[البقرة : 150] وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
(ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره) كرره للتأكيد (لئلا يكون للناس) اليهود أو المشركين (عليكم حجة) أي مجادلة في التولي إلى غيره لتنتفي مجادلتهم لكم من قول اليهود يجحد ديننا ويتبع قبلتنا ، وقول المشركين يدَّعي ملة إبراهيم ويخالف قبلته (إلا الذين ظلموا منهم) بالعناد فإنهم يقولون ما تحول إليها إلا ميلا إلى دين آبائه والاستثناء متصل والمعنى: لا يكون لأحد عليكم كلام إلا كلام هؤلاء (فلا تخشوهم) تخافوا جدالهم في التولي إليها (واخشوني) بامتثال أمري (ولأتم) عطف على لئلا يكون (نعمتي عليكم) بالهداية إلى معالم دينكم (ولعلكم تهتدون) إلى الحق
"ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون"القول في تأويل قوله تعالى: "ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون"قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: "ومن حيث خرجت"، ومن أي موضع خرجت إلى
أي موضع وجهت، فول يا محمد وجهك- يقول: حول وجهك. وقد دللنا على أن التولية في هذا الموضع شطر المسجد الحرام، إنما هي: الإقبال بالوجه نحوه. وقد بينا معنى الشطر فيما مضى. وأما قوله: "وإنه للحق من ربك"، فإنه يعني به تعالى ذكره: وإن التوجه شطره للحق الذي لا شك فيه من عند ربك، فحافظوا عليه، وأطيعوا الله في توجهكم قبله. وأما قوله: "وما الله بغافل عما تعملون"، فإنه يقول: فإن الله تعالى ذكره ليس بساه عن أعمالكم، ولا بغافل عنها، ولكنه محصيها لكم، حتى يجازيكم بها يوم القيامة.القول في تأويل قوله تعالى ذكره"ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره" قال أبو جعفر:يعني بقوله تعالى ذكره:"ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام"،من أي مكان وبقعة شخصت فخرجت يامحمد،فول وجهك تلقاء المسجد الحرام،وهو شطره.ويعني بقوله:"وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم"، وأينما كنتم أيها المؤمنون من أرض الله،فولوا وجوهكم في صلاتكم تجاهه وقبله وقصده.
"لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني"قال أبو جعفر: فقال جماعة من أهل التأويل: عنى الله تعالى بـ الناس في قوله: "لئلا يكون للناس"، أهل الكتاب. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشربن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "لئلا يكون للناس عليكم حجة"، يعني بذلك أهل الكتاب. قالوا-حين صرف نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة البيت الحرام-: اشتاق الرجل إلى بيت أبيه ودين قومه حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة في قوله: "لئلا يكون للناس عليكم حجة"، يعني بذلك أهل الكتاب، قالوا- حين صرف نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة-: اشتاق الرجل إلى بيت أبيه ودين قومه! فإن قال قائل: فأية حجة كانت لأهل الكتاب بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه نحو بيت المقدس، على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه؟ قيل: قد ذكرنا فيما مضى ما روي في ذلك. قيل: إنهم كانوا يقولون: ما درى محمد وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم نحن! وقولهم: يخالفنا محمد في ديننا ويتبع قبلتنا! فهي الحجة التي كانوا يحتحون بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، على وجه الخصومة منهم لهم، والتمويه منهم بها على الجهال وأهل الغباء من المشركين.وقد بينا فيما مضى أن معنى حجاج القوم إياه، الذي ذكره الله تعالى ذكره في كتابه، إنما هي الخصومات والجدالى. فقطع الله جل ثناؤه ذلك من حجتهم وحسمه، بتحويل قبلة نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به، من قبلة اليهود إلى قبلة خليله إبراهيم عليه السلام. وذلك وهو معنى قول الله جل ثناؤه: "لئلا يكون للناس عليكم حجة"، يعني: الناس ، الذين كانوا يحتجون عليهم بما وصفت.وأما قوله: "إلا الذين ظلموا منهم"، فإنهم مشركو العرب من قريش، فيما تأوله أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "إلا الذين ظلموا منهم"، قوم محمد صلى الله عليه وسلم. حدثني موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي، قال: هم المشركون من أهل مكة. حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة:"إلا الذين ظلموا منهم"، يعني مشركي قريش. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة وابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: "إلا الذين ظلموا منهم"، قال: هم مشركو العرب. حدثنا بشربن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة قوله: "إلا الذين ظلموا منهم" ، و "الذين ظلموا": مشركو قريش. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قالعطاء: هم مشركو قريش. قال ابن جريج: وأخبرني عبدالله بن كثير أنه سمع مجاهدا يقول مثل قول عطاء.
فإن قال قائل: وأية حجة كانت لمشركي قريش علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، في توجههم في صلاتهم إلى الكعبة؟ وهل يجوز أن يكون للمشركين على المؤمنين- فيما أمرهم الله به أو نهاهم عنه- حجة؟قيل: إن معنى ذلك بخلاف ما توهمت وذهبت إليه. وإنما الحجة في هذا الموضع، الخصومة والجدال. ومعنى الكلام: لئلا يكون لأحد من الناس عليكم خصومة ودعوى باطل، غير مشركي قريش، فإن لهم عليكم دعوى باطلاً وخصومة بغير حق، بقيلهم لكم: رجع محمد إلى قبلتنا، وسيرجع إلى ديننا. فذلك من قولهم وأمانيهم الباطلة، هي الحجة التي كانت لقريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. ومن أجل ذلك استثنى الله تعالى ذكره "الذين ظلموا" من قريش من سائرالناس غيرهم، إذ نفى أن يكون لأحد منهم في قبلتهم التي وجههم إليها حجة. وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره: "لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم"، قوم محمد صلى الله عليه وسلم. قال مجاهد: يقول: حجتهم، قولهم: قد راجعت قبلتنا! حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله، إلا أنه قال: قد رجعت إلى قبلتنا! حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، حدثنا معمر، عن قتادة وابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: "لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم"، قالا: هم مشركو العرب، قالوا حين صرف القبلة إلى الكعبة: قد رجع إلى قبلتكم، فيوشك أن يرجع إلى دينكم! قال الله عز وجل: "فلا تخشوهم واخشوني ". حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة قوله: "إلا الذين ظلموا منهم"، و "الذين ظلموا": مشركو قريش. يقول: إنهم سيحتجون عليكم بذلك، فكانت حجتهم على نبي الله صلى الله عليه وسلم انصرافه إلى البيت الحرام- أنهم قالوا: سيرجع إلى ديننا كما رجع إلى قبلتنا! فأنزل الله تعالى ذكره في ذلك كله. حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة مثله. حدثني موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي فيما يذكر، عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس- وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: لما صرف نبي الله صلى الله عليه وسلم نحو الكعبة، بعد صلاته إلى بيت المقدس، قال المشركون من أهل مكة: تحير على محمد دينه! فتوجه بقبلته إليكم، وعلم أنكم كنتم أهدى منه سبيلا، ويوشك أن يدخل في دينكم! فأنزل الله جل ثناؤه فيهم: "لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ".حدثنا القاسم قال، حدثني الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قلت لعطاء: قوله: "لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم"، قال: قالت قريش، لما رجع إلى الكعبة وأمر بها: ما كان يستغني عنا! قد استقبل قبلتنا! فهي حجتهم، وهم "الذين ظلموا"، قال ابن جريج: وأخبرني عبدالله بن كثير أنه سمع مجاهدا يقول مثل قول عطاء، فقال مجاهد: حجتهم، قولهم: رجعت إلى قبلتنا!فقد أبان تأويل من ذكرنا تأويله من أهل التأويل قوله: "إلا الذين ظلموا منهم"، عن صحة ما قلنا في تأويله، وأنه استثناء على معنى الاستثناء المعروف، الذي ثبت فيهم لما بعد حرف الاستثناء ما كان منفياً عما قبله. كما قول القائل: ما سار من الناس أحد إلا أخوك، إثبات للأخ من السير ما هو منفي عن كل أحد من الناس. فكذلك قوله: "لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم"، نفى عن أن يكون لأحد خصومة وجدل قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوى باطل، عليه وعلى أصحابه، بسبب توجههم في صلاتهم قبل الكعبة، الا الذين ظلموا أنفسهم من قريش، فإن لهم قبلهم خصومة ودعوى باطلاً بأن يقولوا: إنما توجهتم إلينا وإلى قبلتنا، لأنا كنا أهدى منكم سبيلاً، وأنكم كنتم بتوجهكم نحو بيت المقدس على ضلال وباطل. وإذ كان ذلك معنى الآية بإجماع الحجة من أهل التأويل، فبئيئ خطأ قول من زعم أن معنى قوله: "إلا الذين ظلموا منهم": ولا الذين ظلموا منهم، وأن "إلا" بمعنى الواو. لأن ذلك لو كان معناه، لكان النفي الأول عن جميع الناس- أن يكون لهم حجة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في تحولهم نحو الكعبة بوجوههم- مبيناً عن المعنى المراد، ولم يكن في ذكر قوله بعد ذلك: "إلا الذين ظلموا منهم"، إلا التلبيس الذي يتعالى عن أن يضاف إليه أو يوصف به.هذا مع خروج معنى الكلام- إذا وجهت إلا إلى معنى الواو، ومعنى العطف- من كلام العرب. وذلك أنه غير موجودة "إلا" في شيء من كلامها بمعنى الواو ، إلا مع استثناء سابق قد تقدمها. كقول القائل: سار القوم إلا عمراً إلا أخاك، بمعنى: إلا عمراً وأخاك، فتكون إلا حينئذ مؤدية عما تؤدي عنه الواو، لتعلق إلا الثانية بـ إلا الأولى. ويجمع فيها أيضاً بين إلا الواو فيقال: سار القوم إلا عمراً والا أخاك، فتحذف إحداهما، فتنوب الأخرى عنها، فيقال: أسار القوم إلا عمراً وأخاك- أو الا عمراً إلا أخاك، لما وصفنا قبل.وإذ كان ذلك كذلك، فغير جائز لمدع من الناس أن يدعي أنإلا في هذا الموضع بمعنى الواو التي تأتي بمعنى العطف.وواضح فساد قول من زعم أن معنى ذلك: إلا الذين ظلموا منهم، فإنهم لا حجة لهم، فلا تخشوهم. كقول القائل في الكلام: الناس كلهم لك حامدون إلا الظالم [لك] المعتدي عليك فإن ذلك لا يعتد بعدوانه ولا بتركه الحمد، لموضع العداوة. وكذلك الظالم لا حجة له، وقد سمي ظالما، لإجماع أهل التأويل على تخطئة ما ادعى من التأويل في ذلك. وكفى شاهداً على خطأ مقالته إجماعهم على تخطئتها.وظاهر بطول قول من زعم: أن "الذين ظلموا" ههنا، ناس من العرب كانوا يهودا ونصارى،فكانوا يحتجون على النبي صلى الله عليه وسلم، فأما سائر العرب، فلم تكن لهم حجة، وكانت حجة من يحتج منكسرة. لأنك تقول لمن تريد أن تكسر عليه حجته:إن لك علي حجة ولكنها منكسرة، وإنك لتحتج بلا حجة، وحجتك ضعيفة. ووجه معنى إلا الذين ظلموا منهم إلى معنى: إلا الذين ظلموا منهم، من أهل الكتاب، فإن لهم عليكم حجة واهية أو حجة ضعيفة.ووهي قول من قال: إلا في هذا الموضع بمعنى كن .وضعف قول من زعم أنه ابتداء بمعنى: إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم. لأن تأويل أهل التأويل جاء في ذلك بأن ذلك من الله عز وجل خبر عن الذين ظلموا منهم:أنهم يحتجون على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بما قد ذكرنا، ولم يقصد في ذلك إلى الخبر عن صفة حجتهم بالضعف ولا بالقوة- وإن كانت ضعيفة لأنها باطلة- وإنما قصد فيه الإثبات للذين ظلموا، ما قد نفى عن الذين قبل حرف الاستثناء من الصفة. حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه قال، قال قتادة: إن يهودياً خاصم أبا العالية فقال: إن موسى عليه السلام كان يصلي إلى صخرة بيت المقدس. فقال أبو العالية، : كان يصلي عند الصخرة إلى البيت الحرام. قال: قال: فبيني وبينك مسجد صالح، فإنه نحته من الجبل. قال أبو العالية: قد صليت فيه وقبلته إلى البيت الحرام. قال قتادة: وأخبرني أبو العالية أنه مر على مسجد ذي القرنين، وقبلته إلى الكعبة.وأما قوله: "فلا تخشوهم واخشوني"، يعني: فلا تخشوا هؤلاء الذين وصفت لكم أمرهم من الظلمة في حجتهم وجدالهم وقولهم ما يقولون: في أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد رجع إلى قبلتنا، وسيرجع إلى ديننا! أو أن يقدروا لكم على ضر في دينكم، أو صدكم عما هداكم الله تعالى ذكره له من الحق، ولكن اخشوني فخافوا عقابي، في خلافكم أمري إن خالفتموه.وذلك من الله جل ثناؤه تقدم إلى عباده المؤمنين، بالحض على لزوم قبلتهم والصلاة إليها، وبالنهي عن التوجه إلى غيرها. يقول جل ثناؤه: واخشوني أيها المؤمنون، في ترك طاعتي فيما أمرتكم به من الصلاة شطر المسجد الحرام.وقد حكي عن السدي في ذلك ما:
حدثني موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "فلا تخشوهم واخشوني"، يقول: لا تخشوا أن أردكم في دينهم.القول في تأويل قوله عز وجل: "ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون"قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: "ولأتم نعمتي عليكم"، ومن حيث خرجت من البلاد والأرض، وإلى أي بقعة شخصت، فول وجهك شطر المسجد الحرام، وحيث كنت، يا محمد والمؤمنون، فولوا وجوهكم في صلاتكم شطره، واتخذوه قبلة لكم، كيلا يكون لأحد من الناس - سوى مشركي قريش- حجة، ولأتم بذلك- من هدايتي لكم إلى قبلة خليلي إبراهيم عليه السلام، الذي جعلته إماماً للناس- نعمتي، فأكمل لكم به فضلي عليكم، وأتمم به شرائع ملتكم الحنيفية المسلمة التي وصيت بها نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى وسائر الأنبياء غيرهم. وذلك هو نعمته التي أخبر جل ثناؤه أنه متمها على رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به من أصحابه. وقوله: "ولعلكم تهتدون"، يعني: وكي ترشدوا للصواب من القبلة. و "لعلكم" عطف على قوله: "ولأتم نعمتي عليكم"، "ولأتم نعمتي عليكم" عطف على قوله: "لئلا يكون".
قوله تعالى : "ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام" قيل : هذا تأكيد للأمر باستقبال الكعبة واهتمام بها ، لأن موقع التحويل كان صعباً في نفوسهم جداً ، فأكد الأمر ليرى الناس الاهتمام به فيخف عليهم وتسكن نفوسهم إليه . وقيل : أراد بالأول : ول وجهك شطر الكعبة ، أي عاينها إذا صليت تلقاءها .ثم قال : "وحيث ما كنتم" معاشر المسلمين في سائر المساجد بالمدينة وغيرها "فولوا وجوهكم شطره" .
ثم قال : "ومن حيث خرجت" يعني وجوب الاستقبال في الأسفار ، فكان هذا أمراً بالتوجه إلى الكعبة في جميع المواضع من نواحي الأرض .
قلت : هذا القول أحسن من الأول لأن فيه حمل كل آية على فائدة . وقد روى الدار قطني " عن أنس بن مالك قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان في سفر فأراد أن يصلي على راحلته استقبل القبلة وكبر ثم صلى حيث توجهت به" . أخرجه أبو داود ايضاً ، وبه قال الشافعي و أحمد و أبو ثور . وذهب مالك إلى أنه لا يلزمه الاستقبال ، لحديث ابن عمر قال : "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو مقبل من مكة إلى المدينة على راحلته" ، قال : وفيه نزل "فأينما تولوا فثم وجه الله" وقد تقدم .
قلت : ولا تعارض بين الحديثين ، لأن هذا من باب المطلق والمقيد ، فقول الشافعي أولى ، وحديث انس في ذلك حديث صحيح .ويروى أن جعفر بن محمد سئل ما معنى تكرير القصص في القرآن ؟ فقال ‌: علم الله أن كل الناس لا يحفظ القرآن ، فلو لم تكن القصة مكررة لجاز أن تكون عند بعض الناس ولا تكون عند بعض ، فكررت لتكون عند من حفظ البعض .
قوله تعالى : "لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم" قال مجاهد : هم مشركوا العرب . وحجتهم قولهم : راجعت قبلتنا ، وقد أجيبوا عن هذا بقوله : "قل لله المشرق والمغرب" . وقيل :معنى "لئلا يكون للناس عليكم حجة" لئلا يقولوا لكم : قد أمرتم باستقبال الكعبة ولستم ترونها ، فلما قال عز وجل : "وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره" زال هذا . وقال أبو عبيدة : إن إلا ها هنا بمعنى الواو ، أي والذين ظلموا ، فهو استثناء بمعنى الواو ، ومنه قول الشاعر :
ما المدينة دار غير واحدة دار الخليفة إلا دار مروانا
كأنه قال : إلا دار الخليفة ودار مروان ، وكذا قيل في قوله تعالى : "إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون" أي الذين آمنوا . وأبطل الزجاج هذا القول وقال : هذا خطأ عند الحذاق من النحويين ، وفيه بطلان المعاني ، وتكون إلا وما بعدها مستغنى عن ذكرهما . والقول عندهم أن هذا استثناء ليس من الأول ، أي لكن الذين ظلموا منهم فإنهم يحتجون قال أبو إسحاق الزجاج : أي عرفكم الله أمر الاحتجاج في القبلة في قوله : "ولكل وجهة هو موليها" "لئلا يكون للناس عليكم حجة" إلا من ظلم باحتجاجه فيما قد وضح له ، كما تقول : ما لك علي حجة إلا الظلم أو إلا ان تظلمني ، أي مالك حجة ألبتة ولكنك تظلمني ، فسمي ظلمة حجة لأن المحتج به سماه حجة وإن كانت داحضة . وقال قطرب : يجوز أن يكون المعنى لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا على الذين ظلموا ، فالذين بدل من الكاف والميم في عليكم . وقالت فرقة :"إلا الذين" استثناء متصل ، روي معناه عن ابن عباس وغيره ، واختاره الطبري وقال : نفى الله أن يكون لأحد حجة على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في استقبالهم الكعبة . والمعنى : لا حجة لأحد عليكم إلا الحجة الداحضة . حيث قالوا : ما ولاهم ، وتحير محمد في دينه ، وما توجه إلى قبلتنا إلا أنا كنا أهدى منه ، وغير ذلك من الأقوال التي لم تنبعث إلا من عابد وثن أو يهودي أو منافق . والحجة بمعنى المحاجة التي هي المخاصمة والمجادلة . وسماها الله حجة وحكم بفسادها حيث كانت من ظلمة . وقال ابن عطية : وقيل إن الاستثناء منقطع ، وهذا على أن يكون المراد بالناس اليهود ، ثم استثنى كفار العرب ، كأنه قال : لكن الذين ظلموا يحاجوكم ، وقوله : منهم يرد هذا التأويل . والمعنى لكن الذين ظلموا ، يعني كفار قريش في قولهم : رجع محمد إلى قبلتنا وسيرجع إلى ديننا كله . ويدخل في ذلك كل من تكلم في النازلة من غير اليهود . وقرأ ابن عباس وزيد بن علي وابن زيد ألا الذين ظلموا بفتح الهمزة وتخفيف اللام على معنى استفتاح الكلام ، فيكون الذين ظلموا ابتداء ، أو على معنى الإغراء ، فيكون الذين منصوباً بفعل مقدر .
قوله تعالى : "فلا تخشوهم" يريد الناس "واخشوني" الخشية أصلها طمأنينة في القلب تبعث على التوقي . والخوف : فزع القلب تخف له الأعضاء ، ولخفة الأعضاء به سمي خوفاً . ومعنى الآية التحقير لكل من سوى الله تعالى ، والأمر باطراح أمرهم ومراعاة أمر الله تعالى .
قوله تعالى : "ولأتم نعمتي عليكم" معطوف على لئلا يكون أي ولأن أتم ، قاله الأخفش . وقيل : مقطوع في موضع رفع بالابتداء والخبر مضمر ، التقدير : ولأتم نعمتي عليكم عرفتكم قبلتي ، قاله الزجاج . وإتمام النعمة الهداية إلى القبلة ، وقيل : دخول الجنة . قال سعيد بن جبير : ولم تتم نعمة الله على عبد حتى يدخله الجنة . و "ولعلكم تهتدون" تقدم .
هذا أمر ثالث من الله تعالى باستقبال المسجد الحرام من جيمع أقطار الأرض، قد اختلفوا في حكمة هذا التكرار ثلاث مرات، فقيل، تأكيد لأنه أول ناسخ وقع في الإسلام على ما نص فيه ابن عباس وغيره، وقيل: بل هو منزل على أحوال، فالأمر الأول لمن هو مشاهد الكعبة، والثاني لمن هو في مكة غائباً عنها، والثالث لمن هو في بقية البلدان، هكذا وجهه فخر الدين الرازي. وقال القرطبي: الأول لمن هو بمكة، والثاني لمن هو في بقية الأمصار ، والثالث لمن خرج في الأسفار، ورجح هذا الجواب القرطبي، وقيل: إنما ذكر ذلك لتعلقه بما قبله أو بعده من السياق، فقال: أولاً "قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها" إلى قوله "وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون" فذكر في هذا المقام إجابته إلى طلبته وأمره بالقبلة التي كان كان يود التوجه إليها ويرضاها، وقال في الأمر الثاني، "ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون" فذكر أنه الحق من الله وارتقاءه المقام الأول، حيث كان موافقاً لرضا الرسول صلى الله عليه وسلم فبين أنه الحق أيضاً من الله يحبه ويرتضيه، وذكر في الأمر الثالث حكمة قطع حجة المخالف من اليهود الذين كانوا يتحججون باستقبال الرسول إلى قبلتهم وقد كانوا يعلمون بما في كتبهم أنه سيصرف إلى قبلة إبراهيم عليه السلام إلى الكعبة، وكذلك مشركو العرب انقطعت حجتهم لما صرف الرسول صلى الله عليه وسلم عن قبلة اليهود إلى قبلة إبراهيم التي هي أشرف، وقد كانوا يعظمون الكعبة وأعجبهم استقبال الرسول إليها، وقيل غير ذلك من الأجوبة عن حكمة التكرار ، وقد بسطها الرازي وغيره، والله أعلم. وقوله، "لئلا يكون للناس عليكم حجة" أي: أهل الكتاب فإنهم يعلمون من صفة هذه الأمة التوجه إلى الكعبة، فإذا فقدوا ذلك من صفتها ربما احتجوا بها على المسلمين، ولئلا يحتجوا بموافقة المسلمين إياهم في التوجه إلى بيت المقدس، وهذا أظهر ، قال أبو العالية: "لئلا يكون للناس عليكم حجة" يعني به أهل الكتاب حين قالوا: صرف محمد إلى الكعبة. وقالوا: اشتاق الرجل إلى بيت أبيه ودين قومه وكان حجتهم على النبي صلى الله عليه وسلم انصرافه إلى البيت الحرام، أن قالوا، سيرجع إلى ديننا كما رجع إلى قبلتنا، قال ابن أبي حاتم: وروي عن مجاهد وعطاء والضحاك والربيع بن أنس وقتادة والسدي نحو هذا، وقال هؤلاء في قوله "إلا الذين ظلموا منهم" يعني مشركي قريش. ووجه بعضهم حجة الظلمة وهي داحضة، أن قالوا: إن هذا الرجل يزعم أنه على دين إبراهيم، فلم يرجع عنه والجواب أن الله تعالى اختار له التوجه إلى بيت المقدس، أولا لما له تعالى في ذلك من الحكمة، فأطاع ربه تعالى في ذلك ثم صرفه إلى قبلة إبراهيم وهي الكعبة، فامتثل أمر الله في ذلك أيضاً، فهو صلوات الله وسلامه عليه مطيع لله في جميع أحواله لا يخرج عن أمر الله طرفة عين وأمته تبع له، وقوله، "فلا تخشوهم واخشوني" أي لا تخشوا شبه الظلمة المتعنتين وأفردوا الخشية لي، فإنه تعالى هو أهل أن يخشى منه، وقوله: "ولأتم نعمتي عليكم" عطف على "لئلا يكون للناس عليكم حجة"، أي، لأتم نعمتي عليكم فيما شرعت لكم من استقبال الكعبة، لتكمل لكم الشريعة من جميع وجوهها "ولعلكم تهتدون" أي إلى ما ضلت عنه الأمم هديناكم إليه وخصصناكم به، ولهذا كانت هذه الأمة أشرف الأمم وأفضلها.
وقوله: 150- "لئلا يكون للناس عليكم حجة" قيل معناه: لئلا يكون لليهود عليكم حجة إلا للمعاندين منهم للقائلين: ما ترك قبلتنا إلى الكعبة إلا ميلاً إلى دين قومه فعلى هذا المراد بالذين ظلموا: المعاندون من أهل الكتاب، وقيل: هم مشركو العرب، وحجتهم قولهم: راجعت قبلتنا، وقيل معناه: لئلا يكون للناس عليكم حجة لئلا يقولوا لكم: قد أمرتم باستقبال الكعبة ولستم ترونها. وقال أبو عبيدة: إن إلا ها هنا بمعنى الواو: أي والذين ظلموا فهو استثناء بمعنى الواو، ومنه قول الشاعر:
ما بالمدينة دار غير واحدة دار الخليفة إلا دا مروانا
كأنه قال: إلا دار الخليفة ودار مروان، وأبطل الزجاج هذا القول وقال: إنه استثناء منقطع: أي ولكن الذين ظلموا منهم فإنهم يحتجبون، ومعناه: إلا من ظلم باحتجاجه فيما قد وضح له كما تقول: ما لك علي حجة إلا أن تظلمني: أي ما لك علي حجة البتة ولكنك تظلمني، وسمى ظلمه حجة لأن المحتج بها سماه حجة وإن كانت داحضة. وقال قطرب: يجوز أن يكون المعنى: " لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا "، فالذين بدل من الكاف والميم في عليكم. ورجح ابن جرير الطبري أن الاستثناء متصل، وقال: نفى الله أن يكون لأحد حجة على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في استقبالهم الكعبة، والمعنى: لا حجة لأحد عليكم إلا الحجة الداحضة حيث قالوا ما ولاهم، وقالوا: إن محمداً تحير في دينه، وما توجه إلى قبلتنا إلا أنا أخدى منه. وغير ذلك من الأقوال التي لم تنبعث إلا من عابد وثن أو من يهودي أو منافق. قال: والحجة بمعنى المحاجة التي هي المخاصمة والمجادلة، وسماها تعالى حجة وحكم بفسادها حيث كانت من ظالم. ورجح ابن عطية أن الاستثناء منقطع كما قال الزجاج: قال القرطبي: وهذا على أن يكون المراد بالناس اليهود ثم استثنى كفار العرب كأنه قال: لكن الذين ظلموا في قولهم رجع محمد إلى قبلتنا وسيرجع إلى ديننا كله. وقوله: "فلا تخشوهم" يريد الناس: أي لا تخافوا مطاعنهم فإنها داحضة باطلة لا تضركم. وقوله: "ولأتم نعمتي عليكم" معطوف على "لئلا يكون" أي ولأن أتم قاله الأخفش، وقيل: هو مقطوع عما قبله في موضع رفع بالابتداء، والخبر مضمر، والتقدير: ولأتم نعمتي عليكم عرفتكم قبلتي قاله الزجاج، وقيل: معطوف على علة مقدرة كأنه قيل: واخشوني لأوفقكم ولأتم نعمتي عليكم. وإتمام النعمة الهداية إلى القبلة، وقيل: دخول الجنة.
150. " ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره " وإنما كرر لتأكيد النسخ " لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا " اختلفوا في تأويل هذه الآية ووجه قوله " إلا " فقال بعضهم: معناه حولت القبلة إلى الكعبة " لئلا يكون للناس عليكم حجة " إذا توجهتم إلى غيرها فيقولون ليست لكم قبلة " إلا الذين ظلموا " وهم قريش واليهود فأما قريش فتقول رجع محمد إلى الكعبة، لأنه علم أنها الحق وأنها قبلة آبائه، فكذلك يرجع إلى ديننا، وأما اليهود فتقول لم ينصرف عن بيت المقدس مع علمه بأنه حق إلا أنه يعمل برأيه وقال قوم " لئلا يكون للناس عليكم حجة " يعني اليهود وكانت حجتهم على طريق المخاصمة على المؤمنين في صلاتهم إلى بيت المقدس أنهم كانوا يقولون ما درى محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم نحن.
وقوله " إلا الذين ظلموا " وهم مشركو مكة، وحجتهم: أنهم قالوا - لما صرفت قبلتهم إلى الكعبة إن محمداً قد تحير في دينه وسيعود إلى ملتنا كما عاد إلى قبلتنا، وهذا معنى قول مجاهد و عطاء و قتادة ، وعلى هذين التأويلين يكون الاستثناء صحيحاً، وقوله " إلا الذين ظلموا " يعني لا حجة لأحد عليكم إلا لمشركي قريش فإنهم يحاجونكم فيجتدلونكم ويخاصمونكم بالباطل والظلم والاحتجاج بالباطب يسمى حج كما قال الله تعالى " حجتهم داحضة عند ربهم " (16-الشورى) وموضع " الذين " خفض كأنه قال سوى الذين ظلموا قاله الكسائي وقال الفراء نصب بالاستثناء.
قوله تعالى: " منهم " يعني من الناس وقيل هذا استثناء منقطع عن الكلام الأول، معناه ولكن الذين ظلموا يجادلونكم بالباطل، كما قال الله تعالى " ما لهم به من علم إلا اتباع الظن " (157-النساء) يعني لكن يتبعون الظن فهو كقول الرجل مالك عندي حق إلا أن تظلم.
قال أبو ورق " لئلا يكون للناس " يعني اليهود " عليكم حجة " وذلك أنهم عرفوا أن الكعبة قبلة إبراهيم ووجدوا في التوراة أن محمداً سيحول إليها فحوله الله تعالى إليها لئلا يكون لهم حجة فيقولون: إن النبي الذي نجده في كتابنا سيحول إليها ولم تحول أنت، فلما حول إليها ذهبت حجتهم " إلا الذين ظلموا " يعني إلا أن يظلموا فيكتموا ما عرفوا من الحق.
وقال أبو عبيدة قوله " إلا الذين ظلموا " ليس باستثناء ولكن (( إلا )) في موضع واو العطف يعني: والذين ظلموا أيضاً لا يكون لهم حجة كما قال الشاعر:
وكل أخ مفارقه أخوه لعمر أبيك إلا الفرقدان
معناه والفرقدان أيضاً يتفرقان، فمعنى الآية فتوجهوا إلى الكعبة " لئلا يكون للناس " يعني اليهود " عليكم حجة " فيقولوا لم تركتم الكعبة وهي قبلة إبراهيم وأنتم على دينه ولا الذين ظلموا وهم مشركو مكة فيقولون لم ترك محمد قبلة جده وتحول عنها إلى قبلة اليهود " فلا تخشوهم " في انصرافكم إلى الكعبة وفي تظاهرهم عليكم بالمجادلة فإني وليكم أظهركم عليهم بالحجة والنصرة " واخشوني ولأتم نعمتي عليكم " عطف على قوله " لئلا يكون للناس عليكم حجة " ولكي أتم نعمتي عليكم بهدايتي إياكم إلى قبلة إبراهيم فتتم لكم الملة الحنيفية، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه تمام النعمة الموت على الإسلام.
قال: سعيد بن جبير لا يتم نعمة على المسلم إلا أن يدخله الله الجنة " ولعلكم تهتدون " لكي تهتدوا من الضلالة ولعل وعسى من الله واجب.
150-" ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره " كرر هذا الحكم لتعدد علله ، فإنه تعالى ذكر للتحويل ثلاث علل . تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم بابتغاء مرضاته ، وجري العادة الإلهية على أن يولي أهل كل ملة وصاحب دعوة وجهة يستقبلها ويتميز بها . ودفع حجج المخالفين على ما نبينه . وقرن بكل علة معلولها كما يقرن المدلول بكل واحد من دلائله تقريباً ، مع أن القبلة لها شأن . والنسخ من مظان الفتنة والشبهة فبالحري أن يؤكد أمرها ويعاد ذكرها مرة بعد أخرى . " لئلا يكون للناس عليكم حجة " علة لقوله " فولوا " ، والمعنى أن التولية عن الصخرة إلى الكعبة تدفع احتجاج اليهود بأن المنعوت في التوراة قبلته الكعبة ، وأن محمداً يجحد ديننا ويتبعنا في قبلتنا . والمشركين بأنه يدعي ملة إبراهيم ويخالف قبلته " إلا الذين ظلموا منهم " استثناء من الناس ، أي لئلا يكون لأحد من الناس حجة إلا المعاندين منهم بإنهم يقولون ، ما تحول إلى الكعبة إلا ميلاً إلى دين قومه وحباً لبلده ، أو بدا له فرجع إلى قبلة آبائه ويوشك أن يرجع إلى دينهم . وسمى هذه حجة كقوله تعالى : " حجتهم داحضة عند ربهم " لأنهم يسوقونها مساقها . وقيل الحجة بمعنى الاحتجاج . وقيل الاستثناء للمبالغة في نفي الحجة رأساً كقوله :
‌ ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب ‌‌‌
للعلم بأن الظالم لا حجة له ، وقرئ : " إلا الذين ظلموا منهم " . على أنه استئناف بحرف التنبيه . " فلا تخشوهم " فلا تخافوهم ، فإن مطاعنهم لا تضركم . " واخشوني " فلا تخالفوا ما أمرتكم به . " ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون " علة محذوف أي وأمرتكم لإتمامي النعمة عليكم وإرادتي اهتدائكم ، أو عطف على علة مقدرة مثل : واخشوني لأحفظكم منهم ولأتم نعمتي عليكم ، أو لئلا يكون وفي الحديث " تمام النعمة دخول الجنة " . وعن علي رضي الله تعالى عنه تمام النعمة الموت على الإسلام .
150. Whencesoever thou comest forth turn thy face toward the Inviolable Place of Worship; and wheresoever ye may be (O Muslims) turn your faces toward it (when ye pray) so that men may have no argument against you, save such of them as do injustice Fear them not, but fear Me and so that I may complete My grace upon you, and that ye may be guided.
150 - So from whencesoever thou startest forth, turn thy face in the direction of the sacred mosque; and whersoever ye are, turn your face thither: that there be no ground of dispute against you among the people, except those of them that are bent on wickedness; so fear them not, but fear me; and that I may complete my favours on you, and ye may (consent to) be guided;