[البقرة : 159] إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ
ونزل في اليهود: (إن الذين يكتمون) الناس (ما أنزلنا من البينات والهدى) كآية الرجم ونعت محمد صلى الله عليه وسلم (من بعد ما بيناه للناس في الكتاب) التوراة (أولئك يلعنهم الله) يبعدهم من رحمته (ويلعنهم اللاعنون) الملائكة والمؤمنون أو كل شيء بالدعاء عليهم باللعنة
قوله تعالى إن الذين يكتمون الآية ك أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق سعيد أو عكرمة عن ابن عباس قال سأل معاذ بن جبل وسعد بن معاذ وخارجة بن زيد نفرا من أحبار يهود عن بعض ما في التوراة فكتموهم إياه وأبوا أن يخبروهم فأنزل الله فيهم إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى الآية
قال أبو جعفر: يعني بقوله: "إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات"، علماء اليهود وأحبارها، وعلماء النصارى، لكتمانهم الناس أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، وتركهم اتباعه وهم يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل.و"البينات"، التي أنزلها الله: ما بين من أمر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ومبعثه وصفته، في الكتابين اللذين أخبر الله تعالى ذكره أن أهلهما يجدون صفته فيهما. ويعني تعالى ذكره ب الهدى ما أوضح لهم من أمره في الكتب التي أنزلها على أنبيائهم، فقال تعالى ذكره: إن الذين يكتمون الناس الذي أنزلنا في كتبهم من البيان عن أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته، وصحة الملة التي أرسلته بها وحقيتها، فلا يخبرونهم به، ولا يعلنونه من بعد تبييني ذلك للناس وإيضاحيه لهم، في الكتاب الذي أنزلته إلى أنبيائهم، " أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون * إلا الذين تابوا" الآية. كما: حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير- وحدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة- قالا جميعاً، حدثنا محمد بن إسحق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، حدثني سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس قال: سأل معاذ بن جبل أخو بني سلمة، وسعد بن معاذ أخو بني عبد الأشهل، وخارجة بن زيد أخو بني الحارث بن الخزرج، نفراً من أحبار يهود- قال أبو كريب: عما في التوراة، وقال ابن حميد: عن بعض ما في التوراة- فكتموهم إياه، وأبوا أن يخبروهم عنه، فأنزل الله تعالى ذكره فيهم: "إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون". حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: "إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى"، قال: هم أهل الكتاب.حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهدمثله. حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه عن قتادة في قوله: "إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى"، قال: كتموا محمداً صلى الله عليه وسلم، وهم يجدونه مكتوباً عندهم، فكتموه حسداً وبغياً. حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: "إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب"، أولئك أهل الكتاب، كتموا الإسلام وهو دين الله، وكتموا محمداً صلى الله عليه وسلم وهم يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل.حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب"، زعموا أن رجلاً من اليهود كان له صديق من الأنصار يقال له ثعلبة بن غنمة، قال له: هل تجدون محمداً عندكم؟ قال: لا! قال: محمد: "البينات".القول في تأويل قوله تعالى:"من بعد ما بيناه للناس في الكتاب".[قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: "من بعد ما بيناه للناس"]، بعض الناس، لأن العلم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وصفته ومبعثه لم يكن إلا عند أهل الكتاب دون غيرهم، وإياهم عنى تعالى ذكره بقوله: "للناس في الكتاب"، ويعني بذلك: التوراة والإنجيل. وهذه الاية وإن كانت نزلت في خاص من الناس، فإنها معني بها كل كاتم علماً فرض الله تعالى بيانه للناس. وذلك نظير الخبر الذي " روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: من سئل عن علم يعلمه فكتمه، ألجم يوم القيامة بلجام من نار " . وكان أبو هريرة يقول ما: حدثنا به نصر بن علي الجهضمي قال، حدثنا حاتم بن وردان قال، حدثنا أيوب السختياني، عن أبي هريرة قال: لولا آية من كتاب الله ما حدثتكم! وتلا: "إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون" حدثني محمد بن عبدالله بن عبد الحكم قال، حدثنا أبو زرعة وهب الله بن راشد، عن يونس قال، قال ابن شهاب، قال ابن المسيب: قال أبو هريرة: لولا آيتان أنزلهما الله في كتابه ما حدثت شيئا: "إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات" إلى آخر الآية، والاية الأخرى: "وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس" إلى آخر الآية [آل عمران: 178]. القول في تأويل قوله تعالى:"أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون" قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: "أولئك يلعنهم الله" هؤلاء الذين يكتمون ما أنزله الله من أمر محمد صلى الله عليه وسلم وصفته وأمر دينه، أنه الحق- من بعد ما بينه الله لهم في كتبهم- يلعنهم بكتمانهم ذلك، وتركهم تبيينه للناس. و اللعنة الفعلة، من لعنه الله بمعنى أقصاه وأبعده وأسحقه. وأصل اللعن : الطرد،كما قال الشماخ بن ضرار، وذكر ماء ورد عليه:
ذعرت به القطا ونفيت عنه مقام الذئب كالرجل اللعين
يعني: مقام الذئب الطريد. و اللعين من نعت الذئب ، وإنما أراد: مقام الذئب الطريد اللعين كالرجل. فمعنى الاية إذا: أولئك يبعدهم الله منه ومن رحمته، ويسأل ربهم اللاعنون أن يلعنهم، لأن لعنة بني آدم وسائر خلق الله ما لعنوا أن يقولوا: اللهم العنه إذ كان معنى اللعن هو ما وصفنا من الإقصاء والإبعاد.
وإنما قلنا: إن لعنة اللاعنين هي ما وصفنا: من مسألتهم ربهم أن يلعنهم، وقولهم: لعنه الله أو عليه لعنة الله ، لأن: محمد بن خالد بن خداش ويعقوب بن إبراهيم حدثاني قالا، حدثنا إسمعيل ابن علية، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: "أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون"، البهائم، قال: إذا أسنتت السنة، قالت البهائم: هذا من أجل عصاة بني آدم، لعن الله عصاة بني آدم! ثم اختلف أهل التأويل فيمن عنى الله تعالى ذكره بـ (اللاعنين ). فقال بعضهم: عنى بذلك دواب الأرض وهوامها.
ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد قال: تلعنهم دواب الأرض، وما شاء الله من الخنافس والعقارب تقول: نمنع القطر بذنوبهم. حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد: "أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون"، قال: دواب الأرض، العقارب والخنافس، يقولون: منعنا القطر بخطايا بني آدم. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن مجاهد: "ويلعنهم اللاعنون"، قال: تلعنهم الهوام ودواب الأرض، تقول: أمسك القطر عنا بخطايا بني آدم. حدثنا مشرف بن أبان الحطاب البغدادي قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن خصيف، عن عكرمة في قوله: "أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون"، قال: يلعنهم كل شيء حتى الخنافس والعقارب، يقولون: منعنا القطر بذنوب بني ادم. حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "ويلعنهم اللاعنون"، قال: اللاعنون: البهائم. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: "ويلعنهم اللاعنون" البهائم، تلعن عصاة بني آدم حين أمسك الله عنهم بذنوب بني آدم المطر، فتخرج البهائم فتلعنهم.حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني مسلم بن خالد،عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد فى قوله: "أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون"، البهائم: الإبل والبقر والغنم، فتلعن عصاة بني آدم إذا أجدبت الأرض. فإن قال قائل: وما وجه الذين وجهوا تأويل قوله: "ويلعنهم اللاعنون"، إلى أن اللاعنين هم الخنافس والعقارب ونحو ذلك من هوائم الأرض، وقد علمت أنها إذا جمعت ما كان من نوع البهائم وغير بني آدم، فإنما تجمعه بغير الياء والنون وغير الواو والنون ، وإنما تجمعه بـ (التاء ) وما خالف ما ذكرنا، فتقول: اللاعنات ونحو ذلك؟قيل: الأمر وإن كان كذلك، فإن من شأن العرب إذا وصفت شيئاً من البهائم أو غيرها- مما حكم جمعه أن يكون ـ التاء وبغير صورة جمع ذكران بني آدم- بما هو من صفة الادميين، أن يجمعوه جمع ذكورهم، كما قال تعالى ذكره: "وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا" [فصلت: 21] فأخرج خطابهم على مثال خطاب بني آدم، إذ كلمتهم وكلموها، وكما قال: "يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم" [النمل: 18] وكما قال: "والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين" [يوسف: 4]. وقال آخرون: عنى الله تعالى ذكره بقوله: "ويلعنهم اللاعنون"، الملائكة والمؤمنين.ذكر من قال ذلك:حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: "ويلعنهم اللاعنون"، قال، يقول: اللاعنون من ملائكة الله ومن المؤمنين. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: "ويلعنهم اللاعنون"، الملائكة. حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنسقال: "اللاعنون"، من ملائكة الله والمؤمنين.وقال آخرون: يعني ـ اللاعنين ، كل ما عدا بني آدم والجن. ذكر من قال ذلك:حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "ويلعنهم اللاعنون"، قال: قال البراء بن عازب: إن الكافر إذا وضع في قبره أتته دابة كأن عينيها قدران من نحاس، معها عمود من حديد، فتضربه ضربة بق كتفيه، فيصيح، فلا يسمع أحد صوته إلا لعنه، ولا يبقى شيء إلا سمع صوته، إلا الثقلين الجن والإنس. حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عنالضحاك في قوله: "أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون"، قال: الكافر إذا وضع في حفرته، ضرب ضربة بمطرق، فيصيح صيحة، يسمع صوته كل شيء إلا الثقلين الجن والإنس، فلا يسمع صيحته شيء إلا لعنه.
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصحة عندنا قول من قال: "اللاعنون"، الملائكة والمؤمنون. لأن الله تعالى ذكره قد وصف الكفار بأن اللعنة التي تحل بهم إنما هي من الله والملائكة والناس أجمعين، فقال تعالى ذكره: "إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين"، فكذلك اللعنة التي أخبر الله تعالى ذكره أنها حالة بالفريق الآخر: الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى من بعدما بينه للناس، هي لعنة الله، ولعنة الذين أخبر أن لعنتهم حالة بالذين كفروا وماتوا وهم كفار، وهم "اللاعنون"، لأن الفريقين جميعاً أهل كفر. وأما قول من قال إن اللاعنين هم الخنافس والعقارب وما أشبه ذلك من دبيب الأرض وهوامها، فإنه قول لا تدرك حقيقته إلا بخبر عن الله أن ذلك من فعلها تقوم به الحجة. ولا خبر بذلك عن نبي الله صلى الله عليه وسلم ، فيجوز أن يقال إن ذلك كذلك.وإذ كان ذلك كذلك، فالصواب من القول فيما قالوه أن يقال: إن الدليل من ظاهر كتاب الله موجود بخلاف قول أهل التأويل، وهو ما وصفنا. فإن كان جائزاً أن تكون البهائم وسائر خلق الله تلعن الذين يكتمون ما أنزل الله في كتابه من صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته ونبوته، بعد علمهم به، وتلعن معهم جميع الظلمة- فغير جائز قطع الشهادة في أن الله عنى بـ (اللاعنين) البهائم والهوائم ودبيب الأرض، إلا بخبر للعذر قاطع. ولا خبر بذلك، وضاهر كتاب الله الذي ذكرناه دال على خلافه.
قوله تعالى "إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون" .
فيه سبع مسائل :
الأولى : أخبر الله تعالى أن الذي يكتم ما أنزل من البينات والهدى ملعون . واختلفوا من المراد بذلك ، فقيل : أحبار اليهود ورهبان النصارى الذين كتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد كتم اليهود أمر الرجم . وقيل : المراد كل من كتم الحق ، فهي عامة في كل من كتم علماً من دين الله يحتاج إلى بثه ، وذلك مفسر في قوله صلى الله عليه وسلم : " من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار" . رواه أبو هريرة وعمرو بن العاص ، أخرجه ابن ماجة . ويعارضه قول عبد الله بن مسعود : ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة .وقال عليه السلام :
"حدث الناس بما يفهمون أتحبون أن يكذب الله ورسوله" . وهذا محمول على بعض العلوم ، كعلم الكلام أو ما لا يستوي في فهمه جميع العوام ، فحكم العالم أن يحدث بما يفهم عنه ،وينزل كل إنسان منزلته ، والله تعالى أعلم .
الثانية : هذه الآية هي التي أراد أبو هريرة رضي الله عنه في قوله :لولا آية في كتاب الله تعالى ما حدثتكم حديثاً . وبها استدل العلماء على وجوب تبليغ العلم الحق ، وتبيان العلم على الجملة ، دون أخذ الأجرة عليه ، إذ لا يستحق الأجرة على ما عليه فعله ، كما لا يستحق الأجرة على الإسلام . وقد مضى القول في هذا .
وتحقيق الآية هو : أن العالم إذا قصد كتمان العلم عصى ، وإذا لم يقصده لم يلزمه التبليغ إذا عرف أنه مع غيره . وأما من سئل فقد وجب عليه التبليغ لهذه الآية وللحديث . أما أنه لا يجوز تعليم الكافر القرآن والعلم حتى يسلم ، وكذلك لا يجوز تعليم المبتدع الجدال والحجاج ليجادل به أهل الحق ، ولا يعلم الخصم على خصمه حجة يقطع بها ماله ، ولا السلطان تأويلاً يتطرق به إلى مكاره الرعية ، ولا ينشر الرخص في السفهاء فيجعلوا ذلك طريقاً إلى ارتكاب المحظورات ، وترك الواجبات ونحو ذلك . يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
"لا تمنعوا الحكمة أهلها فتظلموهم ولا تضعوها في غير أهلها فتظلموها" . وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :
"لا تعلقوا الدر في أعناق الخنازير" ، يريد تعليم الفقه من ليس من أهله . وقد قال سحنون :إن حديث أبي هريرة وعمرو بن العاص إنما جاء في الشهادة . قال ابن العربي : والصحيح خلافه ،لأن في الحديث .
"من سئل عن علم " ولم يقل عن شهادة ، والبقاء على الظاهر حتى يرد عليه ما يزيله ، والله أعلم .
الثالثة : قوله تعالى : "من البينات والهدى" يعم المنصوص عليه والمستنبط ، لشمول اسم الهدى للجميع . وفيه دليل على وجوب العمل بقول الواحد ، لأنه لا يجب عليه البينات إلا وقد وجب قبول قوله ، وقال : "إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا" فحكم بوقوع البينان بخبرهم .
فإن قيل : إنه يجوز أن يكون كل واحد منهم منهياً عن الكتمان ومأموارً بالبيان ليكثر المخبرون ويتواتر بهم الخبر .قلنا : هذا غلط ، لأنهم لم ينهوا عن الكتمان إلا وهم ممن يجوز عليهم التواطؤ عليه ، ومن جاز منهم التواطؤ على الكتمان فلا يكون خبرهم موجباً للعلم ، والله تعالى أعلم .
الرابعة : لما قال : "من البينات والهدى" دل على أن ما كان من غير ذلك جائز كتمه ، لا سيما إن كان مع ذلك خوف فإن ذلك آكد في الكتمان . وقد ترك أبو هريرة ذلك حين خاف فقال :
حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين ، فأما أحدهما فبثثته ، وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم . أخرجه البخاري . قال ابو عبد الله : البلعوم مجرى الطعام . قال علماؤنا : وهذا الذي لم يبثه أبو هريرة وخاف على نفسه فيه الفتنة أو القتل إنما هو مما يتعلق بأمر الفتن والنص على أعيان المرتدين والمنافقين ، ونحو هذا مما لا يتعلق بالبينات والهدى ، والله تعالى أعلم .
الخامسة : قوله تعالى :"من بعد ما بيناه" الكناية في بيناه ترجع إلى ما أنزل من البينات والهدى . والكتاب : اسم جنس ، فالمراد جميع الكتب المنزلة .
السادسة : :قوله تعالى : "ويلعنهم اللاعنون" قال قتادة و الربيع : المراد بـ اللاعنون الملائكة والمؤمنون . قال ابن عطية : وهذا واضح جار على مقتضى الكلام . وقال مجاهد و عكرمة : هم الحشرات والبهائم يصيبهم الجدب بذنوب علماء السوء الكاتمين فليعنونهم . قال الزجاج : والصواب قول من قال : اللاعنون الملائكة والمؤمنون ، فأما أن يكون ذلك لدواب الأرض فلا يوقف على حقيقته إلا بنص أو خبر لازمل ولم نجد من ذينك شيئاً .
قلت : قد جاء بذلك خبر رواه " البراء بن عازب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى "يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون" قال : دواب الأرض " . أخرجه ابن ماجة عن محمد بن الصباح أنبأنا عمار بن محمد عن ليث عن ابي المنهال عن زاذان عن البراء ، إسناد حسن .
فإن قيل : كيف جمع من لا يعقل جمع من يعقل ؟ . قيل :لأنه أسند إليهم فعل من يعقل ، كما قال : "رأيتهم لي ساجدين" ولم يقل ساجدات ، وقد قال : "لم شهدتم علينا" وقال : "وتراهم ينظرون إليك" ، ومثله كثير ، وسيأتي إن شاء الله تعالى . وقال البراء بن عازب وابن عباس : اللاعنون كل المخلوقات ما عدا الثقلين :الجن والإنس ، وذلك " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الكافر إذا ضرب في قبره فصاح سمعه الكل إلا الثقلين ولعنه كل سامع " . وقال ابن مسعود و السدي : هو الرجل يلعن صاحبه فترتفع اللعنة إلى السماء ثم تنحدر فلا تجد صاحبها الذي قيلت فيه أهلاً لذلك ، فترجع إلى الذي تكلم بها فلا تجده أهلاً فتنطلق فتقع على اليهود الذين كتموا ما أنزل الله تعالى ، فهو قوله : "ويلعنهم اللاعنون" فمن مات منهم ارتفعت اللعنة عنه فكانت فيمن بقي من اليهود .

هذا وعيد شديد لمن كتم ما جاء به الرسل من الدلالات البينة على المقاصد الصحيحة, والهدى النافع للقلوب من بعد ما بينه الله تعالى لعباده من كتبه التي أنزلها على رسله, قال أبو العالية: نزلت في أهل الكتاب, كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم, ثم أخبر أنهم يلعنهم كل شيء على صنيعهم ذلك, فكما أن العالم يستغفر له كل شيء حتى الحوت في الماء , والطير في الهواء , فهؤلاء بخلاف العلماء , فيلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون, وقد ورد في الحديث المسند من طرائق يشد بعضها بعضاً عن أبي هريرة وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: "من سئل عن علم فكتمه, ألجم يوم القيامة بلجام من نار" والذي في الصحيح عن أبي هريرة أنه قال: لولا آية في كتاب الله, ما حدثت أحداً شيئاً "إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى" الاية, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا عمار بن محمد عن ليث بن أبي سليم عن المنهال بن عمرو , عن زاذان أبي عمرو , عن البراء بن عازب, قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة, فقال: "إن الكافر يضرب ضربة بين عينيه, يسمعها كل دابة غير الثقلين, فتلعنه كل دابة سمعت صوته, فذلك قول الله تعالى, "أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون" يعني دواب الأرض" ورواه ابن ماجة عن محمد بن الصباح, عن عامر بن محمد به, وقال عطاء بن أبي رباح: كل دابة والجن والإنس, وقال مجاهد: إذا أجدبت الأرض, قال البهائم: هذا من أجل عصاة بني آدم, لعن الله عصاة بني آدم, وقال أبو العالية والربيع بن أنس وقتادة "ويلعنهم اللاعنون" يعني تلعنهم الملائكة والمؤمنون, وقد جاء في الحديث أن العالم يستغفر له كل شيء, حتى الحيتان في البحر , وجاء في هذه الاية أن كاتم العلم يلعنه الله والملائكة والناس أجمعون واللاعنون أيضاً, وهم كل فصيح وأعجمي, إما بلسان المقال, أو الحال, أن لو كان له عقل ويوم القيامة والله أعلم. ثم استثنى الله تعالى من هؤلاء من تاب إليه, فقال: "إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا" أي رجعوا عما كانوا فيه وأصلحوا أعمالهم وبينوا للناس ما كانوا يكتمونه "فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم" وفي هذا دلالة على أن الداعية إلى كفر , أو بدعة إذا تاب إلى الله تاب الله عليه: وقد ورد أن الأمم السابقة لم تكن التوبة تقبل من مثل هؤلاء منهم ولكن هذا من شريعة نبي التوبة ونبي الرحمة صلوات الله وسلامه عليه, ثم أخبر تعالى عمن كفر به واستمر به الحال إلى مماته بأن " عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين * خالدين فيها " أي في اللعنة التابعة لهم إلى يوم القيامة ثم المصاحبة فهم في نار جهنم التي "لا يخفف عنهم العذاب" فيها أي لا ينقص عما هم فيه "ولا هم ينظرون" أي لا يغير عنهم ساعة واحدة ولا يفتر بل هو متواصل دائم فنعوذ بالله من ذلك. قال أبو العالية وقتادة إن الكافر يوقف يوم القيامة فيلعنه الله ثم تلعنه الملائكة, ثم يلعنه الناس أجمعون.
(فصل) لا خلاف في جواز لعن الكفار , وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن بعده من الأئمة, يلعنون الكفرة في القنوت وغيره, فأما الكافر المعين, فقد ذهب جماعة من العلماء إلى أنه لا يلعن لأنا لا ندري بما يختم الله له, واستدل بعضهم بالاية "إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين" وقالت طائفة أخرى: بل يجوز لعن الكافر المعين, واختاره الفقيه أبو بكر بن العربي المالكي ولكنه احتج بحديث فيه ضعف, واستدل غيره بقوله عليه السلام في قصة الذي كان يؤتى به سكران فيحده, فقال رجل لعنه الله: ما أكثر ما يؤتى به, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله" فدل على أن من لا يحب الله ورسوله يلعن, والله أعلم.
قوله: 159- "إن الذين يكتمون" إلى آخر الآية، فيه الإخبار بأن الذي يكتم ذلك ملعون- واختلفوا من المراد بذلك؟ فقيل: أحبار اليهود ورهبان النصارى الذين كتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: كل من كتم الحق وترك بيان ما أوجب الله بيانه، وهو الراجح لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما تقرر في الأصول، فعلى فرض أن سبب النزول ما وقع من اليهود والنصارى من الكتم فلا ينافي ذلك تناول هذه الآية كل من كتم الحق. وفي هذه الآية من الوعيد الشديد ما لا يقادر قدره، فإن من لعنه الله ولعنه كل من يتأتى منه اللعن من عباده قد بلغ من الشقاوة والخسران إلى الغاية التي لا تلحق ولا يدرك كنهها. وفي قوله: "من البينات والهدى" دليل على أنه يجوز كتم غير ذلك كما قال أبو هريرة: "حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين: أما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم" أخرجه البخاري. والضمير في قوله: "من بعد ما بيناه" راجع إلى ما أنزلنا، والكتاب اسم جنس، وتعريفه يفيد شموله لجميع الكتب، وقيل: المراد به التوراة. واللعن: الإبعاد والطرد. والمراد بقوله: "اللاعنون" الملائكة والمؤمنون قاله الزجاج وغيره، ورجحه ابن عطية، وقيل: كل من يتأتى منه اللعن فيدخل في ذلك الجن، وقيل: هم الحشرات والبهائم.
159. قوله تعالى: " إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب " نزلت في علماء اليهود كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم وآية الرجم وغيرهما من الأحكام التي كانت في التوراة " أولئك يلعنهم الله " وأصل اللعن الطرد والبعد " ويلعنهم اللاعنون " أي يسألون الله أن يلعنهم ويقولون: اللهم العنهم. واختلفوا في هؤلاء اللاعنين، قال ابن عباس: جميع الخلائق إلا الجن والإنسز وقال قتادة : هم الملائكة وقال عطاء : الجن والإنس وقال الحسن : جميع عباد الله. قال ابن مسعود: ما تلاعن اثنان من المسلمين إلا رجعت تلك اللعنة على اليهود والنصارى الذين كتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم وصفته وقال مجاهد : اللاعنون البهائم تلعن عصاة بني آدم إذا اشتدت السنة وأمسك المطر وقالت هذا من شؤم ذنوب بني آدم ثم استثنى
159-" إن الذين يكتمون " كأحبار اليهود . " ما أنزلنا من البينات " كالآيات الشاهدة على أمر محمد صلى الله عليه وسلم . " والهدى " وما يهدي إلى وجوب اتباعه والإيمان به . " من بعد ما بيناه للناس " لخصناه . " في الكتاب " في التوراة . " أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون " أي الذين يتأتى منهم اللعن عليهم من الملائكة والثقلين .
159. Those who hide the proofs and the guidance which We revealed, after We had made it clear in the Scripture: such are accursed of Allah and accursed of those who have the power to curse.
159 - Those who conceal the clear (signs) we have sent down, and the guidance, after we have made it clear for the people in the book, on them shall be God's curse, and the curse of those entitled to curse,