تستعمل في الإشارة الى حاضر ، وإن كان موضوعاً فلإشارة الى غائب ، كما قال تعالى في الإخبار عن نفسه جل وعز : "ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم" ، ومنه قول خفاف بن ندبة :
أقول له والرمح يأطر متنه تأمل خفافا إنني أنا ذلكا
أي أنا هذا . فـ ـذلك إشارة الى القرآن ، موضوع موضع هذا ، تلخيصه : آلم هذا الكتاب لا ريب فيه . وهذا قول أبي عبيدة و عكرمة وغيرهما ، ومنه قوله تعالى : "وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم" "تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق" أي هذه ، لكنها لما انقضت صارت كأنها بعدت فقيل تلك . وفي البخاري وقال معمر ذلك الكتاب هذا القرآن . "هدى للمتقين" بيان ودلالة ، كقوله : "ذلكم حكم الله يحكم بينكم" هذا حكم الله .
قلت :وقد جاء هذا بمعنى ذلك ، ومنه قوله عليه السلام في حديث أم حرام :
"يركبون ثبج هذا البحر" أي ذلك البحر ، والله أعلم . وقيل : هو على بابه إشارة الى غائب .
واختلف في ذلك الغائب على أقوال عشرة ، فقيل ذلك الكتاب أي الكتاب الذي كتبت على الخلائق بالسعادة والشقاوة والأجل والرزق لا ريب فيه ، أي لا مبدل له . وقيل : ذلك الكتاب ، أي الذي كتبت على نفسي في الأزل :
" إن رحمتي سبقت غضبي " . وفي صحيح مسلم عن ابي هريرة قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"لما قضى الله الخلق كتب في كتابه على نفسه فهو موضوع عنده أن رحمتي تغلب غضبي" في رواية سبقت . وقيل : إن الله تعالى قد كان وعد نبيه عليه السلام أن ينزل عليه كتاباً لا يمحوه الماء ، فأشار الى ذلك الوعد كما في صحيح مسلم من حديث عياض بين حمار المجاشعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
"أن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب وقال إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء تقرؤه نائماً ويقظان" الحديث . وقيل : الإشارة الى ما قد نزل من القرآن بمكة . وقيل : ان الله تبارك وتعالى لما أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم بمكة : "إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا" لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مستشرفاً لإنجاز هذا الوعد من ربه عز وجل ، فلما أنزل عليه بالمدينة ، "الم * ذلك الكتاب لا ريب فيه" كان فيه معنى هذا القرآن الذي أنزلته عليك بالمدينة والإنجيل : و آلم اسم للقرآن ، والتقدير هذا القرآن ذلك الكتاب المفسر في التوراة والإنجيل ، يعني ان التوارة والإنجيل يشهدان بصحته ويستغرق ما فيهما ويزيد عليهما ما ليس فيهما . وقيل : إن ذلك الكتاب إشارة الى التوارة والإنجيل كليهما ، والمعنى : آلم ذانك الكتابان أو مثل ذينك الكتابين ، أي هذا القرآن جامع لما في ذينك الكتابين ، فعبر بـ ذلك عن الاثنين بشاهد من القرآن ، قال الله تبارك وتعالى ، "إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك" أي عوان بين تينك . الفارض والبكر ، وسيأتي . وقيل : إن ذلك إشارة إلى اللوح المحفوظ . وقال الكسائي : ذلك إشارة الى القرآن الذي في السماء لم ينزل بعد . وقيل : إن الله تعالى قد كان وعد أهل الكتاب أن ينزل على محمد صلى الله عليه وسلم كتاباً ، فالإشارة الى ذلك الوعد . قال المبرد : المعنى هذا القرآن ذلك الكتاب الذي كنتم تستفتحون به على الذين كفروا . وقيل : الى حروف المعجم في قول من قال : آلم الحروف التي تحديثكم بالنظم منها .
والكتاب مصدر م نكتب يكتب إذا جمع ، ومنه قبل : كتيبة ، لاجتماعها . وتكتب الخيل صارت كتائب . وكتبت البغلة : إذا جمعت بين شفري رحمها بحلقة أو سر ، قال :
لا تأمنن فزاريا حللت به على قلوصك واكتبها بأسيار
والكتبة ( بضم الكاف ) : الخرزة ، والجمع كتب . والكتب : الخرز . قال ذو الرمة :
وفراء غرفية أثأى خوارزها مشلشل ضيعته بينها الكتب
والكتاب : هو خط الكاتب حروف المعجم مجموعة أو متفرقة ، وسمي كتاباً وإن كان مكتوباً ، ما قال الشاعر :
تؤمل رجعة مني وفيها كتاب مثل ما لصق الغراء
والكتاب الفرض والحكم والقدر ، قال الجعدي :
يابنة عمي كتاب الله أخرجني عنكم وهل أمنعن الله ما فعلا
قوله تعالى : "لا ريب" نفي عام ، ولذلك نصب الريب به . وفي الريب ثلاثة معان :
أحدها : الشك ، قال عبد الله بن الزبعرى :
ليس في الحق يا أميمة ريب إنما الريب ما يقول الجهول
وثانيها : التهمة ، قال جميل :
بثينة قالت يا جميل أربتني فقلت كلانا يا بثين مريب
وثالثها : الحاجة ، قال :
قضينا من تهامة كل ريب وخيبر ثم أجمعنا السيوفا
فكتاب الله تعالى لا شك فيه ولا ارتياب ، والمعنى : أنه في ذاته حق وأنه منزل من عند الله ، وصفة من صفاته ، غير مخلوق ولا محدث ، وإن وقع ريب للكفار . وقيل : هو خبر ومعناه النهي ، أي لا ترتابوا ، وتم الكلام كأنه قال ذلك حقاً . وتقول : رابني هذا الأمر إذا أدخل عليك شكاً وخوفاً . وأراب : صار ذا ريبة ، فهو مريب . ورابني أمره . وريب الدهر : صروفه .
قوله تعالى : "فيه هدى للمتقين" فيه ست مسائل :
الأولى : قوله تعالى : "فيه" الهاء في فيه في موضع خفض بفي ، وفيه خمسة أوجه ، أجودها : فيه هدى . ويليه فيه هدى (بضم الهاء بغير واو) وهي قراءة الزهري وسلام أبي المنذر . ويليه فيهي هدى (بإثبات الياء) وهي قراءة ابن كثير . ويجوز فيهو هدى (بالواو) . ويجوز فيه هدى (مدغماً) وارتفع هدى على الابتداء والخبر فيه . والهدى في كلام العرب معناه الرشد والبيان ، أي فيه كشف لأهل المعرفة ورشد وزيادة بيان وهدى .
الثانية الهدى هديان : هدى دلالة ، وهو الذي تقدر عليه الرسل وأتباعهم ، قال الله تعالى : "ولكل قوم هاد" . وقال : "وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم" فأثبت لهم الهدى الذي معناه الدلالة والدعوة والتنبيه ، وتفرد هو سبحانه بالهدى الذي معناه التأييد والتوفيق ، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم : "إنك لا تهدي من أحببت" فالهدى على هذا يجيء بمعنى خلق الإيمان في القلب ، ومنه قوله تعالى : "أولئك على هدى من ربهم" وقوله : "ويهدي من يشاء" . والهدى : الاهتداء ، ومعناه راجع الى معنى الإرشاد كيفما تصرفت . قال أبو المعالي : وقد ترد الهداية والمراد بها إرشاد المؤمنين الى مسالك الجنان والطرق المفضية إليها ، من ذلك قوله تعالى في صفة المجاهدين : "فلن يضل أعمالهم * سيهديهم" ومنه قوله تعالى : "فاهدوهم إلى صراط الجحيم" معناه فاسلكوهم إليها .
الثالثة الهدى لفظ مؤنث . قال الفراء : بعض بني أسد تؤنث الهدى فتقول : هذه هدى حسنة . وقال اللحياني : هو مذكر ، ولم يعرب لأنه مقصور والألف لا تتحرك ، ويتعدى بحرف وبغير حرف وقد مضى في الفاتحة ، تقول : هديته الطريق وإلى الطريق ، والدار وإلى الدار ، أي عرفته . الأولى لغة أهل الحجاز ، والثانية حكاها الأخفش . وفي التنزيل : "اهدنا الصراط المستقيم" و "الحمد لله الذي هدانا لهذا" . وقيل : إن الهدى اسم من أسماء النهار ، لأن الناس يهتدون فيه لمعايشهم وجميع مآربهم ، ومنه قول ابن مقبل :
حتى استبنت الهدى والبيد هاجمة يخشعن في الال غلفا أو يصلينا
الرابعة : قوله تعالى : "للمتقين" خص الله تعالى المتقين وإن كان هدى للخلق أجمعين تشريفاً لهم ، لأنهم آمنوا وصدقوا بما فيه . وروي عن أبي روق أنه قال : "هدى للمتقين" أي كرامة لهم ، يعني إنما أضاف إليهم إجلالا لهم وكرامة لهم وبياناً لفضلهم . وأصل للمتقين : للموتقيين بياءين مخففتين ، حذفت الكسرة من الياء الأولى لثقلها ثم حذفت الياء لالتقاء الساكنين وأبدلت الواو تاء على أصلهم في اجتماع الواو والتاء وأدغمت التاء في التاء فصار للمتقين .
الخامسة : التقوى يقال أصلها في اللغة قلة الكلام ، حكاه ابن فارس . قلت : ومنه الحديث :
التقي ملجم والمتقي فوق المؤمن والطائع وهو الذي يتقي بصالح عمله وخالص دعائه عذاب الله تعالى ، مأخوذ من اتقاء المكروه بما تجعله حاجزاً بينك وبينه ، كما قال النابغة :
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه فتناولته واتقتنا باليد
وقال آخر :
فألقت قناعاً دونه الشمس واتقت بأحسن موصولين كف ومعصم
وخرج أبو محمد عبد الغني الحافظ من حديث سعيد بن زربي أبي عبيدة عن عاصم بن بهدلة عن زر بن حبيش عن ابن مسعود قال قال يوماً لابن أخيه : يابن أخي ترى الناس ما أكثرهم ؟ قال :نعم ، قال : لا خير فيهم إلا تائب أو تقي . ثم قال : يابن أخي ترى الناس ما أكثرهم ؟ قلت : بلى ، قال : لا خير فيهم إلا عالم أو متعلم . وقال أبو يزيد البسطامي : المتقي من إذا قال قال الله ، ومن إذا عمل عمل لله . وقال أبو سليمان الداراني : المتقون الذي نزع الله عن قلوبهم حب الشهوات . وقيل : المتقي الذي أتقى الشرك وبرىء من النفاق . قال ابن عطية : وهذا فاسد ، لأنه قد يكون كذلك وهو فاسق . وسأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبيا عن التقوى ، فقال : هل أخذت طريقاً ذا شوك ؟ قال : نعم ، قال : فما عملت فيه ؟ قال : تشمرت وحذرت ، قال : فذاك التقوى . وأخذ هذا المعنى ابن المعتز فنظمه :
خل الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى
وأصنع كماش فوق أر ض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى
السادسة : التقوى فيها جماع الخير كله ، وهي وصية الله في الأولين والآخرين ، وهي خير ما يستفيده الإنسان ، كما قال أبو الدرداء وقد قيل له : إن أصحابك يقولون الشعر وأنت ما حفظ عنك شيء ، فقال :
يريد المرء أن يؤتى مناه ويأبى الله إلا ما أرادا
يقول المرء فائدتي ومالي وتقوى الله أفضل ما استفادا
وروى ابن ماجة في سننه عن ابي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول :"ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله خيراً له من زوجة صالحة إن أمرها أطاعته وإن نظر إليها سرته وإن أقسم عليها أبرته وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله" .
والأصل في التقوى : وقوى على وزن فعلى فقلبت الواو تاء من وقيته أقية أي منعته ، ورجل تقي أي خائف ، أصله وقى ، وكذلك تقاة كانت في الأصل وقاة ، كما قالوا : تجاه وتراث ، والأصل وجاه ووارث .
قال ابن جريج قال ابن عباس ذلك الكتاب أي هذا الكتاب وكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والسدي ومقاتل بن حيان وزيد بن أسلم وابن جريج أن ذلك بمعنى هذا والعرب تعارض بين اسمي الإشارة فيستعملون كلاً منهما مكان الاخر وهذا معروف في كلامهم وقد حكاه البخاري عن معمر بن المثنى عن أبي عبيدة وقال الزمخشري ذلك إشارة إلى "الم" كما قال تعالى "لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك" وقال تعالى " ذلكم حكم الله يحكم بينكم " وقال "ذلكم الله" وأمثال ذلك مما أشير به إلى ما تقدم ذكره والله أعلم . وقد ذهب بعض المفسرين فيما حكاه القرطبي وغيره أن ذلك إشارة إلى القرآن الذي وعد الرسول صلى الله عليه وسلم بإنزاله عليه أو التوراة أو الإنجيل أو نحو ذلك في أقوال عشرة . وقد ضعف هذا المذهب كثيرون والله أعلم .
والكتاب القرآن ومن قال : إن المراد بذلك الكتاب الإشارة إلى التوراة والإنجيل كما حكاه ابن جرير وغيره فقد أبعد النجعة وأغرق في النزع وتكلف ما لا علم له به . والريب الشك قال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا ريب فيه" لا شك فيه وقال أبو الدرداء وابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وأبو مالك ونافع مولى ابن عمر وعطاء وأبو العالية والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان والسدي وقتادة وإسماعيل بن أبي خالد وقال ابن أبي حاتم لا أعلم في هذه خلافاً . وقد يستعمل الريب في التهمة قال جميل :
بثينة قالت يا جميل أربتني فقلت كلانا يا بثين مريب
واستعمل أيضاً في الحاجة كما قال بعضهم :
قضينا من تهامة كل ريب وخيبر ثم أجمعنا السيوفا
ومعنى الكلام هنا أن هذا الكتاب هو القرآن لا شك فيه أنه نزل من عند الله كما قال تعالى في السجدة " الم * تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين " وقال بعضهم هذه خبر ومعناه النهي أي لا ترتابوا فيه . ومن القراء من يقف على قوله تعالى "لا ريب" ويبتدئ بقوله تعالى "فيه هدى للمتقين" والوقف على قوله تعالى "لا ريب فيه" أولى للاية التي ذكرناها ولأنه يصير قوله تعالى "هدى" صفة للقرآن وذلك أبلغ من كون فيه هدى ، وهدى يحتمل من حيث العربية أن يكون مرفوعاً على النعت ومنصوباً على الحال وخصت الهداية للمتقين كما قال "قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد" "وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً" إلى غير ذلك من الايات الدالة على اختصاص المؤمنين بالنفع بالقرآن لأنه هو في نفسه هدى ولكن لا يناله إلا الأبرار كما قال تعالى "يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين" وقد قال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم "هدى للمتقين" يعني نوراً للمتقين وقال أبو روق عن الضحاك عن ابن عباس قال : هدى للمتقين قال هم المؤمنون الذين يتقون الشرك بي ويعملون بطاعتي وقال محمد بن إسحاق : عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس "للمتقين" قال الذين يحذرون من الله عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدى ويرجون رحمته في التصديق بما جاء به. وقال سفيان الثوري عن رجل عن الحسن البصري قوله تعالى للمتقين قال : اتقوا ما حرم الله عليهم وأدوا ما افترض عليهم ، وقال أبو بكر بن عياش سألني الأعمش عن المتقين قال فأجبته فقال لي سل عنها الكلبي فسألته فقال الذين يجتنبون كبائر الإثم قال فرجعت إلى الأعمش فقال يرى أنه كذلك ولم ينكره . وقال قتادة للمتقين هم الذين نعتهم الله بقوله "الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة" الاية والتي بعدها ، واختيار ابن جرير أن الاية تعم ذلك كله وهو كما قال . وقد روى الترمذي وابن ماجه من رواية أبي عقيل عن عبد الله بن يزيد عن ربيعة بن يزيد وعطية بن قيس عن عطية السعدي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع مالا بأس به حذراً مما به بأس" ثم قال الترمذي حسن غريب وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا عبد الله بن عمران عن إسحاق بن سليمان يعني الرازي عن المغيرة بن مسلم عن ميمون أبي حمزة قال : كنت جالساً عند أبي وائل فدخل علينا رجل يقال له أبو عفيف من أصحاب معاذ فقال له شقيق بن سلمة يا أبا عفيف ألا تحدثنا عن معاذ بن جبل قال بلى سمعته يقول يحبس الناس يوم القيامة في بقيع واحد فينادي مناد أين المتقون ؟ فيقومون في كنف من الرحمن لا يحتجب الله منهم ولا يستتر . قلت من المتقون قال قوم اتقوا الشرك وعبادة الأوثان وأخلصوا لله العبادة فيمرون إلى الجنة . ويطلق الهدى ويراد به ما يقر في القلب من الإيمان وهذا لا يقدر على خلقه في قلوب العباد إلا الله عز وجل قال الله تعالى "إنك لا تهدي من أحببت" وقال "ليس عليك هداهم" وقال "من يضلل الله فلا هادي له" وقال " من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا " إلى غير ذلك من الايات ويطلق ويراد به بيان الحق وتوضيحه والدلالة عليه والإرشاد قال الله تعالى "وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم" وقال "إنما أنت منذر ولكل قوم هاد" وقال تعالى "وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى" وقال "وهديناه النجدين" على تفسير من قال المراد بهما الخير والشر وهو الأرجح والله أعلم وأصل التقوى التوقي مما يكره لأن أصلها وقوى من الوقاية قال النابغة :
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه فتناولته واتقتنا باليد
وقال الاخر :
فألفت قناعاً دونه الشمس واتقت بأحسن موصولين كف ومعصم
وقد قيل إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل أبي بن كعب عن التقوى فقال له أما سلكت طريقاً ذا شوك ؟ قال بلى ، قال فما عملت قال شمرت واجتهدت قال فذلك التقوى ، وقد أخذ هذا المعنى ابن المعتز فقال :
خل الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى
واصنع كماش فوق أرض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى
وأنشد أبو الدرداء يوماً :
يريد المرء أن يؤتى مناه ويأبى الله إلا ما أرادا
يقول المرء فائدتي ومالي وتقوى الله أفضل ما استفادا
وفي سنن ابن ماجه عن أبي أمامة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما استفاد المرء بعد تقوى الله خيراً من زوجة صالحة إن نظر إليها سرته ، وإن أمرها أطاعته ، وإن أقسم عليها أبرته ، وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله" .
الإشارة بقوله ذلك إلى الكتاب المذكور بعده. قال ابن جرير: قال ابن عباس: 2- "ذلك الكتاب" هذا الكتاب وبه قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والسدي ومقاتل وزيد بن أسلم وابن جريج، وحكاه البخاري عن أبي عبيدة. والعرب قد تستعمل الإشارة إلى البعيد الغائب مكان الإشارة إلى القريب الحاضر كما قال خفاف:
أقول له والرمح يأطر متنه تأمل خفافاً أنني أنا ذلكا
أي أنا هذا، ومنه قوله تعالى: "ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم" و "تلك حجتنا آتيناها إبراهيم" "تلك آيات الله نتلوها عليك" "ذلكم حكم الله يحكم بينكم" وقيل إن الإشارة إلى غائب، واختلف في ذلك الغائب، فقيل: هو الكتاب الذي كتب على الخلائق بالسعادة والشقاوة والأجل والرزق "لا ريب فيه" أي لا مبدل له، وقيل: ذلك الكتاب الذي كتبه الله على نفسه في الأزل أن رحمته سبقت غضبه، كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما قضى الله الخلق كتب في كتاب على نفسه فهو موضوع عنده: إن رحمتي تغلب غضبي". وفي رواية "سبقت". وقيل: الإشارة إلى ما قد نزل بمكة، وقيل: إلى ما في التوراة والإنجيل، وقيل: إشارة إلى قوله قبله " الم "، ورجحه الزمخشري، وقد وقع الاختلاف في ذلك إلى تمام عشرة أقوال حسبما حكاه القرطبي وأرجحها ما صدرناه، واسم الإشارة مبتدأ، و"الكتاب" صفته، والخبر "لا ريب فيه" ومن جوز الابتداء بـ " الم " جعل ذلك مبتدأ ثانياً، وخبره "الكتاب" أو هو صفته، والخبر "لا ريب فيه" والجملة خبر المبتدأ. ويجوز أنت يكون المبتدأ مقدراً وخبره آلم وما بعده. والريب مصدر، وهو قلق النفس واضطرابها، وقيل إن الريب: الشك. قال ابن أبي حاتم: لا أعلم في هذا خلافاً. وقد يستعمل الريب في التهمة والحاجة، حكى ذلك القرطبي. ومعنى هذا النفي العام أن الكتاب ليس بمظنة للريب لوضوح دلالته وضوحاً يقوم مقام البرهان المقتضى لكونه لا ينبغي الارتياب فيه بوجه من الوجوه، والوقف على فيه هو المشهور. وقد روي عن نافع وعاصم الوقف على "لا ريب". قال في الكشاف: ولا بد للواقف من أن ينوي خبراً ونظيره قوله تعالى: "قالوا لا ضير" وقول العرب: لا بأس، وهي كثيرة في لسان أهل الحجاز، والتقدير: لا ريب فيه هدى. والهدى مصدر. قال الزمخشري: وهو الدلالة الموصلة إلى البغية بدليل وقوع الضلال في مقابلته انتهى. ومحله الرفع على الابتداء وخبره الظرف المذكور قبله على ما سبق. قال القرطبي: الهدى هديان: هدى دلالة وهو الذي يقدر عليه الرسل وأتباعهم، قال الله تعالى: "ولكل قوم هاد" وقال: "وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم" فأثبت لهم الهدى الذي معناه الدلالة والدعوة والتنبيه، وتفرد سبحانه بالهدى الذي معناه التأييد والتوفيق، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: "إنك لا تهدي من أحببت" فالهدي على هذا يجيء بمعنى خلق الإيمان في القلب، ومنه قوله تعالى: "أولئك على هدى من ربهم" وقوله: "ولكن الله يهدي من يشاء" انتهى. والمتقين من ثبتت لهم التقوى. قال ابن فارس: وأصلها في اللغة قلة الكلام. وقال في الكشاف: المتقي في اللغة: إسم فاعل من قولهم وقاه فاتقى، والوقاية: الصيانة، ومنه: فرس واق، وهذه الدابة تقي من وجارها: إذا أصابها صلع من غلظ الأرض ورقة الحافر، فهو يقي حافره أن يصيبه أدنى شيء يؤلمه. وهو في الشريعة: الذي يقي نفسه تعاطي ما يستحق به العقوبة من فعل أو ترك انتهى. وأخرج ابن جرير والحاكم وصححه عن ابن مسعود أن الكتاب: القرآن، لا ريب فيه: لا شك فيه. وأخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "لا ريب فيه" قال: لا شك فيه. وأخرج أحمد في الزهد واب أبي حاتم عن أبي الدرداء قال: الريب الشك. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة مثله، وكذا ابن جرير عن مجاهد. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله: "هدى للمتقين" قال: نور للمتقين وهم المؤمنون. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "هدى للمتقين" أي الذين يحذرون من الله عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدى ويرجون رحمته في التصديق مما جاء منه. وأخرج ابن أبي حاتم عن معاذ بن جبل أنه قيل له: من المتقون؟ فقال: قوم اتقوا الشرك وعبادة الأوثان وأخلصوا لله العبادة. وأخرج ابن أبي الدنيا عن أبي هريرة أن رجلاً قال له: ما التقوى؟ قال: هل وجدت طريقاً ذا شوك؟ قال: نعم، قال: فكيف صنعت؟ قال: إذا رأيت الشوك عدلت عنه أو جاوزته أو قصرت عنه، قال: ذاك التقوى. وأخرج أحمد في الزهد عن أبي الدرداء قال: تمام التقوى أن يتقي الله العبد حتى يتقيه من مثقال ذرة حين يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حجاباً بينه وبين الحرام. وقد روي نحوما قاله أبو الدرداء عن جماعة من التابعين. وأخرج أحمد وعبد بن حميد والبخاري في تاريخه والترمذي وحسنه وابن ماجه وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن عطية السعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً لما به البأس" فالمصير إلى ما أفاده هذا الحديث واجب، ويكون هذا معنى شرعياً للمتقي أخص من المعنى الذي قدمناه عن صاحب الكشاف زاعماً أنه المعنى الشرعي.
2. قوله تعالى: " ذلك الكتاب " أي هذا الكتاب وهو القرآن، وقيل: هذا فيه مضمر أي هذا ذلك الكتاب. قال الفراء : كان الله قد وعد نبيه صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليه كتاباً لا يمحوه الماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، فلما أنزل القرآن قال هذا (ذلك) الكتاب الذي وعدتك أن أنزله عليك في التوراة والإنجيل وعلى لسان النبيين من قبلك (( وهذا )) للتقريب ((وذلك)) للتبعيد، وقال ابن كيسان : إن الله تعالى أنزل قبل سورة البقرة سوراً كذب بها المشركون ثم أنزل سورة البقرة فقال (ذلك الكتاب) يعنى ما تقدم البقرة من السور لا شك فيه.
والكتاب مصدر وهو بمعنى المكتوب كما يقال للمخلوق خلق،وهذا الدرهم ضرب فلان أي مضروبه. وأصل الكتب: الضم والجمع، ويقال للجند: كتيبة لاجتماعها، وسمي الكتاب كتاباً لأنه جمع حرف إلى حرف.
قوله تعالى: " لا ريب فيه " أي لا شك فيه أنه من عند الله عز وجل وأنه الحق والصدق، وقيل هو خبر بمعنى النهي أي لا ترتابوا فيه كقوله تعالى " فلا رفث ولا فسوق " (197-البقرة) أي لا ترفثوا ولا تفسقوا. قرأ ابن كثير فيه بالإشباع في الوصل وكذلك كل هاء كناية قبلها ساكن يشبعها وصلاً ما لم يلقها ساكن ثم إن كان الساكن قبل الهاء ياء يشبعها بالكسرة ياء وإن كان غير ياء يشبعها بالضم واواً ووافقه حفص في قوله " فيه مهاناً " (69-الفرقان) (فيشبعه).
قةله تعالى: " هدى للمتقين " يدغم الغنة عند اللام والراء أبو جعفر و ابن كثير و حمزة و الكسائي ، زاد حمزة و الكسائي عند الياء وزاد حمزة عند الواو والآخرون لا يدغمونها ويخفي أبو جعفر النون والتنوين عند الخاء والغين (هدى للمتقين) أي هو هدى أي رشد وبيان لأهل التقوى، وقيل هو نصب على الحال أي هادياً تقديره لا ريب في هدايته للمتقين والهدى ما يهتدي به الإنسان، للمتقين أي للمؤمنين. قال ابن عباس رضي الله عنهما: المتقي من يتقي الشرك والكبائر والفواحش وهو مأخوذ من الاتقاء. وأصله الحجز بين الشيئين ومنه يقال اتقى بترسه أي جعله حاجزاً بين نفسه وبين ما يقصده.
وفي الحديث: (( كنا إذا أحمر البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم )) أي إذا اشتد الحرب جعلناه حاجزاً بيننا وبين العدو، فكأن المتقي يجعل امتثال أمر الله والاجتناب عما نهاه حاجزاً بينه وبين العذاب. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لكعب الأحبار: حدثني عن التقوى فقال: هل أخذت طريقاً ذا شوك قال: نعم. قال فما عملت فيه قال: حذرت وشمرت: قال كعب: ذلك التقوى. وقال شهر بن حوشب : المتقي الذي يترك ما لا بأس به حذراً لما به بأس وقال عمر بن عبد العزيز: التقوى ترك ما حرم الله وأداء ما افترض الله فما رزق الله بعد ذلك فهو خير إلى خير. وقيل هو الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وفي الحديث: (( جماع التقوى في قوله تعالى " إن الله يأمر بالعدل والإحسان " (90-النحل) الآية )) وقال ابن عمر: التقوى أن لا ترى نفسك خيراً من أحد. وتخصيص المتقين بالذكر تشريف لهم أو لأنهم هم المتقون بالهدى.


2- " ذلك الكتاب " ذلك إشارة إلى " الم " إن أول بالمؤلف من هذه الحروف أو فسر بالسورة أو القرآن فإنه لما تكلم به وتقضى ، أو وصل من المرسل إلى المرسل إليه صار متباعداً أشير إليه به إلى البعيد وتذكيره ، متى أريد بـ " الم " االسورة لتذكير الكتاب فإنه خبره أو صفته الذي هو هو ، أو إلى الكتاب فيكون صفته والمراد به الكتاب الموعود إنزاله بنحو قوله تعالى : " إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا " . أو في الكتب المتقدمة وهو مصدر سمي به المفعول للمبالغة .
وقيل فعال بمعنى المفعول كاللباس ، ثم أطلق على المنظوم عبارة قبل أن يكتب لأنه مما يكتب . وأصل الكتب الجمع ومنه الكتيبة .
" لا ريب فيه " معناه أنه لوضوحه وسطوع برهانه بحيث لا يرتاب العاقل بعد النظر الصحيح في كونه وحياً بالغاً حد الإعجاز ، لا أن أحداً لا يرتاب فيه ، ألا ترى إلى قوله تعالى : " وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا " . فإنه ما أبعد عنهم الريب بل عرفهم الطريق المريح له ، وهو أن يجتهدوا في معارضة نجم من نجومه ويبذلوا فيها غاية جهدهم حتى إذا عجزوا عنها تحقق لهم أن ليس فيه مجال للشبهة ولا مدخل للريبة .
وقيل : معناه لا ريب فيه للمتقين . وهدى حال من الضمير المجرور ، والعامل فيه الظرف الواقع صفة للنفي . والريب في الأصل رابني إذا حصل فيك الريبة ، وهي قلق النفس واضطرابها ، سمي به الشك لأنه يقلق النفس ويزيل الطمأنينة . وفي الحديث " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " فإن الشك ريبة والصدق طمأنينة ، ومنه ريب الزمان لنوائبه .
" هدى للمتقين " يهديهم إلى الحق ، والهدى في الأصل مصدر كالسرى والتقى ومعناه الدلالة .
وقيل : الدلالة الموصلة إلى البغية لأنه جعل مقابل الضلالة في قوله تعالى : " لعلى هدى أو في ضلال مبين " ولأنه يقال مهدي إلا لمن اهتدى إلى المطلوب . واختصاصه بالمتقين لأنهم المهتدون به والمنتفعون بنصه ، وإن كانت دلالته عامة لكل ناظر من مسلم أو كافر وبهذا الاعتبار قال تعالى : " هدى للناس " . أو لأنه لا ينتفع بالتأمل فيه إلا من صقل العقل واستعمله في تدبير الآيات والنظر في المعجزات ، وتعرف النبوات ، لأنه كالغذاء الصالح لحفظ الصحة فإنه لا يجلب نفعاً ما لم تكن الصحة حاصلة ، وإليه أشار بقوله تعالى : " وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا " . ولا يقدح ما فيه من المجمل والمتشابه في كونه هدى لما ينفك عن بيان يعين المراد منه . والمتقي اسم فاعل من قولهم وقاه فاتقى . والوقاية : فرط الصيانة . وهو في عرف الشرع اسم لمن يقي نفسه مما يضره في الآخرة ، وله ثلاث مراتب :
الأول : التوقي من العذاب المخلد بالتبري من الشرك وعليه قوله تعالى : " وألزمهم كلمة التقوى " .
الثاني : التجنب عن كل ما يؤثم من فعل أو ترك حتى الصغائر عند قوم وهو المتعارف باسم التقوى في الشرع ، وهو المعنى بقوله تعالى : " ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا " .
الثالثة : أن يتنزه عما يشغل سره عن الحق ويتبتل إليه بشراشره وهو التقوى الحقيقي المطلوب بقوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته " وقد فسر قوله : " هدى للمتقين " ههنا على الأوجه الثلاثة .
واعلم أن الآية تحتمل أوجهاً من الإعراب : أن يكون " الم " مبتدأ على أنه اسم للقرآن أو السورة . أو مقدر بالمؤلف منها ، وذلك خبره وإن كان أخص من المؤلف مطلقاً ، والأصل أن الأخص لا يحمل على الأعلم لأن المراد به المؤلف الكامل في تأليفه البالغ أقصى درجات الفصاحة ومراتب البلاغة والكتاب صفة ذلك .
وأن يكون " الم " خبره مبتدأ محذوف وذلك خبراً ثانياً . أو بدلاً والكتاب صفته ، و " لا ريب " في المشهورة مبني لتضمنه معنى من منصوب المحل على أنه اسم لا النافية للجنس العاملة عمل إن ، لأنها تقتضيها ولازمة للأسماء لزومها . وفي قراءة أبي الشعثاء مرفوع بلا التي بمعنى ليس وفيه خبره ولم يقدم كما قدم قوله تعالى : " لا فيها غول " لأنه لم يقصد تخصيص نفي الريب به من بين سائر الكتب كما قصد ثمة ، أو صفته وللمتقين خبره . وهدى نصب على الحال ، أو الخبر محذوف كما في " لا " ، ضمير . فلذلك وقف على " لا ريب " ، على أن فيه خبر هدى قدم عليه لتنكيره والتقدير : لا ريب فيه ، فيه هدى ، وأن يكون ذلك مبتدأ و " الكتاب " خبره على معنى : أنه الكتاب الكامل الذي يستأهل أن يسمى كتاباً ، أو صفته وما بعده خبره والجملة خبر " الم " .
والأول أن يقال إنها جمل متناسقة تقرر اللاحقة منها السابقة ولذلك لم يدخل العاطف بينهما . فـ" الم " ، جملة دلت على أن المتحدى به هو المؤلف من جنس ما يركبون منه كلامهم ، وذلك الكتاب جملة ثانية مقررة لجهة التحدي و " لا ريب فيه " ، جملة ثالثة تشهد على كماله بأن الكتاب المنعوت بغاية الكمال إذ لا كمال أعلى مما للحق واليقين . و " هدى للمتقين " ، بما يقدر له مبتدأ جملة رابعة تؤكد كونه حقاً لا يحوم الشك حوله بأنه " هدى للمتقين " ، أو تستتبع السابقة منها اللاحقة استتباع الدليل للمدلول ، وبيانه أنه لما نبه أولاً على إعجاز المتحدى به من حيث إنه من جنس كلامهم وقد عجزوا عن معارضته ، استنتج منه أنه الكتاب البالغ حد الكمال واستلزم ذلك أن لا يتشبث الريب بأطرافه إذ لا أنقص مما يعتريه الشك والشبهة ، وما كان كذلك كان لا محالة " هدى للمتقين " ، وفي كل واحدة منها نكتة ذات جزالة ففي الأولى الحذف والرمز إلى المقصود مع التعليل ، وفي الثانية فخامة التعريب ، وفي الثالثة تأخير الظرف حذراً عن إبهام الباطل ، وفي الرابعة الحذف والتوصيف بالمصدر للمبالغة وإيراده منكراً للتعظيم وتخصيص الهدى بالمتقين باعتبار الغاية تسمية المشارف للتقوى متقياً إيجازاً وتفخيماً لشأنه .
2. This is the Scripture whereof there is no doubt, a guidance unto those who ward off (evil).
2 - This is the book; In it is guidance sure, without doubt To those Who Fear God;