[مريم : 26] فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا
26 - (فكلي) من الرطب (واشربي) من السري (وقري عينا) بالولد تمييز محول من الفاعل أي لتقر عينك به أي تسكن فلا تطمح إلى غيره (فإما) فيه إدغام نون إن الشرطية في ما الزائدة (ترين) حذفت منه لام الفعل وعينه والقيت حركتها على الراء وكسرت ياء الضمير لإلتقاء الساكنين (من البشر أحدا) فيسألك عن ولدك (فقولي إني نذرت للرحمن صوما) أي إمساكا عن الكلام في شأنه وغيره من الأناسي بدليل (فلن أكلم اليوم إنسيا) أي بعد ذلك
يقول تعالى ذكره: فكلي من الرطب الذي يتساقط عليك ، واشربي من ماء السري الذي جعله ربك تحتك ، لا تخشي جوعاً ولا عطشاً "وقري عينا" يقول : وطيبي نفساً وافرحي بولادتك إياي ولا تحزني ونصبت العين لأنها هي الموصوفة بالقرار. وإنما معنى الكلام : ولتقرر عينك بولدك ، ثم حول الفعل عن العين إلى المرأة صاحبة العين ، فنصبت العين إذ كان الفعل لها في الأصل على التفسير، نظير ما فعل بقوله "فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا" [النساء: 4] وإنما هو: فإن طابت أنفسهن لكم. وقوله "وضاق بهم ذرعا" [هود: 77- العنكبوت: 33] ومنه قوله يساقط عليك رطباً جنياً إنما هو يتساقط عليك رطب الجذع ، فحول الفعل إلى الجذع ، في قراءة من قرأه بالياء. وفي قراءة من قرأه "تساقط" بالتاء، معناه: يساقط عليك رطب النخلة، ثم حول الفعل إلى النخلة.
وقد اختلفت القراء في قراءة قوله "وقري" فأما أهل المدينة فقرءوه "وقري" بفتح القاف على لغة من قال: قررت بالمكان أقر به ، وقررت عيناً، أقر به قروراً، وهي لغة قريش فيما ذكر لي وعليها القراءة وأما أهل نجد فإنها تقول قررت به عيناً أقر به قراراً، وقررت بالمكان أقر به ، فالقراءة على لغتهم وقري عيناً بكسر القاف ، والقراءة عندنا على لغة قريش بفتح القاف.
وقوله "فإما ترين من البشر أحدا" يقول: فإن رأيت من بني آدم أحداً يكلمك أو يسائلك عن شيء من أمرك وأمر ولدك وسبب ولادتكه "فقولي إني نذرت للرحمن صوما" يقول: فقولي: إني أوجبت على نفسي لله صمتاً ألا أكلم أحداً من بني آدم اليوم "فلن أكلم اليوم إنسيا".
وبنحو الذي قلنا في معنى الصوم ، قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا معتمر بن سليمان، عن أبيه ، قال : سمعت أنس بن مالك يقول في هذه الآية "إني نذرت للرحمن صوما" صمتاً.
حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة، قال: ثنا حجاج، قال : أخبرنا ابن جريج، قال : أخبرني المغيرة بن عثمان، قال : سمعت أنس بن مالك يقول "إني نذرت للرحمن صوما" قال: صمتاً.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله "إني نذرت للرحمن صوما" قال : يعني بالصوم : الصمت.
حدثني يعقوب، قال : ثنا ابن علية، عن سليمان التيمي، قال : سمعت أنساً قرأ إني نذرت للرحمن صوماً وصمتاً.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال : أخبرنا عبد الرزاق، قال : أخبرنا معمر، عن قتادة "إني نذرت للرحمن صوما" أما قوله "صوما" فإنها صامت من الطعام والشراب والكلام.
حدثت عن الحسين، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله "نذرت للرحمن صوما" قال: كان من بني إسرائيل من إذا اجتهد صام من الكلام كما يصوم من الطعام، إلا من ذكر الله، فقال لها ذلك، فقالت: إني أصوم من الكلام كما أصوم من الطعام ، إلا من ذكر الله ، فلما كلموها أشارت إليه ، فقالوا "كيف نكلم من كان في المهد صبيا" فأجابهم فقال: "إني عبد الله آتاني الكتاب" حتى بلغ "ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون".
واختلفوا في السبب الذي من أجله أمرها بالصوم عن كلام البشر، فقال بعضهم : أمرها بذلك لأنه لم يكن لها حجة عند الناس ظاهرة، وذلك أنها جاءت وهي أيم بولد بالكف عن كلام ليكفيها فأمرت الكلام ولدها.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني، قال: ثنا مصعب بن المقدام، قال : ثنا إسرائيل، قال : ثنا أبو إسحاق ، عن حارثة، قال: كنت عند ابن مسعود، فجاء رجلان فسلم أحدهما ولم يسلم الآخر، فقال : ما شأنك؟ فقال أصحابه : حلف أن لا يكلم الناس اليوم ، فقال عبد الله: كلم الناس وسلم عليهم ، فإن تلك امرأة علمت أن أحداً لا يصدقها أنها حملت من غير زوج ، يعني بذلك مريم عليها السلام.
حدثني يونس، قال : أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد لما قال عيسى لمريم "لا تحزني" قالت : وكيف لا أحزن وأنت معي ، لا ذات زوج ولا مملوكة، أي شيء عذري عند الناس "يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا" فقال لها عيسى: أنا أكفيك الكلام "فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا" قال : هذا كله كلام عيسى لأمه.
حدثنا ابن حميد، قال : ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم عن وهب بن منبه "فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا" فإني سأكفيك الكلام.
وقال آخرون : إنما كان ذلك آية لمريم وابنها.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله "إني نذرت للرحمن صوما" قال في بعض الحروف : صمتاً، وذلك أنك لا تلقى امرأة جاهلة تقول: نذرت كما نذرت مريم، ألا تكلم يوماً إلى الليل ، وإنما جعل الله تلك آية لمريم ولابنها، ولا يحل لأحد أن ينذر صمت يوم إلى الليل.
حدثنا بشر، قال : ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، فقرأ "إني نذرت للرحمن صوما" وكانت تقرأ في الحرف الأول: صمتاً، وإنما كانت آية بعثها الله لمريم وابنها.
وقال آخرون: بل كانت صائمة في ذلك اليوم ، والصائم في ذلك الزمان كان يصوم عن الطعام والشراب وكلام الناس ، فأذن لمريم في قدر هذا الكلام ذلك اليوم وهي صائمة.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا موسى، قال : ثنا عمرو، قال : ثنا أسباط، عن السدي "فإما ترين من البشر أحدا" يكلمك "فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا" فكان من صام في ذلك الزمان لم يتكلم حتى يمسي ، فقيل لها: لا تزيدي على هذا.
وهو معنى قوله تعالى: " فكلي واشربي وقري عينا " أي فكلي من الجني، واشربي من السري، وقري عيناً برؤية الولد النبي. وقرىء بفتح القاف وهي قراءة الجمهور. وحكى الطبري قراءة " وقري " بكسر القاف وهي لغة نجد. يقال: قر عيناً يقر ويقر بضم القاف وكسرها، وأقر الله عينه فقرت. وهو مأخوذ من القر والقرة وهما البرد. ودمعة السرور باردة، ودمعة الحزن حارة. ضعفت فرقة هذا وقالت: الدمع كله حار، فمعنى أقر الله عينه أي سكن الله عينه بالنظر إلى من يحبه حتى تقر وتسكن، وفلان قرة عيني، أي نفسي تسكن بقربه. وقال الشيباني: " وقري عينا " معناه نامي، حضها على الأكل والشرب والنوم. قال أبو عمرو: أقر الله عينه أي أنام عينه، وأذهب سهره. و " عينا " نصب على التمييز، كقولك: طب نفساً. والفعل في الحقيقة إنما هو للعين فنقل ذلك إلى ذي العين، وينصب الذي كان فاعلاً في الحقيقة على التفسير. ومثله طبت نفساً، وتفقأت شحماً، وتصببت عرقاً، ومثله كثير.
قوله تعالى: " فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما " فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: " فإما ترين " الأصل في ترين ترأيين فحذفت الهمزة كما حذفت من ترى ونقلت فتحتها إلى الراء فصار تريين ، ثم قلبت الياء الأولى ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها، فاجتمع ساكنان الألف المنقلبة عن الياء وياء التأنيث، فحذفت الألف لالتقاء الساكنين، فصار ترين، ثم حذفت النون علامة للجزم لأن إن حرف شرط وما صلة فبقي ترى، ثم دخله نون التوكيد وهي مثقلة، فكسر ياء التأنيث لالتقاء الساكنين، لأن النون المثقلة بمنزلة نوني الأولى ساكنة فصار ترين وعلى هذا النحو قول ابن دريد:
إما تري رأسي حاكى لونه
وقول الأفوه:
إما تري رأسي أزرى به
وإنما دخلت النون هنا بتوطئة " ما " كما يوطىء لدخولها أيضاً لام القسم. وقرأ طلحة وأبو جعفر وشيبة " ترين " بسكون الياء وفتح النون خفيفة، قال أبو الفتح: وهي شاذة.
الثانية: قوله تعالى: " فقولي إني نذرت " هذا جواب الشرط وفيه إضمار، أي فسألك عن ولدك " فقولي إني نذرت للرحمن صوما " أي صمتاً، قاله ابن عباس وأنس بن مالك. وفي قراءة أبي بن كعب إني نذرت للرحمن صوما صمتا . وروي عن أنس. وعنه أيضاً و وصمتا بواو، واختلاف اللفظين يدل على أن الحرف ذكر تفسيراً لا قرآناً، فإذا أتت معه واو فممكن أن يكون غير الصوم. والذي تتابعت به الأخبار عن أهل الحديث ورواة اللغة أن الصوم هو الصمت، لأن الصوم إمساك والصمت إمساك عن الكلام. وقيل: هو الصوم المعروف، وكان يلزمهم الصمت يوم الصوم إلا بالإشارة. وعلى هذا تخرج قراءة أنس وصمتا بواو، وأن الصمت كان عندهم في الصوم ملتزماً بالنذر، كما أن من نذر منا المشي إلى البيت أقتضى ذلك الإحرام بالحج أو العمرة. ومعنى هذه الآية أن الله تعالى أمرها على لسان جبريل عليه السلام - أو ابنها على الخلاف المتقدم - بأن تمسك عن مخاطبة البشر، وتحيل على ابنها في ذلك ليرتفع عنها خجلها، وتتبين الآية فيقوم عذرها. وظاهر الآية أنها أبيح لها أن تقول هذه الألفاظ التي في الآية، وهو قول الجمهور. وقالت فرقة: معنى " قولي " بالإشارة لا بالكلام. الزمخشري : وفيه أن السكوت عن السفيه واجب، ومن أذل الناس سفيه لم يجد مسافهاً.
الثالثة: من التزم بالنذر ألا يكلم أحداً من الآدميين فيحتمل أن يقال إنه قربة فيلزم بالنذر، ويحتمل أن يقال: ذلك لا يجوز في شرعنا لما فيه من التضييق وتعذيب النفس، كنذر القيام في الشمس ونحوه. وعلى هذا كان نذر الصمت في تلك الشريعة لا في شريعتنا، وقد تقدم. وقد أمر ابن مسعود من فعل ذلك بالنطق بالكلام. وهذا هو الصحيح:
لحديث أبي إسرائيل، خرجه البخاري عن ابن عباس. وقال ابن زيد والسدي: كانت سنة الصيام عندهم الإمساك عن الأكل والكلام.
قلت: ومن سنتنا نحن في الصيام الإمساك عن الكلام القبيح، قال عليه الصلاة والسلام:
" إذا كان أحدكم صائماً فلا يرفث ولا يجهل فإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم ". وقال عليه الصلاة والسلام:
" من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ".
قرأ بعضهم: "من تحتها" بمعنى الذي تحتها, وقرأ الاخرون: "من تحتها" على أنه حرف جر, واختلف المفسرون في المراد بذلك من هو ؟ فقال العوفي وغيره عن ابن عباس "فناداها من تحتها" جبريل, ولم يتكلم عيسى حتى أتت به قومها, وكذا قال سعيد بن جبير والضحاك وعمرو بن ميمون والسدي وقتادة : إنه الملك جبرائيل عليه الصلاة والسلام, أي ناداها من أسفل الوادي. وقال مجاهد : "فناداها من تحتها" قال: عيسى بن مريم, وكذا قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: قال الحسن : هو ابنها, وهو إحدى الروايتين عن سعيد بن جبير أنه ابنها, قال: أو لم تسمع الله يقول: "فأشارت إليه" واختاره ابن زيد وابن جرير في تفسيره.
وقوله: " أن لا تحزني " أي ناداها قائلاً لا تحزني "قد جعل ربك تحتك سريا" قال سفيان الثوري وشعبة عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب "قد جعل ربك تحتك سريا" قال: الجدول, وكذا قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : السري النهر, وبه قال عمرو بن ميمون نهر تشرب منه. وقال مجاهد : هو النهر بالسريانية. وقال سعيد بن جبير : السري النهر الصغير بالنبطية. وقال الضحاك : هو النهر الصغير بالسريانية. وقال إبراهيم النخعي : هو النهر الصغير. وقال قتادة : هو الجدول بلغة أهل الحجاز, وقال وهب بن منبه : السري هو ربيع الماء. وقال السدي : هو النهر, واختار هذا القول ابن جرير .
وقد ورد في ذلك حديث مرفوع, فقال الطبراني : حدثنا أبو شعيب الحراني , حدثنا يحيى بن عبد الله البابلي , حدثنا أيوب بن نهيك , سمعت عكرمة مولى ابن عباس يقول, سمعت ابن عمر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن السري الذي قال الله لمريم "قد جعل ربك تحتك سريا" نهر أخرجه الله لتشرب منه" وهذا حديث غريب جداً من هذا الوجه. وأيوب بن نهيك هذا هو الحبلى, قال فيه أبو حاتم الرازي : ضعيف. وقال أبو زرعة : منكر الحديث. وقال أبو الفتح الأزدي : متروك الحديث. وقال آخرون المراد بالسري عيسى عليه السلام, وبه قال الحسن والربيع بن أنس ومحمد بن عباد بن جعفر , وهو إحدى الروايتين عن قتادة , وقول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم والقول الأول أظهر. ولهذا قال بعده: "وهزي إليك بجذع النخلة" أي وخذي إليك بجذع النخلة. قيل: كانت يابسة, قاله ابن عباس . وقيل: مثمرة. قال مجاهد : كانت عجوة. وقال الثوري عن أبي داود نفيع الأعمى: كانت صرفانة, والظاهر أنها كانت شجرة, ولكن لم تكن في إبان ثمرها, قاله وهب بن منبه , ولهذا امتن عليها بذلك بأن جعل عندها طعاماً وشراباً فقال: " تساقط عليك رطبا جنيا * فكلي واشربي وقري عينا " أي طيبي نفساً, ولهذا قال عمرو بن ميمون : ما من شيء خير للنفساء من التمر والرطب, ثم تلا هذه الاية الكريمة.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين , حدثنا شيبان , حدثنا مسرور بن سعيد التميمي , حدثنا عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي عن عروة بن رويم , عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكرموا عمتكم النخلة, فإنها خلقت من الطين الذي خلق منه آدم عليه السلام, وليس من الشجر شيء يلقح غيرها" وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أطعموا نساءكم الولد الرطب, فإن لم يكن رطب فتمر, وليس من الشجر شجرة أكرم على الله من شجرة نزلت تحتها مريم بنت عمران" هذا حديث منكر جداً ورواه أبو يعلى عن شيبان به. وقرأ بعضهم "تساقط" بتشديد السين, وآخرون بتخفيفها. وقرأ أبو نهيك " تساقط عليك رطبا جنيا " وروى أبو إسحاق عن البراء أنه قرأها " تساقط " أي الجذع, والكل متقارب.
وقوله: "فإما ترين من البشر أحداً" أي مهما رأيت من أحد "فقولي إني نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسياً" المراد بهذا القول الإشارة إليه بذلك, لا أن المراد به القول اللفظي لئلا ينافي "فلن أكلم اليوم إنسياً" قال أنس بن مالك في قوله: "إني نذرت للرحمن صوماً" قال: صمتاً, وكذا قال ابن عباس والضحاك , وفي رواية عن أنس : صوماً وصمتاً, وكذا قال قتادة وغيرهما, والمراد أنهم كانوا إذا صاموا في شريعتهم يحرم عليهم الطعام والكلام, نص على ذلك السدي وقتادة وعبد الرحمن بن زيد . وقال أبو إسحاق عن حارثة قال: كنت عند ابن مسعود , فجاء رجلان فسلم أحدهما ولم يسلم الاخر, فقال: ما شأنك ؟ قال أصحابه: حلف أن لا يكلم الناس اليوم, فقال عبد الله بن مسعود : كلم الناس وسلم عليهم, فإن تلك امرأة علمت أن أحداً لا يصدقها أنها حملت من غير زوج, يعني بذلك مريم عليها السلام, ليكون عذراً لها إذا سئلت. رواه ابن أبي حاتم وابن جرير رحمها الله. وقال عبد الرحمن بن زيد : لما قال عيسى لمريم: "لا تحزني" قالت: وكيف لا أحزن وأنت معي, لا ذات زوج ولا مملوكة ؟ أي شيء عذري عند الناس ؟ يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً, قال لها عيسى: أنا أكفيك الكلام "فإما ترين من البشر أحداً فقولي إني نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسياً" قال هذا كله من كلام عيسى لأمه, وكذا قال وهب .
26- "فكلي واشربي" أي من ذلك الرطب وذلك الماء، أو من الرطب وعصيره، وقدم الأكل مع أن ذكر النهر مقدم على الرطب، لأن احتياج النفساء إلى أكل الرطب أشد من احتياجها إلى شرب الماء، ثم قال "وقري عيناً" قرأ الجمهور بفتح القاف. وحكى ابن جرير أنه قرئ بكسرها قال: وهي لغة نجد. والمعنى: طيبي نفساً وارفضي عنك الحزن، وهو مأخوذ من القر والقرة وهما البرد، والمسرور بارد القلب ساكن الجوارح، وقيل المعنى: وقري عيناً برؤية الولد الموهوب لك. وقال الشيباني: معناه نامي. قال أبو عمرو: أقر الله عينه: أي أنام عينه وأذهب سهره "فإما ترين من البشر أحداً" أصله ترءين: مثل تسمعين خففت الهمزة وسقطت النون للجزم وياء الضمير للساكنين بعد لحوق نون التوكيد، ومثل هذا مع عدم لحون نون التوكيد قول ابن دريد:
أما ترى رأسي حاكى لونه طرة صبح تحت أذيال الدجى
وقرأ طلحة وشيبة "ترين" بسكون الياء وفتح النون مخففة. قال أبو الفتح: وهي شاذة، وجواب الشرط "فقولي إني نذرت للرحمن صوماً" أي قولي إن طلب منك الكلام أحد من الناس إني نذرت للرحمن صوماً أي صمتاً، وقيل المراد به الصوم الشرعي، وهو الإمساك عن المفطرات، والأول أولى. وفي قراءة أبي إني نذرت للرحمن صوماً صمتاً بالجمع بين اللفظين، وكذا روي عن أنس. وروي عنه أنه قرأ صوماً وصمتاً بالواو، والذي عليه جمهور المفسرين أن الصوم هنا الصمت، ويدل عليه "فلن أكلم اليوم إنسياً" ومعنى الصوم في اللغة أوسع من المعنيين. قال أبو عبيدة: كل ممسك عن طعام أو كلام أو سير فهو صائم. وقراءة أبي تدل على أن المراد بالصوم هنا الصمت، لأنه تفسير للصوم. وقراءة أنس تدل على أن الصوم هنا غير الصمت كما تفيده الواو، ومعنى "فلن أكلم اليوم إنسياً" أنها لا تكلم أحداً من الإنس بعد إخبارهم بهذا الخبر، بل إنما تكلم الملائكة وتناجي ربها، وقيل إنها لم تخبرهم هنا باللفظ، بل بالإشارة المقيدة للنذر.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً" قال: مكاناً أظلها الشمس أن يراها أحد منهم. وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال: إنما اتخذت النصارى المشرق قبلة، لأن مريم اتخذت من أهلها مكاناً شرقياً، فاتخذوا ميلاده قبلة، وإنما سجدت اليهود على حرف حين نتق فوقهم الجبل، فجعلوا ينحرفون وهم ينظرون إليه، يتخوفون أن يقع عليهم، فسجدوا سجدة رضيها الله، فاتخذوها سنة. وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات وابن عساكر من طريق السدي عن أبي مالك عن ابن عباس. وعن مرة عن ابن مسعود قالا: خرجت مريم بنت عمران إلى جانب المحراب لحيض أصابها، فلما طهرت إذا هي برجل معها "فتمثل لها بشراً" ففزعت و"قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً" فخرجت وعليها جلبابها، فأخذ بكمها فنفخ في جنب درعها، وكان مشقوقاً من قدامها، فدخلت النفخة صدرها فحملت، فأتتها أختها امرأة زكرياء ليلة تزورها، فلما فتحت لها الباب التزمتها، فقال امرأة زكرياء: يا مريم أشعرت أني حبلى، قالت مريم: أشعرت أني حبلى، فقالت امرأة زكرياء: فإني وجدت ما في بطني سجد للذي في بطنك، فذلك قوله تعالى: "مصدقاً بكلمة من الله" فولدت امرأة زكرياء يحيى، ولما بلغ أن تضع مريم خرجت إلى جانب المحراب "فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا" الآية "فناداها" جبريل " من تحتها أن لا تحزني " فلما ولدته ذهب الشيطان، فأخبر بني إسرائيل أن مريم ولدت، فلما أرادوها على الكلام أشارت إلى عيسى فتكلم فـ "قال إني عبد الله آتاني الكتاب" الآيات، ولما ولد لم يبق في الأرض صنم إلا خر لوجهه. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في مريم قال: حين حملت وضعت. وأخرج ابن عساكر عنه قال: وضعت لثمانية أشهر. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "فأرسلنا إليها روحنا" قال: جبريل وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن سعيد بن جبير نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء نحوه أيضاً. وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات وابن عساكر عن أبي بن كعب في الآية قال: تمثل لها روح عيسى في صورة بشر فحملته، قال حملت الذي خاطبها دخل في فيها. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "مكاناً قصياً" قال: نائياً. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله: "إلى جذع النخلة" قال: كان جذعاً يابساً. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه أيضاً في قوله: "وكنت نسياً منسياً" قال: لم أخلق ولم أك شيئاً. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة "وكنت نسياً منسياً" قال: حيضة ملقاة. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد نحوه. وأخرج عبد بن حميد عن نوف البكالي والضحاك مثله. وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة في قوله: "فناداها من تحتها" قال: الذي ناداها جبريل. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: الذي ناداها من تحتها جبريل، ولم يتكلم عيسى حتى أتت به قومها. وقد اختلفت الروايات عن السلف، هل هذا المنادي هو جبريل أو عيسى. وأخرج عبد بن حميد عن أبي بكر بن عياش قال: قرأ عاصم بن أبي النجود "فناداها من تحتها" بالنصب، قال: وقال عاصم من قرأ بالنصب فهو عيسى، ومن قرأ بالخفض فهو جبريل. وأخرج الطبراني وابن مردويه وابن النجار عن ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن السري الذي قال الله لمريم "قد جعل ربك تحتك سرياً" نهر أخرجه الله لها لتشرب منه". وفي إسناده أيوب بن نهيك الجبلي قال فيه أبو حاتم الرازي: ضعيف، وقال أبو زرعة: منكر الحديث، وقال أبو فتح الأزدي: متروك الحديث، وقال الطبراني بعد إخراج هذا الحديث: إنه غريب جداً. وأخرج الطبراني في الصغير وابن مردويه عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله "قد جعل ربك تحتك سرياً" قال: النهر. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وصححه والحاكم وابن مردويه عن البراء قال في الآية: هو الجدول، وهو النهر الصغير، فظهر بهذا أن الموقوف أصح. وقد روي عن جماعة من التابعين أن السري هو عيسى، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "رطباً جنياً" قال: طرياً. وأخرج ابن المنذر وابن مردويه في قوله: "إني نذرت للرحمن صوماً" قال: صمتاً. وأخرج عبد بن حميد وابن الأنباري عنه أنه قرأ صوماً صمتاً.
26 - قوله سبحانه وتعالى: " فكلي واشربي " ، أي : فكلي يا مريم من الرطب ،واشربي من ماء النهر ،" وقري عيناً " ، أي : طيبي نفساً . وقيل : قري عينك بولدك عيسى .يقال : أقر الله عينك أي : صادف فؤادك ما يرضيك ، فتقر عينك من النظر إلى غيره .وقيل : أقر الله عينه : يعني أنامها ، يقال: قر يقر إذا سكن .
وقيل : إن العين إذا بكت من السرور فالدمع بارد ،وإذا بكت من الحزن فالدمع يكون حراً ، فمن هذا قيل :أقر الله عينه وأسخن الله عينه .
" فإما ترين من البشر أحداً " ، أي : تري ، فدخل عليه نون التأكيد من الحزن فالدمع يكون حاراً ، فمن هذا قيل :أقر الله عينه وأسخن الله عينه .
" فإما ترين من البشر أحداً " ، أي : تري ، فدخل عليه نون التأكيد فكسرت الياء لالتقاء الساكنين .
معناه : فإما ترين من البشر أحداً فيسألك عن ولدك " فقولي إني نذرت للرحمن صوماً " ، أي: صمتاً ، وكذلك كان يقرأ ابن مسعود رضي الله عنه .
والصوم في اللغة الإمساك عن الطعام والشراب والكلام .
قال السدي : كان في بني إسرائيل من أراد أن يجتهد صام عن الكلام ، كما يصوم عن الطعام ، فلا يتكلم حتى يمسي .
وقيل : إن الله تعالى أمرها أن تقول هذا إشارةً .
وقيل : أمرها أن تقول هذا القدر نطقاً ، ثم تمسك عن الكلام بعده .
" فلن أكلم اليوم إنسياً " ، يقال: كانت تكلم الملائكة ، ولا تكلم الإنس .
26ـ "فكلي واشربي" أي من الرطب وماء السرى أو من الرطب وعصيره. "وقري عيناً" وطيبي نفسك وارفضي عنها ما أحزنك، وقرئ ((وقري)) بالكسر وهو لغة نجد، واشتقاقه من القرار فإن العين إذا رأت ما يسر النقس سكنت إليه من النظر إلى غيره، أو من القرفان دمعة السرور باردة ودمعة الحزن حارة ولذلك يقال قرة العين للمحبوب وسخنتها للمكروه. "فإما ترين من البشر أحداً" فإن تري آدمياً، وقرئ ((ترئن)) على لغة من يقول لبأت بالحج لتآخ بين الهمزة وحرف اللين. "فقولي إني نذرت للرحمن صوماً" صمتاً وقد قرئ به ، أو صياماً وكانوا لا يتكلمون في صيامهم. " فلن أكلم اليوم إنسيا " بعد أن أخبرتكم بنذري وإنما أكلم الملائكة وأناجي ربي. وقيل أخبرتهم بنذرها بالإشارة وأمرها بذلك لكراهة المجادلة والاكتفاء بكلام عيسى عليه الصلاة والسلام فإنه قاطع في قطع الطاعن.
26. So eat and drink and be consoled. And if thou meetest any mortal, say: Lo! I have vowed a fast unto the Beneficent, and may not speak this day to any mortal.
26 - So eat and drink And cool (thine) eye. And if thou dost see Any man, say, I have Vowed a fast to (God) Most Gracious, and this day Will I enter into no talk With any human being