[البقرة : 105] مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
(ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين) من العرب عطف على أهل الكتاب ، ومِن للبيان (أن ينزل عليكم من) زائدة (خير) وحي (من ربكم) حسدا لكم (والله يختص برحمته) نبوته (من يشاء والله ذو الفضل العظيم)
القول في تأويل قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا "
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "لا تقولوا راعنا". فقال بعضهم: تأويله: لا تقولوا خلافاً. ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء في قوله: "لا تقولوا راعنا"، قال: لا تقولوا خلافاً.
حدثنى محمد بن عمرو قال، حدثنا أبوعاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "لا تقولوا راعنا"، لا تقولوا خلافاً.
حدثني المثنى قال، حدثنا آبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهدمثله.
حدثنا أحمد بن إسحق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيريقال، حدثنا سفيان،عن رجل، عن مجاهد مثله.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن مجاهد مثله.
وقال آخرون: تأويله: أرعنا سمعك. أي: اسمع منا ونسمع منك ذكر من قال ذلك:حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قوله: "راعنا"، أي: أرعنا سمعك.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله جل وعز: "يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا"، لا تقولوا: اسمع منا ونسمع منك.
حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: "راعنا"، قال: كان الرجل من المشركين يقول: أرعني سمعك.
ثم اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله نهى الله المؤمنين أن يقولوا: "راعنا".
فقال بعضهم: هي كلمة كانت اليهود تقولها على وجه الاستهزاء والمسبة، فنهى الله تعالى ذكره المؤمنين أن يقولوا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم. ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: "يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا"، قول كانت تقوله اليهود استهزاء، فزجر الله المؤمنين أن يقولوا كقولهم.
حدثنا أحمد بن إسحق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية: "لا تقولوا راعنا"، قال: كان أناس من اليهود يقولون: أرعنا سمعك! حتى قالها أناس من المسلمين. فكره الله لهم ما قالت اليهود فقال: "يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا"، كما قالت اليهود والنصارى.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: "لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا"، قال: كانوا يقولون: راعنا سمعك! فكان اليهود يأتون فيقولون مثل ذلك مستهزئين، فقال الله: "لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا".
حدثت عن المنجاب قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: "لا تقولوا راعنا"، قال: كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: راعنا سمعك! وإنما "راعنا"، كقولك: عاطنا.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: "يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا" قال: "راعنا" القول الذي قاله القوم، قالوا: "سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين" (النساء: 46)، قال: قال: هذا الراعن والراعن: الخطاء قال. فقال للمؤمنين: لا تقولوا: خطاء، كما قال القوم، وقولوا: انظرنا واسمعوا. قال: كانوا ينظرون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويكلمونه، ويسمع منهم، ويسألونه ويجيبهم.
وقال آخرون: بل هي كلمة كانت الأنصار في الجاهلية تقولها، فنهاهم الله في الإسلام أن يقولوها لنبيه صلى الله عليه وسلم. ذكر من قال ذلك: حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثني هشيم قال، أخبرنا عبد الرزاق، عن عطاء في قوله: "لا تقولوا راعنا"، قال: كانت لغة في الأنصار في الجاهلية، فنزلت هذه الآية: "لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا" إلى آخر الآية.
حدثنا أحمد بن إسحق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا هشيم، عن عبد الملك، عن عطاء قال: "لا تقولوا راعنا"، قال: كانت لغة في الأنصار.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عبدالملك،عن عطاء مثله.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله:"لا تقولوا راعنا"، قال: إن مشركي العرب كانوا إذا حدث بعضهم بعضًا يقول أحدهم لصاحبه: أرعني سمعك فنهوا عن ذلك.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال ،قال ابن جريج:"راعنا"، قول الساخر. فنهاهم أن يسخروا من قول محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال بعضهم: بل كان ذلك كلام يهودي من اليهود بعينه، يقال له: رفاعة بن زيد. كان يكلم
النبي صلى الله عليه وسلم به على وجه السب له، وكان المسلمون أخذوا ذلك عنه، فنهى الله المؤمنين عن قيله للنبي صلى الله عليه وسلم. ذكر من قال ذلك:
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا"، كان رجل من اليهود من قبيلة من اليهود يقال لهم بنو قينقاع كان يدعى رفاعة بن زيد بن السائب قال أبو جعفر: هذا خطأ، إنما هو: ابن التابوت، ليس ابن السائب كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا لقيه فكلمه قال: أرعني سمعك، واسمع غير مسمع، فكان المسلمون يحسبون أن الأنبياء كانت تفخم بهذا، فكان ناس منهم يقولون: اسمع غير مسمع، كقولك: اسمع غير صاغر، وهي التي في النساء "من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين" (النساء: 46)، يقول: إنما يريد بقوله طعنًا في الدين. ثم تقدم إلى المؤمنين فقال: "لا تقولوا راعنا".
قال أبو جعفر: والصواب من القول في نهي الله جل ثناؤه المؤمنين أن يقولوا لنبيه: "راعنا" أن يقال: إنها كلمة كرهها الله لهم أن يقولوها لنبيه صلى الله عليه وسلم، نظير الذي ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
لا تقولوا للعنب الكرم، ولكن قولوا: الحبلة.
و لا تقولوا: عبدي، ولكن قولوا: فتاي.
وما أشبه ذلك، من الكلمتين اللتين تكونان مستعملتين بمعنى واحد في كلام العرب، فتأتي الكراهة أو النهي باستعمال إحداهما،واختيار الأخرى عليها في المخاطبات.
فإن قال لنا قائل: فإنا قد علمنا معنى نهي النبي صلى الله عليه وسلم في العنب أن يقال له كرم ، وفي العبد أن يقال له عبد، فما المعنى الذي في قوله: "راعنا" حينئذ، الذي من أجله كان النهي من الله جل ثناؤه للمؤمنين عن أن يقولوه، حتى أمرهم أن يؤثروا قوله:"انظرنا"؟
قيل: الذي فيه من ذلك، نظير الذي في قول القائل: الكرم للعنب، و العبد للمملوك. وذلك أن قول القائل: عبدي لجميع عباد الله، فكره النبي صلى الله عليه وسلم أن يضاف بعض عباد الله بمعنى العبودية إلى غير الله، وأمر أن يضاف ذلك إلى غيره، بغير المعنى الذي يضاف إلى الله عز وجل، فيقال: فتاي. وكذلك وجه نهيه في العنب أن يقال: كرم، خوفًا من توهم وصفه بالكرم، وإن كانت مسكنة، فإن العرب قد تسكن بعض الحركات إذا تتابعت على نوع واحد. فكره أن يتصف بذلك العنب. فكذلك نهى الله عز وجل المؤمنين أن يقولوا: "راعنا"، لما كان قول القائل: "راعنا" محتملاً أن يكون بمعنى احفظنا ونحفظك، وارقبنا ونرقبك. من قول العرب بعضهم لبعض:رعاك الله: بمعنى حفظك الله وكلأك ومحتملاً أن يكون بمعنى: أرعنا سمعك، من قولهم: أرعيت سمعي إرعاءً أو راعيته سمعي رعاءً أو مراعاة بمعنى: فرغته لسماع كلامه، كما قال الأعشى ميمون بن قيس:
يرعي إلى قول سادات الرجال إذا أبدوا له الحزم، أو ما شاءه ابتدعا
يعني بقوله: يرعي، يصغي بسمعه إليه مفرغه لذلك.
وكان الله جل ثناؤه قد أمر المؤمنين بتوقير نبيه صلى الله عليه وسلم وتعظيمه، حتى نهاهم جل ذكره فيما نهاهم عنه عن رفع أصواتهم فوق صوته، وأن يجهروا له بالقول كجهر بعضهم لبعض، وخوفهم على ذلك حبوط أعمالهم. فتقدم إليهم بالزجر لهم عن أن يقولوا له من القول ما فيه جفاء، وأمرهم أن يتخيروا لخطابه من الألفاظ أحسنها، ومن المعاني أرقها. فكان من ذلك قولهم:"راعنا" لما فيه من احتمال معنى: ارعنا نرعاك، إذ كانت المفاعلة لا تكون إلا من اثنين، كما يقول القائل: عاطنا، وحادثنا، وجالسنا، بمعنى: افعل بنا نفعل بك ومعنى: أرعنا سمعك، حتى نفهمك وتفهم عنا. فنهى الله تعالى ذكره أصحاب محمد أن يقولوا ذلك كذلك، وأن يفردوا مسألته بانتظارهم وإمهالهم، ليعقلوا عنه، بتبجيل منهم له وتعظيم، وأن لا يسألوه ما سألوه من ذلك على وجه الجفاء والتجهم منهم له، ولا بالفظاظة والغلظة، تشبهًا منهم باليهود في خطابهم نبي الله صلى الله عليه وسلم، بقولهم له: اسمع غير مسمع وراعنا.
يدل على صحة ما قلنا في ذلك قوله "ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم"، فدل بذلك أن الذي عاتبهم عليه، مما يسر اليهود والمشركين.
فأما التأويل الذي حكي عن مجاهد في قوله:"راعنا" أنه بمعنى: خلافًا، مما لا يعقل في كلام العرب. لأن راعيت في كلام العرب إنما هو على أحد وجهين: أحدهما بمعنى فاعلت، من الرعية وهي الرقبة والكلاءة. والآخر بمعنى إفراغ السمع، بمعنى: أرعيته سمعي. وأما راعيت بمعنى خالفت، فلا وجه له مفهوم في كلام العرب. إلا أن يكون قرأ ذلك بالتنوين، ثم وجهه إلى معنى الرعونة والجهل والخطأ، على النحو الذي قاد في ذلك عبد الرحمن بن زيد، فيكون لذلك وإن كان مخالفًا قراءة القراء معنى مفهوم حينئذ.
وأما القول الآخر الذي حكي عن عطية ومن حكي ذلك عنه: أن قوله:"راعنا" كانت كلمة لليهود بمعنى السب والسخرية، فاستعملها المؤمنون أخذًا منهم ذلك عنهم، فإن ذلك غير جائز في صفة المؤمنين: أن يأخذوا من كلام أهل الشرك كلامًا لا يعرفون معناه، ثم يستعملونه بينهم وفي خطاب نبيهم صلى الله عليه وسلم. ولكنه جائز أن يكون ذلك مما روي عن قتادة، أنها كانت كلمة صحيحة مفهومة من كلام العرب، وافقت كلمة من كلام اليهود بغير اللسان العربي، هي عند اليهود سب، وهي عند العرب: أرعني سمعك وفرغه لتفهم عني. فعلم الله جل ثناؤه معنى اليهود في قيلهم ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، وأن معناها منهم خلاف معناها في كلام العرب، فنهى الله عز وجل المؤمنين عن قيلها للنبي صلى الله عليه وسلم، لئلا يجترىء من كان معناه في ذلك غير معنى المؤمنين فيه، أن يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم به. وهذا تأويل لم يأت الخبر بأنه كذلك، من الوجه الذي تقوم به الحجة. وإذ كان ذلك كذلك، فالذي هو أولى بتأويل الآية ما وصفنا، إذ كان ذلك هو الظاهر المفهوم بالآية دون غيره.
وقد حكي عن الحسن البصري أنه كان يقرؤه: لا تقولوا راعنًا، بالتنوين، بمعنى:لا تقولوا قولاً راعنا من الرعونة هي الحمق والجهل.
وهذه قراءة لقراءة المسلمين مخالفة، فغير جائز لأحد القراءة بها لشذوذها وخروجها من قراءة المتقدمين والمتأخرين، وخلافها ما جاءت به الحجة من المسلمين.
ومن نون راعنا نونه بقوله: "لا تقولوا"، لأنه حينئذ عامل فيه. ومن لم ينونه فإنه ترك تنوينه لأنه أمر محكي. لأن القوم كأنهم يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: "راعنا"، بمعنى مسألته: إما أن يرعيهم سمعه، وإما أن يرعاهم ويرقبهم- على ما قد بينت فيما قد مضى فقيل لهم: لا تقولوا في مسألتكم إياه "راعنا". فتكون الدلالة على معنى الأمر في "راعنا" حينئذ سقوط الياء التي كانت تكون في يراعيه ويدل عليها أعني على الياء الساقطة كسرة العين من "راعنا".
وقد ذكر أن قراءة ابن مسعود:لا تقولوا راعونا، بمعنى حكاية أمر صالحة لجماعة بمراعاتهم. فإن كان ذلك من قراءته صحيحًا، وجه أن يكون القوم كأنهم نهوا عن استعمال ذلك بينهم في خطاب بعضهم بعضًا، كان خطابهم للنبي صلى الله عليه وسلم أو لغيره. ولا نعلم ذلك صحيحًا من الوجه الذي تصح منه الأخبار.
القول في تأويل قوله تعالى: "وقولوا انظرنا".
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"وقولوا انظرنا"، وقولوا أيها المؤمنون لنبيكم صلى الله عليه وسلم: انظرنا وارقبنا، نفهم ونتبين ما تقول لنا، وتعلمنا، كما:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وقولوا انظرنا"، فهمنا، بين لنا يا محمد.
حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وقولوا انظرنا"، فهمنا، بين لنا يا محمد.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد مثله.
يقال منه نظرت الرجل أنظره نظرةً بمعنى انتظرته ورقبته، ومنه قول الحطيئة:
وقد نظرتكم أعشاء صادرة للخمس، طال بها حوزي وتنساسي
ومنه قول الله عز وجل:"يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم" (الحديد: 13)، يعني به: انتظرونا.
وقد قرىء: أنظرنا و أنظرونا بقطع الألف في الموضعين جميعًا فمن قرأ ذلك كذلك أراد: أخرنا، كما قال الله جل ثناؤه:"قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون" (ص: 79)، أي أخرني. ولا وجه لقراءة ذلك كذلك في هذا الموضع. لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أمروا بالدنو من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والاستماع منه، وإلطاف الخطاب له، وخفض الجناح لا بالتأخر عنه، ولا بمسألته تأخيرهم عنه. فالصواب إذ كان ذلك كذلك من القراءة، قراءة من وصل الألف من قوله:"انظرنا" ولم يقطعها بمعنى: انتظرنا.
وقد قيل إن معنى أنظرنا بقطع الألف بمعنى: أمهلنا. حكي عن بعض العرب سماعًا:أنظرني أكلمك. وذكر سامع ذلك من بعضهم أنه استثبته في معناه، فأخبره أنه أراد: أمهلني. فإن يكن ذلك صحيحًا عنهم فانظرنا و أنظرنا بقطع الألف ووصلها متقاربا المعنى. غير أن الأمر وإن كان كذلك، فإن القراءة التي لا أستجيز غيرها، قراءة من قرأ:"وقولوا انظرنا"، بوصل الألف بمعنى: انتظرنا، لإجماع الحجة على تصويبها، ورفضهم غيرها من القراآت.
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: "واسمعوا وللكافرين عذاب أليم".
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"واسمعوا"، واسمعوا ما يقال لكم ويتلى عليكم من كتاب ربكم، وعوه وافهموه، كما:
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"واسمعوا"، اسمعوا ما يقال لكم.
فمعنى الآية إذًا: يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا لنبيكم: راعنا سمعك وفرغه لنا نفهمك وتفهم عنا ما نقول. ولكن قولوا: انتظرنا وترقبنا حتى نفهم عنك ما تعلمنا وتبينه لنا. واسمعوا منه ما يقول لكم، فعوه واحفظوه وافهموه. ثم أخبرهم جل ثناؤه لمن جحد منهم ومن غيرهم آياته، وخالف أمره ونهيه، وكذب رسوله، العذاب الموجع في الآخرة، فقال: وللكافرين بي وبرسولي عذاب أليم. يعني بقوله:الأليم، الموجع. وقد ذكرنا الدلالة على ذلك فيما مضى قبل، وما فيه من الآثار.
قوله تعالى : "ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم" .
قوله تعالى : "ما يود" أي ما يتمنى ، وقد تقدم . "الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين" معطوف على أهل . ويجوز : ولا المشركون ، تعطفه على الذين ، قاله النحاس . "أن ينزل عليكم من خير" من زائدة ، خير اسم ما لم يسم فاعله . و أن في موضع نصب ، أي بأن ينزل . "والله يختص برحمته من يشاء" قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه "يختص برحمته" أي بنبوته ، خص بها محمداً صلى الله عليه وسلم . وقال قوم : الرحمة القرآن وقيل : الرحمة في هذه الآية عامة لجميع أنواعها التي قد منحها الله عباده قديماً وحديثاً ، يقال : رحم يرحم إذا رق . والرحم والمرحمة والرحمة بمعنى ، قاله ابن فارس . ورحمة الله لعباده : إنعامه عليهم وعفوه لهم . "والله ذو الفضل العظيم" ذو بمعنى صاحب .
نهى الله تعالى عباده المؤمنين أن يتشبهوا بالكافرين في مقامهم وفعالهم، وذلك أن اليهود كانوا يعانون من الكلام ما فيه تورية لما يقصدونه من التنقيص، عليهم لعائن الله فإذا أرادوا أن يقولوا اسمع لنا يقولون راعنا ويورون بالرعونة كما قال تعالى: "من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا لياً بألسنتهم وطعناً في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيراً لهم وأقوم، ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلاً"، وكذلك جاءت الأحاديث بالأخبار عنهم بأنهم كانوا إذا سلموا إنما يقولون السام عليكم، والسام هو الموت، ولهذا أمرنا أن نرد عليهم بـ "وعليكم"، وإنما يستجاب لنا فيهم ولا يستجاب لهم فينا، والغرض أن الله تعالى نهى المؤمنين عن مشابهة الكافرين قولاً وفعلاً، فقال " يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم ". وقال الإمام أحمد: أخبرنا أبو النضر أخبرنا عبد الرحمن بن ثابت أخبرنا حسان بن عطية، عن أبي منيب الجرشي عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعلت الذلة والصغار على من خالف أمري ومن تشبه بقوم فهو منهم". وروى أبو داود عن عثمان بن أبي شيبة عن أبي شيبة عن أبي النضير هاشم أخبرنا ابن القاسم به "من تشبه بقوم فهو منهم" ففيه دلالة على: النهي الشديد والتهديد والوعيد على التشبه بالكفار في أقوالهم وأفعالهم ولباسهم وأعيادهم وعباداتهم وغير ذلك من أمورهم التي لم تشرع لنا ولا نقر عليها. وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبي أخبرنا نعيم بن حماد أخبرنا عبد الله بن المبارك أخبرنا مسعر عن معن وعون أو أحدهما أن رجلاً أتى عبد الله بن مسعود فقال اعهد إلي، فقال: إذا سمعت الله يقول: " يا أيها الذين آمنوا " فأرعها سمعك فإنه خير يأمر به أو شر ينهى عنه. وقال الأعمش عن خيثمة قال ما تقرؤون في القرآن " يا أيها الذين آمنوا " فإنه في التوراة ياأيها المساكين. وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس "راعنا" أي أرعنا سمعك. وقال الضحاك: عن ابن عباس " يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا " قال: كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: أرعنا سمعك وإنما راعنا كقولك عاطنا. وقال ابن أبي حاتم وروي عن أبي العالية وأبي مالك والربيع بن أنس، وعطية العوفي وقتادة نحو ذلك، وقال مجاهد: "لا تقولوا راعنا" لا تقولوا خلافاً، وفي رواية لا تقولوا اسمع منا ونسمع منك. وقال عطاء لا تقولوا "راعنا"، كانت لغة تقولها الأنصار، فنهى الله عنها، وقال الحسن: "لا تقولوا راعنا"، قال الراعن من القول السخري منه، نهاهم الله أن يسخروا من قول محمد صلى الله عليه وسلم، وما يدعوهم إليه من الإسلام. وكذا روي عن ابن جريج، أنه قال مثله، وقال أبو صخر: "لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا" قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا أدبر ناداه من كانت له حاجة من المؤمنين، فيقول أرعنا سمعك، فأعظم الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقال ذلك له. وقال السدي: كان رجل من اليهود من بني قينقاع يدعى رفاعة بن زيد يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فإذا لقيه فكلمه قال: أرعني سمعك واسمع غير مسمع، وكان المسلمون يحسبون أن الأنبياء كانت تفخم بهذا، فكان ناس منهم يقولون: اسمع غير مسمع غير صاغر ، وهي كالتي في سورة النساء، فتقدم الله إلى المؤمنين أن لا يقولوا راعنا وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم بنحو من هذا. قال ابن جرير : والصواب من القول في ذلك لنبيه صلى الله عليه وسلم، نظير الذي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم راعنا. لأنها كلمة كرهها الله تعالى أن يقولها لنبيه صلى الله عليه وسلم، نظير الذي ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تقولوا للعنب الكرم ولكن قولوا الحبلة ولا تقولوا عبدي ولكن قولوا فتاي" وما أشبه ذلك. وقوله تعالى: " ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم " يبين بذلك تعالى شدة عداوة الكافرين من أهل الكتاب والمشركين، الذين حذر الله تعالى من مشابهتهم للمؤمنين، ليقطع المودة بينهم وبينهم، ونبه تعالى على ما أنعم به على المؤمنين من الشرع التام الكامل الذي شرعه لنبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، حيث يقول تعالى: "والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم".
وقوله: 105- "ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب" الآية، فيه بيان شدة عداوة الكفار للمسلمين حيث لا يودون إنزال الخير عليهم من الله سبحانه، ثم رد الله سبحانه ذلك عليهم فقال: "والله يختص برحمته من يشاء" الآية. وقوله: "أن ينزل" في محل نصب على المفعولية، ومن في قوله: "من خير" زائدة، قاله النحاس، وفي الكشاف أن من في قوله: "من أهل الكتاب" بيانية، وفي قوله: "من خير" مزيدة لاستغراق الخير، وفي قوله: "من ربكم" لابتداء الغاية، وقد قيل بأن الخير الوحي، وقيل غير ذلك، والظاهر أنهم لا يودون أن ينزل على المسلمين أي خير كان، فهو لا يختص بنوع معين كما يفيده وقوع هذه الفكرة في سياق النفي وتأكيد العموم بدخول من المزيدة عليها، وإن كان بعض أنواع الخير أعظم من بعض فذلك لا يوجب التخصيص. والرحمة قيل: هي القرآن، وقيل: النبوة، وقيل: جنس الرحمة من غير تعيين كما يفيد ذلك الإضافة إلى ضميره تعالى: "والله ذو الفضل العظيم" أي صاحب الفضل العظيم فكيف لا تودون أن يختص برحمته من يشاء من عباده.
وقد أخرج سعيد بن منصور في سننه وأحمد في الزهد وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود: أن رجلاً أتاه فقال: اعهد إلي فقال: إذا سمعت الله يقول: "يا أيها الذين آمنوا" فاوعها سمعك، فإنه خير يأمر به أو شر ينهى عنه. وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس قال: "راعنا" بلسان اليهود: السب القبيح، وكان اليهود يقولون ذلك لرسول الله سراً، فلما سمعوا أصحابه يقولون ذلك أعلنوا عنها، فكانوا يقولون ذلك ويضحكون فيما بينهم، فأنزل الله الآية. وأخرج أبو نعيم في الدلائل عنه أنه قال المؤمنون بعد هذه الآية من سمعتموه يقولها فاضربوا عنقه، فانتهت اليهود بعد ذلك. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن السدي قال: كان رجلان من اليهود: مالك بن الصيف ورفاعة بن زيد إذا لقيا النبي صلى الله عليه وسلم قالا له وهما يكلمانه: راعنا سمعك واسمع غير مسمع، فظن المسلمون أن هذا شيء كان أهل الكتاب يعظمون به أنبياءهم، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: فأنزل الله الآية. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي صخر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أدبر ناداه من كانت له حجة من المؤمنين فقالوا: ارعنا سمعك، فأعظم الله رسوله أن يقال له ذلك، وأمرهم أن يقولوا: "انظرنا" ليعززوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ويوقروه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو نعيم عن قتادة: أن اليهود كانت تقول ذلك استهزاءً، فكره الله للمؤمنين أن يقولوا كقولهم: وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال: الرحمة القرآن والإسلام.
105. قوله تعالى: " ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب " وذلك أن المسلمين كانوا إذا قالوا لحلفاؤهم من اليهود: آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم قالوا: ما هذا الذي تدعوننا إليه بخير مما نحنه فيه ولوددنا لو كان خيراً، فأنزل الله تكذيباً لهم " ما يود الذين " أي ما يحب ويتمنى الذين كفروا من أهل الكتاب يعني اليهود " ولا المشركين " جره بالنسق على من " أن ينزل عليكم من خير من ربكم " أي خير ونبوة، ومن صلة " والله يختص برحمته " بنبوته " من يشاء والله ذو الفضل العظيم " والفضل ابتداء إحسان بلا علة.
وقيل: المراد بالرحمة الإسلام والهداية وقيل: معنى الآية إن الله تعالى بعث الأنبياء من ولد إسحاق فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم من ولد إسماعيل لم يقع ذلك بود اليهود ومحبتهم، (فنزلت الآية) وأما المشركون فإنما لم تقع بودهم لأنه جاء بتضليلهم وعيب آلهتهم.
105-" ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين " نزلت تكذيباً لجمع من اليهود يظهرون مودة المؤمنين ، ويزعمون أنهم يودون لهم الخير . والود : محبة الشيء مع تمنيه ، ولذلك يستعمل في كل منهما ، ومن للتبيين كما في قوله تعالى : " لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين " " أن ينزل عليكم من خير من ربكم " مفعول يود ، ومن الأولى مزيدة للاستغراق ،والثانية للابتداء ، وفسر الخير بالوحي . والمعنى أنهم يحسدونكم به وما يحبون أن ينزل عليكم شيء منه وبالعلم وبالضرة ، ولعل المراد به ما يعم ذلك " والله يختص برحمته من يشاء " يستنبئه ويعلمه الحكمة وينصره لا يجب عليه شيء ، وليس لأحد عليه حق " والله ذو الفضل العظيم " إشعار بان النبوة من الفضل ، وأن حرمان بعض عباده ليس فضله ، بل لمشيئته وما عرف فيه من حكمته .
105. Neither those who disbelieve among the People of the Scripture nor the idolaters love that there should be sent down unto you any good thing from your Lord. But Allah chooseth for His mercy whom He will, and Allah is of infinite bounty.
105 - It is never the wish of those without faith among the people of the book, nor of the pagans, that anything good should come down to you from your Lord. but God will choose for his special mercy whom he will for God is Lord of grace abounding.