[البقرة : 103] وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ
(ولو أنهم) أي اليهود (آمنوا) بالنبي والقرآن (واتَّقَوا) عقاب الله بترك معاصيه كالسحر ، وجواب لو محذوف: أي لأثيبوا دل عليه (لمثوبة) ثواب ، وهو مبتدأ واللام فيه للقسم (من عند الله خير) خبره مما شروا به أنفسهم (لو كانوا يعلمون) أنه خير لما آثروه عليه
ذكر بعض الأخبار التي في بيان الملكين ، ومن قال إن هاروت وماروت هما الملكان اللذان ذكر الله جل ثناؤه في قوله : ببابل :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا معاذ بن هشام ، قال : حدثني أبي ، عن قتادة ، قال : حدثنا أبو شعبة العدوي في جنازة يونس بن جبير أبي غلاب ، عن ابن عباس قال : إن الله أفرج السماء لملائكته ينظرون إلى أعمال بني آدم ، فلما أبصروهم يعملون الخطايا ، قالوا : يا رب هؤلاء بنو آدم الذي خلقته بيدك ، وأسجدت له ملائكتك ، وعلمته أسماء كل شيء ، يعملون بالخطايا . قال : أما إنكم لو كنتم مكانهم لعملتم مثل أعمالهم . قالوا : سبحانك ما كان ينبغي لنا ، قال : فأمروا أن يختاروا من يهبط إلى الأرض . قال : فاختاروا هارون وماروت ، فاهبطا إلى الأرض ، وأحل لهما ما فيها من شيء غير أن لا يشركا بالله شيئا ولا يسرقا ، ولا يزنيا ، ولا يشربا الخمر ، ولا يقتلا النفس التي حرم الله إلا بالحق . قال : فما استمرا حتى عرض لهما امرأة قد قسم لها نصف الحسن يقال لها بيذخت ، فلما أبصراها أرادا بها زنا ، فقالت : لا إلا أن تشركا بالله وتشربا الخمر وتقتلا النفس وتسجدا لهذا الصنم . فقالا : ما كنا لنشرك بالله شيئا . فقال أحدهما للاخر : ارجع إليها . فقالت : لا إلا أن تشربا الخمر فشربا حتى ثملا ، ودخل عليهما سائل فقتلاه . فلما وقعا فيه من الشر ، أفرج الله السماء لملائكته ، فقالوا : سبحانك كنت أعلم قال : فأوحى الله إلى سليمان بن داود أن يخيرهما بين عذاب الدنيا وعذاب الاخرة ، فاختارا عذاب الدنيا ، فكبلا من أكعبهما إلى أعناقهما بمثل أعناق البخت وجعلا ببابل .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج بن المنهال ، قال : حدثنا حجاج ، عن علي بن زيد ، عن أبي عثمان النهدي ، عن ابن مسعود وابن عباس أنهما قالا : لما كثر بنو آدم وعصوا ، دعت الملائكة عليهم والأرض والسماء والجبال : ربنا ألا تهلكهم؟ فأوحى الله إلى الملائكة : إني لو أنزلت الشهوة والشيطان من قلوبكم ونزلتم لفعلتم أيضا . قال : فحدثوا أنفسهم أن لو ابتلوا اعتصموا . فأوحى الله إليهم أن اختاروا ملكين من أفضلكم . فاختاروا هاروت وماروت ، فاهبطا إلى الأرض وأنزلت الزهرة إليهما في صورة امرأة من أهل فارس ، وكان أهل فارس يسمونها بيذخت . قال : فوقعا بالخطيئة ، فكانت الملائكة يستغفرون للذين آمنوا . ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا . فلما وقعا بالخطيئة استغفروا لمن في الأرض : ألا إن الله هو الغفور الرحيم فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الاخرة فاختارا عذاب الدنيا .
حدثني المثنى ، قال : حدثني الحجاج ، قال : حدثنا حماد ، عن خالد الحذاء ، عن عمرو بن سعيد ، قال سمعت عليا يقول : كانت الزهرة امرأة جميلة من أهل فارس ، وإنها خاصمت إلى الملكين هاروت وماروت فراوداها عن نفسها ، فأبت إلا أن يعلماها الكلام الذي إذا تكلم به يعرج به إلى السماء . فعلماها فتكلمت فعرجت إلى السماء فمسخت كوكبا .
حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى ، قالا : حدثنا مؤمل بن إسماعيل ، وحدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق جميعا ، عن الثوري ، عن محمد بن عقبة ، عن سالم ، عن ابن عمر ، عن كعب ، قال : ذكرت الملائكة أعمال بني آدم وما يأتون من الذنوب ، فقيل لهم : اختاروا منكم اثنين وقال الحسن بن يحيى في حديثه : اختاروا ملكين فاختاروا هاروت وماروت ، فقيل لهما : إني أرسل إلى بني آدم رسلا ، وليس بيني وبينكم رسول ، انزلا لا تشركا بي شيئا ، ولا تزنيا ، ولا تشربا الخمر قال كعب : فوالله ما أمسيا من يومهما الذي أهبطا فيه إلى الأرض ، حتى استكملا جميع ما نهيا عنه . وقال الحسن بن يحيى في حديثه : فما استكملا يومهما الذي أنزلا فيه حتى عملا ما حرم الله عليهما .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا معلى بن أسد ، قال : حدثنا عبد العزيز بن المختار ، عن موسى بن عقبة ، قال : حدثني سالم أنه سمع عبد الله يحدث عن كعب الأحبار ، أنه حدث أن الملائكة أنكروا أعمال بني آدم وما يأتون في الأرض من المعاصي ، فقال الله لهم : إنكم لو كنتم مكانهم أتيتم ما يأتون من الذنوب فاختاروا منكم ملكين فاختاروا هاروت وماروت ، فقال الله لهما : إني أرسل رسلي إلى الناس ، وليس بيني وبينكما رسول ، انزلا إلى الأرض ، ولا تشركا بي شيئا ، ولا تزنيا فقال كعب : والذي نفس كعب بيده ما استكملا يومهما الذي نزلا فيه حتى أتيا ما حرم الله عليهما .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : أنه كان من أمر هاروت وماروت أنهما طعنا على أهل الأرض في أحكامهم ، فقيل لهما : إني أعطيت ابن آدم عشرا من الشهوات فبها يعصونني . قال هاروت وماروت : ربنا لو أعطيتنا تلك الشهوات ثم نزلنا لحكمنا بالعدل . فقال لهما : انزل فقد أعطيتكما تلك الشهوات العشر فاحكما بين الناس فنزلا ببابل دنباوند ، فكانا يحكمان ، حتى إذا أمسيا عرجا ، فإذا أصبحا هبطا . فلم يزالا كذلك حتى أتتهما امرأة تخاصم زوجها ، فأعجبهما حسنها واسمها بالعربية الزهرة ، وبالنبطية بيذخت ، واسمها بالفارسية أناهيذ ، فقال أحدهما لصاحبه : إنها لتعجبني . فقال الاخر : قد أردت أن أذكر لك فاستحييت منك . فقال الاخر : هل لك أن أذكرها لنفسها؟ قال : نعم ، ولكن كيف لنا بعذاب الله؟ قال الاخر : إنا نرجو رحمة الله . فلما جاءت تخاصم زوجها ذكرا إليها نفسها ، فقالت : لا حتى تقضيا لي على زوجي ، فقضيا لها على زوجها . ثم واعدتهما خربة من الخرب يأتيانها فيها ، فأتياها لذلك ، فلما أراد الذي يواقعها ، قالت : ما أنا بالذي أفعل حتى تخبراني بأي كلام تصعدان إلى السماء؟ وبأي كلام تنزلان منها؟ فأخبراها فتكلمت فصعدت . فأنساها الله ما تنزل به فبقيت مكانها ، وجعلها الله كوكبا فكان عبد الله بن عمر كلما رآها لعنها وقال : هذه التي فتنت هاروت وماروت فلما كان الليل أرادا أن يصعدا فلم يستطيعا فعرفا الهلك ، فخيرا بين عذاب الدنيا والاخرة ، فاختارا عذاب الدنيا من عذاب الاخرة ، فعلقا ببال فجعلا يكلمان الناس كلامهما وهو السحر .
حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : لما وقع الناس من بعد آدم فيما وقعوا فيه من المعاصي والكفر بالله ، قالت الملائكة في السماء : أي رب هذا العالم إنما خلقتهم لعبادتك وطاعتك ، وقد ركبوا الكفر وقتل النفس الحرام وأكل المال الحرام والسرقة والزنا وشرب الخمر فجعلوا يدعون عليهم ولا يعذرونهم . فقيل لهم : إنهم في غيب فلم يعذروهم ، فقيل لهم : اختاروا منكم ملكين آمرهما بأمري ، وأنهاهما عن معصيتي فاختاروا هاروت وماروت ، فأهبطا إلى الأرض ، وجعل بهما شهوات بني آدم ، وأمرا أن يعبدا الله ولا يشركا به شيئا ، ونهيا عن قتل النفس الحرام ، وأكل المال الحرام ، والسرقة والزنا وشرب الخمر . فلبثا على ذلك في الأرض زمانا يحكمان بين الناس بالحق ، وذلك في زمان إدريس ، وفي ذلك الزمان امرأة حسنها في سائر الناس كحسن الزهرة في سائر الكواكب . وإنها أتت عليهما فخضعا لها بالقول ، وأراداها على نفسها ، وإنها أبت إلا أن يكونا على أمرها ودينها ، وإنهما سألاها عن دينها التي هي عليه ، فأخرجت لهما صنما وقالت : هذا أعبد . فقالا : لا حاجة لنا في عبادة هذا . فذهبا فصبرا ما شاء الله ، ثم أتيا عليها فخضعا لها بالقول وأراداها على نفسها . فقالت : لا إلا أن تكونا على ما أنا عليه . فقالا : لا حاجة لنا في عبادة هذا . فلما رأت أنهما أبيا أن يعبدا الصنم ، قالت لهما : اختارا إحدى الخلال الثلاث : إما أن تعبدا الصنم ، أو تقتلا النفس ، أو تشربا الخمر . فقالا : كل هذا لا ينبغي ، وأهون الثلاثة شرب الخمر . فسقتهما الخمر ، حتى إذا أخذت الخمر فيهما وقعا بها ، فمر بهما إنسان وهما في ذلك ، فخشيا أن يفشي عليهما فقتلاه . فلما أن ذهب عنهما السكر عرفا ما وقعا فيه من الخطيئة وأرادا أن يصعدا إلى السماء فلم يستطيعا ، فحيل بينهما وبين ذلك ، وكشف الغطاء بينهما وبين أهل السماء . فنظرت الملائكة إلى ما وقعا فيه من الذنب ، فعجبوا كل العجب ، وعلموا أن من كان في غيب فهو أقل غشية ، فجعلوا بعد ذلك يستغفرون لمن في الأرض . وإنهما لما وقعا فيما وقعا فيه من الخطيئة ، قيل لهما : اختارا عذاب الدنيا أو عذاب الاخرة فقالا : أما عذاب الدنيا فإنه ينقطع وأما عذاب الاخرة فلا انقطاع له . فاختارا عذاب الدنيا ، فجعلا ببابل ، فهما يعذبان .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا فرج بن فضالة ، عن معاوية بن صالح ، عن نافع ، قال : سافرت مع ابن عمر ، فلما كان من آخر الليل قال : يا نافع انظر طلعت الحمراء قالها مرتين أو ثلاثا . ثم قلت : قد طلعت . قال : لا مرحبا ولا أهلا قلت : سبحان الله نجم مسخر سامع مطيع؟ قال : ما قلت لك إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الملائكة قالت : يا رب كيف صبرك على بني آدم في الخطايا والذنوب؟ قال : إني ابتليتهم وعافيتكم . قالوا : لو كنا مكانهم ما عصيناك . قال : فاختاروا ملكين منكم قال : فلم يألوا أن يختاروا ، فاختاروا هاروت وماروت .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وأما شأن هاروت وماروت ، فإن الملائكة عجبت من ظلم بني آدم وقد جاءتهم الرسل والكتب والبينات ، فقال لهم ربهم : اختاروا منكم ملكين أنزلهما يحكمان في الأرض بين بني آدم فاختاروا هاروت وماروت ، فقال لهما حين أنزلهما : عجبتما من بني آدم ومن ظلمهم ومعصيتهم ، وإنما تأتيهم الرسل والكتب من وراء وراء ، وأنتما ليس بيني وبينكما رسول ، فافعلا كذا وكذا ، ودعا كذا وكذا فأمرهما بأمر ونهاهما . ثم نزلا على ذلك ليس أحد لله أطوع منهما ، فحكما فعدلا ، فكانا يحكمان النهار بين بني آدم ، فإذا أمسيا عرجا وكانا مع الملائكة ، وينزلان حين يصبحان فيحكمان فيعدلان . حتى أنزلت عليهما الزهرة في أحسن صورة امرأة تخاصم ، فقضيا عليها . فلما قامت وجد كل واحد منهما في نفسه ، فقال أحدهما لصاحبه : وجدت مثل ما وجدت؟ قال : نعم ، فبعثا إليها أن ائتينا نقض لك . فلما رجعت قالا لها وقضيا لها : ائتينا فأتتهما ، فكشفا لها عن عورتهما . وإنما كانت شهوتهما في أنفسهما ولم يكونا كبني آدم في شهوة النساء ولذتها . فلما بلغا ذلك واستحلاه وافتتنا ، طارت الزهرة فرجعت حيث كانت . فلما أمسيا عرجا فردا ولم يؤذن لهما ولم تحملهما أجنحتهما فاستغاثا برجل من بني آدم ، فأتياه فقالا : ادع لنا ربك فقال : كيف يشفع أهل الأرض لأهل السماء؟ قالا : سمعنا ربك يذكرك بخير في السماء . فوعدهما يوما وغدا يدعو لهما . فدعا لهما فاستجيب له ، فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الاخرة . فنظر أحدهما إلى صاحبه فقالا : نعلم أن أنواع عذاب الله في الاخرة كذا وكذا في الخلد ومع الدنيا سبع مرات مثلها . فامرا أن ينزلا ببابل ، فثم عذابهما . وزعم أنهما معلقان في الحديد مطويان يصفقان بأجنحتهما .
قال أبو جعفر : وحكي عن بعض القراء أنه كان يقرأ : وما أنزل على الملكين يعني به رجلين من بني آدم . وقد دللنا على خطأ القراءة بذلك من جهة الاستدلال فأما من جهة النقل فإجماع الحجة على خطأ القراءة بها من الصحابة والتابعين وقراء الأمصار ، وكفى بذلك شاهدا على خطئها . وأما قوله ببابل فإنه اسم قرية أو موضع من مواضع الأرض . وقد اختلف أهل التأويل فيها ، فقال بعضهم : إنها بابل دنباوند .
حدثني بذلك موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي .
وقال بعضهم : بل ذلك بابل العراق . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن أبي الزناد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة في قصة ذكرتها عن امرأة قدمت المدينة ، فذكرت أنها صارت في العراق ببابل ، فأتت بها هاروت وماروت فتعلمت منهما السحر .
واختلف في معنى السحر ، فقال بعضهم : هو خدع ومخاريق ومعان يفعلها الساحر ، حتى يخيل إلى المسحور الشيء أنه بخلاف ما هو به نظير الذي يرى السراب من بعيد ، فيخيل إليه أنه ماء ، ويرى الشيء من بعيد فيثبته بخلاف ما هو على حقيقته . وكراكب السفينة السائرة سيرا حثيثا يخيل إليه أن ما عاين من الأشجار والجبال سائر معه . قالوا : فكذلك المسحور ذلك صفته ، يحسب بعد الذي وصل إليه من سحر الساحر أن الذي يراه أو يفعله بخلاف الذي هو به على حقيقته . كالذي :
حدثني أحمد بن الوليد ، وسفيان بن وكيع قالا : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سحر كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولم يفعله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : اثنا ابن نمير ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودي من يهود بني زريق يقال له لبيد بن الأعصم ، حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، قال : كان عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب يحدثان : أن يهود بني زريق عقدوا عقد سحر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجعلوها في بئر حزم حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينكر بصره ودله الله على ما صنعوا . فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بئر حزم التي فيها العقد فانتزعها ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : سحرتني يهود بني زريق .
وأنكر قائل هذه المقالة أن يكون الساحر يقدر بسحره على قلب شيء عن حقيقته ، واستسخار شيء من خلق الله إلا نظير الذي يقدر عليه من ذلك سائر بني آدم ، أو إنشاء شيء من الأجسام سوى المخاريق والخدع المتخيلة لأبصار الناظرين بخلاف حقائقها التي وصفنا . وقالوا : لو كان في وسع السحرة إنشاء الأجسام وقلب لحقائق الأعيان عما هي به من الهيئات ، لم يكن بين الحق والباطل فصل ، ولجاز أن تكون جميع المحسوسات مما سحرته السحرة فقلبت أعيانها . قالوا : وفي وصف الله جل وعز سحرة فرعون بقوله : فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى . وفي خبر عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذ سحر يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولا يفعله ، أوضح الدلالة على بطول دعوى المدعين : أن الساحر ينشىء أعيان الأشياء بسحره ، ويستسخر ما يتعذر استسخاره على غيره من بني آدم . كالموات والجماد والحيوان ، وصحة ما قلنا .
وقال آخرون : قد يقدر الساحر بسحره أن يحول الإنسان حمارا ، وأن يسحر الإنسان والحمار وينشىء أعيانا وأجساما . واعتلوا في ذلك بما :
حدثنا به الربيع بن سليمان ، قال : حدثنا ابن وهب ، قال : أخبرنا ابن أبي الزناد ، قال : حدثني هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت : قدمت علي امرأة من أهل دومة الجندل ، جاءت تبتغي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته حداثة ذلك ، تسأله عن شيء دخلت فيه من أمر السحر ولم تعمل به . قالت عائشة لعروة : يا ابن أختي ، فرأيتها تبكي حين لم تجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيشفيها ، كانت تبكي حتى إني لأرحمها ، وتقول : إني لأخاف أن أكون قد هلكت ، كان لي زوج فغاب عني ، فدخلت علي عجوز فشكوت ذلك إليها ، فقالت : إن فعلت ما آمرك به فأجعله يأتيك ، فلما كان الليل جاءتني بكلبين أسودين ، فركبت أحدهما وركبت الاخر ، فلم يكن كشيء حتى وقفنا ببابل ، فإذا برجلين معلقين بأرجلهما ، فقالا : ما جاء بك؟ فقلت : أتعلم السحر؟ فقالا : إما نحن فتنة فلا تكفري وارجعي ، فأبيت وقلت : لا ، فقالا : اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه فذهبت ففزعت فلم أفعل ، فرجعت إليهما ، فقالا : أفعلت؟ قلت : نعم ، فقالا : فهل رأيت شيئا؟ قلت : لم أر شيئا ، فقالا لي : لم تفعلي ، ارجعي إلى بلادك ولا تكفري فأبيت ، فقالا : اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه فذهبت ، فاقشعررت وخفت . ثم رجعت إليهما فقلت : قد فعلت ، فقالا : فما رأيت؟ فقلت : لم أر شيئا ، فقالا : كذبت لم تفعلي ، ارجعي إلى بلادك ولا تكفري ، فإنك على رأس أمرك فأبيت ، فقالا : اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه فذهبت إليه فبلت فيه ، فرأيت فارسا متقنعا بحديد خرج مني حتى ذهب في السماء وغاب عني حتى ما أراه ، فجئتهما فقلت : قد فعلت ، فقالا : ما رأيت؟ فقلت : فارسا متقنعا خرج مني فذهب في السماء حتى ما أراه ، فقالا : صدقت ، ذلك إيمانك خرج منك اذهبي فقلت للمرأة : والله ما أعلم شيئا وما قالا لي شيئا ، فقالت : بلى ، لن تريدي شيئا إلا كان ، خذي هذا القمح فابذري فبذرت ، فقلت : أطلعي فأطلعت ، وقلت : أحقلي فأحقلت ، ثم قلت : أفركي فأفركت ، ثم قلت : أيبسي فأيبست ، ثم قلت : أطحني فأطحنت ، ثم قلت : أخبزي فأخبزت . فلما رأيت أني لا أريد شيئا إلا كان سقط في يدي وندمت والله يا أم المؤمنين ، والله ما فعلت شيئا قط ولا أفعله أبدا .
قال أهل هذه المقالة بما وصفنا واعتلوا بما ذكرنا ، وقالوا : لولا أن الساحر يقدر على فعل ما ادعى أنه يقدر على فعله ما قدر أن يفرق بين المرء وزوجه ، قالوا : وقد أخبر الله تعالى ذكره عنهم أنهم يتعلمون من الملكين ما يفرقون به بين المرء وزوجه ، وذلك لو كان على غير الحقيقة وكان على وجه التخييل والحسبان ، لم يكن تفريقا على صحة ، وقد أخبر الله تعالى ذكره عنهم أنهم يفرقون على صحة . وقال آخرون : بل السحر أخذ بالعين .
القول في تأويل قوله تعالى" : وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر ."
وتأويل ذلك : وما يعلم الملكان أحدا من الناس الذي أنزل عليهما من التفريق بين المرء وزوجه حتى يقولا له : إنما نحن بلاء وفتنة لبني آدم فلا تكفر بربك . كما :
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : إذا أتاهما يعني هاروت وماروت إنسان يريد السحر وعظاه وقالا له : لا تكفر إنما نحن فتنة . فإن أبى قالا له : ائت هذا الرماد فبل عليه . فإذا بال عليه خرج منه نور يسطع حتى يدخل السماء ، وذلك الإيمان وقيل شيء أسود كهيئة الدخان حتى يدخل في مسامعه وكل شيء منه ، فلذلك غضب الله ، فإذا أخبرهما بذلك علماه السحر . فذلك قول الله : وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر الاية .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة والحسن : حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر قال : أخذ عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يقولا : إنما نحن فتنة فلا تكفر .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، قال : قال قتادة : كانا يعلمان الناس السحر ، فأخذ عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يقولا : إنما نحن فتنة فلا تكفر .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، قال : قال غير قتادة : أخذ عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يتقدما إليه فيقولا : إنما نحن فتنة فلا تكفر .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن عوف ، عن الحسن ، قال : أخذ عليهما أن يقولا ذلك .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخذ الميثاق عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يقولا : إنما نحن فتنة فلا تكفر ، لا يجترىء على السحر إلا كافر . وأما الفتنة في هذا الموضع ، فإن معناها الاختبار والابتلاء ، من ذلك قول الشاعر .
وقد فتن الناس في دينهموخلى ابن عفان شرا طويلا
ومنه قوله : فتنت الذهب في النار : إذا امتحنتها لتعرف جودتها من رداءتها ، أفتنه فتنة وفتونا . كما :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة إنما نحن فتنة أي بلاء .
القول في تأويل قوله تعالى" : فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه ."
قال أبو جعفر : وقوله جل ثناؤه : فيتعلمون منهما خبر مبتدأ عن المتعلمين من الملكين ما أنزل عليهما ، وليس بجواب لقوله : وما يعلمان من أحد بل هو خبر مستأنف ولذلك رفع ، فقيل : فيتعلمون .
فمعنى الكلام إذا : وما يعلمان من أحد حتى يقولا : إنما نحن فتنة . فيأبون قبول ذلك منهما فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه .
وقد قيل : إن قوله : فيتعلمون خبر عن اليهود معطوف على قوله : ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وجعلوا ذلك من المؤخر الذي معناه التقديم .
والذي قلنا أشبه بتأويل الاية لأن إلحاق ذلك بالذي يليه من الكلام ما كان للتأويل وجه صحيح أولى من إلحاقه بما قد حيل بينه وبينه من معترض الكلام . والهاء والميم والألف من قوله : منهما من ذكر الملكين . ومعنى ذلك : فيتعلم الناس من الملكين الذي يفرقون به بين المرء وزوجه . وما التي مع يفرقون بمعنى الذي . وقيل معنى ذلك : السحر الذي يفرقون به ، وقيل : هو معنى غير السحر . وقد ذكرنا اختلافهم في ذلك فيما مضى قبل . وأما المرء فإنه بمعنى رجل من أسماء بني آدم ، والأنثى منه المرأة يوحد ويثنى ، ولا تجمع ثلاثته على صورته ، يقال منه : هذا امرؤ صالح ، وهذان امرآن صالحان ، ولا يقال : هؤلاء امرءو صدق ، ولكن يقال : هؤلاء رجال صدق ، وقوم صدق . وكذلك المرأة توحد وتثنى ولا تجمع على صورتها ، يقال : هذه امرأة وهاتان امرأتان ، ولا يقال : هؤلاء امرآت ، ولكن هؤلاء نسوة .
وأما الزوج ، فإن أهل الحجاز يقولون لامرأة الرجل : هي زوجه ، بمنزلة الزوج الذكر ومن ذلك قول الله تعالى ذكره : أمسك عليك زوجك وتميم وكثير من قيس وأهل نجد يقولون : هي زوجته ، كما قال الشاعر :
وإن الذي يمشي يحرش زوجتيكماش إلى أسد الشرى يستبيلها
فإن قال قائل : وكيف يفرق الساحر بين المرء وزوجه؟ قيل : قد دللنا فيما مضى على أن معنى السحر تخييل الشيء إلى المرء بخلاف ما هو به في عينه وحقيقته بما فيه الكفاية لمن وفق لفهمه . فإن كان ذلك صحيحا بالذي استشهدنا عليه ، فتفريقه بين المرء وزوجه تخييله بسحره إلى كل واحد منهما شخص الاخر على خلاف ما هو به في حقيقته من حسن وجمال حتى يقبحه عنده فينصرف بوجهه ويعرض عنه حتى يحدث الزوج لامرأته فراقا ، فيكون الساحر مفرقا بينهما بإحداثه السبب الذين كان منه فرقة ما بينهما . وقد دللنا في غير موضع من كتابنا هذا على أن العرب تضيف الشيء إلى مسببه من أجل تسببه وإن لم يكن باشر فعل ما حدث عن السبب ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع فكذلك تفريق الساحر بسحره بين المرء وزوجه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قاله عدد من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وتفريقهما أن يؤخذ كل واحد منهما عن صاحبه ، ويبغض كل واحد منهما إلى صاحبه .
وأما الذين أبوا أن يكون الملكان يعلمان الناس التفريق بين المرء وزوجه ، فإنهم وجهوا تأويل قوله : فيتعلمون منهما إلى فيتعلمون مكان ما علماهم ما يفرقون به بين المرء وزوجه ، كقول القائل : ليت لنا كذا من كذا ، أي مكان كذا . كما قال الشاعر :
جمعت من الخيرات وطبا وعلبةوصرا لأخلاف المزممة البزل
ومن كل أخلاق الكرام نميمة
وسعيا على الجار المجاور بالنجل
يريد بقوله : جمعت من الخيرات ، مكان خيرات الدنيا هذه الأخلاق الرديئة والأفعال الدنيئة . ومنه قول الاخر :
صلدت صفاتك أن تلين حيودهاوورثت من سلف الكرام عقوقا
يعني ورثت مكان سلف الكرام عقوقا من والديك .
القول في تأويل قوله تعالى : "وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله "
يعني بقوله جل ثناؤه : وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله وما المتعلمون من الملكين هاروت وماروت ما يفرقون به بين المرء وزوجه ، بضارين بالذي تعلموه منهما من المعنى الذي يفرقون به بين المرء وزوجه من أحد من الناس ، إلا من قد قضى الله عليه أن ذلك يضره فأما من دفع الله عنه ضره وحفظه من مكروه السحر والنفث والرقى ، فإن ذلك غير ضاره ولا نائله أذاه .
وللإذن في كلام العرب أوجه : منها الأمر على غير وجه الإلزام ، وغير جائز أن يكون منه قوله : وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله لأن الله جل ثناؤه قد حرم التفريق بين المرء وحليلته بغير سحر فكيف به على وجه السحر على لسان الأمة . ومنها التخلية بين المأذون له والمخل بينه وبينه . ومنها العلم بالشيء ، يقال منه : قد أذنت بهذا الأمر ، إذا علمت به ، آذن به إذنا ومنه قول الحطيئة :
ألا يا هند إن جددت وصلاوإلا فأذنيني بانصرام
يعني فأعلميني . ومنه قوله جل ثناؤه : فأذنوا بحرب من الله وهذا هو معنى الاية ، كأنه قال جل ثناؤه : وما هم بضارين بالذي تعلموا من الملكين من أحد إلا بعلم الله . يعني بالذي سبق له في علم الله أنه يضره . كما :
حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن سفيان في قوله : وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله قال : بقضاء الله .
القول في تأويل قوله تعالى : "ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ."
يعني بذلك جل ثناؤه : ويتعلمون أي الناس الذين يتعلمون من الملكين ، ما أنزل عليهما من المعنى الذي يفرقون به بين المرء وزوجه ، يتعلمون منهما السحر الذي يضرهم في دينهم ولا ينفعهم في معادهم . فأما في العاجل في الدنيا ، فإنهم قد كانوا يكسبون به ويصيبون به معاشا .
القول في تأويل قوله تعالى"ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق" .
يعني بقوله جل ثناؤه : ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الاخرة من خلاق الفريق الذين لما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم ، نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون ، واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان فقال جل ثناؤه : لقد علم النابذون من يهود بني إسرائيل كتابي وراء ظهورهم تجاهلا منهم ، التاركون العمل بما فيه ، من اتباعك يا محمد واتباع ما جئت به ، بعد إنزالي إليك كتابي مصدقا لما معهم ، وبعد إرسالك إليهم بالإقرار بما معهم وما في أيديهم ، المؤثرون عليه اتباع السحر الذي تلته الشياطين على عهد سليمان ، والذي أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت لمن اشترى السحر بكتابي الذي أنزلته على رسولي فآثره عليه ماله في الاخرة من خلاق . كما :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الاخرة من خلاق يقول : قد علم ذلك أهل الكتاب في عهد الله إليهم أن الساحر لا خلاق له عند الله يوم القيامة .
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الاخرة من خلاق يعني اليهود ، يقول : لقد علمت اليهود أن من تعلمه أو اختاره ما له في الاخرة من خلاق .
وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الاخرة من خلاق لمن اشترى ما يفرق به بين المرء وزوجه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الاخرة من خلاق قال : قد علمت يهود أن في كتاب الله في التوراة أن من اشترى السحر وترك دين الله ما له في الاخرة من خلاق ، فالنار مثواه ومأواه .
وأما قوله : لمن اشتراه فإن من في موضع رفع ، وليس قوله : ولقد علموا بعامل فيها لأن قوله : علموا بمعنى اليمين فلذلك كانت في موضع رفع ، لأن الكلام بمعنى : والله لمن اشترى السحر ما له في الاخرة من خلاق . ولكون قوله : قد علموا بمعنى اليمين حققت بلام اليمين ، فقيل : لمن اشتراه كما يقال : أقسم لمن قام خير ممن قعد ، وكما يقال : قد علمت لعمرو خير من أبيك . وأما من فهو حرف جزاء . وإنما قيل اشتراه ولم يقل يشتروه ، لدخول لام القسم على من ، ومن شأن العرب إذا أحدثت على حرف الجزاء لام القسم أن لا ينطقوا في الفعل معه إلا بفعل دون يفعل إلا قليلا كراهية أن يحدثوا على الجزاء حادثا وهو مجزوم ، كما قال الله جل ثناؤه : لئن أخرجوا لا يخرجون معهم وقد يجوز إظهار فعله بعده على يفعل مجزوما ، كما قال الشاعر :
لئن تك قد ضاقت عليكم بيوتكمليعلم ربي أن بيتي واسع
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ما له في الاخرة من خلاق فقال بعضهم : الخلاق في هذا الموضع : النصيب . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ما له في الاخرة من خلاق يقول : من نصيب .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ما له في الاخرة من خلاق من نصيب .
حدثني المثنى ، قال : حدثني إسحاق ، قال : حدثنا وكيع ، قال سفيان : سمعنا في : وما له في الاخرة من خلاق أنه ما له في الاخرة من نصيب .
وقال بعضهم : الخلاق ههنا : الحجة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : وما له في الاخرة من خلاق قال : ليس له في الاخرة حجة .
وقال آخرون : الخلاق : الدين . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، قال : قال الحسن : ما له في الاخرة من خلاق قال : ليس له دين .
وقال آخرون : الخلاق ههنا : القوام . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : قال ابن عباس : ما له في الاخرة من خلاق قال : قوام .
وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال : معنى الخلاق في هذا الموضع : النصيب وذلك أن ذلك معناه في كلام العرب . ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : ليؤيدن الله هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم يعني لا نصيب لهم ولا حظ في الإسلام والدين . ومنه قول أمية بن أبي الصلت :
يدعون بالويل فيها لا خلاق لهمإلا سرابيل من قطر وأغلال
يعني بذلك : لا نصيب لهم ولا حظ إلا السرابيل والأغلال .
فكذل قوله : ما له في الاخرة من خلاق ما له في الدار الاخرة حظ من الجنة من أجل أنه لم يكن له إيمان ولا دين ولا عمل صالح يجازي به في الجنة ويثاب عليه ، فيكون له حظ ونصيب من الجنة . وإنما قال جل ثناؤه : ما له في الاخرة من خلاق فوصفه بأنه لا نصيب له في الاخرة ، وهو يعني به لا نصيب له من جزاء وثواب وجنة دون نصيبه من النار . إذ كان قد دل ذمه جل ثناؤه أفعالهم التي نفى من أجلها أن يكون لهم في الاخرة نصيب على مراده من الخير ، وأنه إنما يعني بذلك أنه لا نصيب لهم فيها من الخيرات ، وأما من الشرور فإن لهم فيها نصيبا .
القول في تأويل قوله تعالى" ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون "
قال أبو جعفر رحمه الله : قد دللنا فيما مضى قبل على أن معنى شروا : باعوا فمعنى الكلام إذا : ولبئس ما باع به نفسه من تعلم السحر لو كان يعلم سوء عاقبته . كما :
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ولبئس ما شروا به أنفسهم يقول : بئس ما باعوا به أنفسهم .
فإن قال لنا قائل : وكيف قال جل ثناؤه : ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون وقد قال قبل : ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الاخرة من خلاق فكيف يكونون عالمين بأن من تعلم السحر فلا خلاق لهم ، وهم يجهلون أنهم بئس ما شروا بالسحر أنفسهم؟ قيل : إن معنى ذلك على غير الوجه الذي توهمته من أنهم موصوفون بالجهل بما هم موصوفون بالعلم به ، ولكن ذلك من المؤخر الذي معناه التقديم ، وإنما معنى الكلام : وما هم ضارون به من أحد إلا بإذن الله ، ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ، ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون ، ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الاخرة من خلاق . فقوله : لبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون ذم من الله تعالى ذكره فعل المتعلمين من الملكين التفريق بين المرء وزوجه ، وخبر منه جل ثناؤه عنهم أنهم بئس ما شروا به أنفسهم برضاهم بالسحر عوضا عن دينهم الذي به نجاة أنفسهم من الهلكة ، جهلا منهم بسوء عاقبة فعلهم وخسارة صفقة بيعهم ، إذ كان قد يتعلم ذلك منهما من لا يعرف الله ولا يعرف حلاله وحرامه وأمره ونهيه . ثم عاد إلى الفريق الذين أخبر الله عنهم أنهم نبذوا كتابه وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون : واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان ، وما أنزل على الملكين . فأخبر عنهم أنهم قد علموا أن من اشترى السحر ما له في الاخرة من خلاق ، ووصفهم بأنهم يركبون معاصي الله على علم منهم بها ، ويكفرون بالله ورسله ، ويؤثرون اتباع الشياطين ، والعمل بما أحدثته من السحر على العمل بكتابه ووحيه وتنزيله ، عنادا منهم وبغيا على رسله ، وتعديا منهم لحدوده ، على معرفة منهم بما لمن فعل ذلك عند الله من العقاب والعذاب ، فذلك تأويل قوله .
وقد زعم بعض الزاعمين أن قوله : ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الاخرة من خلاق يعني به الشياطين ، وأن قوله : لو كانوا يعلمون يعني به الناس . وذلك قول لجميع أهل التأويل مخالف وذلك أنهم مجمعون على أن قوله : ولقد علموا لمن اشتراه معني به اليهود دون الشياطين . ثم هو مع ذلك خلاف ما دل عليه التنزيل ، لأن الايات قبل قوله : ولقد علموا لمن اشتراه وبعد قوله : لو كانوا يعلمون جاءت من الله بذم اليهود ، وتوبيخهم على ضلالهم ، وذما لهم على نبذهم وحي الله وآيات كتابه وراء ظهورهم ، مع علمهم بخطأ فعلهم . فقوله : ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الاخرة من خلاق أحد تلك الأخبار عنهم .
وقال بعضهم : إن الذين وصف الله جل ثناؤه بقوله : ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون فنفى عنهم العلم هم الذين وصفهم الله بقوله : ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الاخرة من خلاق وإنما نفى عنهم جل ثناؤه العلم بقوله : لو كانوا يعلمون بعد وصفه إياهم بأنهم قد علموا بقوله : ولقد علموا من أجل أنهم لم يعملوا بما علموا ، وإنما العالم العامل بعلمه ، وأما إذا خالف عمله علمه فهو في معاني الجهال . قال : وقد يقال للفاعل الفعل بخلاف ما ينبغي أن يفعل وإن كان بفعله عالما : لو علمت لأقصرت كما قال كعب بن زهير المزني ، وهو يصف ذئبا وغرابا تبعاه لينالا من طعامه وزاده :
إذا حضراني قلت لو تعلما بهألم تعلما أني من الزاد مرمل
فأخبر أنه قال لهما : لو تعلمانه ، فنفى عنهما العلم . ثم استخبرهما فقال : ألم تعلما . قالوا : فكذلك قوله : ولقد علموا لمن اشتراه و : لو كانوا يعلمون وهذا تأويل وإن كان له مخرج ووجه فإنه خلاف الظاهر المفهوم بنفس الخطاب . أعني بقوله : ولقد علموا وقوله : لو كانوا يعلمون وإنما هو استخراج . وتأويل القرآن على المفهوم الظاهر الخطاب دون الخفي الباطن منه ، حتى تأتي دلالة من الوجه الذي يجب التسليم له بمعنى خلاف دليله الظاهر المتعارف في أهل اللسان الذين بلسانهم نزل القرآن ، أولى .
قوله تعالى : "ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون" .
قوله تعالى : "ولو أنهم آمنوا واتقوا" أي اتقوا السحر . "لمثوبة" المثوبة : الثواب ، وهي جواب "ولو أنهم آمنوا" عند قوم . وقال الأخفش سعيد : ليس لـ لو هنا جواب في اللفظ ولكن في المعنى ، والمعنى لأثيبوا . وموضع أن من قوله : "ولو أنهم" موضع رفع ، أي لو وقع إيمانهم ، لأن لو لا يليها إلا الفعل ظاهراً أو مضمراً ، لأنها بمنزلة حروف الشرط إذ كان لا بد له من جواب ، و أن يليه فعل . قال محمد بن يزيد : وإنما لم يجاز بـ لو لأن سبيل حروف المجازاة كلها أن تقلب الماضي إلى معنى المستقبل ، فلما يكن هذا في لو لم يجز أن يجازى بها .
وقوله تعالى: "وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر" قال أبو جعفر الرازي, عن الربيع بن أنس عن قيس بن عباد عن ابن عباس قال: فإذا أتاهما الاتي يريد السحر نهياه أشد النهي وقالا له: إنما نحن فتنة فلا تكفر, وذلك أنهما علما الخير والشر والكفر والإيمان, فعرفا أن السحر من الكفر, قال: فإذا أبى عليهما أمراه يأتي مكان كذا وكذا, فإذا أتاه عاين الشيطان فعلمه, فإذا تعلمه خرج منه النور, فنظر إليه ساطعاً في السماء فيقول: يا حسرتاه, يا ويله ماذا صنع, وعن الحسن البصري أنه قال في تفسير هذه الاية: نعم انزل الملكان بالسحر ليعلما الناس البلاء الذي أراد الله أن يبتلي به الناس, فأخذ عليهما الميثاق أن لا يعلما أحداً حتى يقولا: إنما نحن فتنة فلا تكفروا, رواه ابن أبي حاتم, وقال قتادة: كان أخذ عليهما ان لا يعلما أحداً حتى يقولا: إنما نحن فتنة أي بلاء ابتلينا به فلا تكفر. وقال السدي: إذا أتاهما إنسان يريد السحر وعظاه وقالا له: لا تكفر إنما نحن فتنة, فإذا أبى قالا له: ائت هذا الرماد فبل عليه, فإذا بال عليه خرج منه نور فسطع حتى يدخل السماء وذلك الإيمان, وأقبل شيء أسود كهيئة الدخان حتى يدخل في مسامعه, وكل شيء, وذلك غضب الله, فإذا أخبرهما بذلك علماه السحر, فذلك قول الله تعالى: "وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر" الاية, وقال سنيد عن حجاج عن ابن جريج في هذه الاية: لا يجترىء على السحر إلا كافر, وأما الفتنة فهي المحنة والاختيار, ومنه قول الشاعر:
وقد فتن الناس في دينهم وخلى ابن عفان شراً طويلاً
وكذلك قوله تعالى إخباراً عن موسى عليه السلام حيث قال "إن هي إلا فتنتك" أي ابتلاؤك واختبارك وامتحانك "تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء" وقد استدل بعضهم بهذه الاية على تكفير من تعلم السحر, واستشهد له بالحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزار, حدثنا محد بن المثنى, أخبرنا أبو معاوية عن الأعمش, عن إبراهيم عن همام عن عبد الله قال: "من أتى كاهناً أو ساحراً فصدقه بما يقول, فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم" وهذا إسناد صحيح وله شواهد أخر, وقوله تعالى: "فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه" أي فيتعلم الناس من هاروت وماروت من علم السحر وما يتصرفون به فيما يتصرفون من الأفاعيل المذمومة ما إنهم ليفرقون به بين الزوجين, مع ما بينهما من الخلطة والائتلاف, وهذا من صنيع الشياطين, كما رواه مسلم في صحيحه من حديث الأعمش عن أبي سفيان عن طلحة بن نافع عن جابر بن عبد الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الشيطان ليضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه في الناس, فأقربهم عنده منزلة أعظمهم عنده فتنة, ويجيء أحدهم فيقول: ما زلت بفلان حتى تركته وهو يقول كذا وكذا, فيقول إبليس: لا والله ما صنعت شيئاً! ويجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله قال: فيقر به ويدنيه ويلتزمه ويقول: نعم أنت" وسبب التفريق بين الزوجين بالسحر ما يخيل إلى الرجل أو المرأة من الاخر من سوء منظر أو خلق أو نحو ذلك أو عقد أو بغضه أو نحو ذلك من الأسباب المقتضية للفرقة, والمرء عبارة عن الرجل وتأنيثه امرأة ويثنى كل منهما ولا يجمعان والله اعلم.
وقوله تعالى "وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله" قال سفيان الثوري: إلا بقضاء الله, وقال محمد بن إسحاق: إلا بتخلية الله بينه وبين ما أراد, وقال الحسن البصري "وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله" قال: نعم, من شاء الله سلطهم عليه, ومن لم يشأ الله لم يسلط ولا يستطيعون من أحد إلا بإذن الله, كما قال الله تعالى. وفي رواية عن الحسن أنه قال: لا يضر هذا السحر إلا من دخل فيه, وقوله تعالى: "ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم" أي يضرهم في دينهم وليس له نفع يوازي ضرره " ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق " أي ولقد علم اليهود الذين استبدلوا بالسحر عن متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم لمن فعل فعلهم, ذلك أنه ما له في الاخرة من خلاق, قال ابن عباس وكمجاهد والسدي: من نصيب, وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: ما له في الاخرة من جهة عند الله, وقال عبد الرزاق, وقال الحسن: ليس له دين, وقال سعد عن قتادة " ما له في الآخرة من خلاق " قال: ولقد علم أهل الكتاب فيم عهد الله إليهم أن الساحر لا خلاق له في الاخرة, وقوله تعالى "ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون * ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون" يقول تعالى: "ولبئس" البديل ما استبدلوا به من السحر عوضاً عن الإيمان ومتابعة الرسول لو كان لهم علم بما وعظوا به "ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير" أي ولو أنهم آمنوا بالله ورسله واتقوا المحارم لكان مثوبة الله على ذلك خيراً لهم مما استخاروا لأنفسهم ورضوا به كما قال تعالى: "وقال الذين أوتوا العلم: ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً ولا يلقاها إلا الصابرون".
وقد استدل بقوله "ولو أنهم آمنوا واتقوا" من ذهب إلى تكفير الساحر, كما هو رواية عن الإمام أحمد بن حنبل وطائفة من السلف, وقيل: بل لا يكفر, ولكن حده ضرب عنقه, لما رواه الشافعي وأحمد بن حنبل, قالا: أخبرنا سفيان, هو ابن عيينة عن عمرو بن دينار, أنه سمع بجالة بن عبدة يقول: كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن اقتلوا كل ساحر وساحرة, قال: فقتلنا ثلاث سواحر وقد أخرجه البخاري في صحيحه أيضاً, وهكذا صح أن حفصة أم المؤمنين سحرتها جارية لها, فأمرت بها, فقتلت, قال الإمام أحمد بن حنبل: صح عن ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في قتل الساحر. وروى الترمذي من حديث اسماعيل بن مسلم عن الحسن عن جندب الأزدي أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حد الساحر ضربه بالسيف" ثم قال: لا نعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه, وإسماعيل بن مسلم يضعف في الحديث, والصحيح عن الحسن عن جندب موقوفاً قلت. قد رواه الطبراني من وجه آخر عن الحسن عن جندب مرفوعاً. والله أعلم. وقد روي من طرق متعددة أن الوليد بن عقبة: كان عنده ساحر يلعب بين يديه فكان يضرب رأس الرجل ثم يصيح به فيرد إليه رأسه, فقال الناس: سبحان الله يحيي الموتى, ورآه رجل من صالحي المهاجرين , فلما كان الغد جاء مشتملاً على سيفه وذهب يلعب لعبه ذلك, فاخترط الرجل سيفه فضرب عنق الساحر, وقال: إن كان صادقاً فليحي نفسه, وتلا قوله تعالى: " أفتأتون السحر وأنتم تبصرون ", فغضب الوليد إذ لم يستأذنه في ذلك, فسجنه ثم أطلقه, والله أعلم. وقال الإمام أبو بكر الخلال: أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل, حدثني أبي أخبرنا يحيى بن سعيد, حدثني أبو إسحاق عن حارثة قال: كان عند بعض الأمراء رجل يلعب فجاء جندي مشتملاً على سيفه فقتله, قال: أراه كان ساحراً, وحمل الشافعي رحمه الله قصة عمر وحفصة على سحر يكون شركاً والله أعلم.
(فصل) حكى أبو عبد الله الرازي في تفسيره عن المعتزلة أنهم أنكروا وجود السحر, قال: وربما كفروا من اعتقد وجوده, قال: وأما أهل السنة فقد جوزوا أن يقدر الساحر أن يطير في الهواء ويقلب الإنسان حماراً, والحمار إنساناً إلا أنهم قالوا: إن الله يخلق الأشياء عندما يقول الساحر تلك الرقى والكلمات المعينة فأما أن يكون المؤثر في ذلك هو الفلك والنجوم, فلا, خلافاً للفلاسفة والمنجمين والصابئة, ثم استدل على وقوع السحر وأنه بخلق الله تعالى بقوله تعالى: "وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله" ومن الأخبار بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سحر, وأن السحر عمل فيه وبقصة تلك المرأة مع عائشة رضي الله عنها وما ذكرت تلك المرأة من إتيانها بابل وتعلمها السحر قال: وبما يذكر في هذا الباب من الحكايات الكثير, ثم قال بعد هذا.
(المسألة الخامسة) في أن العلم بالسحر ليس بقبيح ولا محظور ـ اتفق المحققون على ذلك لأن العلم لذاته شريف, وأيضاً لعموم قوله تعالى: " قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون " ولأن السحر لو لم يكن يعلم لما أمكن الفرق بينه وبين المعجزة والعلم بكون المعجز معجزاً واجب, وما يتوقف الواجب عليه فهو واجب فهذا يقتضي أن يكون تحصيل العلم بالسحر واجباً, وما يكون واجباً, فكيف يكون حراماً وقبيحاً ؟ هذا لفظه بحروفه في هذه المسألة, وهذا الكلام فيه نظر من وجوه أحدها قوله: العلم بالسحر ليس بقبيح عقلاً, فمخالفوه من المعتزلة يمنعون هذا, وإن عنى أنه ليس بقبيح شرعاً, ففي هذه الاية الكريمة تبشيع لتعلم السحر, وفي الصحيح "من أتى عرافاً أو كاهناً فقد كفر بما أنزل على محمد", وفي السنن "من عقد عقدة ونفث فيها فقد سحر" وقوله: ولا محظور, اتفق المحققون على ذلك, كيف لا يكون محظوراً مع ما ذكرناه من الاية والحديث واتفاق المحققين يقتضي أن يكون قد نص إلى هذه المسألة أئمة العلماء أوأكثرهم وأين نصوصهم على ذلك ؟ ثم إدخاله في علم السحر في عموم قوله تعالى: "قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون" فيه نظر, لأن هذه الاية إنما دلت على مدح العالمين العلم الشرعي ولم قلت إن هذا منه ثم ترقية إلى وجوب تعلمه إنه لا يحصل العلم بالمعجز إلا به ضعيف بل فاسد, لأن أعظم معجزات رسولنا عليه الصلاة والسلام هي القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. ثم إن العلم بأنه معجزة لا يتوقف على علم السحر أصلاً, ثم من المعلوم بالضرورة أن الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين وعامتهم, كانوا يعلمون المعجز, ويفرقون بينه وبين غيره, ولم يكونوا يعلمون السحر ولا تعلموه ولا علموه, والله أعلم.
ثم ذكر أبو عبد الله الرازي, أن أنواع السحر ثمانية (الأول) سحر الكذابين والكشدانيين, الذين كانوا يعبدون الكواكب السبعة المتحيرة, وهي السيارة, وكانوا يعتقدون أنها مدبرة العالم, وأنها تأتي بالخير والشر, وهم الذين بعث الله إليهم إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم مبطلاً لمقالتهم ورداً لمذهبهم, وقد استقصى في (كتاب السر المكتوم, في مخاطبة الشمس والنجوم) المنسوب إليه, كما ذكرها القاضي ابن خلكان وغيره, ويقال أنه تاب منه, وقيل بل صنفه على وجه إظهار الفضيلة, لا على سبيل الاعتقاد, وهذا هو المظنون به إلا أنه ذكر فيه طريقهم في مخاطبة كل من هذه الكواكب السبعة وكيفية ما يفعلون وما يلبسونه وما يتمسكون به.
قال (والنوع الثاني) سحر أصحاب الأوهام والنفوس القوية, ثم استدل على أن الوهم له تأثير بأن الإنسان يمكنه أن يمشي على الجسر الموضوع على وجه الأرض, ولا يمكنه المشي عليه إذا كان ممدوداً على نهر أو نحوه, قال: وكما أجمعت الأطباء على نهي المرعوف عن النظر إلى الأشياء الحمر, والمصروع إلى الأشياء القوية اللمعان أو الدوران, وما ذلك إلا لأن النفوس خلقت مطيعة للأوهام. قال: وقد اتفق العقلاء على أن الإصابة بالعين حق ـ وله أن يستدل على ذلك بما ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "العين حق ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين" ـ قال فإذا: عرفت هذا فنقول النفس التي تفعل هذه الأفاعيل قد تكون قوية جداً فتستغني في هذه الأفاعيل عن الاستعانه بالالات والأدوات, وقد تكون ضعيفة فتحتاج إلى الاستعانة بهذه الالات, وتحقيقه أن النفس إذا كانت متعلية عن البدن شديدة الانجذاب إلى عالم السماوات صارت كأنها روح من الأوراح السماوية, فكانت قوية على التأثير في مواد هذا العالم, وإذا كانت ضعيفة شديدة التعلق بهذه الذات البدنية, فحينئذ لا يكون لها تأثير البتة إلا في هذا البدن, ثم أرشد إلى مداواة هذا الداء بتقليل الغذاء, والانقطاع عن الناس والرياء "قلت" وهذا الذي يشير إليه هو التصرف بالحال, وهو على قسمين, تارة تكون حالاً صحيحة شرعية يتصرف بها فيما أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم, ويترك ما نهى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم, فهذه الأحوال مواهب من الله تعالى وكرامات للصالحين من هذه الأمة ولا يسمى هذا سحراً في الشرع. وتارة تكون الحال فاسدة لا يمتثل صاحبها ما أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم, ولا يتصرف بها في ذلك, فهذه حال الأشقياء المخالفين للشريعة ولا يدل إعطاء الله إياهم هذه الأحوال على محبته لهم, كما أن الدجال له من الخوارق للعادات ما دلت عليه الأحاديث الكثيرة مع أنه مذموم شرعاً لعنه الله, وكذلك من شابهه من مخالفي الشريعة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام, وبسط هذا يطول جداً وليس هذا موضعه.
قال (والنوع الثالث) من السحر, الاستعانة بالأرواح الأرضية وهم الجن خلافاً للفلاسفة والمعتزلة وهم على قسمين: مؤمنون, وكفار وهم الشياطين, وقال: واتصال النفوس الناطقة بها أسهل من اتصالها بالأرواح السماوية لما بينها من المناسبة والقرب, ثم إن أصحاب الصنعة وأرباب التجربة شاهدوا أن الاتصال بهذه الأرواح الأرضية يحصل بها أعمال سهلة قليلة من الرقي والدخن والتجريد, وهذا النوع هو المسمى بالعزائم وعمل التسخير.
قال (النوع الرابع) من السحر التخيلات والأخذ بالعيون والشعبذة, ومبناه على أن البصر قد يخطىء ويشتغل بالشيء المعين دون غيره ألا ترى ذا الشعبذة الحاذق يظهر عمل شيء يذهل أذهان الناظرين به ويأخذ عيونهم إليه حتى إذا استفرغهم الشغل بذلك الشيء بالتحديث ونحوه عمل شيئاً آخر عملاً بسرعة شديدة, وحينئذ يظهر لهم شيء آخر غير ما انتظروه فيتعجبون منه جداً ولو أنه سكت ولم يتكلم بما يصرف الخواطر إلى ضد ما يريد أن يعلمه, ولم تتحرك النفوس والأوهام إلى غير ما يريد إخراجه, لفطن الناظرون لكل ما يفعله (قال) وكلما كانت الأحوال تفيد حسن البصر نوعاً من أنواع الخلل أشد, كان العمل أحسن مثل أن يجلس المشعبذ في موضع مضيء جداً أو مظلم فلا تقف القوة الناظرة على أحوالها والحالة هذه.
(قلت) وقد قال بعض المفسرين: إن سحر السحرة بين يدي فرعون إنما كان من باب الشعبذة ولهذا قال تعالى: "فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاؤوا بسحر عظيم" وقال تعالى: "يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى" قالوا: ولم تكن تسعى في نفس الأمر, والله أعلم.
(النوع الخامس من السحر): الأعمال العجيبة التي تظهر من تركيب آلات مركبة على النسب الهندسية كفارس على فرس في يده بوق كلما مضت ساعة من النهار ضرب بالبوق من غير أن يمسه أحد ـ ومنها الصور التي تصورها الروم والهند حتى لا يفرق الناظر بينهما وبين الإنسان حتى يصورونها ضاحكة وباكية, إلى أن قال: فهذه الوجوه من لطيف أمور التخاييل, قال: وكان سحر سحرة فرعون من هذا القبيل (قلت) يعني ما قاله بعض المفسرين: إنهم عمدوا إلى تلك الحبال والعصي فحشوها زئبقاً فصارت تتلوى بسبب ما فيها من ذلك الزئبق فيخيل إلى الرائي أنها تسعى باختيارها قال الرازي: ومن هذا الباب تركيب صندوق الساعات, ويندرج في هذا الباب علم جر الأثقال بالالات الخفيفة قال: وهذا في الحقيقة لا ينبغي أن يعد من السحر لأن لها أسباباً معلومة يقينية من اطلع عليها قدر عليها. (قلت) ومن هذا القبيل حيل النصارى على عامتهم بما يرونهم إياه من الأنوار كقضية قمامة الكنيسة التي لهم ببلد القدس, وما يحتالون به من إدخال النار خفية إلى الكنيسة وإشعال ذلك القنديل بصنعة لطيفة تروج على العوام منهم. وأما الخواص فهم معترفون بذلك, ولكن يتأولون أنهم يجمعون شمل أصحابهم على دينهم فيرون ذلك سائغاً لهم. وفيهم شبهة على الجهلة الأغبياء من متعبدي الكرامية الذين يرون جواز وضع الأحاديث في الترغيب والترهيب فيدخلون في عداد من قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم: "من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار" وقوله: "حدثوا عني ولا تكذبوا علي فإنه من يكذب علي يلج النار" ثم ذكر ههنا حكاية عن بعض الرهبان وهو أنه سمع صوت طائر حزين الصوت ضعيف الحركة فإذا سمعته الطيور ترق له فتذهب فتلقي في وكره من ثمر الزيتون ليتبلغ به, فعمد هذا الراهب إلى صنعة طائر على شكله وتوصل إلى أن جعله أجوف فإذا دخلته الريح يسمع منه صوت كصوت الطائر وانقطع في صومعة ابتناها وزعم أنها على قبر بعض صالحيهم وعلق على ذلك الطائر في مكان منها فإذا كان زمان الزيتون فتح باباً من ناحيته فيدخل الريح إلى داخل هذه الصورة, فيسمع صوتها كل طائر في شكله أيضاً, فتأتي الطيور فتحمل من الزيتون شيئاً كثيراً, فلا ترى في النصارى إلا ذلك الزيتون في هذه الصومعة ولا يدرون ما سببه, ففتنهم بذلك وأوهم أن هذا من كرامات صاحب هذا القبر, عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة.
(قال الرازي: النوع السادس من السحر) الاستعانة بخواص الأدوية يعني في هذا الأطعمة والدهانات قال: واعلم أنه لا سبيل إلى إنكار الخواص فإن تأثير المغناطيس مشاهد. (قلت) يدخل في هذا القبيل كثير ممن يدعي الفقر ويتحيل على جهلة الناس بهذه الخواص مدعياً أنها أحوال له من مخالطة النيران ومسك الحيات إلى غير ذلك من المحالات.
قال (النوع السابع من السحر) التعليق للقلب, وهو أن يدعي الساحر أنه عرف الاسم الأعظم وأن الجن يطيعونه وينقادون له في أكثر الأمور فإذا اتفق أن يكون السامع لذلك ضعيف العقل قليل التمييز اعتقد أنه حق وتعلق قلبه بذلك وحصل في نفسه نوع من الرعب والمخافة فإذا ما حصل الخوف ضعفت القوى الحساسة فحينئذ يتمكن الساحر أن يفعل ما يشاء. (قلت) هذا النمط يقال له التنبلة وإنما يروج على ضعفاء العقول من بني آدم.وفي علم الفراسة ما يرشد إلى معرفة العقل من ناقصه فإذا كان المتنبل حاذقاً في علم الفراسة عرف من ينقاد له من الناس من غيره.
قال (النوع الثامن من السحر) السعي بالنميمة والتقريب من وجوه خفيفة لطيفة وذلك شائع في الناس (قلت) النميمة على قسمين تارة تكون على وجه التحريش بين الناس وتفريق قلوب المؤمنين فهذا حرام متفق عليه, فأما إن كانت على وجه الإصلاح بين الناس وائتلاف كلمة المسلمين كما جاء في الحديث "ليس بالكذاب من ينم خيراً" أو يكون على وجه التخذيل والتفريق بين جموع الكفرة, فهذا أمر مطلوب كما جاء في الحديث "الحرب خدعة", وكما فعل نعيم بن مسعود في تفريق كلمة الأحزاب وبني قريظة: جاء إلى هؤلاء فنمى إليهم عن هؤلاء كلاماً, ونقل من هؤلاء إلى أولئك شيئاً آخر, ثم لأم بين ذلك فتناكرت النفوس وافترقت, وإنما يحذو على مثل هذا الذكاء ذو البصيرة النافذة والله المستعان.
ثم قال الرازي: فهذه جملة الكلام في أقسام السحر وشرح أنواعه وأصنافه, (قلت) وإنما أدخل كثيراً من هذه الأنواع المذكورة في فن السحر للطافة مداركها لأن السحر في اللغة عبارة عما لطف وخفي بسببه, ولهذا جاء في الحديث "إن من البيان لسحراً", وسمي السحور لكونه يقع خفياً آخر الليل, والسحر: الرئة, وهي محل الغذاء وسميت بذلك لخفائها ولطف مجاريها إلى أجزاء البدن وغضونه, كما قال أبو جهل يوم بدر لعتبة: انتفخ سحره أي انتفخت رئته من الخوف. وقالت عائشة رضي الله عنها: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحري ونحري, وقال تعالى: "سحروا أعين الناس" أي أخفوا عنهم علمهم, والله أعلم.
وقال أبو عبد الله القرطبي: وعندنا أن السحر حق وله حقيقة يخلق الله عنده ما يشاء خلافاً للمعتزلة وأبي إسحاق الإسفرايني من الشافعية حيث قالوا: إنه تمويه وتخييل قال ومن السحر ما يكون بخفة اليد كالشعوذة, والشعوذي البريد لخفة سيره, قال ابن فارس: وليست هذه الكلمة من كلام أهل البادية, قال القرطبي: ومنه ما يكون كلاماً يحفظ ورقى من أسماء الله تعالى وقد يكون من عهود الشياطين ويكون أدوية وأدخنة وغير ذلك, قال: وقوله عليه السلام: "إن من البيان لسحراً" يحتمل أن يكون مدحاً كما تقول طائفة, ويحتمل أن يكون ذماً للبلاغة قال: وهذا أصح, قال لأنها تصوب الباطل حتى توهم السامع أنه حق كما قال عليه الصلاة والسلام: "فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له" الحديث.
(فصل) وقد ذكر الوزير أبو المظفر يحيى بن محمد ابن هبيرة رحمه الله في كتابه(الإشراف على مذاهب الأشراف) باباً في السحر فقال: أجمعوا على أن السحر له حقيقة إلا أبا حنيفة فإنه قال: لا حقيقة له عنده واختلفوا فيمن يتعلم السحر ويستعمله, فقال أبو حنيفة ومالك وأحمد يكفر بذلك. ومن أصحاب أبي حنيفة من قال إن تعلمه ليتقيه أو ليجتنبه فلا يكفر ومن تعلمه معتقداً جوازه أو أنه ينفعه كفر, وكذا من اعتقد أن الشياطين تفعل له ما يشاء فهو كافر. وقال الشافعي رحمه الله: إذا تعلم السحر قلنا له صف لنا سحرك فإن وصف ما يوجب الكفر مثل ما اعتقده أهل بابل من التقرب إلى الكواكب السبعة وأنها تفعل ما يلتمس منها فهو كافر, وإن كان لايوجب الكفر فإن اعتقد إباحته فهو كافر, قال ابن هبيرة: وهل يقتل بمجرد فعله واستعماله ؟ فقال مالك وأحمد نعم, وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا فأما إن قتل بسحره إنساناً فإنه يقتل عند مالك والشافعي وأحمد. وقال أبو حنيفة: يقتل حتى يتكرر منه ذلك أو يقر بذلك في حق شخص معين, وإذا قتل فإنه يقتل حداً عندهم إلا الشافعي فإنه قال: يقتل والحالة هذه قصاصاً قال: وهل إذا تاب الساحر تقبل توبته ؟ فقال مالك وأبو حنيفة وأحمد في المشهور عنهم: لا تقبل, وقال الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى تقبل, وأما ساحر أهل الكتاب فعند أبي حنيفة أنه يقتل كما يقتل الساحر المسلم, وقال مالك وأحمد والشافعي: لايقتل يعني لقصة لبيد بن الأعصم واختلفوا في المسلمة الساحرة فعند أبي حنيفة أنها لا تقتل ولكن تحبس, وقال الثلاثة حكمها حكم الرجل, والله أعلم. وقال أبو بكر الخلال: أخبرنا أبو بكر المروزي قال: قرأ على أبي عبد الله ـ يعني أحمد بن حنبل ـ عمر ابن هارون أخبرنا يونس عن الزهري: قال يقتل ساحر المسلمين ولا يقتل ساحر المشركين لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سحرته امرأة من اليهود فلم يقتلها. وقد نقل القرطبي عن مالك رحمه الله, أنه قال في الذمي يقتل إن قتل سحره, وحكى ابن خويز منداد عن مالك روايتين في الذمي إذا سحر: إحداهما أنه يستتاب فإن أسلم وإلا قتل, والثانية أنه يقتل وإن أسلم, وأما الساحر المسلم فإن تضمن سحره كفراً كفر عند الأئمة الأربعة وغيرهم لقوله تعالى: "وما يعلمان من أحد حتى يقولا: إنما نحن فتنة فلا تكفر". لكن قال مالك إذا ظهر عليه لم تقبل توبته لأنه كالزنديق فإن تاب قبل أن يظهر عليه وجاءنا تائباً قبلناه, فإن قتل سحره قتل قال الشافعي: فإن قال لم أتعمد القتل فهو مخطىء تجب عليه الدية.
(مسألة) وهل يسئل الساحر حلاً لسحره فأجاز سعيد بن المسيب فيما نقله عنه البخاري, وقال عامر الشعبي: لا بأس بالنشرة وكره ذلك الحسن البصري, وفي الصحيح عن عائشة أنها قالت: يارسول الله هلا تنشرت, فقال: "أما الله فقد شفاني وخشيت أن أفتح على الناس شراً" وحكى القرطبي عن وهب: أنه قال يؤخذ سبع ورقات من سدر فتدق بين حجرين ثم تضرب بالماء ويقرأ عليها آية الكرسي ويشرب منها المسحور ثلاث حسوات ثم يغتسل بباقيه فإنه يذهب ما به, وهو جيد للرجل الذي يؤخذ عن امرأته (قلت) أنفع ما يستعمل لإذهاب السحر ما أنزل الله على رسوله في ذهاب ذلك وهما المعوذتان, وفي الحديث "لم يتعوذ المتعوذ بمثلهما" وكذلك قراءة آية الكرسي فإنها مطردة للشياطين
وقوله: 103- "ولو أنهم آمنوا" أي بالنبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به من القرآن "واتقوا" ما وقعوا فيه من السحر والكفر، واللام في قوله: "لمثوبة" جواب لو، والمثوبة: الثواب. وقال الأخفش: إن الجواب محذوف والتقدير ولو أنهم آمنوا واتقوا لأثيبوا، فحذف لدلالة قوله: لمثوبة عليه وقوله: "لو كانوا يعلمون" هو إما للدلالة على أنه لا علم لهم، أو لتنزيل علمهم مع عدم العمل منزلة العدم.
وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس "قال ابن صوريا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد ما جئتنا بشيء يعرف، وما أنزل الله عليك من آية بينة، فأنزل الله تعالى في ذلك: "ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون"" وقال مالك بن الصيف حين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرهم ما أخذ عليهم من الميثاق وما عهد إليهم في محمد: والله ما عهد إلينا في محمد ولا أخذ علينا شيئاً، فأنزل الله "أو كلما عاهدوا" الآية. وأخرج ابن جرير عنه في قوله: "آيات بينات" يقول: فأنت تتلوه عليهم وتخبرهم به غدوة وعشية وبين ذلك، وأنت عندهم أمي لم تقرأ الكتاب، وأنت تخبرهم بما في أيديهم على وجهه، ففي ذلك عبرة لهم وحجة عليهم "لو كانوا يعلمون". وأخرج ابن جرير عن قتادة في قوله: "نبذه" قال: نقضه. وأخرج أيضاً عن السدي في قوله: "مصدقاً لما معهم" قال: لما جاءهم محمد عارضوه بالتوراة، واتفقت التوراة والقرآن فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف وسحر هاروت وماروت، كأنهم لا يعلمون بما في التوراة من الأمر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: إن الشياطين كانوا يسترقون السمع من السماء، فإذا سمع أحدهم بكلمة حق كذب معها ألف كذبة، فأشربتها قلوب الناس واتخذوها دواوين، فأطلع الله على ذلك سليمان بن داود، فأخذها فدفنها تحت الكرسي، فلما مات سليمان قام شيطان بالطريق فقال: ألا أدلكم على كنز سليمان الذي لا كنز لأحد مثل كنزه الممنع؟ قالوا: نعم، فأخرجوه فإذا هو سحر، فتناسختها الأمم. وأنزل الله عذر سليمان فيما قالوا من السحر فقال "واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان" الآية. وأخرج النسائي وابن أبي حاتم عنه قال: كان آصف كاتب سليمان، وكان يعلم الاسم الأعظم، وكان يكتب كل شيء بأمر سليمان ويدفنه تحت كرسيه، فلما مات سليمان أخرجته الشياطين، فكتبوا بين كل سطرين سحراً وكفراً، وقالوا: هذا الذي كان سليمان أخرجته الشياطين، فكتبوا بين كل سطرين سحراً وكفراً، وقالوا: هذا الذي كان سليمان يعمل بها، فأكفره جهال الناس وسبوه ووقف علماؤهم، فلم يزل جهالهم يسبونه حتى أنزل الله على محمد "واتبعوا ما تتلوا الشياطين" الآية. وأخرج ابن جرير عنه قال: كان سليمان إذا أراد أن يدخل الخلاء أو يأتي شيئاً من شأنه أعطى الجرادة وهي امرأته خاتمه، فلما أراد الله أن يبتلي سليمان بالذي ابتلاه به أعطى الجرادة ذات يوم خاتمه، فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال لها: هاتي خاتمي، فأخذه فلبسه، فلما لبسه دانت له الشياطين والجن والإنس، فجاء سليمان فقال: هاتي خاتمي، فقالت: كذبت لست سليمان، فعرف أنه بلاء ابتلي به، فانطلقت الشياطين فكتبت في تلك الأيام كتباً فيها سحر وكفر، ثم دفنوها تحت كرسي سليمان، ثم أخرجوها فقرأوها على الناس وقالوا: إنما كان سليمان يغلب الناس بهذه الكتب، فبرئ الناس من سليمان وأكفروه حتى بعث الله محمداً وأنزل عليه "وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا" وأخرج ابن جرير عنه في قوله: "وما تتلوا" قال: ما تتبع. وأخرج أيضاً عن عطاء في قوله: "ما تتلوا" قال: نراه ما تحدث. وأخرج أيضاً عن ابن جريج في قوله: "على ملك سليمان" يقول: في ملك سليمان. وأخرج أيضاً عن السدي في قوله: "وما أنزل على الملكين" قال: هذا سحر آخر خاصموه به، فإن كلام الملائكة فيما بينهم إذا علمته الإنس فصنع وعمل به كان سحراً. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وما أنزل على الملكين" قال: لم ينزل الله السحر. وأخرج ابن أبي حاتم عن علي قال: هما ملكان من ملائكة السماء. وأخرج نحوه ابن مردويه من وجه آخر عنه مرفوعاً. وأخرج البخاري في تاريخه وابن المنذر عن ابن عباس "وما أنزل على الملكين" يعني جبريل وميكائيل "ببابل هاروت وماروت" يعلمان الناس السحر. وأخرج ابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن البزي أنه كان يقرأنها: وما أنزل على الملكين داود وسليمان. وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك قال: هما علجان من أهل بابل: وأخرج البيهقي في شعب الإيمان من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أشرفت الملائكة على الدنيا، فرأت بني آدم يعصون، فقالت: يا رب ما أجهل هؤلاء، ما أقل معرفة هؤلاء بعظمتك، فقال الله: لو كنتم في محلاتهم لعصيتموني، قالوا: كيف يكون هذا ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟ قال: فاختاروا منكم ملكين، فاختاروا هاروت وماروت، ثم أهبطا إلى الأرض وركبت فيهما شهوات بني آدم، ومثلت لهما امرأة فما عصما حتى واقعا المعصية، فقال الله: اختارا عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة، فنظر أحدهما لصاحبه قال: ما تقول؟ قال: أقول إن عذاب الدنيا ينقطع وإن عذاب الآخرة لا ينقطع، فاختارا عذاب الدنيا، فهما اللذان ذكر الله في كتابه: "وما أنزل على الملكين"" الآية. وأخرج الحاكم وصححه عن ابن عمر أنه كان يقول: أطلعت الحمراء بعد فإذا رآها قال: لا مرحباً، ثم قال: إن ملكين من الملائكة هاروت وماروت سألا الله أن يهبطهما إلى الأرض، فأهبطا إلى الأرض فكانا يقضيان بين الناس، فإذا أمسيا تكلما بكلمات فعرجا بها إلى السماء، فقيض لهما امرأة من أحسن النساء وألقيت عليهما الشهوة فجعلا يؤخرانها وألقيت في أنفسهما، فلم يزالا يفعلان حتى وعدتهما ميعاداً، فأتتهما للميعاد فقالت: علماني الكلمة التي تعرجان بها، فعلماها الكلمة فتكلمت بها فعرجب إلى السماء فمسخت فجعلت كما ترون، فلما أمسيا تكلما بالكلمة فلم يعرجا، فبعث إليهما: إن شئتما فعذاب الآخرة وإن شئتما فعذاب الدنيا إلى أن تقوم الساعة على أن تلقيا الله، فإن شاء عذبكما وإن شاء رحمكما، فنظر أحدهما إلى صاحبه فقال: بل نختار عذاب الدنيا ألف ألف ضعف، فهما يعذبان إلى يوم القيامة. وقد رويت هذه القصة عن ابن عمر بألفاظ، وفي بعضهما أنه يروي ذلك ابن عمر عن كعب الأحبار، كما أخرجه عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب من طريق الثوري عن موسى بن عقبة عن سالم عن ابن عمر عن كعب قال: ذكرت الملائكة أعمال بني آدم وما يأتون من الذنوب، فقيل: لو كنتم مكانكم لأتيتم مثل ما يأتون، فاختاروا منكم اثنين، فاختاروا هاروت وماروت، فقال لهما: إني أرسل إلى بني آدم رسلاً فليس بيني وبينكم رسول، إنزلا لا تشركا بي شيئاً ولا تزنيا ولا تشربا الخمر، قال كعب: فوالله ما أمسيا من يومهما الذي أهبطا فيه حتى استعملا جميع ما نهيا عنه. قال ابن كثير: وهذا أصح، يعني من الإسنادين اللذين ذكرهما قبله. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ في العظمة والحاكم وصححه عن علي بن أبي طالب قال: إن هذه الزهرة تسميها العرب الزهرة، والعجم أناهيد، وذكر نحو الرواية السابقة عن ابن عمر عند الحاكم. قال ابن كثير: وهذا الإسناد رجاله ثقات وهو غريب جداً. وقد أخرج عبد بن حميد والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: كانت الزهرة امراة. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عنه: أن المرأة التي فتن بها الملكان مسخت، فهي هذه الكوكبة الحمراء: يعني الزهرة. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عنه فذكر قصة طويلة، وفيها التصريح بأن الملكين شربا الخمر وزنيا بالمرأة وقتلاها. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود وابن عباس هذه القصة وقالا: إنها أنزلت إليهما الزهرة في صورة امرأة وأنهما وقعا في الخطيئة. وقد روي في هذا الباب قصص طويلة وروايات مختلفة استوفاها السيوطي في الدر المنثور، وذكر ابن كثير في تفسيره بعضها ثم قال: وقد روي في قصة هاروت وماروت عن جماعة من التابعين كمجاهد والسدي والحسن البصري وقتادة وأبي العالية والزهري والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان وغيرهم وقصها خلق من المفسرين من المتقدمين والمتأخرين. وحاصلها راجع في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل، إذ ليس فيها حديث مرفوع صحيح متصل الإسناد إلى الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى وظاهر سياق القرآن إجمال القصة من غير بسط ولا إطناب فيها، فنحن نؤمن بما ورد في القرآن على ما أراده الله تعالى، والله أعلم بحقيقة الحال انتهى. وقال القرطبي: بعد سياق بعض ذلك: قلنا هذا كله ضعيف وبعيد عن ابن عمر وغيره لا يصح منه شيء، فإنه قول تدفعه الأصول في الملائكة الذين هم أمناء الله على وحيه وسفراؤه إلى رسله لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ثم ذكر ما معناه: أن العقل يجوز وقوع ذلك منهم، لكن وقوع هذا الجائز لا يدرى إلا بالسمع ولم يصح انتهى. وأقول هذا مجرد استبعاد. وقد ورد الكتاب العزيز في هذا الموضع بما تراه، ولا وجه لإخراجه عن ظاهره بهذه التكلفات، وما ذكره من أن الأصول تدفع ذلك، فعلى فرض وجود هذه الأصول فهي مخصصة بما وقع في هذه القصة ولا وجه لمنع التخصيص، وقد كان إبليس يملك المنزلة العظيمة وصار أشر البرية وأكفر العالمين. وأخرج ابن جرير عن قتادة في قوله: "إنما نحن فتنة" قال: بلاء. وأخرج البزار بإسناد صحيح والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال: "من أتى كاهناً أو ساحراً وصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد". وأخرج البزار عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله: "من تطير أو تطير له، أو تكهن أو تكهن له، أو سحر أو سحر له، ومن عقد عقدة، ومن أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد". وأخرج عبد الرزاق عن صفوان بن سليم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تعلم شيئاً من السحر قليلاً أو كثيراً كان آخر عهده من الله". وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "من خلاق" قال: قوام. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: "من خلاق" من نصيب، وكذا روى ابن جرير عن مجاهد. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن الحسن: "ما له في الآخرة من خلاق" قال: ليس له دين. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في قوله: "ولبئس ما شروا به" قال: باعوا. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة في قوله: "لمثوبة" قال: ثواب.
103. " ولو أنهم آمنوا " بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن " واتقوا " اليهودية والسحر " لمثوبة من عند الله خير " لكان ثواب الله إياهم خيراً لهم " لو كانوا يعلمون ".
103-" ولو أنهم آمنوا " بالرسول والكتاب . " واتقوا " بترك المعاصي ، كنبذ كتاب الله واتباع السحر " لمثوبة من عند الله خير " جواب لو ، وأصله لاثيبوا مثوبة من عند الله خيراً مما شروا به أنفسهم ، فحذف الفعل وركب الباقي جملة اسمية لتدل على ثبات المثوبة والجزم بخيريتها ، وحذف المفضل عليه إجلالاً للمفضل من أن ينسب إليه ، وتنكير المثوبة لأن المعنى لشيء من الثواب خير ،وقيل : لو للتمني ، و " لمثوبة " كلام مبتدأ . قرئ " لمثوبة " كمشورة ، وإنما الجزاء ثواباً ومثوبة لأن المحسن يثوب إليه " لو كانوا يعلمون " أن ثواب الله خير مما هم فيه ، وقد علموا لكنه جهلهم لترك التدبر ، أو العمل بالعلم .
103. And if they had believed and kept from evil, a recompense from Allah would be better, if they only knew.
103 - If they had kept their faith and guarded themselves from evil, far better had been the reward from their Lord, if they but knew!