[مريم : 16] وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا
16 - (واذكر في الكتاب) القرآن (مريم) أي خبرها (إذ) حين (انتبذت من أهلها مكانا شرقيا) أي اعتزلت تفي مكان نحو الشرق من الدار
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : واذكر يا محمد في كتاب الله الذي أنزله عليك بالحق مريم ابنة عمران ، حين اعتزلت من أهلها، وانفردت عنهم . وهو افتعل من النبذ، والنبذ : الطرح ، وقد بينا ذلك بشواهده فيما مضى قبل .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر، قال : ثنا يزيد، قال : ثنا سعيد، عن قتادة، في قوله "واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت" أي انفردت من أهلها.
حدثني سليمان بن عبد الجبار، قال : ثنا محمد بن الصلت، قال : ثنا أبو كدينة، عن قابوس، عن أبيه ، عن ابن عباس "إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا" قال : خرجت مكاناً شرقياً.
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو، قال : ثنا أسباط ، عن السدي ، قال : خرجت مريم إلى جانب المحراب لحيض أصابها، وهو قوله : فانتبذت من أهلها مكاناً شرقياً : في شرقي المحراب .
وقوله "مكانا شرقيا" يقول : فتنحت واعتزلت من أهلها في موضع قبل مشرق الشمس دون مغربها .
كما حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله "مكانا شرقيا" قال : من قبل المشرق.
حدثني إسحاق بن شاهين ، قال : ثنا خالد بن عبد الله ، عن داود، عن عامر، عن ابن عباس ، قال : إني لأعلم خلق الله لأي شيء اتخذت النصارى المشرق قبلة؟ لقول الله : فانتبذت من أهلها مكاناً شرقياً، فاتخذوا ميلاد عيسى قبلة.
حدثنا ابن المثنى، قال : ثني عبد الأعلى، قال : ثنا داود، عن عامر، عن ابن عباس، مثله .
حدثني سليمان بن عبد الجبار، قال : أخبرنا محمد بن الصلت ، قال : ثنا أبوكدينة، عن قابوس، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : إن أهل الكتاب كتب لهم الصلاة إلى البيت ، والحج لله ، وما صرفهم عنهما إلا قيل ربك "انتبذت من أهلها مكانا شرقيا" فصلوا قبل مطلع الشمس.
حدثنا بشر، قال : ثنا يزيد، قال : ثنا سعيد، عن قتادة "إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا" قال : شاسعاً متنحياً، وقيل : إنها إنما صارت بمكان يلي مشرق الشمس ، لأن ما يلي المشرق عندهم كان خيراً مما يلي المغرب، وكذلك ذلك فيما ذكر عند العرب.
قوله تعالى: " واذكر في الكتاب مريم " القصة إلى آخرها. هذا ابتداء قصة ليست من الأولى. والخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم، أي عرفهم قصتها ليعرفوا كمال قدرتنا. " إذ انتبذت " أي تنحت وتباعدت. والنبذ الطرح والرمي، قال الله تعالى: " فنبذوه وراء ظهورهم " [آل عمران: 187]. " من أهلها " أي ممن كان معها. و " إذ " بدل من " مريم " بدل اشتمال، لأن الأحيان مشتملة على ما فيها. والانتباد الاعتزال والانفراد. واختلف الناس لم انتبذت، فقال السدي : انتبذت لتطهر من حيض أو نفاس. وقال غيره: لتعبد الله، وهذا حسن. وذلك أن مريم عليها السلام كانت وقفاً على سدانة المعبد وخدمته والعبادة فيه، فتنحت من الناس لذلك، ودخلت في المسجد إلى جانب المحراب في شرقيه لتخلو للعبادة، فدخل عليها جبريل عليه السلام. فقوله: " مكانا شرقيا " أي مكاناً من جانب الشرق. والشرق بسكون الراء المكان الذي تشرق فيه الشمس. والشرق بفتح الراء الشمس. وإنما خص المكان بالشرق لأنهم كانوا يعظمون جهة المشرق ومن حيث تطلع الأنوار، وكانت الجهات الشرقية من كل شيء أفضل من سواها، حكاه الطبري . وحكى عن ابن عباس أنه قال: إني لأعلم الناس لم اتخذ النصارى المشرق قبلة، لقول الله عز وجل: " إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا " فاتخذوا ميلاد عيسى عليه السلام قبلة، وقالوا: لو كان شيء من الأرض خيراً من المشرق لوضعت مريم عيسى عليه السلام فيه. واختلف الناس في نبوة مريم، فقيل، كانت نبية بهذا الإرسال والمحاورة للملك. وقيل: لم تكن نبية وإنما كلمها مثال بشر، ورؤيتها للملك ما رؤي جبريل في صفة دحية حين سؤاله عن الإيمان والإسلام. والأول أظهر. وقد مضى الكلام في هذا المعنى مستوفى في ((آل عمران)) والحمد لله.
لما ذكر تعالى قصة زكريا عليه السلام, وأنه أوجد منه في حال كبره وعقم زوجته ولداً زكياً طاهراً مباركاً, عطف بذكر قصة مريم في إيجاده ولدها عيسى عليهما السلام منها من غير أب, فإن بين القصتين مناسبة ومشابهة, ولهذا ذكرهما في آل عمران وههنا, وفي سورة الأنبياء يقرن بين القصتين لتقارب ما بينهما في المعنى, ليدل عباده على قدرته وعظمة سلطانه, وأنه على ما يشاء قادر, فقال "واذكر في الكتاب مريم" وهي مريم بنت عمران من سلالة داود عليه السلام. وكانت من بيت طاهر طيب في بني إسرائيل, وقد ذكر الله تعالى قصة ولادة أمها لها في سورة آل عمران, وأنها نذرتها محررة, أي تخدم مسجد بيت المقدس, وكانوا يتقربون بذلك "فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتاً حسناً" ونشأت في بني إسرائيل نشأة عظيمة, فكانت إحدى العابدات الناسكات المشهورات بالعبادة العظيمة والتبتل والدؤوب, وكانت في كفالة زوج أختها زكريا نبي بني إسرائيل إذ ذاك, وعظيمهم الذي يرجعون إليه في دينهم, ورأى لها زكريا من الكرامات الهائلة ما بهره "كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب" فذكر أنه كان يجد عندها ثمر الشتاء في الصيف, وثمر الصيف في الشتاء, كما تقدم بيانه في سورة آل عمران, فلما أراد الله تعالى وله الحكمة والحجة البالغة, أن يوجد منها عبده ورسوله عيسى عليه السلام أحد الرسل أولي العزم الخمسة العظام "انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً" أي اعتزلتهم وتنحت عنهم, وذهبت إلى شرق المسجد المقدس. وقال السدي لحيض أصابها, وقيل لغير ذلك.
قال أبو كدينة عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس قال: إن أهل الكتاب كتب عليهم الصلاة إلى البيت والحج إليه, وما صرفهم عنه إلا قيل ربك: " انتبذت من أهلها مكانا شرقيا " قال: خرجت مريم مكاناً شرقياً, فصلوا قبل مطلع الشمس, رواه ابن أبي حاتم وابن جرير . وقال ابن جرير أيضاً: حدثنا إسحاق بن شاهين , حدثنا خالد بن عبد الله عن داود عن عامر , عن ابن عباس قال: إني لأعلم خلق الله لأي شيء اتخذت النصارى المشرق قبلة لقول الله تعالى: " انتبذت من أهلها مكانا شرقيا " واتخذوا ميلاد عيسى قبلة. وقال قتادة "مكاناً شرقياً" شاسعاً منتحياً, وقال محمد بن إسحاق : ذهبت بقلتها لتستقي الماء. وقال نوف البكالي : اتخذت لها منزلاً تتعبد فيه, فالله أعلم.
وقوله: "فاتخذت من دونهم حجاباً" أي استترت منهم وتوارت, فأرسل الله تعالى إليها جبريل عليه السلام "فتمثل لها بشراً سوياً" أي على صورة إنسان تام كامل. قال مجاهد والضحاك وقتادة وابن جريج ووهب بن منبه والسدي في قوله: "فأرسلنا إليها روحنا" يعني جبرائيل عليه السلام, وهذا الذي قالوه هو ظاهر القرآن, فإنه تعالى قد قال في الاية الأخرى: " نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين " وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب قال: إن روح عيسى عليه السلام من جملة الأرواح التي أخذ عليها العهد في زمان آدم عليه السلام, وهو الذي تمثل لها بشراً سوياً, أي روح عيسى, فحملت الذي خاطبها, وحل في فيها, وهذا في غاية الغرابة والنكارة وكأنه إسرائيلي "قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً" أي لما تبدى لها الملك في صورة بشر وهي في مكان منفرد وبينها وبين قومها حجاب, خافته وظنت أنه يريدها على نفسها, فقالت: "إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً" أي إن كنت تخاف الله تذكيراً له بالله وهذا هو المشروع في الدفع أن يكون بالأسهل فالأسهل, فخوفته أولاً بالله عز وجل.
قال ابن جرير : حدثني أبو كريب , حدثنا أبو بكر عن عاصم قال: قال أبو وائل وذكر قصة مريم, فقال: قد علمت أن التقي ذو نهية حين قالت: "إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً * قال إنما أنا رسول ربك" أي فقال لها الملك مجيباً لها ومزيلاً لما حصل عندها من الخوف على نفسها لست مما تظنين ولكني رسول ربك أي بعثني الله إليك, ويقال إنها لما ذكرت الرحمن انتفض جبريل فرقاً وعاد إلى هيئته وقال " إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا " هكذا قرأ أبو عمرو بن العلاء أحد مشهوري القراء, وقرأ الاخرون "لأهب لك غلاماً زكياً" وكلا القرائتين له وجه حسن ومعنى صحيح, وكل تستلزم الأخرى "قالت أنى يكون لي غلام" أي فتعجبت مريم من هذا وقالت: كيف يكون لي غلام ؟ أي على أي صفة يوجد هذا الغلام مني, ولست بذات زوج, ولا يتصور مني الفجور, ولهذا قالت: "ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا" والبغي هي الزانية, ولهذا جاء في الحديث نهي عن مهر البغي "قال كذلك قال ربك هو علي هين" أي فقال لها الملك مجيباً لها عما سألت: إن الله قد قال إنه سيوجد منك غلاماً وإن لم يكن لك بعل, ولا توجد منك فاحشة, فإنه على ما يشاء قادر, ولهذا قال: "ولنجعله آية للناس" أي دلالة وعلامة للناس على قدرة بارئهم وخالقهم الذي نوع في خلقهم, فخلق أباهم آدم من غير ذكر ولا أنثى وخلق حواء من ذكر بلا أنثى, وخلق بقية الذرية من ذكر وأنثى إلا عيسى, فإنه أوجده من أنثى بلا ذكر, فتمت القسمة الرباعية الدالة على كمال قدرته وعظيم سلطانه فلا إله غيره ولا رب سواه.
وقوله: "ورحمة منا" أي ونجعل هذا الغلام رحمة من الله ونبياً من الأنبياء, يدعو إلى عبادة الله تعالى وتوحيده, كما قال تعالى في الاية الأخرى: " إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين * ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين " أي يدعو إلى عبادة ربه في مهده وكهولته, قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي , حدثنا عبد الرحيم بن إبراهيم , حدثنا مروان , حدثنا العلاء بن الحارث الكوفي عن مجاهد : قال: قالت مريم عليها السلام: كنت إذا خلوت حدثني عيسى وكلمني وهو في بطني, وإذا كنت مع الناس سبح في بطني وكبر.
وقوله: "وكان أمراً مقضياً" يحتمل أن هذا من تمام كلام جبريل لمريم, يخبرها أن هذا أمر مقدر في علم الله تعالى وقدرته ومشيئته, ويحتمل أن يكون من خبر الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم وأنه كنى بهذا عن النفخ في فرجها, كما قال تعالى: "ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا" وقال: "والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا" قال محمد بن إسحاق : "وكان أمراً مقضياً" أي إن الله قد عزم على هذا فليس منه بد, واختار هذا أيضاً ابن جرير في تفسيره ولم يحك غيره, والله أعلم.
قوله 16- "واذكر في الكتاب مريم" هذا شروع في ابتداء خلق عيسى، والمراد بالكتاب هذه السورة: أي اذكر يا محمد للناس في هذه السورة قصة مريم، ويجوز أن يراد بالكتاب جنس القرآن، وهذه السورة منه، ولما كان الذكر لا يتعلق بالأعيان احتيج إلى تقدير مضاف يتعلق به الذكر، وهو قصة مريم، أو خبر مريم "إذ انتبذت" العامل في الظرف هو ذلك المضاف المقدر، ويجوز أن يجعل بدل اشتمال من مريم، لأن الأزمان مشتملة على ما فيها، ويكون المراد بمريم خبرها، وفي هذا الإبدال دلالة على تفخيم شأن الوقت لوقوع قصتها العجيبة فيه، والنبذ الطرح والرمي. قال الله سبحانه: "فنبذوه وراء ظهورهم" والمعنى: أنها تنحت وتباعدت. وقال ابن قتيبة: اعتزلت، وقيل انفردت، والمعاني متقاربة. واختلفوا في سبب انتباذها، فقيل لأجل أن تعبد الله سبحانه، وقيل لتطهر من حيضها، و"من أهلها" متعلق بانتبذت، وانتصاب "مكاناً شرقياً" على المفعولية للفعل المذكور: أي مكاناً من جانب الشرق، والشرق بسكون الراء: المكان الذي تشرق فيه الشمس، وإنما خص المكان بالشرق لأنهم كانوا يعظمون جهة الشرق لأنها مطلع الأنوار، حكى معناه ابن جرير.
وقد اختلف الناس في نبوة مريم، فقيل إنها نبية بمجرد هذا الإرسال إليها ومخاطبتها للملك، وقيل لم تكن نبية، لأنه إنما كلمها الملك وهو على مثال البشر، وقد تقدم الكلام في هذه في آل عمران.
16 - قوله عز وجل :" واذكر في الكتاب " ،في القرآن ، " مريم إذ انتبذت " ، تنحت واعتزلت ، " من أهلها " ، من قومها ، " مكاناً شرقياً " ، أي : مكاناً في الدار مما يلي المشرق ، وكان يوماً شاتياً شديد البرد ، فجلست في مشرقة تفلي رأسها .
وقيل : كانت طهرت من المحيض ، فذهبت لتغتسل .
قال الحسن : ومن ثم اتخذت النصارى المشرق قبلةً .
16ـ "واذكر في الكتاب" في القرآن . " مريم " يعني قصتها. " إذ انتبذت " اعتزلت ، بدل من "مريم" بدل الاشتمال لأن الأحيان مشتملة على ما فيها، أو بدل الكل لأن المراد ب " مريم " قصتها وبالظرف الأمر الواقع فيه وهما واحد ، أو ظرف لمضاف مقدر وقيل " إذ " بمعنى أن المصدرية كقولك: أكرمتك إذ لم تكرمني فتكون بدلاً لا محالة. " من أهلها مكاناً شرقياً " شرقي بيت المقدس ، أو شرقي دارها، ولذلك اتخذ النصارى المشرق قبلة ومكاناً ظرف أو مفعول لأن " انتبذت " متضمن معنى أتت.
16. And make mention of Mary in the Scripture, when she had withdrawn from her people to a chamber looking East,
16 - relate in the Book (The story of) Mary, when she withdrew from her family To a place in the east.