[البقرة : 142] سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
(سيقول السفهاء) الجهال (من الناس) اليهود والمشركين (ما ولاهم) أيُّ شيء صرف النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين (عن قبلتهم التي كانوا عليها) على استقبالها في الصلاة وهي بيت المقدس ، والإتيان بالسين الدالة على الاستقبال من الإخبار بالغيب (قل لله المشرق والمغرب) أي الجهات كلها فيأمر بالتوجه إلى أي جهة شاء لا اعتراض عليه (يهدي من يشاء) هدايته (إلى صراط) طريق (مستقيم) دين الإسلام أي ومنهم أنتم دل على هذا:
قوله تعالى سيقول السفهاء من الناس الآيات قال ابن إسحاق حدثني إسماعيل بن أبي خالد عن أبي إسحاق عن البراء قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي نحو بيت المقدس ويكثر النظر إلى السماء ينظر أمر الله فأنزل الله قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام فقال رجل من المسلمين وددنا لو علمنا علم من مات منا قبل أن نصرف إلى القبلة وكيف بصلاتنا قبل بيت المقدس فأنزل الله وما كان الله ليضع إيمانكم وقال السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها فأنزل الله سيقول السفهاء من الناس إلى آخر الآية له طرق نحوه وفي الصحيحين عن البراء مات على القبلة قبل أن تحول رجال وقتلوا فلم ندر ما نقول فيهم فأنزل الله وما كان الله ليضيع إيمانكم
وأخرج ابن جرير من طريق السدي بأسانيده قال لما صرف النبي صلى الله عليه وسلم نحو الكعبة بعد صلاته إلى بيت المقدس قال المشركون من أهل مكة تحير على محمد دينه فتوجه بقبلته اليكم وعلم أنكم أهدى منه سبيلا ويوشك أن يدخل في دينكم فأنزل الله لئلا يكون للناس عليكم حجة الآية
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: "تلك أمة"، إبراهيم وإسمعيل وإسحق ويعقوب والأسباط، كما:حدثنا بشربن معاذ قال، حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة قوله تعالى: "تلك أمة قد خلت "، يعني: إبراهيم واسمعيل وإسحق ويعقوب والأسباط.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا عبدالله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بمثله.
قال أبو جعفر: وقد بينا فيما مضى أن الأمة، الجماعة.
فمعنى الآية إذا: قل يا محمد لهؤلاء الذين يجادلونك في الله من اليهود والنصارى، إن كتموا ما عندهم من الشهادة في أمر إبراهيم ومن سمينا معه، وأنهم كانوا مسلمين، وزعموا أنهم كانوا هودًا أو نصارى، فكذبوا: إن إبراهيم وإسمعيل وإسحق ويعقوب والأسباط أمة قد خلت- أي: مضت لسبيلها فصارت إلى ربها، وخلت بأعمالها وآمالها، لها عند الله ما كسبت من خير في أيام حياتها، وعليها ما اكتسبت من شر، لا ينفعها غير صالح أعمالها، ولا يضرها إلا سيئها. فاعلموا أيها اليهود والنصارى ذلك، فإنكم، إن كانوا هؤلاء وهم الذين بهم تفتخرون، وتزعمون أن بهم ترجون النجاة من عذاب ربكم، مع سيئاتكم وعظيم خطيئاتكم لا ينفعهم عند الله غير ما قدموا من صالح الأعمال، ولا يضرهم غير سيئها، فأنتم كذلك أحرى أن لا ينفعكم عند الله غير ما قدمتم من صالح الأعمال، ولا يضركم غير سيئها. فاحذروا على أنفسكم، وبادروا خروجها بالتوبة والإنابة إلى الله مما أنتم عليه من الكفر والضلالة والفرية على الله وعلى أنبيائه ورسله، ودعوا الاتكال على فضائل الآباء والأجداد، فإنما لكم ما كسبتم، وعليكم ما اكتسبتم، ولا تسألون عما كان إبراهيم، وإسمعيل وإسحق ويعقوب والأسباط يعملون من الأعمال، لأن كل نفس قدمت على الله يوم القيامة، فإنما تسأل عما كسبت وأسلفت، دون ما أسلف غيرها.
تم الجزء الأول
ويليه إن شاء الله الجزء الثاني
وأوله: القول في تأويل قوله تعالى: "سيقول السفهاء من الناس "
قوله تعالى : ‌‌"سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم" .
فيه إحدى مسألة :
الأولى : قوله تعالى : "سيقول السفهاء من الناس" أعلم الله تعالى أنهم سيقولون في تحويل المؤمنين من الشام إلى الكعبة : ما ولاهم . و سيقول بمعنى قال ، جعل المستقبل موضع الماضي ، دلالة على استدامة ذلك وأنهم يستمرون على ذلك القول . وخص بقوله : من الناس لأن السفه يكون في جمادات وحيوانات . والمراد من السفهاء جميع من قال ما ولاهم . والسفهاء جمع ، واحده سفيه ، وهو الخفيف العقل ، من قولهم : ثوب سفيه إذا كان خفيف النسج ، وقد تقدم . والنساء سفائه .وقال المؤرج : السفيه البهات الكذاب المتعمد خلاف ما يعلم . قطرب : الظلوم الجهول . والمراد بالسفهاء هنا اليهود الذي بالمدينة ، قاله مجاهد . السدي : المنافقون . الزجاج : كفار قريش لما أنكروا تحويل القبلة قالوا : قد اشتاق محمد إلى مولده وعن قريب يرجع إلى دينكم . وقالت اليهود : قد التبس عليه أمره وتحير . وقال المنافقون :ما ولاهم عن قبلتهم ‍. واستهزؤوا بالمسلمين . و ولاهم يعني عدلهم وصرفهم .
الثانية : روى الأئمة واللفظ لـمالك عن ابن عمر قال :
بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن ، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها ، وكان وجوهم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة . وخرج البخاري " عن البراء : أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً ، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت ، وإنه صلى أول صلاة صلاها العصر وصلى معه قوم ، فخرج رجل ممن كان صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فمر على أهل المسجد وهم راكعون فقال أشهد بالله ، لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل مكة ، فداروا كما هم قبل البيت " . وكان الذي مات على القبلة قبل أن تحول قبل البيت رجال قتلوا لم ندر ما نقول فيهم ، فأنزل الله عز وجل : "وما كان الله ليضيع إيمانكم" ، ففي هذه الرواية صلاة العصر ، وفي رواية مالك صلاة الصبح . وقيل : نزل ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم في مسجد بني سلمة وهو في صلاة الظهر بعد ركعتين منها فتحول في الصلاة ، فسمي ذلك المسجد مسجد القبلتين . وذكر أبو الفرج أن عباد بن نهيك كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الصلاة . وذكر أبو عمر في التمهيد عن نويلة بنت أسلم وكانت من المبايعات ، قالت :
كنا في صلاة الظهر فأقبل عباد بن بشر بن قيظي فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقبل القبلة ـ أو قال : البيت الحرام ـ فتحول الرجال مكان النساء ، وتحول النساء مكان الرجال . وقيل : إن الآية نزلت في غير صلاة ، وهو الأكثر . وكان أول صلاة إلى الكعبة العصر ، والله أعلم . وروي :
"أن أول من صلى إلى الكعبة حين صرفت القبلة عن بيت المقدس أبو سعيد بن المعلى ، وذلك أنه كان مجتازاً على المسجد فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس بتحويل القبلة على المنبر وهو يقرأ هذه الاية : "قد نرى تقلب وجهك في السماء" حتى فرغ من الآية ، فقلت لصاحبي : تعال نركع ركعتين قبل أن ينزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فنكون أول من صلى فتوارينا نعما فصليناهما ، ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بالناس الظهر يومئذ" . قال أبو عمر : ليس لأبي سعيد بن المعلى غير هذا الحديث ، وحديث : "كنت أصلي" في فضل الفاتحة ،خرجه البخاري ، وقد تقدم .
الثالثة :واختلف في وقت تحويل القبلة بعد قدومه المدينة ، فقيل : حولت بعد سنة عشر شهراً أو سبعة عشر
شهراً ، كما في البخاري . وخرجه الدار قطني عن البراء ايضاً قال :
صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد قدومه المدينة ستة عشر شهراً نحو بيت المقدس ، ثم علم الله هوى نبيه فنزلت : "قد نرى تقلب وجهك في السماء" الآية . ففي هذه الراوية ستة عشر شهراً من غير شك . وروى مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أن تحويلها كان قبل غزو بدر بشهرين . قال إبراهيم بن إسحاق : وذلك في رجب من سنة اثنتين . وقال أبو حاتم البستي : صلى المسلمون إلى بيت المقدس سبعة عشر شهراً وثلاثة أيام شواء ، وذلك أن قدومه المدينة كان يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلى خلت من شهر ربيع الأول ، وأمره الله عز وجل باستقبال الكعبة يوم الثلاثاء للنصف من شعبان .
الرابعة :واختلف العلماء أيضاً في كيفية استقباله بيت المقدس على ثلاثة أقوال : فقال الحسن : كان ذلك منه عن رأي واجتهاد ، وقاله عكرمة وأبو العالية . والثاني : أنه كان مخيراً بينه وبين الكعبة ، فاختار القدس طمعاً في إيمان اليهود واستمالتهم ، قاله الطبري . وقال الزجاج :امتحاناً للمشركين لأنهم ألفوا الكعبة . الثالث ـ وهو الذي عليه الجمهور : ابن عباس وغيره ، وجب عليه استقباله بأمر الله تعالى ووحيه لا محالة ، ثم نسخ الله ذلك وأمره الله أن يستقبل بصلاته الكعبة ،واستدلوا بقوله تعالى :"وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه" الآية .
الخامسة : واختلفوا أيضاً حين فرضت عليه الصلاة أولاً بمكة ، هل كانت إلى بيت المقدس أو إلى مكة ، على قولين ، فقالت طائفة : إلى بيت المقدس وبالمدينة سبعة عشر شهراً ، ثم صرفه الله تعالى إلى الكعبة ،قاله ابن عباس . وقال آخرون : أول ما افترضت الصلاة عليه إلى الكعبة ، ولم يزل يصلي اليها طول مقامه بمكة على ما كانت عليه صلاة إبراهيم وإسماعيل ، فلما قدم المدينة صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً ، على الخلاف ، ثم صرفه الله إلى الكعبة . قال أبو عمر : وهذا أصح القولين عندي . قال غيره : وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة أراد أن يستأنف اليهود فتوجه إلى قبلتهم ليكون ذلك ادعى لهم ، فلما تبين عنادهم وأيس منهم أحب أن يحول إلى الكعبة فكان ينظر إلى السماء ، وكانت محبته إلى الكعبة لأنها قبلة إبراهيم ، عن ابن عباس . وقيل : لأنها كانت ادعى للعرب إلى الإسلام ، وقيل : مخالفة لليهود ، عن مجاهد . وروي عن أبي العالية الرياحي أنه قال : كانت مسجد صالح عليه السلام وقبلته إلى الكعبة ، قال : وكان موسى عليه السلام يصلي إلى الصخرة نحو الكعبة ، وهي قبلة الأنبياء كلهم ، صلوات الله عليهم أجميعن .
السادسة : في هذه الآية دليل واضح على أن في أحكام الله تعالى وكتابه ناسخاً ومنسوخاً ، وأجمعت عليه الأمة إلا من شذ ، كما تقدم . وأجمع العلماء على أن القبلة أول ما نسخت مرتين ، على أحد القولين المذكورين في المسألة قبل .
السابعة : ودلت أيضاً على جواز نسخ السنة بالقرآن ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى نحو بيت المقدس ، وليس في ذلك قرآن ، فلم يكن الحكم إلا من جهة السنة ثم نسخ ذلك بالقرآن ، وعلى هذا يكون : "كنت عليها" بمعنى أنت عليها .
الثامنة : وفيها دليل على جواز القطع بخبر الواحد ، وذلك أن استقبال بيت المقدس كان مقطوعاً به من الشريعة عندهم ، ثم أن أهل قباء لما أتاهم الآتي وأخبرهم أن القبلة قد حولت إلى المسجد الحرام قبلوا قوله واستداروا نحو الكعبة ، فتركوا المتواتر بخبر الواحد وهو مظنون .
وقد اختلف العلماء في جوازه عقلاً ووقوعه ، فقال أبو حاتم : والمختار جواز ذلك عقلاً ولو تعبد الشرع به ، ووقوعاً في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم بدليل قصة قباء ،وبدليل أنه كان عليه السلام ينفذ آحاد الولاة إلى الأطراف وكانوا يبلغون الناسخ والمنسوخ جميعاً . ولكن ذلك ممنوع بعد وقاته صلى الله عليه وسلم ، بدليل الإجماع من الصحابة على أن القرآن والمتواتر المعلوم لا يرفع بخبر الواحد ، فلا ذاهب إلى تجويزه من السلف والخلف . احتج من منع ذلك بأنه يفضي إلى المحال وهو رفع المقطوع بالمظنون . وأما قصة أهل قباء وولاة النبي صلى الله عليه وسلم فمحمول على قرائن إفادة العلم إما نقلاً وتحقيقاً ، وإما احتمالا وتقديراً وتتميم هذا سؤالاً وجواباً في أصول الفقه .
التاسعة : ويها دليل على أن من لم يبلغه الناسخ أنه متعبد بالحكم الأول ، خلافاً لمن قال : إن الحكم الأول يرتفع بوجود الناسخ لا بالعلم به ، والأول أصح ، لأن أهل قباء لم يزالوا يصلون إلى بيت المقدس إلى أن أتاهم الآتي فأخبرهم بالناسخ فمالوا نحو الكعبة . فالناسخ إذا حصل في الوجود فهو رافع لا محالةلكن بشرط العلم به ، لأن الناسخ خطاب ، ولايكون خطاباً في حق من لم يبلغه . وفائدة هذا الخلاف في عبادات فعلت بعد النسخ وقبل البلاغ هل تعاد أم لا ، وعليه تنبني مسألة الوكيل في تصرفه بعد عزل موكله أو موته وقبل علمه بذلك على قولين . وكذلك المقارض ، والحاكم إذا مات من ولاه أو عزل . والصحيح أن ما فعله كل واحد من هؤلاء ينفذ فعله ولا يرد حكمه . قال القاضي عياض : ولم يختلف المذهب في أحكام من اعتق ولم يعلم بعتقه أنها أحكام حر فيما بينه وبين الناس ، وأما بينه وبين الله تعالى فجائزة . ولم يختلفوا في المعتقة أنها لا تعيد ما صلت بعد عتقها وقبل علمها بغير ستر ، وإنما اختلفوا فيمن يطرأ عليه موجب يغير حكم عبادته وهو فيها ،قياساً على مسألة قباء ، فمن صلى على حال ثم تغيرت به حالة تلك قبل أن يتم صلاته أنه يتمها ولا يقطعها ويجزيه ما مضى . وكذلك كمن صلى عرياناً ثم وجد ثوباً في الصلاة ، أو ابتدأ صلاته صحيحاً فمرض ، أو مريضاً فصح ، أو قاعدا ثم قدر على القيام ، أو أمة عتقت وهي في الصلاة إنها تأخذ قناعها وتبني .
قلت : وكمن دخل في الصلاة بالتيمم فطرأ عليه الماء أنه لا يقطع ، كما يقوله مالك و الشافعي ـ رحمهما الله ـ وغيرهما . وقيل :يقطع ، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ، وسيأتي .
العاشرة : وفيها دليل على قبول خبر الواحد ، وهو مجمع عليه من السلف معلوم بالتواتر من عادة النبي صلى الله عليه وسلم في توجيهه ولاته ورسله آحاداً للآفاق ، ليعلموا الناس دينهم فيبلغوهم سنة رسولهم صلى الله عليه وسلم من الأوامر والنواهي .
الحادية عشرة : وفيها دليل على أن القرآن كان ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً بعد شيء وفي حال بعد حال ، على حسب الحاجة إليه ، حتى أكمل الله دينه ، كما قال : "اليوم أكملت لكم دينكم" .
قوله تعالى : "قل لله المشرق والمغرب" أقامه حجة ، أي له ملك المشارق والمغارب وما بينهما ، فله أن يأمر بالتوجه إلى أي جهة شاء ، وقد تقدم .
قوله تعالى : "يهدي من يشاء" إشارة إلى هداية الله تعالى هذه الأمة إلى قبلة إبراهيم ، والله تعالى أعلم . والصراط : الطريق . والمستقيم : الذي لا اعوجاج فيه ، وقد تقدم .
قيل: المراد بالسفهاء ـ ههنا مشركوا العرب، قاله الزجاج، وقيل: أحبار يهود ، قاله مجاهد ، وقيل: المنافقون، قاله السدي، والاية عامة في هؤلاء كلهم، والله أعلم. قال البخاري: أخبرنا أبو نعيم، سمع زهيراً عن أبي إسحاق، عن البراء رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً، أو سبعة عشر شهراً، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وأنه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر ، وصلى معه قوم فخرج رجل ممن كان يصلي معه، فمر على أهل المسجد وهم راكعون، قال: أشهد بالله لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل مكة، فداروا كما هم قبل البيت، وكان الذي مات على القبلة قبل أن تحول قبل البيت رجالاً قتلوا لم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله "وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤوف رحيم" انفرد به البخاري من هذا الوجه، ورواه مسلم من وجه آخر ، وقال محمد بن إسحاق: حدثني إسماعيل بن أبي خالد عن أبي إسحاق، عن البراء، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي نحو بيت المقدس، ويكثر النظر إلى السماء ينتظر أمر الله، فأنزل الله " قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام " فقال رجل من المسلمين: وددنا لو علمنا علم من مات منا قبل أن نصرف إلى القبلة، وكيف بصلاتنا نحو بيت المقدس، فأنزل الله "وما كان الله ليضيع إيمانكم" وقال السفهاء من الناس، وهم أهل الكتاب: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، فأنزل الله "سيقول السفهاء من الناس" إلى آخر الاية، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا الحسن بن عطية، حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء ، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً، وكان يحب أن يوجه نحو الكعبة، فأنزل الله "قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام" قال: فوجه نحو الكعبة وقال السفهاء من الناس وهم اليهود "ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها" فأنزل الله "قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم"، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة أمره الله أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهراً وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب قبلة إبراهيم، فكان يدعو الله وينظر إلى السماء ، فأنزل الله عز وجل: "فولوا وجوهكم شطره" أي نحوه، فارتاب من ذلك اليهود وقالوا: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ؟ فأنزل الله "قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم" وقد جاء في هذا الباب أحاديث كثيرة، وحاصل الأمر أنه قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر باستقبال الصخرة من بيت المقدس، فكان بمكة يصلي بين الركنين، فتكون بين يديه الكعبة وهو مستقبل صخرة بيت المقدس، فلما هاجر إلى المدينة تعذر الجمع بينهما، فأمره الله بالتوجه إلى بيت المقدس، قال ابن عباس والجمهور ، ثم اختلف هؤلاء ، هل كان الأمر به بالقرآن أو بغيره على قولين ؟ وحكى القرطبي في تفسيره عن عكرمة وأبي العالية والحسن البصري: إن التوجه إلى بيت المقدس كان باجتهاده عليه السلام، والمقصود: إن التوجه إلى بيت المقدس بعد مقدمه صلى الله عليه وسلم المدينة، واستمر الأمر على ذلك بضعة عشر شهراً وكان يكثر الدعاء والابتهال أن يوجه إلى الكعبة التي هي قبلة إبراهيم عليه السلام، فأجيب إلى ذلك وأمر بالتوجه إلى البيت العتيق، فخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فأعلمهم بذلك، وكان أول صلاة صلاها إليها صلاة العصر ، كما تقدم في الصحيحين رواية البراء، ووقع عند النسائي من رواية أبي سعيد بن المعلى أنها الظهر ، وقال: كنت أنا وصاحبي أول من صلى إلى الكعبة، وذكر غير واحد من المفسرين وغيرهم: أن تحويل القبلة نزل على رسول الله وقد صلى ركعتين من الظهر ، وذلك في مسجد بني سلمة، فسمي مسجد القبلتين، وفي حديث نويلة بنت مسلم: أنهم جاءهم الخبر بذلك وهم في صلاة الظهر ، قالت: فتحول الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال، ذكره الشيخ أبو عمر بن عبد البر النمري، وأما أهل قباء فلم يبلغهم الخبر إلى صلاة الفجر اليوم الثاني، كما جاء في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما، أنه قال: بينما الناس بقباء في صلاة الصبح، إذ جاءهم آت فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة. وفي هذا دليل على أن الناسخ لا يلزم حكمه إلا بعد العلم به، وإن تقدم نزوله وإبلاغه، لأنهم لم يؤمروا بإعادة العصر والمغرب والعشاء ، والله أعلم. ولما وقع هذا، حصل لبعض الناس من أهل النفاق والريب والكفرة من اليهود ارتياب، وزيغ عن الهدى وتخبيط وشك، وقالوا "ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها" أي قالوا: ما لهؤلاء تارة يستقبلون كذا وتارة يستقبلون كذا ؟ فأنزل الله جوابهم في قوله "قل لله المشرق والمغرب" أي الحكم والتصرف والأمر كله لله "فأينما تولوا فثم وجه الله" و "ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله" أي الشأن كله في امتثال أوامر الله، فحيثما وجهنا توجهنا، فالطاعة في امتثال أمره ولو وجهنا في كل يوم مرات إلى جهات متعددة: فنحن عبيده وفي تصرفه، وخدامه حيثما وجهنا توجهنا، وهو تعالى له بعبده ورسوله محمد صلوات الله وسلامه عليه وأمته عناية عظيمة إذ هداهم إلى قبلة إبراهيم خليل الرحمن، وجعل توجههم إلى الكعبة المبنية على اسمه تعالى وحده لا شريك له أشرف بيوت الله في الأرض، إذ هي بناء إبراهيم الخليل عليه السلام ولهذا قال: "قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم".
وقد روى الإمام أحمد عن علي بن عاصم عن حصين بن عبد الرحمن، عن عمرو بن قيس، عن محمد بن الأشعث، عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني في أهل الكتاب: "إنهم لا يحسدوننا على شيء كما يحسدوننا على يوم الجمعة التي هدانا الله لها وضلوا عنها، وعلى القبلة التي هدانا الله لها وضلوا عنها، وعلى قولنا خلف الإمام: آمين".
وقوله تعالى: "وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً" يقول تعالى: إنما حولناكم إلى قبلة إبراهيم عليه السلام، واخترناها لكم لنجعلكم خيار الأمم لتكونوا يوم القيامة شهداء على الأمم، لأن الجميع معترفون لكم بالفضل، والوسط ههنا الخيار ، والأجود كما يقال: قريش أوسط العرب نسباً وداراً، أي خيرها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطاً في قومه، أي أشرفهم نسباً، ومنه الصلاة الوسطى التي هي أفضل الصلوات وهي العصر ، كما ثبت في الصحاح وغيرها: ولما جعل الله هذه الأمة وسطاً، خصها بأكمل الشرائع وأقوم المناهج وأوضح المذاهب، كما قال تعالى: "هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس" وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يدعى نوح يوم القيامة، فيقال له: هل بلغت ؟ فيقول: نعم، فيدعى قومه فيقال لهم: هل بلغكم فيقولون: ما أتانا من نذير وما أتانا من أحد، فيقال لنوح: من يشهد لك ؟ فيقول: محمد وأمته، قال فذلك قوله: "وكذلك جعلناكم أمة وسطاً" قال: والوسط العدل، فتدعون فتشهدون له بالبلاغ ثم أشهد عليكم" رواه البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه من طرق عن الأعمش، وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش عن أبي صالح، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجلان وأكثر من ذلك، فيدعى قومه، فيقال: هل بلغكم هذا ؟ فيقولون: لا فيقال له: هل بلغت قومك ؟ فيقول: نعم، فيقال: من يشهد لك ؟ فيقول: محمد وأمته، فيدعى محمد وأمته، فيقال لهم: هل بلغ هذا قومه ؟ فيقولون: نعم، فيقال: وما علمكم ؟ فيقولون: جاءنا نبينا فأخبرنا أن الرسل قد بلغوا "، فذلك قوله عز وجل "وكذلك جعلناكم أمة وسطاً" قال: عدلاً "لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً" وقال أحمد أيضاً: حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: "وكذلك جعلناكم أمة وسطاً" قال عدلاً. وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه وابن أبي حاتم، من حديث عبد الواحد بن زياد عن أبي مالك الأشجعي عن المغيرة بن عتيبة بن نباس، حدثني مكاتب لنا عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنا وأمتي يوم القيامة على كوم مشرفين على الخلائق، ما من الناس أحد إلا ود أنه منا وما من نبي كذبه قومه إلا ونحن نشهد أنه قد بلغ رسالة ربه عز وجل"، وروى الحاكم في مستدركه وابن مردويه أيضاً، واللفظ له من حديث مصعب بن ثابت عن محمد بن كعب القرظي عن جابر بن عبد الله قال: شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم جنازة في بني مسلمة وكنت إلى جانب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم: والله يا رسول الله لنعم المرء كان، لقد كان عفيفاً مسلماً وكان... وأثنوا عليه خيراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت بما تقول. فقال الرجل: الله يعلم بالسرائر ، فأما الذي بدا لنا منه فذاك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم وجبت وجبت، ثم شهد جنازة في بني حارثة وكنت إلى جانب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم: يا رسول الله بئس المرء كان إن كان لفظاً غليظاً فأثنوا عليه شراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعضهم: أنت بالذي تقول. فقال الرجل: الله أعلم بالسرائر ، فأما الذي بدا لنا منه فذاك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وجبت. قال مصعب بن ثابت: فقال لنا عند ذلك محمد بن كعب: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قرأ "وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً" ثم قال الحاكم: هذا صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الإمام أحمد: حدثنا يونس بن محمد حدثنا داود بن أبي الفرات عن عبد الله بن بريدة عن أبي الأسود أنه قال: أتيت المدينة فوافقتها وقد وقع بها مرض فهم يموتون موتاً ذريعاً، فجلست إلى عمر بن الخطاب فمرت به جنازة فأثني على صاحبها خيراً، فقال: وجبت وجبت، ثم مر بأخرى فأثني عليها شراً، فقال عمر: وجبت. فقال أبو الأسود: ما وجبت يا أمير المؤمنين قال، قلت كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة" قال: فقلنا وثلاثة قال: فقال "وثلاثة" قال: فقلنا واثنان: قال "واثنان". ثم لم نسأله عن الواحد. وكذا رواه البخاري والترمذي والنسائي من حديث داود بن أبي الفرات به. وقال ابن مردويه حدثنا أحمد بن عثمان بن يحيى حدثنا أبو قلابة الرقاشي، حدثني أبو الوليد حدثنا نافع بن عمر حدثني أمية بن صفوان عن أبي بكر بن أبي زهير الثقفي عن أبيه قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنباوة يقول: يوشك أن تعلموا خياركم من شراركم قالوا: بم يا رسول الله ؟ قال: بالثناء الحسن والثناء السيء أنتم شهداء الله في الأرض"، ورواه ابن ماجة عن أبي بكر بن أبي شيبة عن يزيد بن هارون، ورواه الإمام أحمد عن يزيد بن هارون وعبد الملك بن عمر وشريح عن نافع عن ابن عمر به.
وقوله تعالى: "وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله" يقول تعالى: إنما شرعنا لك يا محمد التوجه أولاً إلى بيت المقدس، ثم صرفناك عنها إلى الكعبة ليظهر حال من يتبعك ويطيعك، ويستقبل معك حيثما توجهت ممن ينقلب على عقبه، أي مرتداً عن دينه وإن كانت لكبيرة، أي هذه الفعلة وهو صرف التوجه عن بيت المقدس إلى الكعبة، أي وإن كان هذا الأمر عظيماً في النفوس إلا على الذين هدى الله قلوبهم وأيقنوا بتصديق الرسول، وأن كل ما جاء به فهو الحق الذي لا مرية فيه، وأن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فله أن يكلف عباده بما شاء وينسخ ما يشاء، وله الحكمة التامة والحجة البالغة في جميع ذلك بخلاف الذين في قلوبهم مرض، فإنه كلما حدث أمر أحدث لهم شكاً كما يحصل للذين آمنوا إيقان وتصديق، كما قال الله تعالى: " وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون * وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم "، وقال تعالى: "وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً" ولهذا كان من ثبت على تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه في ذلك وتوجه حيث أمره الله من غير شك ولا ريب من سادات الصحابة، وقد ذهب بعضهم إلى أن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار هم الذين صلوا إلى القبلتين. وقال البخاري في تفسير هذه الاية: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سفيان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: بينا الناس يصلون الصبح في مسجد قباء إذ جاء رجل فقال: قد أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم قرآن وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، فتوجهوا إلى الكعبة. وقد رواه مسلم من وجه آخر عن ابن عمر ورواه الترمذي من حديث سفيان الثوري وعنده أنهم كانوا ركوعاً فاستداروا كما هم إلى الكعبة وهم ركوع، وكذا رواه مسلم من حديث حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس مثله، وهذا يدل على كمال طاعتهم لله ولرسوله وانقيادهم لأوامر الله عز وجل رضي الله عنهم أجمعين.
وقوله: "وما كان الله ليضيع إيمانكم" أي صلاتكم إلى بيت المقدس قبل ذلك ما كان يضيع ثوابها عند الله، وفي الصحيح من حديث أبي إسحاق السبيعي عن البراء قال: مات قوم كانوا يصلون نحو بيت المقدس، فقال الناس: ما حالهم في ذلك ؟ فأنزل الله تعالى: "وما كان الله ليضيع إيمانكم" ورواه الترمذي عن ابن عباس وصححه، وقال ابن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس "وما كان الله ليضيع إيمانكم" أي بالقبلة الأولى وتصديقكم نبيكم واتباعه إلى القبلة الأخرى، أي ليعطيكم أجرهما جميعاً "إن الله بالناس لرؤوف رحيم" وقال الحسن البصري "وما كان الله ليضيع إيمانكم" أي ما كان الله ليضيع محمداً صلى الله عليه وسلم وانصرافكم معه حيث انصرف، "إن الله بالناس لرؤوف رحيم" وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأة من السبي قد فرق بينها وبين ولدها فجعلت كلما وجدت صبياً من السبي أخذته فألصقته بصدرها وهي تدور على ولدها، فلما وجدته ضمته إليها وألقمته ثديها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أترون هذه طارحة ولدها في النار وهي تقدر على أن لا تطرحه" ؟ قالوا: لا يا رسول الله. قال: "فوالله لله أرحم بعباده من هذه بولدها".
قوله: 142- "سيقول" هذا إخبار من الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بأن السفهاء من اليهود والمنافقين سيقولون هذه المقالة عند أن تتحول القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة. وقيل إن "سيقول" بمعنى قال، وإنما عبر عن الماضي بلفظ المستقبل للدلالة على استدامته واستمرار عليه وقيل: إن الإخبار بهذا الخبر كان قبل التحول إلى الكعبة، وأن فائدة ذلك أن الإخبار بالمكروه إذا وقع قبل وقوعه كان فيه تهويناً لصدمته وتخفيفاً لروعته وكسراً لسورته. والسفهاء جمع سفيه، وهو الكذاب البهات المعتمد خلاف ما يعلم، كذا قال بعض أهل اللغة. وقال في الكشاف: هم خفاف الأحلام، ومثله في القاموس. وقد تقدم في تفسير قوله: "إلا من سفه نفسه" ما ينبغي الرجوع إليه، ومعنى: "ما ولاهم" ما صرفهم "عن قبلتهم التي كانوا عليها" وهي بيت المقدس، فرد الله عليهم بقوله: "قل لله المشرق والمغرب" فله أن يأمر بالتوجه إلى أي جهة شاء. وفي قوله: "يهدي من يشاء" إشعار بأن تحويل القبلة إلى مكة من الهداية للنبي صلى الله عليه وسلم ولأهل ملته إلى الصراط المستقيم.
142. قوله تعالى: " سيقول السفهاء " الجهال " من الناس ما ولاهم " صرفهم وحولهم " عن قبلتهم التي كانوا عليها " يعني بيت المقدس والقبلة فعلة من المقابلة نزلت في اليهود ومشركي مكة طعنوا في تحويل القبلة من بيت المقدس إلى مكة، فقالوا لمشركي مكة: قد تردد على محمد أمره فاشتاق إلى مولده وقد توجه نحو بلدكم وهو راجع إلى دينكم فقال الله تعالى: " قل لله المشرق والمغرب " ملك له والخلق عبيده.
" يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ".
142-" سيقول السفهاء من الناس " الذين خفت أحلامهم ، واستمهنوها بالتقليد والإعراض عن النظر . يريد به المنكرين لتغيير القبلة من المنافقين واليهود والمشركين . وفائدة تقديم الأخبار به توطين النفس وإعداد الجواب وإظهار المعجزة . " ما ولاهم " ما صرفهم . " عن قبلتهم التي كانوا عليها " يعني بيت المقدس ، والقبلة في الأصل الحالة التي عليها الإنسان من الاستقبال ، فصارت عرفاً للمكان المتوجه نحوه للصلاة " قل لله المشرق والمغرب " لا يختص به مكان دون مكان بخاصية ذاتية تمنع إقامة غيره مقامه ، وإنما العبرة بارتسام أمره لا بخصوص المكان " يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم " وهو ما ترتضيه الحكمة ، وتقتضيه المصلحة من التوجه إلى بيت المقدس تارة ، والكعبة أخرى .
142. The foolish of the people will say: What hath turned them from the qiblah which they formerly observed? Say: Unto Allah belong the East and the West. He guideth whom He will unto a straight path.
142 - The fools among the people will say: what hath turned them from the Qibla to which they were used? say: to God belong both east and west: he guideth whom he will to a way that is straight.