[مريم : 93] إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا
93 - (إن) أي ما (كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا) ذليلا خاضعا يوم القيامة منهم عزيز وعيسى
"إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا" يقول : ما جميع من في السماوات من الملائكة، وفي الأرض من البشر والإنس والجن "إلا آتي الرحمن عبدا" يقول : إلا يأتي ربه يوم القيامة عبداً له ، ذليلاً خاضعاً، مقراً له بالعبودية، لا نسب بينه وبينه . وقوله "آتي الرحمن" إنما هو فاعل من أتيته ، فأنا آتيه.
" إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا " إن نافية بمعنى ما، أي ما كل من في السموات والأرض إلا وهو يأتي يوم القيامة مقراً له بالعبودية، خاضعاً ذليلاً كما قال: " وكل أتوه داخرين " [النمل: 87] أي صاغرين أذلاء، أي الخلق كلهم عبيده، فكيف يكون واحد منهم ولداً له عز وجل، تعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً. و " آتي " بالياء في الخط، والأصل التنوين فحذف استخفافاً وأضيف.
الثانية: في هذه الآية دليل على أنه لا يجوز أن يكون الولد مملوكاً للوالد، خلافاً لمن قال: إنه يشتريه فيملكه ولا يعتق عليه إلا إذا أعتقه. وقد أبان الله تعالى المنافاة بين الأولاد والملك، فإذا ملك الوالد ولده بنوع من التصرفات عتق عليه. ووجه الدليل عليه من هذه الآية أن الله تعالى جعل الولدية والعبدية في طرفي تقابل، فنفى أحدهما وأثبت الآخر، ولو اجتمعا لما كان لهذا القول فائدة يقع الاحتجاج بها. وفي الحديث الصحيح:
" لا يجزي ولد والداً إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه " خرجه مسلم فإذا لم يملك الأب ابنه مع مرتبته عليه، فالابن بعدم ملك الأب أولى لقصوره عنه.
الثالثة: ذهب إسحاق بن راهويه في تأويل قوله عليه الصلاة والسلام:
" من أعتق شركاً له في عبد " أن المراد به ذكور العبيد دون إناثهم فلا يكمل على من أعتق شركاً في أنثى، وهو على خلاف ما ذهب إليه الجمهور من السلف ومن بعدهم، فإنهم لم يفرقوا بين الذكر والأنثى، لأن لفظ العبد يراد به الجنس، كما قال تعالى: " إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا " فإنه قد يتناول الذكر والأنثى من العبد قطعاً. وتمسك إسحاق بأنه حكى عبدة في المؤنث.
الرابعة: روى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" يقول الله تبارك وتعالى كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك فأما تكذيبه إياي فقوله ليس يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته وأما شتمه إياي فقوله اتخذ الله ولداً وأنا الأحد الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن لي كفواً أحد " وقد تقدم في ((البقرة)) وغيرها وإعادته في مثل هذا الموضع حسن جداً.
لما قرر تعالى في هذه السورة الشريفة عبودية عيسى عليه السلام وذكر خلقه من مريم بلا أب, شرع في مقام الإنكار على من زعم أن له ولداً, تعالى وتقدس وتنزه عن ذلك علواً كبيراً, فقال: " وقالوا اتخذ الرحمن ولدا * لقد جئتم " أي في قولكم هذا "شيئا إداً" قال ابن عباس ومجاهد وقتادة ومالك : أي عظيماً. ويقال إداً بكسر الهمزة وفتحها, ومع مدها أيضاً ثلاث لغات أشهرها الأولى وقوله: " تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا * أن دعوا للرحمن ولدا " أي يكاد ذلك عند سماعهن هذه المقالة من فجرة بني آدم إعظاماً للرب وإجلالاً, لأنهم مخلوقات ومؤسسات على توحيده, وأنه لا إله إلا هو, وأنه لا شريك له ولا نظير له, ولا ولد له, ولا صاحبة له, ولا كفء له, بل هو الأحد الصمد.
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
قال ابن جرير : حدثني علي , حدثنا عبد الله , حدثني معاوية عن علي , عن ابن عباس في قوله: "تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً * أن دعوا للرحمن ولداً" قال: إن الشرك فزعت منه السموات والأرض والجبال وجميع الخلائق إلا الثقلين, وكادت أن تزول منه لعظمة الله, وكما لا ينفع مع الشرك إحسان المشرك, كذلك نرجو أن يغفر الله ذنوب الموحدين, وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقنوا موتاكم شهادة أن لا إله إلا الله, فمن قالها عند موته وجبت له الجنة , فقالوا: يا رسول الله فمن قالها في صحته ؟ قال تلك أوجب وأوجب". ثم قال "والذي نفسي بيده لو جيء بالسموات والأرضين وما فيهن وما بينهن وما تحتهن, فوضعن في كفة الميزان, ووضعت شهادة أن لا إله إلا الله في الكفة الأخرى لرجحت بهن" هكذا رواه ابن جرير , ويشهد له حديث البطاقة, والله أعلم.
وقال الضحاك : "تكاد السموات يتفطرن منه" أي يتشققن فرقاً من عظمة الله, وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : "وتنشق الأرض", أي غضباً له عز وجل, "وتخر الجبال هداً", قال ابن عباس : هدماً, وقال سعيد بن جبير : هداً ينكسر بعضها على بعض متتابعات. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الله بن سويد المقبري , حدثنا سفيان بن عيينة , حدثنا مسعر عن عون عن عبد الله قال: إن الجبل لينادي الجبل باسمه يا فلان, هل مر بك اليوم ذاكر الله عز وجل ؟ فيقول: نعم ويستبشر, قال عون : لهي للخير أسمع أفيسمعن الزور والباطل إذا قيل ولا يسمعن غيره, ثم قرأ "تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً * أن دعوا للرحمن ولداً".
وقال ابن أبي حاتم أيضاً: حدثنا المنذر بن شاذان , حدثنا هودة , حدثنا عوف عن غالب بن عجرد , حدثني رجل من أهل الشام في مسجد منى قال: بلغني أن الله لما خلق الأرض وخلق ما فيها من الشجر لم يكن في الأرض شجرة يأتيها بنو آدم إلا أصابوا منها منفعة ـ أو قال ـ كان لهم فيها منفعة, ولم تزل الأرض والشجر بذلك حتى تكلم فجرة بني آدم بتلك الكلمة العظيمة قولهم: اتخذ الرحمن ولداً, فلما تكلموا بها اقشعرت الأرض وشاك الشجر. وقال كعب الأحبار : غضبت الملائكة واستعرت جهنم حين قالوا ما قالوا.
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن سعيد بن جبير عن أبي عبد الرحمن السلمي عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله إنه يشرك به ويجعل له ولدا, وهو يعافيهم ويدفع عنهم ويرزقهم" أخرجاه في الصحيحين . وفي لفظ "أنهم يجعلون له ولداً وهو يرزقهم ويعافيهم". وقوله: "وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً" أي لا يصلح له ولا يليق به لجلاله وعظمته, لأنه لا كفء له من خلقه, لأن جميع الخلائق عبيد له, ولهذا قال: "إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً * لقد أحصاهم وعدهم عداً" أي قد علم عددهم منذ خلقهم إلى يوم القيامة, ذكرهم وأنثاهم, صغيرهم وكبيرهم, "وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً" أي لا ناصر له ولا مجير إلا الله وحده لا شريك له, فيحكم في خلقه بما يشاء وهو العادل الذي لا يظلم مثقال ذرة, ولا يظلم أحداً.
93- "إن كل من في السماوات والأرض" أي ما كل من في السموات والأرض "إلا" وهو "آتي" الله يوم القيامة مقراً بالعبودية خاضعاً ذليلاً كما قال: "وكل أتوه داخرين" أي صاغرين. والمعنى: أن الخلق كلهم عبيده فكيف يكون واحد منهم ولداً له؟ وقرئ آت على الأصل.
93 - " إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن " ، أي إلا آتيه يوم القيامة ، " عبداً " ذليلاً خاضعاً يعني : أن الخلق كلهم عبيده .
93ـ " إن كل من في السموات والأرض " أي ما منهم . " إلا آتي الرحمن عبداً " إلا وهو مملوك له يأوي إليه بالعبودية والانقياد ، وقرئ " آتي الرحمن " على الأصل .
93. There is none in the heavens and the earth but cometh unto the Beneficent as a slave.
93 - Not one of the beings in the heavens and the earth but must come to (God) Most Gracious as a servant.