[البقرة : 182] فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
(فمن خاف من مُوصٍ) مخففا ومثقلا (جَنَفا) ميلا عن الحق خطأ (أو إثما) بأن تعمد ذلك بالزيادة على الثلث أو تخصيص غني مثلا (فأصلح بينهم) بين الموصي والموصى له بالأمر بالعدل (فلا إثم عليه) في ذلك (إن الله غفور رحيم)
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل هذه الآية.فقال بعضهم: تأويلها: فمن حضر مريضا وهو يوصي عند إشرافه على الموت، فخاف أن يخطىء في وصيته فيفعل ما ليس له، أو أن يعمد جورا فيها فيأمر بما ليس له الأمر به، فلا حرج على من حضره فسمع ذلك منه أن يصلح بينه وبين ورثته، بأن يأمره بالعدل في وصيته، وأن ينهاهم عن منعه مما أذن الله له فيه وأباحه له. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح،
عن مجاهد في قوله: "فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه"، قال: هذا حين يحضر الرجل وهو يموت، فإذا أسرف أمروه بالعدل، وإذا قصر قالوا: افعل كذا، أعط فلانا كذا.حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: "فمن خاف من موص جنفا أو إثما"، قال: هذا حين يحضر الرجل وهو في الموت، فإذا أشرف على الجور أمروه بالعدل، وإذا قصر عن حق قالوا: افعل كذا، أعط فلانا كذا. وقال آخرون: بل معنى ذلك: فمن خاف- من أولياء ميت، أو والي أمر المسلمين- من موص جنفاً
في وصيته التي أوصى بها الميت، فأصلح بين ورثته وبين الموصى لهم بما أوصى لهم به، فرد الوصية الى العدل والحق، فلا حرج ولا إثم. ذكر من قال ذلك:حدثني المثنى، حدثنا أبو صالح كاتب الليث، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: "فمن خاف من موص جنفا"- يعني: إثما- يقول: إذا أخطأ الميت في وصيته أو حاف فيها، فليس على الأولياء حرج أن يردوا خطأه إلى الصواب.
حدثنا الحسن بن يحيى، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: "فمن خاف من موص جنفا أو إثما"، قال: هو الرجل يوصي فيحيف في وصيته، فيردها الولي إلى الحق والعدل. حدثنا بشر بن معاذ، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة قوله: "فمن خاف من موص جنفا أو إثما"، وكان قتادة يقول: من أوصى بجور أو حيف في وصيته فردها ولي المتوفى أو إمام من أئمة المسلمين، إلى كتاب الله وإلى العدل، فذاك له. حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد وابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: "فمن خاف من موص جنفا أو إثما"، فمن أوصى بوصية بجور، فرده الوصي إلى الحق بعد موته، فلا إثم عليه- قال عبد الرحمن في حديثه: "فأصلح بينهم" يقول: رده الوصي إلى الحق بعد موته، فلا إثم عليه. حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا قبيصة، عن سفيان، عن أبيه، عن إبراهيم: "فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم"، قال: رده إلى الحق.حدثنا أحمد بن إسحق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا إسرائيل، عن سعيد بن مسروق، عن إبراهيم قال: سألته عن رجل أوصى بأكثر من الثلث؟ قال: ارددها. ثم قرأ: "فمن خاف من موص جنفا أو إثما". حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا خالد بن زيد صاحب اللؤلؤ قال، حدثنا أبو جعفر الرازي، عن قتادة بن أنس: "فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه"، قال: رده الوصي إلى الحق بعد موته، فلا إثم على الوصي. وقال بعضهم: بل معنى ذلك: فمن خاف من موص جنفا أو إثما في عطيته عند حضور أجله بعض ورثته دون بعض، فلا إثم على من أصلح بينهم، يعني: بين الورثة. ذكر من قال ذلك:حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء قوله: "فمن خاف من موص جنفا أو إثما"، قال: الرجل يحيف أو يأثم عند موته، فيعطي ورثته بعضهم دون بعض، يقول الله: فلا إثم على المصلح بينهم. فقلت لعطاء: أله أن يعطي وارثه عند الموت، إنما هي وصية، ولا وصية لوارث؟ قال: ذلك فيما يقسم بينهم.وقال آخرون: معنى ذلك: فمن خاف من موص جنفا أو إثما في وصيته لمن لا يرثه، بما يرجع نفعه على من يرثه، فأصلح بين ورثته، فلا إثم عليه. ذكر من قال ذلك:حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، أخبرني ابن طاوس، عن أبيه أنه كان يقول: جنفه وإثمه، أن يوصي الرجل لبني ابنه ليكون المال لأبيهم، وتوصي المرأة لزوج ابنتها ليكون المال لابنتها؟ وذو الوارث الكثير والمال قليل، فيوصي بثلث ماله كله، فيصلح بينهم الموصى إليه أو الأمير. قلت: أفي حياته أم بعد موته؟ قال: ما سمعنا أحدا يقول إلا بعد موته، وإنه ليوعظ عند ذلك.حدثني الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن ابن طاوس، عن أبيه في قوله: "فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم"، قال: هو الرجل يوصي لولد ابنته. وقال آخرون: بل معنى ذلك: فمن خاف من موص لآبائه وأقربائه جنفا على بعضهم لبعض، فأصلح بين الآباء والأقرباء، فلا إثم عليه.
ذكر من قال ذلك: حدثني موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه". أما "جنفا": فخطأ في وصيته، وأما "إثما": فعمدا يعمد في وصيته الظلم. فإن هذا أعظم لأجره أن لا ينفذها، ولكن يصلح بينهم على ما يرى أنه الحق، ينقص بعضا ويزيد بعضا. قال: ونزلت هذه الآية في الوالدين والأقربين.حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: "فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه"، قال: الجنف أن يحيف لبعضهم على بعض في الوصية، والإثم أن يكون قد أثم في أبويه بعضهم على بعض، "فأصلح بينهم" الموصى إليه بين الوالدين والأقربين- الابن والبنون هم الأقربون - فلا إثم عليه. فهذا الموصى الذي أوصى إليه بذلك، وجعل إليه، فرأى هذا قد أجنف لهذا على هذا، فأصلح بينهم فلا إثم عليه، فيعجز الموصي أن يوصي كما أمره الله تعالى، وعجز الموصى إليه أن يصلح، فانتزع الله تعالى ذكره ذلك منهم، ففرض الفرائض.قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في تأويل الآية أن يكون تأويلها: فمن خاف من موص جنفا أو إثما- وهو أن يميل إلى غير الحق خطأ منه، أو يتعمد إثما في وصيته، بأن يوصي لوالديه وأقربيه الذين لا يرثونه بأكثر مما يجوز له أن يوصي لهم به من ماله، وغير ما أذن الله له به مما جاوز الثلث أو بالثلث كله، وفي المال قلة، وفي الورثة كثرة- فلا بأس على من حضره أن يصلح بين الذين يوصى لهم، وبين ورثة الميت، وبين الميت، بأن يأمر الميت في ذلك بالمعروف ويعرفه ما أباح الله له في ذلك وأذن له فيه من الوصية في ماله، وينهاه أن يجاوز في وصيته المعروف الذي قال الله تعالى ذكره في كتابه: "كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف"، وذلك هو الإصلاح الذي قال الله تعالى ذكره: "فأصلح بينهم فلا إثم عليه". وكذلك لمن كان في المال فضل وكثرة وفي الورثة قلة، فأراد أن يقتصر في وصيته لوالديه وأقربيه عن ثلثه، فأصلح من حضره بينه وبين ورثته وبين والديه وأقربيه الذين يريد أن يوصي لهم، بأن يأمر المريض أن يزيد في وصيته لهم، ويبلغ بها ما رخص الله فيه من الثلث. فذلك أيضا هو من الإصلاح بينهم بالمعروف. وانما اخترنا هذا القول، لأن الله تعالى ذكره قال: "فمن خاف من موص، جنفا أو إثما"، يعني بذلك: فمن خاف من موص أن يجنف أو يأثم. فخوف الجنف والإثم من الموصي، إنما هو كائن قبل وقوع الجنف والإثم، فأما بعد وجوده منه، فلا وجه للخوف منه بأن يجنف أو يأثم، بل تلك حال من قد جنف أو أثم. ولو كان ذلك معناه لقيل: فمن تبين من موص جنفا أو إثما- أو أيقن أو علم- ولم يقل: فمن خاف منه جنفا.فإن أشكل ما قلنا من ذلك على بعض الناس فقال: فما وجه الإصلاح حينئذ، والإصلاح إنما يكون بين المختلفين في الشيء؟. قيل: إن ذلك وإن كان من معاني الإصلاح، فمن الإصلاح الإصلاح بين الفريقين، فيما كان مخوفا حدوث الاختلاف بينهم فيه، بما يؤمن معه حدوث الاختلاف. لأن الإصلاح ، إنما هو الفعل الذي يكون معه إصلاح ذات البين، فسواء كان ذلد الفعل الذي يكون معه إصلاح ذات البين- قبل وقوع الاختلاف أو بعد وقوعه. فإن قال قائل: فكيف قيل: "فأصلح بينهم"، ولم يجر للورثة ولا للمختلفين، أو المخوف اختلافهم، ذكر؟. قيل: بل قد جرى ذكر الذين أمر الله تعالى ذكره بالوصية لهم، وهم والدا الموصي وأقربوه، والذين
أمروا بالوصية في قوله: "كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف"، ثم قال تعالى ذكره: "فمن خاف من موص"- لمن أمرته بالوصية له- "جنفا أو إثما فأصلح بينهم"- وبين من أمرته بالوصية له- "فلا إثم عليه". والإصلاح بينه وبينهم، هو إصلاح بينهم وبين ورثة الموصي. قال أبو جعفر: وقد قرىء قوله: "فمن خاف من موص" بالتخفيف في الصاد والتسكين في الواو- وبتحريك الواو وتشديد الصاد. فمن قرأ ذلك بتخفيف الصاد وتسكين الواو، فإنما قرأه بلغة من قال: أوصيت فلانا بكذا. ومن قرأ بتحريك، الواو وتشديد الصاد، قرأه بلغة من يقول: وصيت فلانا بكذا. وهما لغتان للعرب مشهورتان: وصيتك، وأوصيتك . وأما الجنف، فهو الجور والعدول عن الحق في كلام العرب، ومنه قول الشاعر:
هم المولى وان جنفوا علينا وإنا من لقائهم لزور‌
يقال منه: جنف الرجل على صاحبه يجنف - إذا مال عليه وجار- جنفا. فمعنى الكلام من خاف من موص جنفا له بموضع الوصية، وميلا عن الصواب فيها، وجورا عن القصد أو إثما بتعمده ذلك على علم منه بخطأ ما يأتي من ذلك، فأصلح بينهم، فلا إثم عليه. وبمثل الذي قلنا فى معنى الجنف والإثم ، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنى محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله: "فمن خاف من موص جنفا"، يعني بالجنف: الخطأ. حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح، عن عبد الملك، عن عطاء: "فمن خاف من موص جنفا"، قال: ميلا. حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك، عن عطاء مثله.حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا خالد بن الحارث ويزيد بن هرون قالا، حدثنا عبدالملك، عن عطاء مثله.
حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك قال: الجنف الخطأ، والإثم العمد.حدثنا أحمد بن إسحق الأهوازي قال، حدثنا ابو أحمد الزبيري قال، حدثنا هشيم، عن جويبر، عن عطاء مثله.حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "فمن خاف من موص جنفا أو إثما"، أما "جنفا" فخطأ في وصيته، وأما "إثما" فعمدا، يعمد في وصيته الظلم. حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: "فمن خاف من موص جنفا أو إثما"، قال: خطأ أو عمدا.حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد وابن أبي جعفر، عن أبي جعفر، عن قتادة: "فمن خاف من موص جنفا أو إثما"، قال: الجنف الخطأ، والإثم العمد. حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا خالد بن يزيد صاحب اللؤلؤ قال، حدثنا أبو جعفر، عن قتادة بن أنس مثله. حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا قبيصة، عن سفيان، عن أبيه، عن إبراهيم:"فمن خاف من موص جنفا أو إثما"، قال: الجنف الخطأ، والإثم العمد. حدثنا أحمد بن إسحق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا فضيل بن مرزوق، عن عطية:"فمن خاف من موص جنفا"، قال: خطأ، "أو إثما" متعمدا. حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن ابن طاوس، عن أبيه: "فمن خاف من موص جنفا"، قال: ميلا. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: "جنفا" حيفا، "والإثم" ميله لبعض على بعض. وكله يصير إلى واحد، كما يكون عفوا غفورا وفورا رحيما.حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: الجنف الخطأ، والإثم العمد. حدثت عن الحسين بن الفرج قال، حدثنا الفضل بن خالد قال، حدثنا عبيد بن سليمان، عن الضحاك قال: الجنف الخطأ، والإثم العمد. وأما قوله: "إن الله غفور رحيم"، فإنه يعني: والله غفور للموصي، فيما كان حدث به نفسه من الجنف والإثم، إذا ترك أن يأثم ويجنف في وصيته، فتجاوز له عما كان حدث به نفسه من الجور، إذ لم يمض ذلك فيغفل أن يؤاخذه به، "رحيم" بالمصلح بين الموصي وبين من أراد أن يحيف عليه لغيره، أو يأثم فيه له.
قوله تعالى : "فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم" .
فيه ست مسائل :
الأولى :قوله تعالى : "فمن خاف" من شرط ، و خاف بمعنى خشي . وقيل : علم . والأصل خوف ،قلبت الواو ألفاً لتحركها وتحرك ما قبلها . وأهل الكوفة يميلون خاف ليدلوا على الكسرة من فعلت . من موص بالتشديد قراءة ابي بكر عن عاصم وحمزة و الكسائي ، وخفف الباقون ، والتخفيف أبين ، لأن أكثر النحويين يقولون موص للتكثير . وقد يجوز أن يكون مثل كرم وأكرم . جنفا من جنف يجنف إذا جار ، والإسم منه جنيف وجانف ، عن النحاس . وقيل :الجنف الميل . قال الأعش :
تجانف عن حجر اليمامة ناقتي وما قصدت من أهلها لسوائكا
وفي الصحاح : الجنف الميل . وقد جنف بالكسر يجنف جنفاً إذا مال ، ومنه قوله تعالى : "فمن خاف من موص جنفا" قال الشاعر :
هم المولى وإن جنفوا علينا وإنا من لقائهم لزور
قال أبو عبيدة : المولى ها هنا في موضع الموالي ، أي بني العم ، كقوله تعالى : "ثم يخرجكم طفلا" . وقال لبيد :
إني أمرؤ منعت أرومة عامر ضيمي وقد جنفت علي خصومي
قال أبو عبيدة : وكذلك الجانىء ( بالهمز ) وهو المائل أيضاً . ويقال : أجنف الرجل ، أي جاء بالجنف . كما يقال : ألام ، أي أتى بما يلام عليه . وأخس ، أي أتى بخسيس . وتجانف لإثم ، أي مال . ورجل أجنف ، أي منحني الظهر . وجنفى ( على فعلى بضم الفاء وفتح العين ) :اسم موضع ، عن ابن السكيت . وروي عن علي أنه قرأ حيفا بالحاء والياء ، أي ظلماً . وقال مجاهد : "فمن خاف" أي من خشي أن يجنف الموصي ويقطع ميراث طائفة ويتعمد الأذية ، أو يأيتها دون تعمد ، وذلك هو الجنف دون إثم ، فإن تعمد فهو الجنف في إثم . فالمعنى من وعظ في ذلك ورد عنه فأصلح بذلك ما بينه وبين ورثته وبين الورثة في ذاتهم فلا إثم عليه . "إن الله غفور" عن الموصي إذا عملت فيه الموعظة ورجع عما أراد من الأذية . وقال ابن عباس و قتادة والربيع وغيرهم : معنى الآية من خاف أي علم ورأى وأتى علمه عليه بعد موت الموصي أن الموصي جنف وتعمد أذية بعض ورثته فأصلح ما وقع بين الورثة من الاضطراب والشقاق "فلا إثم عليه" ، أي لا يلحقه إثم المبدل المذكور قبل . وإن كان في فعله تبديل ما ولا بد ، ولكنه تبديل لمصحلة . والتبديل الذي فيه الإثم إنما هو تبديل الهوى .
الثانية : الخطاب بقوله : "فمن خاف" لجميع المسلمين . قيل لهم : إن خفتم من موص ميلاً في الوصية وعدولاً عن الحق ووقوعاً في إثم ولم يخرجها بالمعروف ، وذلك بأن يوصي بالمال إلى زوج ابنته أو لولد ابنته لينصرف المال إلى ابنته ، أو إلى ابن ابنه والغرض أن ينصرف المال إلى ابنه ، أو أوصى لبعيد وترك القريب ، فبادروا إلى السعي في الإصلاح بينهم ، فإذا وقع الصلح سقط الإثم عن المصلح . والإصلاح فرض على الكفاية ، فإذا قام أحدهم به سقط عن الباقين ، وإن لم يفعلوا أثم الكل .
الثالثة : في هذه الآية دليل على الحكم بالظن ، لأنه إذا ظن قصد الفساد وجب السعي في الصلاح . وإذا تحقق الفساد لم يكن صلحاً إنما يكون حكماً بالدفع وإبطالاً للفساد وحسماً له .
قوله تعالى : "فأصلح بينهم" عطف على خاف ، والكناية عن الورثة ، ولم يجر لهم ذكر لأنه قد عرف المعنى ، وجواب الشرط فلا إثم عليه .
الرابعة : لا خلاف أن الصدقة في حال الحياة والصحة أفضل منها عند الموت ، لقوله عليه السلام وقد سئل : "أي الصدقة أفضل ؟ فقال : إن تصدق وأنت صحيح شحيح" الحديث ، أخرجه أهل الصحيح . وروى الدار قطني عن ابي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
"لأن يتصدق المرء في حياته بدرهم خير له من أن يتصدق عند موته بمائة" . وروى النسائي عن ابي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال
"مثل الذي ينفق أو يتصدق عند موته مثل الذي يهدي بعد ما يشبع".
الخامسة : من لم يضر في وصيته كانت كفارة لما ترك من زكاته . روى الدار قطني عن معاوية بن قرة عن ابيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"من حضرته الوفاة فأوصى فكانت وصيته على كتاب الله كانت كفارة لما ترك من زكاته" . فإن ضر في الوصية وهي :
السادسة :فقد روى الدار قطني ايضاً عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
"الإضرار في الوصية من الكبائر" . وروى أبو داود عن أي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
"إن الرجل أو المرأة ليعمل بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار" . وترجم النسائي الصلاة على من جنف في وصيته أخبرنا علي بن حجر أنبأنا هشيم عن منصور وهو ابن زاذان عن الحسن عن عمرات بن حصين رضي الله عنه :
"أن رجلاً أعتق ستة مملوكين له عند موته ولم يكن له مال غيرهم ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فغضب من ذلك وقال : لقد هممت ألا أصلي عليه ثم دعا مملوكيه فجزأهم ثلاثة أجزاء ثم أقرع بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة " . وأخرجه مسلمبمعناه إلا أنه قال في آخره . وقال له قولاً شديداً ، بدل قوله : "لقد هممت ألا أصلي عليه" .
اشتملت هذه الاية الكريمة على الأمر بالوصية للوالدين والأقربين, وقد كان ذلك واجباً على أصح القولين قبل نزول آية المواريث, فلما نزلت آية الفرائض نسخت هذه, وصارت المواريث المقدرة فريضة من الله يأخذها أهلوها حتماً من غير وصية ولا تحمل منة الموصي, ولهذا جاء في الحديث الذي في السنن وغيرها عن عمرو بن خارجة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب وهو يقول "إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه, فلا وصية لوارث" وقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن علية عن يونس بن عبيد عن محمد بن سيرين, قال: جلس ابن عباس فقرأ سورة البقرة حتى أتى هذه الاية "إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين" فقال: نسخت هذه الاية وكذا رواه سعيد بن منصور , عن هشيم, عن يونس به, ورواه الحاكم في مستدركه, وقال: صحيح على شرطهما, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله "الوصية للوالدين والأقربين" قال: كان لا يرث مع الوالدين غيرهما إلا وصية للأقربين, فأنزل الله آية الميراث, فبين ميراث الوالدين وأقر وصية الأقربين في ثلث مال الميت, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح, حدثنا حجاج بن محمد, أخبرنا ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء, عن ابن عباس, في قوله "الوصية للوالدين والأقربين": نسختها هذه الاية "للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيباً مفروضاً" ثم قال ابن أبي حاتم, وروي عن ابن عمر وأبي موسى وسعيد بن المسيب والحسن ومجاهد وعطاء وسعيد بن جبير ومحمد بن سيرين وعكرمة وزيد بن أسلم والربيع بن أنس وقتادة والسدي ومقاتل بن حيان وطاوس وإبراهيم النخعي وشريح والضحاك والزهري: أن هذا الاية منسوخة, نسختها آية الميراث والعجب من أبي عبد الله محمد بن عمر الرازي رحمه الله, كيف حكى في تفسيره الكبير عن أبي مسلم الأصفهاني أن هذه الاية غير منسوخة وإنما هي مفسرة بآية المواريث, ومعناه كتب عليكم ما أوصى الله به من توريث الوالدين والأقربين من قوله "يوصيكم الله في أولادكم" قال: وهو قول أكثر المفسرين والمعتبرين من الفقهاء: قال: ومنهم من قال: إنها منسوخة فيمن يرث ثابتة فيمن لا يرث, وهو مذهب ابن عباس والحسن ومسروق وطاوس والضحاك ومسلم بن يسار والعلاء بن زياد. (قلت) وبه قال أيضاً سعيد بن جبير والربيع بن أنس وقتادة ومقاتل بن حيان, ولكن على قول هؤلاء لا يسمى هذا نسخاً في اصطلاحنا المتأخر, لأن آية المواريث إنما رفعت حكم بعض أفراد ما دل عليه عموم أية الوصاية, لأن الأقربين أعم ممن يرث ولا يرث, فرفع حكم من يرث بما عين له, وبقي الاخر على ما دلت عليه الاية الأولى, وهذا إنما يتأتى على قول بعضهم: إن الوصاية في ابتداء الإسلام إنما كانت ندباً حتى نسخت, فأما من يقول: إنها كانت واجبة وهو الظاهر من سياق الاية, فيتعين أن تكون منسوخة بآية الميراث كما قاله أكثر المفسرين والمعتبرين من الفقهاء, فإن وجوب الوصية للوالدين والأقربين الوارثين منسوخ بالإجماع, بل منهي عنه للحديث المتقدم "إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث" فآية الميراث حكم مستقل ووجوب من عند الله لأهل الفروض والعصبات, يرفع بها حكم هذه بالكلية, بقي الأقارب الذين لا ميراث لهم يستحب له أن يوصي لهم من الثلث استئناساً بآية الوصية وشمولها, ولما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر , قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده" قال ابن عمر : ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك إلا وعندي وصيتي والايات والأحاديث بالأمر ببر الأقارب والإحسان إليهم كثيرة جداً, وقال عبد بن حميد في مسنده: "أخبرنا عبد الله عن مبارك بن حسان, عن نافع قال: قال عبد الله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول الله تعالى: يا بن آدم ثنتان لم يكن لك واحدة منهما: جعلت لك نصيباً في مالك حين أخذت بكظمك لاطهرك به وأزكيك, وصلاة عبادي عليك بعد انقضاء أجلك" وقوله "إن ترك خيراً" أي مالاً, قاله ابن عباس ومجاهد وعطاء وسعيد بن جبير وأبو العالية وعطية العوفي والضحاك والسدي والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان وقتادة وغيرهم, ثم منهم من قال: الوصية مشروعة سواء قل المال أو كثر كالوراثة ومنهم من قال: إنما يوصي إذا ترك مالاً جليلاً, ثم اختلفوا في مقداره, فقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري, أخبرنا سفيان عن هشام بن عروة عن أبيه, قال: قيل لعلي رضي الله عنه: إن رجلاً من قريش قد مات وترك ثلثمائة دينار أو أربعمائة ولم يوص ؟ قال: ليس بشيء إنما قال الله "إن ترك خيراً" وقال أيضاً: وحدثنا هارون بن إسحاق الهمداني, حدثنا عبده يعني ابن سليمان, عن هشام بن عروة عن أبيه: إن علياً دخل على رجل من قومه يعوده, فقال له: أوصي ؟ فقال له علي: إنما قال الله "إن ترك خيراً الوصية" إنما ترك شيئاً يسيراً فاتركه لوالدك, وقال الحاكم: إن أبان حدثني عن عكرمة عن ابن عباس "إن ترك خيراً" قال ابن عباس: من لم يترك ستين ديناراً لم يترك خيراً, قال الحاكم: قال طاوس: لم يترك خيراً من لم يترك ثمانين ديناراً, وقال قتادة: كان يقال: ألفاً فما فوقها. وقوله "بالمعروف" أي بالرفق والإحسان, كما قال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن أحمد, حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن بشار , حدثني سرور بن المغيرة عن عباد بن منصور عن الحسن قوله "كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت" فقال: نعم الوصية حق على كل مسلم أن يوصي إذا حضر الموت بالمعروف غير المنكر , والمراد بالمعروف أن يوصي لأقربيه وصية لا تجحف بورثته من غير إسراف ولا تقتير , كما ثبت في الصحيحين "أن سعداً قال: يا رسول الله, إن لي مالاً ولا يرثني إلا ابنة لي, أفأوصي بثلثي مالي ؟ قال: لا قال: فبالشطر ؟ قال لا قال: فالثلث ؟ قال الثلث والثلث كثير, إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يكففون الناس", وفي صحيح البخاري أن ابن عباس قال: لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع, فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "الثلث والثلث كثير"وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد مولى بني هاشم عن زياد بن عتبة بن حنظلة سمعت حنظلة بن جذيم بن حنيفة: أن جده حنيفة أوصى ليتيم في حجره بمائة من الإبل, فشق ذلك على بنيه فارتفعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال حنيفة: إني أوصيت ليتيم لي بمائة من الإبل كنا نسميها المطية, فقال: النبي صلى الله عليه وسلم "لا لا لا, الصدقة خمس وإلا فعشر وإلا فخمس عشرة وإلا فعشرون وإلا فخمس وعشرين وإلا فثلاثون وإلا فخمس وثلاثون فإن كثرت فأربعون" وذكر الحديث بطوله.
وقوله "فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم" يقول تعالى: فمن بدل الوصية وحرفها, فغير حكمها وزاد فيها أو نقص, ويدخل في ذلك الكتمان لها بطريق الأولى "فإنما إثمه على الذين يبدلونه" قال ابن عباس وغير واحد: وقد وقع أجر الميت على الله, وتعلق الإثم بالذين بدلوا ذلك "إن الله سميع عليم" أي قد اطلع على ما أوصى به الميت وهو عليم بذلك وبما بدله الموصى إليهم, وقوله تعالى: "فمن خاف من موص جنفاً أو إثماً" قال ابن عباس وأبو العالية ومجاهد والضحاك والربيع بن أنس والسدي: الجنف الخطأ, وهذا يشمل أنواع الخطأ كلها بأن زادوا وارثاً بواسطة أو وسيلة, كما إذا أوصى ببيعة الشيء الفلاني محاباة أو أوصى لابن ابنته ليزيدها أو نحو ذلك من الوسائل, إما مخطئاً غير عامد بل بطبعه وقوة شفقته من غير تبصر , أو متعمداً آثماً في ذلك, فللوصي والحالة هذه, أن يصلح القضية ويعدل في الوصية على الوجه الشرعي, ويعدل عن الذي أوصى به الميت إلى ما هو أقرب الأشياء إليه وأشبه الأمور به جمعاً بين مقصود الموصي والطريق الشرعي, وهذا الإصلاح والتوفيق, ليس من التبديل في شيء, ولهذا عطف هذا فبينه على النهي عن ذلك, ليعلم أن هذا ليس من ذلك بسبيل, والله أعلم, وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا العباس بن الوليد بن مزيد قراءة, أخبرني أبي عن الأوزاعي, قال الزهري: حدثني عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "يرد من صدقة الجانف في حياته ما يرد من وصية المجنف عند موته" وهكذا رواه أبو بكر بن مردويه من حديث العباس بن الوليد به, قال ابن أبي حاتم: وقد أخطأ فيه الوليد بن مزيد, وهذا الكلام إنما هو عن عروة فقط , وقد رواه الوليد بن مسلم عن الأوزاعي فلم يجاوز به عروة, وقال ابن مردويه أيضاً: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم, حدثنا إبراهيم بن يوسف, حدثنا هشام بن عمار , حدثنا عمر بن المغيرة عن داود بن أبي هند, عن عكرمة, عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الجنف في الوصية من الكبائر " وهذا في رفعه أيضاً نظر, وأحسن ما ورد في هذا الباب ما قال عبد الرزاق: حدثنا معمر أشعث بن عبد الله, عن شهر بن حوشب, عن أبي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة, فإذا أوصى حاف في وصيته, فيختم له بشر عمله فيدخل النار. وإن الرجل ليعمل بعمل الشر سبعين سنة, فيعدل في وصيته, فيختم له بخير عمله, فيدخل الجنة" قال أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم "تلك حدود الله فلا تعتدوها" الاية.
قال القرطبي: ولا خلاف أنه إذا أوصى بما لا يجوز، مثل أن يوصي بخمر أو خنزير أو شيء من المعاصي أنه يجوز تبديله، ولا يجوز إمضاؤه كما لا يجوز إمضاء ما زاد على الثلث. قاله أبو عمر انتهى. والجنف: المجاوزة، من جنف يجنف: إذا جاوز، قاله النحاس، وقيل الجنف: الميل، ومنه قول الأعشى:
تجانف عن حجر اليمامة يا فتى وما قصدت من أهلها لسوائكا
قال في الصحاح: الجنف الميل، وكذا في الكشاف. وقال لبيد:
إني امرؤ منعت أرومة عامر ضيمي وقد جنفت علي خصومي
وقوله: 182- "فأصلح بينهم" أي أصلح ما وقع بين الورثة من الشقاق والاضطراب بسبب الوصية بإبطال ما فيه ضرار ومخالفة لما شرعه الله، وإثبات ما هو حق كالوصية في قربة لغير وارث، والضمير في قوله: "بينهم" راجع إلى الورثة، وإن لم يتقدم لهم ذكر، لأنه قد عرف أنهم المرادون من السياق، وقيل: راجع إلى الموصى لهم، وهم الأبوان والقرابة.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "إن ترك خيراً" قال: مالاً. وأخرج ابن جرير عن مجاهد نحوه. وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس قال: من لم يترك ستين ديناراً لم يترك خيراً. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم والبيهقي في سننه عن عروة، أن علي بن أبي طالب دخل على مولى لهم في الموت وله سبعمائة درهم أو ستمائة درهم فقال: ألا أوصي؟ قال: لا؟ إنما قال الله: "إن ترك خيراً" وليس لك كثير مال فدع مالك لورثتك. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر والبيهقي عن عائشة، أن رجلاً قال لها: أريد أن أوصي قالت: كم مالك؟ قال: ثلاثة آلاف، قالت: كم عيالك؟ قال: أربعة، قالت: قال الله: "إن ترك خيراً" وإن هذا شيء يسير فاتركه لعيالك فهو أفضل. وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور والبيهقي عن ابن عباس قال: إذا ترك الميت سبعمائة درهم فلا يوصي. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن الزهري. قال: جعل الله الوصية حقاً مما قل منه ومما كثر. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر حديثاً وفيه: "أنظر قرابتك الذين يحتاجون ولا يرثون، فأوص لهم من مالك بالمعروف". وأخرجا أيضاً عن طاوس قال: من أوصى لقوم وسماهم وترك ذو قرابته محتاجين انتزعت منهم وردت على قرابته. وأخرج سعيد بن منصور وأحمد وعبد بن حميد وأبو داود في الناسخ وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن محمد بن بشير عن ابن عباس قال: نسخت هذه الآية. وأخرج عنه من وجه آخر أبو داود في ناسخه وابن المنذر وابن أبي حاتم أن هذه الآية نسخها قوله تعالى: "للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون" الآية. وأخرج عنه من وجه آخر ابن جرير وابن أبي حاتم أنها منسوخة بآية الميراث. وأخرج عنه أبو داود في سننه والبيهقي مثله. وأخرج ابن جرير عنه أنه قال: في الآية نسخ من يرث، ولم ينسخ الأقربين الذين لا يرثون. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي عن ابن عمر أنه قال: هذه الآية نسختها آية الميراث. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "فمن بدله" الآية، قال: وقد وقع أجر الموصي على الله وبرئ من إثمه، وقال في قوله: "جنفاً" يعني إثماً "فأصلح بينهم" قال: إذا أخطأ الميت في وصيته أو حاف فيها فليس على الأولياء حرج أن يردوا خطأه إلى الصواب. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير نحوه لكنه فسر الجنف بالميل. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "جنفاً أو إثماً" قال: خطأ أو عمداً. وأخرج سعيد بن منصور والبيهقي في سننه عنه قال: الجنف في الوصية والإضرار فيها من الكبائر.

182. قوله تعالى " فمن خاف " أي علم، كقوله تعالى: " فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله " (229-البقرة) أي علمتم " من موص " قرأ حمزة و الكسائي و أبو بكر و يعقوب بفتح الواو وتشديد الصاد، كقوله تعالى: " ما وصى به نوحاً " (13-الشورى) " ووصينا الإنسان " (8-العنكبوت) وقرأ الآخرون بسكون الواو وتخفيف الصاد، كقوله تعالى: " يوصيكم الله في أولادكم " (11-النساء) " من بعد وصية يوصي بها أو دين " (12-النساء) " جنفاً " أي جوراً وعدولاً عن الحق، والجنف: الميل " أو إثماً " أي ظلماً، قال السدي و عكرمة و الربيع : الجنف الخطأ والإثم العمد " فأصلح بينهم فلا إثم عليه " واختلفوا في معنى الآية، قال مجاهد : معناها أن الرجل إذا حضر مريضاً وهو يوصي فرآه يميل إما بتقصير أو إسراف، أو وضع الوصية في غير موضعها فلا حرج على من حضره أن يأمره بالعدل وينهاه عن الجنف فينظر للموصى وللورثة، وقال آخرون: إنه أراد به أنه إذا أخطأ الميت في وصيته أو جار متعمداً فلا حرج على وليه أو وصيه أو والي أمور المسلمين أن يصلح بعد موته بين ورثته وبين الموصى لهم، ويرد الوصية إلى العدل والحق، فلا إثم عليه أي: فلا حرج عليه " إن الله غفور رحيم " وقال طاووس : جنفة توليجة، وهو أن يوصي لبني بنيه يريد ابنه ولولد ابنته ولزوج ابنته يريد بذلك ابنته.
قال الكلبي : كان الأولياء والأوصياء يمضون وصية الميت بعد نزول قوله تعالى: " فمن بدله بعد ما سمعه " الآية وإن استغرق المال كله ولم يبق شيء، ثم نسخها قوله تعالى: " فمن خاف من موص جنفاً " الآية، قال ابن زيد : فعجز الموصي أن يوصي للوالدين والأقربين كما أمر الله تعالى، وعجز الموصي أن يصلح فانتزع الله تعالى ذلك منهم ففرض الفرائض.
روي عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الرجل ليعمل أو المرأة بطاعة الله ستين سنة، ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار " ثم قرأ أبو هريرة: ( من بعد وصية يوصي بها أو دين ) إلى قوله ( غير مضار ).
182-" فمن خاف من موص " أي توقع وعلم ، من قولهم أخاف أن ترسل السماء . وقرأ حمزة و الكسائي و يعقوب و أبو بكر " موصً " مشدداً . " جنفاً " ميلاً بالخطأ في الوصية . " أو إثماً " تعمداً للحيف . " فأصلح بينهم " بين الموصى لهم بإجرائهم على نهج الشرع . " فلا إثم عليه " في هذا التبديل ، لأنه تبديل باطل إلى الحق بخلاف الأول . " إن الله غفور رحيم " وعد للمصلح ، وذكر المغفرة لمطابقة ذكر الإثم وكون الفعل من جنس ما يؤثم .
182. But he who feareth from a testator some unjust or sinful clause, and maketh peace between the parties, (it shall be) no sin for him. Lo! Allah is Forgiving, Merciful.
182 - But if anyone fears partiality or wrong doing on the part of the testator, and makes peace between (the parties concerned), there is no wrong in him: for God is oft forgiving, most merciful.