[البقرة : 106] مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
ولما طمع الكفار في النسخ وقالوا إن محمدا يأمر أصحابه اليوم بأمر وينهى عنه غدا نزل: (ما) شرطية (نَنَسخ من آية) نزل حكمها: إما مع لفظها أو لا. وفي قراءة بضم النون من أنسخ: أي نأمرك أو جبريل بنسخها (أو نَنْسأها) نؤخرها فلا ننزل حكمها ونرفع تلاوتها أو نؤخرها في اللوح المحفوظ وفي قراءة بلا همز في النسيان {نُنْسِها}: أي ننسكها ، أي نمحها من قلبك وجواب الشرط (نأت بخير منها) أنفع للعباد في السهولة أو كثرة الأجر (أو مثلها) في التكليف والثواب (ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير) ومنه النسخ والتبديل ، والاستفهام للتقرير
قوله تعالى ما ننسخ الآية ك أخرج ابن أبي حاتم من طريق عكرمة عن ابن عباس قال كان ربما ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي بالليل ونسيه
بالنهار فأنزل الله ما ننسخ الآية
قال أبو جعفر: يعني بقوله"ما يود"، ما يحب، أي: ليس يحب كثير من أهل الكتاب. يقال منه: ود فلان كذا يوده ودًا وودًا ومودة.
وأما"المشركين"، فإنهم في موضع خفض بالعطف على "أهل الكتاب".
ومعنى الكلام: ما يحب الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم.
وأما "أن" في قوله: "أن ينزل" فنصب بقوله:"يود". وقد دللنا على وجه دخول "من" في قوله:"من خير" وما أشبه ذلك من الكلام الذي يكون في أوله جحد، فيما مضى، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع.
فتأويل الكلام: ما يحب الكافرون من أهل الكتاب ولا المشركين بالله من عبدة الأوثان، أن ينزل عليكم من الخير الذي كان عند الله فنزله عليكم. فتمنى المشركون وكفرة أهل الكتاب أن لا ينزل الله عليكم الفرقان، وما أوحاه إلى محمد صلى الله عليه وسلم من حكمه وآياته، وإنما أحبت اليهود وأتباعهم من المشركين ذلك، حسدًا وبغيًا منهم على المؤمنين.
وفي هذه الآية دلالة بينة على أن الله تبارك وتعالى نهى المؤمنين عن الركون إلى أعدائهم من أهل الكتاب والمشركين، والاستماع من قولهم، وقبول شيء مما يأتونهم به على وجه النصيحة لهم منهم، بإطلاعه جل ثناؤه إياهم على ما يستبطنه لهم أهل الكتاب والمشركون من الضغن والحسد، وإن أظهروا بألسنتهم خلاف ما هم مستبطنون.
القول في تأويل قوله تعالى:"والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم".
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"والله يختص برحمته من يشاء": والله يختص من يشاء بنبوته ورسالته، فيرسله إلى من يشاء من خلقه، فيتفضل بالإيمان على من أحب فيهديه له. و اختصاصه إياهم بها، إفرادهم بها دون غيرهم من خلقه. وإنما جعل الله رسالته إلى من أرسل إليه من خلقه، وهدايته من هدى من عباده، رحمة منه له، ليصيره بها إلى رضاه ومحبته وفوزه بها بالجنة، واستحقاقه بها ثناءه. وكل ذلك رحمة من الله له.
وأما قوله:"والله ذو الفضل العظيم". فإنه خبر من الله جل ثناؤه عن أن كل خير ناله عباده في دينهم ودنياهم، فإنه من عنده ابتداء وتفضلاً منه عليهم، من غير استحقاق منهم ذلك عليه.
وفي قوله:"والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم"، تعريض من الله تعالى ذكره بأهل الكتاب: أن الذي آتى نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به من الهداية، تفضل منه، وأن نعمه لا تدرك بالأماني، ولكنها مواهب منه يختص بها من يشاء من خلقه.
فيه خمس مسألة :
الأولى : قوله تعالى : "ما ننسخ من آية أو ننسها" ننسها عطف على نسخ ، وحذفت الياء للجزم . ومن قرأ ننسأها حذف الضمة من الهمزة للجزم ، وسيأتي معناه . "نأت" جواب الشرط ، وهذه آية عظمى في الأحكام . وسببها أن اليهود لما حسدوا المسلمين في التوجه إلى الكعبة وطعنوا في الإسلام بذلك ، وقالوا : إن محمداً يأمر أصحابه بشيء ثم ينهاهم عنه ، فما كان هذ القرآن إلا من جهته ، ولهذا يناقض بعضه بعضاً ، فأنزل الله : "وإذا بدلنا آية مكان آية" . وأنزل "ما ننسخ من آية" .
الثانية : معرفة هذا الباب أكيدة وفائدته عظيمة ، لا يستغني عن معرفته العلماء ، ولا ينكره إلا الجهلة الأغنياء ، لما يترتب عليه من النوازل في الأحكام ، ومعرفة الحلال في الحرام . روى أبو البختري قال : دخل علي رضي الله عنه المسجد فإذا رجل يخوف الناس ، فقال: ما هذا ؟ قالوا : رجل يذكر الناس ، فقال : ليس برجل يذكر الناس ! لكنه يقول أنا فلان بن فلان فاعرفوني ، فأرسل إليه فقال : أتعرف الناسخ من المنسوخ ؟ ! فقال : لا ، قال : فاخرج من مسجدنا ولا تذكر فيه . وفي رواية أخرى : أعلمت الناسخ والمنسوخ ؟ قال : لا ، قال : هلكت وأهلكت ! . ومثله عن ابن عباس رضي الله عنهما .
الثالثة : النسخ في كلام العرب على وجهين :
أحدهما : النقل ، كنقل كتاب من آخر . وعلى هذا يكون القرآن كله منسوخاً ، أعني من اللوح المحفوظ وإنزاله إلى بيت العزة في السماء الدنيا ، وهذا لا مدخل له في هذه الآية ، ومنه قوله تعالى : "إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون" أي نأمر بنسخه وإثباته .
الثاني : :الإبطال والإزالة ، وهو المقصود هنا ، وهو منقسم في اللغة على ضربين :
أحدهما : إبطال الشيء وزواله وإقامة آخر مقامه ، ومنه نسخت الشمس الظل إذا أذهبته وحلت محله ، وهو معنى قوله تعالى : "ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها" وفي صحيح مسلم .
لم تكن نبوة قط إلا تناسخت أي تحولت من حال إلى حال ، يعني أمر الأمة . قال ابن فارس : النسخ نسخ الكتاب ، والنسخ أن تزيل أمراً كان من قبل يعمل به ثم تنسخه بأحاديث غيره ، كالآية تنزل بأمر ثم يسنخ بأخرى . وكل شيء خلف شيئاً فقد انتسخه ، يقال : انتسخت الشمس الظل ، والشيب الشباب . وتناسخ الورثة :أن تموت ورثة بعد ورثة وأصل الميراث قائم لم يقسم ، وكذلك تناسخ الأزمنة والقرون .
الثاني : إزالة الشيء دون أن يقوم آخر مقامه ، كقولهم نسخت الريح الأثر ، ومن هذا المعنى قوله تعالى : "فينسخ الله ما يلقي الشيطان" أي يزيله فلا يتلى ولا يثبت في المصحف بدله . وزعم أبو عبيد أن هذا النسخ الثاني قد كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم السورة فترفع فلا تتلى ولا تكتب .
قلت : ومنه ما وري عن ابي بن كعب وعائشة رضي الله عنهما أن سورة الأحزاب كانت تعدل سورة البقرة في الطول ، على ما يأتي مبيناً هناك إن شاء الله تعالى . ومما يدل على هذا ما ذكره أبو بكر الأنباري : حدثنا أبي ، حدثنا نصر بن داود ، حدثنا ابو عبيد ، حدثنا عبد الله بن صالح ، عن الليث ، عن يونس وعقيل ، عن ابن شهاب قال : حدثني أبو أمامة بن سهل بن حنيف في مجلس سعيد بن المسيب :
"أن رجلاً قام من الليل ليقرأ سورة من القرآن فلم يقدر على شيء منها ، وقام آخر فلم يقدر على شيء منها ، وقام آخر فلم يقدر على شيء منها ، فغدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال أحدهم : قمت الليلة يا رسول الله لأقرأ سورة من القرآن فلم أقدر على شيء منها ، فقام الآخر فقال :وأنا والله كذلك يا رسول الله ، فقام الآخر فقال : وأنا والله كذلك يا رسول الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنها مما نسخ الله البارحة" . وفي إحدى الروايات : و سعيد بن المسيب يسمع ما يحدث به أبو أمامة فلا ينكره .
الرابعة : أنكرت طوائف من المنتمين للإسلام المتأخرين جوازه ، وهم محجوجون بإجماع السلف السابق على وقوعه في الشريعة . وأنكرته أيضاً طوائف من اليهود ، وهم محجوجون بما جاء في توارتهم بزعمهم أن الله تعالى قال لنوح عليه السلام عند خروجه من السفينة : إني قد حعلت كل دابة مأكلا لك ولذريتك ، وأطلقت ذلك لكم كنبات العشب ، ما خلا الدم فلا تأكلوه . ثم قد حرم على موسى وعلى بني إسرائيل كثيراً من الحيوان ، وبما كان آدم عليه السلام يزوج الأخ من الأخت ، وقد حرم الله ذلك على موسى عليه السلام وعلى غيره ، وبأن إبراهيم الخليل أمر بذبح ابنه ثم قال له : لا تذبحه ، وبأن موسى أمر بني إسرائيل أن يقتلوا من عبد منهم العجل ، ثم أمرهم برفع السيف عنهم ، وبأ، نبوته غير متعبد بها قبل بعثه ، ثم تعبد بها بعد ذلك ، إلى غير ذلك . وليس هذا من باب البدء بل هو نقل العباد من عبادة إلى عبادة ، وحكم إلى حكم ، لضرب من المصلحة ، إظهاراً لحكمته وكمال مملكته . ولا خلاف بين العقلاء أن شرائع الأنبياء قصد بها مصالح الخلق الدينية والدنيوية ، وإنما كان يلزم البداء لو لم يكن عالماً بمال الأمور ، وأما العالم بذلك فإنما تتبدل خطاباته بحسب تبدل المصالح ، كالطبيب المراعي أحوال العليل ، فراعى ذلك في خليفته بمشيئته وإرادته ، لا إله إلا هو ، فخطابه يتبدل ، وعلمه وإرادته لا تتغير ، فإن ذلك محال في جهة الله تعالى .
وجعلت اليهود النسخ والبداء شيئاً واحداً ، ولذلك لم يجوزه فضلوا . قال النحاس : والفرق بين النسخ والبداء أن النسخ تحويل العبادة من شيء إلى شيء قد كان حلالاً فيحرم ، أو كان حراماً فيحلل . وأما البداء فهو ترك ما عزم عليه ، كقولك : امض إلى فلان اليوم ، ثم تقول لا تمض إليه ، فيبدو لك العدول عن القول الأول، وهذا يلحق البشر لنقصانهم . وكذلك إن قلت : ازرع كذا في هذه السنة ، ثم قلت :لا تفعل ، فهو البداء .
الخامسة : اعلم أن الناسخ على الحقيقة هو الله تعالى : ويسمى الخطاب الشرعي ناسخاً تجوزاً ، إذ به يقع النسخ ، كما قد يتجوز فيسمى المحوم فيه ناسخاً ، فيقال : صوم رمضان ناسخ لصوم عاشوراء ، فالمنسوخ هو المزال ، والمنسوخ عنه هو المتعبد بالعبادة المزالة ، وهو المكلف .
السادسة : اختلفت عبارات أئمتنا في حد الناسخ ، فالذي عليه الحذاق من أهل السنة أنه إزالة ما قد استقر من الحكم الشرعي بخطاب وارد متراخياً ، هكذا حده القاضي عبد الوهاب والقاضي أبو بكر ، وزادا : لولاه لكان السابق ثابتاً ، فحافظا على معنى النسخ اللغوي ، إذ هو بمعنى الرفع والإزالة ، وتحرزاً من الحكم العقلي ، وذكر الخطاب ليعم وجوه الدلالة من النص والظاهر والمفهوم وغيره ، وليخرج القياس والإجماع ، إذ لا يتصور النسخ فيهما ولا بهما . وقيدا بالتراخي ، لأنه لو اتصل به لكان بياناً لغاية الحكم لا ناسخاً ، أو يكون آخر الكلام يرفع أوله ، كقولك قم لا تقم .
السابعة : المنسوخ عند أئتمنا أهل السنة هو الحكم الثابت نفسه لا مثله ، كما تقوله المعتزلة بأنه الخطاب الدال على أن مثل الحكم الثابت فيما يستقبل بالنص المتقدم زائل . والذي قادهم إلى ذلك مذهبهم في أن الأوامر مرادة ، وأن الحسن صفة نفسية للحسن ، ومراد الله حسن ، وهذا قد أبطله علماؤنا في كتبهم .
الثامنة : اختلف علماؤنا في الأخبار هل يدخلها النسخ ، فالجمهور على أن النسخ إنما هو مختص بالأوامر والنواهي ، والخبر لا يدخله النسخ لاستحالة الكذب على الله تعالى . وقيل :إن الخبر إذا تضمن حكماً شرعياً جاز نسخه ، كقوله تعالى : "ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا" . وهناك يأتي القول فيه إن شاء الله تعالى .
التاسعة : التخصيص من العموم يوهم أنه نسخ وليس به ، لأن المخصص لم يتناوله العموم قط ، ولو ثبت تناول العموم لشيء ـ ما ـ ثم أخرج ذلك الشيء عن العموم لكان نسخاً لا تخصيصاً ، والمتقدمون يطلقون على التخصيص نسخاً توسعاً ومجازاً .
العاشرة : اعلم أنه قد يرد في الشرع أخبار ظاهرها الإطلاق والاستغراق ، ويرد تقييدها في موضع آخر فيرتفع ذلك الإطلاق ، كقوله تعالى : "وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان" . فهذا الحكم ظاهره خبر عن إجابة كل داع على كل حال ، لكن قد جاء ما قيده في موضع آخر ، كقوله : "فيكشف ما تدعون إليه إن شاء" . فقد يظن من لا بصيرة عنده أن هذا من باب النسخ في الأخبار وليس كذلك ، بل هو من باب الإطلاق والتقييد . وسيأتي لهذه المسألة زيادة بيان في موضعها إن شاء الله تعالى .
الحادية عشرة : قال علماؤنا رحمهم الله تعالى : جائز نسخ الأثقل إلى الأخف ، كنسخ الثبوت لعشرة بالثبوت لاثنين . ويجوز نسخ الأخف إلى الأثقل ، كنسخ يوم عاشوراء والأيام المعدودة برمضان ، على ما يأتي بيانه في آية الصيام . وينسخ المثل بمثله ثقلاً وخفة ، كالقبلة . وينسخ الشيء لا إلى بدل كصدقة النجوى . وينسخ القرآن بالقرآن . والسنة بالعبارة ، وهذه العبارة يراد بها الخبر المتواتر القطعي . وينسخ خبر الواحد بخبر الواحد .
وحذاق الأئمة على أن القرآن ينسخ بالسنة ، وذلك موجود في قوله عليه السلام :
"لا وصية لوارث" . وهو ظاهر مسائل مالك . وأبى ذلك الشافعي وأبو الفرج المالكي ، والأول أصح ، بدليل أن الكل حكم الله تعالى ومن عنده وإن اختلفت في الأسماء . وأيضاً فإن الجلد ساقط في حد الزنى عن الثيب الذي يرجم ، ولا مسقط لذلك إلا السنة فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا بين .
والحذاق ايضاً على أن السنة تنسخ بالقرآن وذلك موجود في القبلة ، فإن الصلاة إلى الشام لم تكن في كتاب الله تعالى . وفي قوله تعالى : "فلا ترجعوهن إلى الكفار" . فإن رجوعهن إنما كان بصلح النبي صلى الله عليه وسلم لقريش .
والحذاق على تجويز نسخ القرآن بخبر الواحد عقلاً ، واختلفوا هل وقع شرعاً ، فذهب أبو المعالي وغيره إلى وقوعه في نازلة مسجد قباء ، على ما يأتي بيانه ، وأبى ذلك قوم . ولا يصح نسخ نص بقياس ، إذ من شروط القياس ألا يخالف نصا .
وهذا كله في مدة النبي صلى الله عليه وسلم ، وأمابعد موته واستقرار الشريعة فأجمعت الأمة أنه لا نسخ ، ولهذا كان الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به إذ انعقاده بعد انقطاع الوحي ، فإذا وجدنا إجماعاً يخالف نصاً فيعلم أن الإجماع استند إلى نص ناسخ لا نعلمه نحن ، وأن ذلك النص المخالف متروك العمل به ، وأن مقتضاه نسخ وبقي سنة يقرأ ويروى ، كما آية عدة السنة في القرآن تتلى ، فتأمل هذا فإنه نفيس ، ويكون من باب نسخ الحكم دون التلاوة ، ومثله صدقة النجوى . وقد تنسخ التلاوة دون الحكم كآية الرجم . وقد تنسخ التلاوة والحكم معاً ، ومنه قول الصديق رضي الله عنه كنا نقرأ لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر ومثله كثير .
والذي عليه الحذاق أن من لم يبلغه الناسخ فهو متعبد بالحكم الأول ، كما يأتي بيانه في تحويل القبلة .
والحذاق على جواز نسخ الحكم قبل فعله ، وهو موجود في قصة الذبيح ، وفي فرض خمسين قبل فعلها بخمس ، على ما يأتي بيانه في الإسراء و الصافات ، إن شاء الله تعالى .
الثانية عشرة : لمعرفة الناسخ طرق ، منها : أن يكون في اللفظ ما يدل عليه ، كقوله عليه السلام :
"كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ونهيتكم عن الأشربة إلا في ظروف الأدم فاشربوا في كل وعاء غير ألا تشربوا مسكرا" ونحوه . ومنها ـ أن يذكر الرواي التاريخ ، مثل أن يقول : سمعت عام الخندق ، وكان المنسوخ معلوماً قبله . أو يقول نسخ حكم كذا بكذا . ومنها ـ أن تجمع الأمة على حكم أنه منسوخ وأن ناسخه متقدم . وهذا الباب مبسوط في أصول الفقه ،نبهنا منه على ما فيه لمن اقتصر كفاية ، والله الموفق للهداية .
الثالثة عشرة قرأ الجمهور ما ننسخ بفتح النون ، من نسخ ، وهو الظاهر المستعمل على معنى : ما نرفع من حكم آية ونبقي تلاوتها ، كما تقدم . ويحتمل أن يكون المعنى : ما نرفع من حكم آية وتلاوتها ، على ما ذكرناه . وقرأ ابن عامر ننسخ بضم النون ، من أنسخت الكتاب على معنى وجدته منسوخاً . قال أبو حاتم : هو غلط . وقال الفارسي أبو علي : ليست لغة ، لأنه لا يقال : نسخ وأنسخ بمعنى ، إلا أن يكون المعنى ما نجده منسوخاً ، كما تقول : أحمدت الرجل وأبخلته ، بمعنى وجدته محموداً وبخيلاً . قال أبو علي : وليس نجده منسوخاً إلا بأن ننسخه ، فتتفق القراءتان في المعنى وإن اختلفتا في اللفظ . وقيل : ما ننسخ ما نجعل لك نسخة ، يقال: نسخت الكتاب إذا كتبته ، وأنتسخته غيري إذا جعلت نسخه له . قال مكي : ولا يجوز أن تكون الهمزة للتعدي ، لأن المعنى يتغير ، ويصير المعنى ما ننسخك من آية يا محمد ، وإنساخه إياها إنزالها عليه ، فيصير المعنى ما ننزل عليك من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ، فيؤول المعنى إلى أن كل آية أنزلت أتى بخير منها ، فيصير القرآن كله منسوخاً وهذا لا يمكن ، لأنه لم ينسخ إلا اليسير من القرآن . فلما امتنع أن يكون أفعل وفعل بمعنى إذ لم يسمع ، وامتنع أن تكون الهمزة للتعدي لفساد المعنى ، لم يبق ممكن إلا أن يكون من باب أحمدته وأبخلته إذا وجدته محموداً أو بخيلاً .
الرابعة عشرة : قوله تعالى : "أو ننسها" قرأ أبو عمرو و ابن كثير بفتح النون والسين والهمز ، وبه قرأ عمر وابن عباس و عطاء و مجاهد وأبي بن كعب وعبيد بن عمير و النخعي وابن محيصن ، من التأخير ، أي نؤخر نسخ لفظها ، أي نتره في آخر أم الكتاب فلا يكون . وهذا قول عطاء . وقال غير عطاء : معنى أو ننسأها : نؤخرها عن النسخ إلى وقت معلوم ، من قولهم : نسأت هذا الأمر إذا أخرته ، ومن ذلك قولهم : بعته نسأ إذا أخرته . قال ابن فارس : ويقولون : نسأ الله في أجلك ، وأنسأ الله أجلك . وقد أنتسأ القوم إذا تأخروا وتباعدوا ، ونسأتهم أنا أخرتهم . فالمعنى نؤخر نزولها أو نسخها على ما ذكرنا . وقيل : نذهبها عنم حتى لا تقرأ ولا تذكر . وقرأ الباقون ننسها بضم النون ، من النسيان الذي بمعنى الترك ، أي نتركها فلا نبدلها ولا ننسخها قاله ابن عباس و السدي ، ومنه قوله تعالى : "نسوا الله فنسيهم" أي تركوا عبادته فتركهم في العذاب . واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم ، قال أبو عبيد : سمعت أبا نعيم القارىء يقول : قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم في المنام بقراءة أبي عمرو فلم يعير علي إلا حرفين ، قال : قرأت عليه أرنا فقال : أرنا ، فقال أبو عبيد : واحسب الحرف الآخر أو ننسأها فقال أو ننسها وحكى الأزهري ننسها نأمر بتركها ، يقال : أنسيته الشيء أي أمرت بتركه ، ونسيته تركته ،قال الشاعر :
إن علي عقبة أقضيها لست بناسيها ولا منسيها
أي ولا آمر بتركها . وقال الزجاج : إن القراءة بضم النون لا يتوجه فيها معنى الترك ، لا يقال : أنسى بمعنى ترك ، وما روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أو ننسها قال نتركها لا نبدلها ، فلا يصح . ولعل ابن عباس قال : نتركها ، فلم يضبط والذي عليه أكثر أهل اللغة والنظر أن معنى أو ننسها نبح لكم تركها ، من نسى إذا ترك ، ثم تعذبه . وقال أبو علي وغيره . ذلك متجه ، لأنه بمعنى نجعلك تتركها . وقيل : من النسيان على بابه الذي عدم الذكر ، على معنى أو ننسكها يا محمد فلا تذكرها ، نقل بالهمز فتعدى الفعل إلى مفعولين وهما النبي والهاء ، لكن اسم النبي محذوف .
الخامسة عشرة : قوله تعالى : "نأت بخير منها" لفظة بخير هنا صفة تفضيل ، والمعنى بأنفع لكم أيها الناس في عاجل إن كانت الناسخة أخف ، وفي آجل إن كانت أثقل ، وبمثلها إن كانت مستوية . وقال مالك : محكمة منسوخة . وقيل : ليس المراد بأخير التفضيل ، لأن كلام الله لا يتفاضل وإنما هو مثل قوله : "من جاء بالحسنة فله خير منها" أي فله منها خير أي نفع وأجر لا الخير الذي هو بمعنى الأفضل ويدل على القول الأول قوله : "أو مثلها" .
قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما "ما ننسخ من آية" ما نبدل من آية، وقال ابن جريج عن مجاهد "ما ننسخ من آية" أي ما نمحو من آية، وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد "ما ننسخ من آية" قال نثبت خطها ونبدل حكمها، حدث به عن أصحاب عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم. وقال ابن أبي حاتم: وروي عن أبي العالية ومحمد بن كعب القرظي نحو ذلك، وقال الضحاك "ما ننسخ من آية" ما ننسك، وقال عطاء أما "ما ننسخ"، فما نترك من القرآن. وقال ابن أبي حاتم: يعني ترك فلم ينزل على محمد صلى الله عليه وسلم. وقال السدي "ما ننسخ من آية" نسخها قبضها وقال ابن أبي حاتم: يعني قبضها ورفعها، مثل قوله "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة"، وقوله "لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثاً" وقال ابن جرير : "ما ننسخ من آية"، ما ننقل من حكم آية إلى غيره، فنبدله ونغيره، وذلك أن نحول الحلال حراماً، والحرام حلالاً، والمباح محظوراً، والمحظور مباحاً، ولا يكون ذلك، إلا في الأمر والنهي والحظر والإطلاق والمنع والإباحة، فأما الأخبار فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ، وأصل النسخ من نسخ الكتاب وهو نقله من نسخة إلى أخرى غيرها، فكذلك معنى نسخ الحكم إلى غيره إنما هو تحويله ونقل عبارة إلى غيرها وسواء نسخ حكمها أو خطها، إذ هي كلتا حالتيها منسوخة. وأما علماء الأصول، فاختلفت عباراتهم في حد النسخ والأمر في ذلك قريب، لأن معنى النسخ الشرعي معلوم عند العلماء ولحظ بعضهم أن رفع الحكم بدليل شرعي متأخر . فاندرج في ذلك نسخ الأخف بالأثقل وعكسه والنسخ لا إلى بدله، وأما تفاصيل أحكام النسخ وذكر أنواعه وشروطه فمبسوطة، في أصول الفقه. وقال الطبراني: أخبرنا أبو سنبل عبيد الله بن عبد الرحمن بن واقد، أخبرنا أبي أخبرنا العباس بن الفضل، عن سليمان بن أرقم عن الزهري عن سالم عن أبيه قال: قرأ رجلان سورة أقرأهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانا يقرآن بها، فقاما ذات ليلة يصليان، فلم يقدرا منها على حرف، فأصبحا غاديين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرا ذلك له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها مما نسخ وأنسي، فالهوا عنها، فكان الزهري يقرؤها: "ما ننسخ من آية أو ننسها"، بضم النون الخفيفة، سليمان بن الأرقم ضعيف. وقد روى أبو بكر بن الأنباري عن أبيه عن نصر بن داود عن أبي عبيد الله عن عبد الله بن صالح عن الليث عن يونس وعقيل عن ابن شهاب عن أمامة بن سهل بن حنيف، مثله مرفوعاً، ذكره القرطبي، وقوله تعالى: "أو ننسها"، فقرئ على وجهين، ننسأها وننسها، فأما من قرأها بفتح النون والهمزة بعد السين فمعناه نؤخرها. قال علي ابن أبي طلحة: عن ابن عباس، " ما ننسخ من آية أو ننسها "، يقول ما نبدل من آية أو نتركها لا نبدلها، وقال مجاهد عن أصحاب ابن مسعود: أو ننسأها، نثبت خطها ونبدل حكمها، وقال عبد بن عمير ومجاهد وعطاء أو ننسأها، نؤخرها ونرجئها. وقال عطية العوفي: أو ننسأها، نؤخرها فلا ننسخها، وقال السدي: مثله أيضاً وكذا الربيع بن أنس، وقال الضحاك: " ما ننسخ من آية أو ننسها "، يعني الناسخ والمنسوخ. وقال أبو العالية: " ما ننسخ من آية أو ننسها " نؤخرها عندنا، وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا عبيد الله بن إسماعيل البغدادي، أخبرنا خلف، أخبرنا الخفاف، عن إسماعيل يعني ابن أسلم، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: خطبنا عمر رضي الله عنه، فقال: يقول الله عز وجل: " ما ننسخ من آية أو ننسها "، أي نؤخرها، وأما على قراءة "أو ننسها"، فقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: "ما ننسخ من آية أو ننسها"، قال كان الله عز وجل: ينسي نبيه صلى الله عليه وسلم ما يشاء، وينسخ ما يشاء .
وقال ابن جرير: أخبرنا سواد بن عبد الله، أخبرنا خالد بن الحارث، أخبرنا عوف، عن الحسن أنه قال: في قوله: "أو ننسها" قال: إن نبيكم صلى الله عليه وسلم، قرأ علينا قرآناً ثم نسيه، وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبي أخبرنا ابن نفيل، أخبرنا محمد بن الزبير الحراني، عن الحجاج يعني الجزري عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان مما ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم، الوحي بالليل وينساه بالنهار ، فأنزل الله عز وجل: "ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها"، قال ابن أبي حاتم: قال لي أبو جعفر بن نفيل، ليس هو الحجاج بن أرطاة هو شيخ لنا جزري، وقال عبيد بن عمير: "أو ننسها" نرفعها من عندكم، وقال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم، أخبرنا هشيم، عن يعلى بن عطاء عن القاسم بن ربيعة، قال سمعت سعد بن أبي وقاص يقرأ "ما ننسخ من آية أو ننسها" قال: قلت له فإن سعيد بن المسيب يقرأ "أو ننسها" قال: قال سعد: إن القرآن، لم ينزل على المسيب ولا على آل المسيب، قال: قال الله جل ثناؤه: "سنقرئك فلا تنسى" "واذكر ربك إذا نسيت"، وكذا رواه عبد الرزاق عن هشيم، وأخرجه الحاكم في مستدركه، من حديث أبي حاتم الرازي، عن آدم عن شعبة عن يعلى بن عطاء به، وقال على شرط الشيخين ولم يخرجاه. قال ابن أبي حاتم وروى عن محمد بن كعب وقتادة وعكرمة نحو قول سعيد. وقال الإمام أحمد: أخبرنا يحيى أخبرنا سفيان الثوري: عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: قال عمر : علي أقضانا وأبي أقرؤنا، وإنا لندع من قول أبي، وذلك أن أبيا يقول: ما أدع شيئاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله يقول: "ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها"، قال البخاري: أخبرنا يحيى أخبرنا سفيان عن حبيب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: قال عمر : أقرؤنا أبي وأقضانا علي، وإنا لندع من قول أبي، وذلك أن أبيا يقول: لا أدع شيئاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله: "ما ننسخ من آية أو ننسها" وقوله: "نأت بخير منها أو مثلها"، أي في الحكم بالنسبة إلى مصلحة المكلفين، كما قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس "نأت بخير منها" ويقول خير لكم في المنفعة وأرفق بكم. وقال أبو العالية: "ما ننسخ من آية" فلا نعمل بها " أو ننسها "، أي نرجئها عندنا نأت بها أو نظيرها، وقال السدي "نأت بخير منها أو مثلها" يقول: نأت بخير من الذي نسخناه أو مثل الذي تركناه. وقال قتادة: "نأت بخير منها أو مثلها" يقول: آية فيها تخفيف فيها رخصة فيها أمر فيها نهي، وقوله: "ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير * ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير"، يرشد عباده تعالى بهذا، إلى أنه المتصرف في خلقه، بما يشاء ، فله الخلق والأمر وهو المتصرف، فكما خلقهم كما يشاء ، ويسعد من يشاء ، ويشقي من يشاء ويصح من يشاء ويمرض من يشاء ، ويوفق من يشاء، ويخذل من يشاء كذلك يحكم في عباده بما يشاء، فيحل ما يشاء ويحرم ما يشاء ويبيح ما يشاء ويحظر ما يشاء وهو الذي يحكم ما يريد لا معقب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون، ويختبر عباده وطاعتهم لرسله بالنسخ، فيأمر بالشيء لما فيه من المصحلة التي يعلمها تعالى، ثم ينهى عنه لما يعلمه تعالى فالطاعة كل الطاعة في امتثال أمره واتباع رسله في تصديق ما أخبروا، وامتثال ما أمروا، وترك ما عنه زجروا وفي هذا المقام رد عظيم وبيان بليغ لكفر اليهود وتزييف شبهتهم لعنهم الله، في دعوى استحالة النسخ، إما عقلاً كما زعمه بعضهم جهلاً وكفراً، وإما نقلاً كما تخرصه آخرون منهم افتراء وإفكاً، قال الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله: فتأويل الاية: ألم تعلم يا محمد، أن لي ملك السموات والأرض وسلطانها دون غيري، أحكم فيهما وفيما فيهما بما أشاء، وآمر فيهما وفيما فيهما بما أشاء، وأنهى عما أشاء، وأنسخ وأبدل وأغير، من أحكامي التي أحكم بها في عبادي، بما أشاء إذ أشاء، وأقر فيهما ما أشاء، ثم قال: وهذا الخبر وإن كان خطاباً من الله تعالى، لنبيه صلى الله عليه وسلم على وجه الخبر، عن عظمته فإنه منه جل ثناؤه تكذيب لليهود، الذين أنكروا نسخ أحكام التوراة وجحدوا نبوة عيسى ومحمد عليهما الصلاة السلام، لمجيئهما بما جاءا به من عند الله، بتغيير ما غير الله من حكم التوراة، فأخبرهم الله أن له ملك السموات والأرض وسلطانهما، وأن الخلق أهل مملكته، وطاعته وعليهم السمع والطاعة لأمره ونهيه، وأن له أمرهم بما يشاء ونهيهم عما يشاء، ونسخ ما يشاء، وإقرار ما يشاء، وإنشاء ما يشاء من إقراره وأمره ونهيه، (قلت) الذي يحمل اليهود على البحث في مسألة النسخ، إنما هو الكفر والعناد، فإنه ليس في العقل ما يدل على امتناع النسخ في أحكام الله تعالى، لأنه يحكم ما يشاء، كما أنه يفعل ما يريد، مع أنه قد وقع ذلك في كتبه المتقدمة وشرائعه الماضية، كما أحل لادم تزويج بناته من بنيه، ثم حرم ذلك، وكما أباح لنوح، بعد خروجه من السفينة أكل جميع الحيوانات، ثم نسخ حل بعضها، وكان نكاح الأختين مباحاً لإسرائيل وبنيه، وقد حرم ذلك في شريعة التوراة وما بعدها، وأمر إبراهيم عليه السلام بذبح ولده، ثم نسخه قبل الفعل، وأمر جمهور بني إسرائيل بقتل من عبد العجل منهم، ثم رفع عنهم القتل كيلا يستأصلهم القتل، وأشياء كثيرة يطول ذكرها وهم يعترفون بذلك ويصدفون عنه وما يجاب به عن هذه الأدلة بأجوبة لفظية فلا يصرف الدلالة في المعنى، إذ هو المقصود ، وكما في كتبهم مشهوراً من البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم والأمر باتباعه، فإنه يفيد وجوب متابعته عليه الصلاة والسلام، وأنه لا يقبل عمل إلا على شريعته، وسواء قيل إن الشرائع المتقدمة مغياة إلى بعثه عليه السلام، فلا يسمى ذلك نسخاً لقوله: "ثم أتموا الصيام إلى الليل"، وقيل: إنها مطلقة، وإن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم نسختها، فعلى كل تقدير فوجوب متابعته متعين، لأنه جاء بكتاب وهو آخر الكتب عهداً بالله تبارك وتعالى، ففي هذا المقام بين تعالى جواز النسخ، رداً على اليهود عليهم لعنة الله، حيث قال تعالى: "ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير ؟ * ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض" الاية، فكما أن له الملك بلا منازع، فكذلك له الحكم بما يشاء، "ألا له الخلق والأمر"وقرئ في سورة آل عمران، التي نزل في صدرها خطاباً مع أهل الكتاب، وقوع النسخ في قوله تعالى: "كل الطعام كان حلاً لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه" الاية، كما سيأتي تفسيره والمسلمون كلهم متفقون على جواز النسخ في أحكام الله تعالى، لما له في ذلك من الحكمة البالغة، وكلهم قال بوقوعه، وقال أبو مسلم الأصبهاني المفسر : لم يقع شيء من ذلك في القرآن، وقوله ضعيف مردود مرذول، وقد تعسف في الأجوبة عما وقع من النسخ، فمن ذلك قضية العدة بأربعة أشهر وعشر بعد الحول، لم يجب عن ذلك بكلام مقبول، وقضية تحويل القبلة إلى الكعبة. عن بيت المقدس لم يجب بشيء ، ومن ذلك نسخ مصابرة المسلم لعشرة من الكفرة إلى مصابرة الاثنين، ومن ذلك نسخ وجوب الصدقة قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم وغير ذلك، والله أعلم.
النسخ في كلام العرب على وجهين: أحدهما النقل كنقل كتاب من آخر، وعلى هذا يكون القرآن كله منسوخاً: أعني من اللوح المحفوظ، فلا مدخل لهذا المعنى في هذه الآية، ومنه "إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون" أي نأمر بنسخه. الوجه الثاني الإبطال والإزالة، وهو المقصود هنا. وهذا الوجه الثاني ينقسم إلى قسمين عند أهل اللغة: أحدهما إبطال الشيء وزواله وإقامة آخر مقامه، ومنه نسخت الشمس الظل إذا أذهبته وحلت محله، وهو معنى قوله: 106- "ما ننسخ من آية" وفي صحيح مسلم "لم تكن نبوة قط إلا تناسخت" أي تحولت من حال إلى حال. والثاني إزالة الشيء دون أن يقوم مقامه آخر كقولهم: نسخت الريح الأثر، ومن هذا المعنى "فينسخ الله ما يلقي الشيطان" أي يزيله. وروي عن أبي عبيد أن هذا قد كان يقع في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت تنزل عليه السورة فترفع فلا تتلى ولا تكتب. ومنه ما روي عن أبي وعائشة أن سروة الأحزاب كانت تعدل سورة البقرة في الطول. قال ابن فارس: النسخ نسخ الكتاب، والنسخ أن تزيل أمراً كان من قبل يعمل به ثم تنسخه بحادث غيره، كالآية تنزل بأمر ثم تنسخ بأخرى، وكل شيء خلف شيئاً فقد انتسخه، يقال: نسخت الشمس الظل، والشيب الشباب، وتناسخ الورثة أن يموت ورثة بعد ورثة، وأصل الميراث قائم، وكذا تناسخ الأزمنة والقرون. وقال ابن جرير: "ما ننسخ" ما ننقل من حكم آية إلى غيره فنبدله ونغيره، وذلك أن نحول الحلال حراماً، والحرام حلالاً، والمباح محظوراً، والمحظور مباحاً، ولا يكون ذلك إلا في الأمر والنهي والحظر والإطلاق والمنع والإباحة فأما الأخبار فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ، وأصل النسخ من نسخ الكتاب، وهو نقله من نسخة إلى أخرى، فكذلك معنى نسخ الحكم إلى غيره إنما هو تحويله إلى غيره، وسواء نسخ حكمها أو خطها، إذ هي كلتي حالتيها منسوخة انتهى. وقد جعل علماء الأصول مباحث النسخ من جملة مقاصد ذلك الفن فلا نطول بذكره، بل نحيل من أراد الاستشفاء عليه. وقد اتفق أهل الإسلام على ثبوته سلفاً وخلفاً، ولم يخالف في ذلك أحد إلا من لا يعتد بخلافه ولا يؤبه لقوله. وقد اشتهر عن اليهود، أقماهم الله، إنكاره، وهم محجوجون بما في التوراة أن الله قال لنوح عليه السلام عند خروجه من السفينة: إني قد جعلت كل دابة مأكلاً لك ولذريتك، وأطلقت ذلك لكم كنبات العشب ما خلا الدم فلا تأكلوه، ثم قد حرم على موسى وعلى بني إسرائيل كثيراً من الحيوان. وثبت في التوراة أن آدم كان يزوج الأخ من الأخت، وقد حرم الله ذلك على موسى عليه السلام وعلى غيره. وثبت فيها أن إبراهيم عليه السلام أمر بذبح ابنه، ثم قال الله له: لا تذبحه، وبأن موسى أمر بني إسرائيل أن يقتلوا من عبد منهم العجل، ثم أمرهم برفع السيف عنهم، ونحو هذا كثير في التوراة الموجودة بأيديهم. وقوله: "أو ننسها" قرأ أبو عمرو وابن كثير بفتح النون والسين والهمز، وبه قرأ عمر وابن عباس وعطاء ومجاهد وأبي بن كعب وعبيد بن عمير والنخعي وابن محيصن ومعنى هذه القراءة نؤخرها عن النسخ من قولهم: نسأت هذا الأمر إذا أخرته. قال ابن فارس: ويقولون نسأ الله في أجلك وأنسأ الله أجلك. وقد انتسأ القوم إذا تأخروا وتباعدوا، ونسأتهم أنا أخرتهم، وقيل: معناه نؤخر نسخ لفظها: أي نتركه في أم الكتاب فلا يكون. وقيل: نذهبها عنكم حتى لا تقرأ ولا تذكر. وقرأ الباقون: "ننسها" بضم النون من النسيان الذي بمعنى الترك: أي نتركها فلا نبدلها ولا ننسخها، ومنه قوله تعالى: "نسوا الله فنسيهم" أي: تركوا عبادته فتركهم في العذاب. واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم. وحكى الأزهري أن معناه نأمر بتركها يقال: أنسيته الشيء: أي أمرته بتركه، ونسيته تركته، ومنه قول الشاعر:
إن علي عقبة أقضيها لست بناسيها ولا منسيها
أي ولا آمر بتركها. وقال الزجاج: إن القراءة بضم النون لا يتوجه فيها معنى الترك، لا يقال: أنسى بمعنى ترك، قال: وما روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: "أو ننسها" قالك نتركها لا نبدلها فلا يصح، والذي عليه أكثر أهل اللغة والنظر أن معنى "أو ننسها" نبح لكم تركها من نسي إذا ترك ثم تعديه. ومعنى: "نأت بخير منها أو مثلها" نأت بما هو أنفع للناس منها في العاجل والآجل، أو في أحدهما، أو بما هو مماثل لها من غير زيادة، ومرجع ذلك إلى إعمال النظر في المنسوخ والناسخ، فقد يكون الناسخ أخف فيكون أنفع لهم في العاجل، وقد يكون أثقل وثوابه أكثر فيكون أنفع لهم في الآجل، وقد يستويان فتحصل المماثلة.
106. قوله عز وجل " ما ننسخ من آية أو ننسها " وذلك أن المشركين قالوا: إن محمداً ما يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلاف ما يقوله غلا من تلقاء نفسه يقول [ اليوم قولا ويرجع عنه غداً كما أحبر الله <<وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم] بما ينزل قالوا : إنما أنت مفتر>>( 101- النحل ) وأنزل " ما ننسخ من آية أو ننسها " فبين وجه الحكمة من النسخ بهذه الآية .
والنسخ في اللغة شيئان: أحدهما : بمعنى التحويل والنقل ومنه نسخ الكتاب وهو أن يحول من كتاب إلى كتاب فعلى هذا الوجه كل القرآن منسوخ لأنه نسخ من اللوح المحفوظ.
والثاني: يكون بمعنى الرفع يقال: نسخت الشمس الظل أي ذهبت به وأبطلته. فعلى هذا يكون بعض القرآن ناسخاً وبعضه منسوخاً وهو المراد من الآية /وهذا على وجوه أحدهما: أن يثبت الخط وينسخ الحكم مثل آية الوصية للأقارب . وآية عدة الوفاة بالحول وآية التخفيف في القتال وآية الممتحنة ونحوها ، وقال أبن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى " ما ننسخ من آية " ما نثبت خطها ونبدل حكمها مثل آية الرجم ، ومنها أن ترفع تلاوتهأصلاً عن المصحف وعن القلوب كما روي عن أبي أمامه بن سهل بن حنيف : أن قوماً من الصحابة رضي الله عنهم قاموا ليلة ليقرؤوا سورة فلم يذكروا منها إلا بسم الله الرحمن الرحيم فغدوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " تلك سورة رفعت تلاوتها وأحكامها " وقيل : كانت سورة الأحزاب مثل سورة البقرة ، فرفع أكثرها تلاوة وحكماً ، ثم من نسخ الحكم ما يرفع ويقام غيره مقامه، كما أن القبلة نسخت من بيت المقدس إلى الكعبة ، والوصية للأقارب نسخت بالميراث وعدة الوفاة نسخت من الحول إلى أربعة أشهر وعشر ، ومصابرة الواحدة العشر في القتال نسخت بمصابرة الاثنين ، ومنها ما يرفع ولا يقام غيره مقامه ، كامتحان النساء . والنسخ إنما يعترض على الأوامر والنواهي دون الأخبار.
وأما معنى الآية فقوله " ما ننسخ من آية " قراءة العامة بفتح النون وكسر السين من النسخ ، أي: نرفعها ، وقرأ ابن عامر بضم النون وكسر السين من الإنساخ وله وجهان :
أحدهما : ان نجعله كالمنسوخ .
والثاني : أن نجعله نسخة له [ يقال : نسخت الكتاب أي كتبته، و أنسخه غيري إذا جعلته نسخة له ] " أو ننسها " أي ننسها على قلبك.
وقال أبن عباس رضي الله عنهما ، نتركها لا ننسخها، قال الله تعالى" نسوا الله فنسيهم" (67- التوبة) أي تركوه فتركهم وقيل " ننسها " أي : نأمر بتركها ، يقال : أنسيت الشيء إذا أمرت بتركه، فيكون النسخ الأول من رفع الحكم واقامة غيره مقامه، والإنساء يكون ناسخاً من غير اقامة غيره مقامه. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو أو ننسأها بفتح النون الأول والسين مهموزاً أي نؤخرها فلا نبدلها يقال: نسأ الله في أجله وأنسأ الله أجله، وفي معناه قولاه: أحدهما : نرفع تلاوتها ونؤخر حكمها كما فعل في آية الرجم فعلى هذا يكون النسخ الأول بمعنى رفع التلاوة والحكم ، والقول الثاني : قال سعيد بن المسيب و عطاء : أما ما نسخ من آية فهو ما قد نزل من القرآن جعلاه من النسحة أو ننسأها أي نؤخرها ونتركها في اللوح المحفوظ ولا تنزل.
" نأت بخير منها " أي بما هو أنفع لكم وأسهل عليكم وأكثر لأجركم، لا أن آية خير من آية، لأن كلام الله واحد وكله خير " أو مثلها " في المنفعة والثواب فكل ما نسخ إلى الأيسر فهو أسهل في العمل وما نسخ إلى الأشق فهو في الثواب أكثر " ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير "؟ من النسخ والتبديل، لفظه استفهام، ومعناه تقرير، أي: إنك تعلم.
106-" ما ننسخ من آية أو ننسها " نزلت لما قال المشركون أو اليهود : ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمر بخلافه . والنسخ في اللغة : إزالة الصورة عن الشيء وإثباتها في غيره ، كنسخ الظل للشمس والنقل ، ومنه التناسخ . ثم استعمل لكل واحد منهما كقولك : نسخت الريح الأثر ، ونسخت الكتاب . ونسخ الآية بيان انتهاء التعبد بقراءتها ، أو الحكم المستفاد منها ، أو بهما جميعاً . وإنساؤها إذهابها عن القلوب ، وما شرطية جازمة لننسخ منتصبة به على المفعولية . وقرأ ابن عامر ما ننسخ من أنسخ أي نأمرك أو جبريل بنسخها ، أو نجدها منسوخة , و ابن كثير و أبو عمرو ننسأها أي نؤخرها من النسء . وقرئ ننسها أي ننس أحداً إياها ، و ننسها أي أنت ، و تنسها على البناء للمفعول ، و ننسكها بإضمار المفعولين " نأت بخير منها أو مثلها " أي بما هو خير للعباد في النفع والثواب ، أو مثلها في الثواب . وقرأ أبو عمرو بقلب الهمزة ألفاً . " ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير " فيقدر على النسخ والإتيان بمثل المنسوخ ، أو بما هو خير منه . والآية دلت على جواز النسخ وتأخير الإنزال إذ الأصل اختصاص أن وما يتضمنها بالأمور المحتملة ، وذلك لأن الأحكام شرعت ، والآيات نزلت لمصالح العباد وتكميل نفوسهم فضلاً من الله ورحمة ، وذلك يختلف باختلاف الأعصار والأشخاص ، كأسباب المعاش فإن النافع في عصر قد يضر في عصر غيره . واحتج من منع النسخ بلا بدل ، أو ببدل أثقل . ونسخ الكتاب والسنة ، فإن الناسخ هو المأتي به بدلاً والسنة ليست كذلك والكل ضعيف ، إذ قد يكون عدم الحكم ، أو الأثقل أصلح . والنسخ قد يعرف بغيره ، والسنة مما أتى به الله تعالى ، وليس المراد بالخير والمثل ما يكون كذلك في اللفظ . والمعتزلة على حدوث القرآن فإن التغير والتفاوت من لوازمه . وأجيب : بأنهما من عوارض الأمور المتعلقة بالمعنى القائم بالذات القديم .
106. Such of Our revelations as We abrogate or cause to be forgotten, we bring (in place) one better or the like thereof. Knowest thou not that Allah is Able to do all things?
106 - None of our revelations do we abrogate or cause to be forgotten, but we substitute something better or similar: knowest thou not that God hath power over all things?