[مريم : 98] وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا
98 - (وكم) أي كثيرا (أهلكنا قبلهم من قرن) أي أمة من الأمم الماضية بتكذيبهم الرسل (هل تحس) تجد (منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا) صوتا خفيا لا فكما أهلكنا اولئك نهلك هؤلاء
يقول تعالى ذكره : وكثيراً أهلكنا يا محمد قبل قومك من مشركي قريش . من قرن ، يعني من جماعة من الناس ، إذ سلكوا في خلافي وركوب معاصي مسلكهم ، هل تحس منهم من أحد؟ يقول : فهل تحس أنت منهم أحداً يا محمد، فتراه وتعاينه "أو تسمع لهم ركزا" يقول : أو تسمع لهم صوتاً ، بل بادوا وهلكوا، وخلت منهم دورهم ، وأوحشت منهم منازلهم ، وصاروا إلى دار لا ينفعهم فيها إلا صالح من عمل قدموه ، فكذلك قومك هؤلاء، صائرون إلى ما صار إليه أولئك ، إن لم يعاجلوا التوبة قبل الهلاك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني علي ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثنا معاوية، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله "أو تسمع لهم ركزا" قال : صوتاً.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر، عن قتادة، قوله "هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا" قال : هل ترى عيناً، أو تسمع صوتاً.
حدثنا بشر، قال : ثنا يزيد، قال : ثنا سعيد، عن قتادة، قوله "هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا" يقول : هل تسمع من صوت ، أو ترى من عين؟
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ، يقول : ثنا عبيد، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله "أو تسمع لهم ركزا" يعني : صوتاً.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس ، قال : ركز الناس : أصواتهم. قال أبو كريب : قال سفيان: "هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا"؟
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد، في قوله "هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا" قال : أو تسمع لهم حساً. قال : والركز: الحس.
قال أبو جعفر: والركز في كلام العرب : الصوت الخفي ، كما قال الشاعر: فتوجست ذكر الأنيس فراعها عن ظهر غيب والأنيس سقامها.
قوله تعالى: " وكم أهلكنا قبلهم من قرن " أي من أمة وجماعة من الناس، يخوف أهل مكة. " هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا " في موضع نصب، أي هل ترى منهم أحداً وتجد. " أو تسمع لهم ركزا " أي صوتاً، عن ابن عباس وغيره، أي قد ماتوا وحصلوا أعمالهم. وقيل: حساً، قاله ابن زيد. وقيل: الركز ما لا يفهم من صوت أو حركة، قاله اليزيدي وأبو عبيدة، كركز الكتيبة، وأنشد أبو عبيدة بيت لبيد:
وتوجست ركز الأنيس فراعها عن ظهر غيب والأنيس سقامها
وقيل: الصوت الخفي. ومنه ركز الرمح إذا غيب طرفه في الأرض. وقال طرفة:
وصادقتا سمع التوجس للسرى لركز خفي أو لصوت مندد
وقال ذو الرمة يصف ثوراً تسمع إلى صوت صائد وكلاب:
إذا توجس ركزاً مقفر ندس بنبأة الصوت ما في سمعه كذب
أي ما في استماعه كذب، أي هو صادق الاستماع. والندس الحاذق، يقال: ندس وندس، كما يقال: حذر وحذر، ويقظ ويقظ. والنبأة الصوت الخفي، وكذلك الركز، والركاز: المال المدفون. والله تعالى أعلم بالصواب.
يخبر تعالى أنه يغرس لعباده المؤمنين الذين يعملون الصالحات, وهي الأعمال التي ترضي الله عز وجل لمتابعتها الشريعة المحمدية ـ يغرس لهم في قلوب عباده الصالحين محبة ومودة, وهذا أمر لا بد منه ولا محيد عنه, وقد وردت بذلك الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير وجه. قال الإمام أحمد : حدثنا عفان , حدثنا أبو عوانة , حدثنا سهيل عن أبيه , عن أبي هريرة , عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله إذا أحب عبداً دعا جبريل, فقال: يا جبريل, إني أحب فلاناً فأحبه قال فيحبه جبريل, قال: ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه, قال: فيحبه أهل السماء, ثم يوضع له القبول في الأرض, وإن الله إذا أبغض عبداً دعا جبريل فقال: يا جبريل إني أبغض فلاناً فأبغضه, قال: فيبغضه جبريل, ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه, قال: فيبغضه أهل السماء, ثم يوضع له البغضاء في الأرض". ورواه مسلم من حديث سهيل , ورواه أحمد والبخاري من حديث ابن جريج عن موسى بن عقبة , عن نافع مولى ابن عمر , عن أبي هريرة رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن بكر , حدثنا ميمون أبو محمد المرائي , حدثنا محمد بن عباد المخزومي عن ثوبان رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن العبد ليلتمس مرضاة الله عز وجل, فلا يزال كذلك فيقول الله عز وجل لجبريل: إن فلاناً عبدي يلتمس أن يرضيني, ألا وإن رحمتي عليه, فيقول جبريل: رحمة الله على فلان, ويقولها حملة العرش, ويقولها من حولهم حتى يقولها أهل السموات السبع, ثم يهبط إلى الأرض" غريب. ولم يخرجوه من هذا الوجه.
وقال الإمام أحمد : حدثنا أسود بن عامر , حدثنا شريك عن محمد بن سعد الواسطي عن أبي ظبية , عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن المقة من الله" ـ قال شريك : هي المحبة ـ والصيت في السماء," فإذا أحب الله عبداً قال لجبريل عليه السلام: إني أحب فلاناً, فينادي جبريل: إن ربكم يمق ـ يعني يحب ـ فلاناً فأحبوه ـ أرى شريكاً قد قال: فتنزل له المحبة في الأرض ـ وإذا أبغض عبداً قال لجبريل: إني أبغض فلاناً فأبغضه, قال: فينادي جبريل: إن ربكم يبغض فلاناً فأبغضوه ـ أرى شريكاً قال -: فيجري له البغض في الأرض" غريب, ولم يخرجوه.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي , حدثنا أبو داود الحفري , حدثنا عبد العزيز ـ يعني ابن محمد ـ وهو الدراوردي عن سهيل بن أبي صالح, عن أبيه , عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أحب الله عبداً نادى جبريل: إني قد أحببت فلاناً فأحبه, فينادي في السماء, ثم ينزل له المحبة في أهل الأرض , فذلك قول الله عز وجل: "إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وداً" " رواه مسلم والترمذي , كلاهما عن عبد الله عن قتيبة , عن الدراوردي به. وقال الترمذي : حسن صحيح.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: "سيجعل لهم الرحمن وداً" قال: حباً, وقال مجاهد عنه: "سيجعل لهم الرحمن وداً", قال: محبة في الناس في الدنيا, وقال سعيد بن جبير عنه, يحبهم ويحببهم, يعني إلى خلقه المؤمنين, كما قال مجاهد أيضاً و الضحاك وغيرهم. وقال العوفي عن ابن عباس أيضاً: الود من المسلمين في الدنيا والرزق الحسن واللسان الصادق. وقال قتادة "إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وداً" إي والله في قلوب أهل الإيمان, وذكر لنا أن هرم بن حيان كان يقول: ما أقبل عبد بقلبه إلى الله إلا أقبل الله بقلوب المؤمنين إليه حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم وقال قتادة : وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه يقول: ما من عبد يعمل خيراً أو شراً إلا كساه الله عز وجل رداء عمله.
وقال ابن أبي حاتم رحمه الله: حدثنا أحمد بن سنان , حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن الربيع بن صبيح عن الحسن البصري رحمه الله قال: قال رجل: والله لأعبدن الله عبادة أذكر بها, فكان لا يرى في حين صلاة إلا قائماً يصلي, وكان أول داخل إلى المسجد وآخر خارج, فكان لا يعظم, فمكث بذلك سبعة أشهر, وكان لا يمر على قوم إلا قالوا: انظروا إلى هذا المرائي, فأقبل على نفسه فقال: لا أراني أذكر إلا بشر, لأجعلن عملي كله لله عز وجل, فلم يزد على أن قلب نيته, ولم يزد على العمل الذي كان يعمله, فكان يمر بعد بالقوم فيقولون: رحم الله فلاناً الان, وتلا الحسن "إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وداً" وقد روى ابن جرير أن هذه الاية نزلت في هجرة عبد الرحمن بن عوف , وهو خطأ, فإن هذه السورة بكمالها مكية لم ينزل منها شيء بعد الهجرة, ولم يصح سند ذلك, والله أعلم.
وقوله: "فإنما يسرناه" يعني القرآن "بلسانك" أي يا محمد وهو اللسان العربي المبين الفصيح الكامل "لتبشر به المتقين" أي المستجيبين لله, المصدقين لرسوله, "وتنذر به قوماً لداً" أي عوجاً عن الحق مائلين إلى الباطل وقال ابن أبي نجيج عن مجاهد "قوماً لداً" لا يستقيمون وقال الثوري عن إسماعيل وهو السدي عن أبي صالح "وتنذر به قوماً لداً" عوجاً عن الحق, وقال الضحاك : الألد الخصم. وقال القرظي : الألد الكذاب. وقال الحسن البصري "قوماً لداً" صماً, وقال غيره: صم آذان القلوب. وقال قتادة : قوماً لداً يعني قريشاً وقال العوفي عن ابن عباس "قوماً لداً" فجاراً, وكذا روى ليث بن أبي سليم عن مجاهد .
وقال ابن زيد : الألد الظلوم, وقرأ قوله تعالى: "وهو ألد الخصام". وقوله: "وكم أهلكنا قبلهم من قرن" أي من أمة كفروا بآيات الله وكذبوا رسله "هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً" أي هل ترى منهم أحداً أو تسمع لهم ركزاً. وقال ابن عباس وأبو العالية وعكرمة والحسن البصري وسعيد بن جبير والضحاك وابن زيد : يعني صوتاً, وقال الحسن وقتادة : هل ترى عيناً أو تسمع صوتاً, والركز في أصل اللغة هو الصوت الخفي.
قال الشاعر:
فتوجست ركز الأنيس فراعها عن ظهر غيب والأنيس سقامها
آخر تفسير سورة مريم ولله الحمد والمنة ويتلوه إن شاء الله تفسير سورة طه والحمد لله.
98- "وكم أهلكنا قبلهم من قرن" أي من أمة وجماعة من الناس، وفي هذا وعد لرسول الله صلى الله عليهم بهلاك الكافرين ووعيد لهم "هل تحس منهم من أحد" هذه الجملة مقررة لمضمون ما قبلها: أي هل تشعر بأحد منهم أو تراه "أو تسمع لهم ركزاً" الركز الصوت الخفي، ومنه ركز الرمح إذا غيب طرفه في الأرض. قال طرفة
وصادفتها سمع التوجس للسرى لركز خفي أو لصوت مفند
وقال ذو الرمة:
إذا توجس ركزاً مقفر ندس بنبأة الصوت ما في سمعه كذب
أي: في استماعه كذب بل هو صادق الاستماع، والندس الحاذق، والنبأة الصوت الخفي. وقال اليزيدي وأبو عبيدة: الركز ما لا يفهم من صوت أو حركة.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن عبد الرحمن بن عوف أنه لما هاجر إلى المدينة وجد نفسه على فراق أصحابه بمكة منهم شيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة وأمية بن خلف، فأنزل الله "إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات" الآية، قال ابن كثير: وهو خطأ، فإن السورة مكية بكمالها لم ينزل منها بعد الهجرة ولم يصح سند ذلك. وأخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت في علي بن أبي طالب "إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وداً" قال: محبة في قلوب المؤمنين. وأخرج ابن مردويه والديلمي عن البراء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: "قل اللهم اجعل لي عندك عهداً، واجعل لي عندك وداً واجعل لي في صدور المؤمنين مودة"، فأنزل الله الآية في علي. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير عن ابن عباس "وداً" قال: محبة في الناس في الدنيا. وأخرج الحكيم الترمذي وابن مردويه عن علي قال "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله: "سيجعل لهم الرحمن وداً" ما هو؟ قال: المحبة الصادقة في صدور المؤمنين". وثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أحب الله عبداً نادى جبريل إني قد أحببت فلاناً فأحبه، فينادي في السماء، ثم ينزل له المحبة في أهل الأرض فذلك قوله: "إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وداً" وإذا أبغض الله عبداً نادى جبريل إني قد أبغضت فلاناً، فينادي في أهل السماء، ثم ينزل له البغضاء في الأرض" والأحاديث والآثار في هذا الباب كثيرة. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "وتنذر به قوماً لداً" قال: فجاراً. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن قال:صما . وأخرج إبن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله " هل تحس منهم من أحد " قال : هل ترى منهم من أحد. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ركزاً" قال: صوتاً.
98 - " وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن " ،هل ترى ، وقيل هل تجد ، " منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً " ، أي صوتاً ، ( والركز ) : الصوت الخفي . قال الحسن : بادوا جميعاً ، فلم يبق منهم عين ولا أثر .
98ـ " وكم أهلكنا قبلهم من قرن " تخويف للكفرة وتجسير للرسول صلى الله عليه وسلم على إنذارهم . " هل تحس منهم من أحد " هل تشعر بأحد منهم وتراه . " أو تسمع لهم ركزاً " وقرئ " تسمع " من أسمعت والركز الصوت الخفي ، وأصل التركيب هو الخفاء ومنه ركز الرمح إذا غيب طرفه في الأرض ، والركاز المال المدفون . عن رسول الله " من قرأ سورة مريم أعطي عشر حسنات بعدد من كذب زكريا وصدق به ويحيى ومريم وعيسى وسائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام المذكورين فيها وبعدد من دعا الله في الدنيا ومن لم يدع الله " .
98. And how many a generation before them have We destroyed! Canst thou (Muhammad) see a single man of them, or hear from them the slightest sound?
98 - But how many (countless) Generations before them have we destroyed? canst thou find a single one of them (now) or hear (so much as) a whisper of them?