[الكهف : 19] وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا
وكذلك) كما فعلنا بهم ما ذكرنا (بعثناهم) أيقظناهم (ليتساءلوا بينهم) عن حالهم ومدة لبثهم (قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم) لأنهم دخلوا الكهف عند طلوع الشمس وبعثوا عند غروبها فظنوا أنه غروب يوم الدخول ثم (قالوا) متوقفين في ذلك (ربكم أعلم بما لبثتم فابعثوا أحدكم بورقكم) بسكون الراء وكسرها بفضتكم (هذه إلى المدينة) يقال إنها المسماة الآن طرطوس بفتح الراء (فلينظر أيها أزكى طعاما) أي أطعمة المدينة أحل (فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا)
يقول تعالى ذكره : كما أرقدنا هؤلاء الفتية في الكهف ، فحفظناهم من وصول واصل إليهم ، وعين ناظر أن ينظر إليهم ، وحفظنا أجسامهم من البلاء على طول الزمان ، وثيابهم من العفن على مر الأيام بقدرتنا، فكذلك بعثناهم من رقدتهم ، وأيقظناهم من نومهم ، لنعرفهم عظيم سلطاننا، وعجيب فعلنا في خلقنا، وليزدادوا بصيرة في أمرهم الذي هم عليه من براءتهم من عبادة الآلهة، وإخلاصهم لعبادة الله وحده لا شريك له ، إذا تبينوا طول الزمان عليهم ، وهم بهيئتهم حين رقدوا . وقوله " ليتساءلوا بينهم" يقول : ليسال بعضهم بعضا " قال قائل منهم كم لبثتم " يقول عزذكره : فتساءلوا فقال قائل منهم لأصحايه " كم لبثتم " وذلك أنهم استنكروا من أنفسهم طول رقدتهم " قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم " يقول : فأجابه الآخرون فقالوا : لبثنا يوما أو بعض يوم ، ظنا منهم أن ذلك كذلك كان ، فقال الاخرون : " ربكم أعلم بما لبثتم" فسلموا العلم إلى الله .
وقوله " فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة" يعني مدينتهم التي خرجوا منها هرابا التي . تسمى أفسوس " فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه " ذكر أنهم هبوا من رقدتهم جياعا، فلذلك طلبوا الطعام .
ذكر من قال ذلك ، وذكر السبب الذي من أجله ذكر أنهم بعثوا من رقدتهم حين بعثوا منها :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، قال : أخبرني إسماعيل بن بشروس ، أنه سمع وهب بن منبه يقول : إنهم غبروا، يعني الفتية من أصحاب الكهف بعد ما بني عليهم باب الكهف زمانا بعد زمان ، ثم إن راعيا أدركه المطر عند الكهف ، فقال : لو فتحت هذا الكهف وأدخلت غنمي من المطر، فلم يزل يعالجه حتى فتح ما أدخله فيه ، ورد إليهم أرواحهم في أجسامهم من الغد حين أصبحوا، فبعثوا أحدهم بورق يشتري طعاما، فلما أتى باب مدينتهم ، رأى شيئا ينكره ، حتى دخل على رجل فقال : بعني بهذه الدراهم طعاما، فقال : ومن أين لك هذه الدراهم ؟ قال : خرجت أنا وأصحاب لي أمس ، فآوانا الليل ، ثم أصبحوا ، فارسلوني ، فقال : هذه الدراهم كانت على عهد ملك فلان ، فانى لك بها؟ فرفعه إلى الملك ، وكان ملكا صالحا، فقال : من أين لك هذه الورق ؟ قال : خرجت أنا وأصحاب لي أمسي ، حتى أدركنا الليل في كهف كذا وكذا، ثم أمروني أن اشتري لهم طعاما، قال : وأين أصحابك لم ؟ قال : في الكهف. قال : فانطلقوا معه حتى أتوا باب الكهف ، فقال : دعوني أدخل على أصحابي قبلكم ، فلما رأوه ، ودنا منهم ضرب على أذنه واذانهم ، فجعلوا كلما دخل رجل أرعب ، فلم يقدروا على أن يدخلوا عليهم ، فبنوا عندهم كنيسة ، اتخذوها مسجدا يصلون فيه .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، عن عكرمة ، قال : كان أصحاب الكهف أبناء ملوك الروم ، رزقهم الله الإسلام ، فتعوذوا بدينهم ، واعتزلوا قومهم حتى انتهوا إلى الكهف ، فضرب الله على سمعهم ، فلبثوا دهرا طويلا، حتى هلكت أمتهم ، وجاءت أمة مسلمة، وكان ملكهم مسلما، فاختلفوا في الروح والجسد، فقال قائل : يبعث الروح والجسد جميعا، وقال قائل : يبعث الروح ، فاما الجسد فتاكله الأرض ، فلا يكون شيئا، فشق على ملكهم اختلافهم ، انطلق فلبس المسوح ، وجلس على الرماد، ثم دعا الله تعالى فقال : أي رب ، قد ترى اختلاف هؤلاء فابعث لهم آية تبين لهم فبعث الله أصحاب الكهف ، فبعثوا أحدهم يشتري لهم طعاما، فدخل السوق ، فجعل ينكر الوجوه ، ويعرف الطرق ، ويرى الإيمان بالمدينة ظاهرا ، فانطلق وهو مستخف حتى أتى رجلا يشتري منه طعاما، فلما نظر الرجل إلى الورق أنكرها، قال : حسبت أنه قال : كانها أخفاف الربع ، يعني الإبل الصغار، فقال له الفتى : أليس ملككم فلانا؟ قال : بل ملكنا فلان ، فلم يزل ذلك بينهما حتى رفعه إلى الملك ، فساله ، فأخبره الفتى خبر أصحابه ، فبعث الملك في الناس ، فجمعهم ، فقال : إنكم قد اختلفتم في الروح والجسد، وإن الله قد بعث لكم آية، فهذا رجل من قوم فلان ، يعني ملكهم الذي مضى . فقال الفتى : انطلقوا بي إلى أصحابي ، فركب الملك ، وركب معه الناس حتى انتهوا إلى الكهف ، فقال الفتى دعوني أدخل إلى أصحابي ، فلما أبصرهم ضرب على أذنه وعلى آذانهم ، فلما استبطئوه دخل الملك ، ودخل الناس معه ، فإذا أجساد لا ينكرون منها شيئا، غير أنها لا أرواح فيها، فقال الملك : هذه اية بعثها الله لكم. قال قتادة : وعن ابن عباس ، كان قد غزا مع حبيب بن مسلمة، فمروا بالكهف ، فإذا فيه عظام ، فقال رجل : هذه عظام أصحاب الكهف ، فقال ابن عباس : لقد ذهبت عظامهم منذ أكثرمن ثلاث مئة سنة.
حدثنا ابن حميد ، : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق فيما ذكر من حديث أصحاب الكهف ، قال : ثم ملك أهل تلك البلاد رجل صالح يقال له تيذوسيس ، فلما ملك بقي ملكه ثمانيا وستين سنة، فتحزب الناس في ملكه ، فكانوا أحزابا، فمنهم من يؤمن بالله ، ويعلم أن الساعة حق ، ومنهم من يكذب ، فكبر ذلك على الملك الصالح تيذوسيس ، وبكى إلى الله وتضرع إليه ، وحزن حزنا شديدا لما رأى أهل الباطل يزيدون ويظهرون على أهل الحق ويقولون : لا حياة إلا الحياة الدنيا، وإنما تبعث النفوس ، ولا تبعث الأجساد، ونسوا ما في الكتاب ، فجعل تيذوسيس يرسل إلى من يظن فيه خيرا، وأنهم أئمة في الحق ، فجعلوا يكذبون بالساعة، حتى كادوا أن يحولوا الناس عن الحق وملة الحواريين ، فلما رأى ذلك الملك الصالح تيذوسيس ، دخل بيته فاغلقه عليه ، ، ولبس مسحا وجعل تحته رمادا، ثم جلس عليه ، فدأب ذلك ليله ونهاره زمانا يتضرع إلى الله ، ويبكي إليه مما يرى فيه الناس ، ثم إن الرحمن الرحيم الذي يكره هلكة العباد، أراد أن يظهر على الفتية أصحاب الكهف ، ويبين للناس شأنهم ، ويجعلهم آية لهم ، وحجة عليهم ، ليعلموا أن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن يستجيب لعبده الصالح تيذوسيس ، ويتم نعمته عليه ، فلا ينزع منه ملكه ، ولا الإيمان الذي أعطاه ، وأن يعبد الله لا يشرك به شيئا، وأن يجمع من كان تبدد من المؤمنين ، فالقى الله في نفس رجل من أهل ذلك البلد الذي به الكهف ، وكان الجبل بنجلوس الذي فيه الكهف لذلك الرجل ، وكان اسم ذلك الرجل أولياس ، أن يهدم البنيان الذي على فم الكهف ، فيبني به حظيرة لغنمه ، فاستاجر عاملين ، فجعلا ينزعان تلك الحجارة، ويبنيان بها تلك الحظيرة، حتى نزعا ما على فم الكهف ، حتى فتحا عنهم باب الكهف ، وحجبهم الله من الناس بالرعب ، فيزعمون أن أشجع من يريد أن ينظر إليهم غاية ما يمكنه أن يدخل من باب الكهف ، ثم يتقدم حتى يرى كلبهم دونهم إلى باب الكهف نائما، فلما نزعا الحجارة، وفتحا عليهم باب الكهف ، أذن الله ذو القدرة والعظمة والسلطان محيي الموتى للفتية أن يجلسوا بين ظهري الكهف ، فجلسوا فرحين مسفرة وجوههم طيبة أنفسهم ، فسلم بعضهم على بعض ، حتى كانما استيقظوا من ساعتهم التي كانوا يستيقظون لها إذا أصبحوا من ليلتهم التي يبيتون فيها، ثم قاموا إلى الصلاة فصلوا، كالذي كانوا يفعلون ، لا يرون ، ولا يرى في وجوههم ، ولا أبشارهم ، ولا ألوانهم شيء ينكرونه كهيئتهم حين رقدوا بعشي أمس ، وهم يرون أن ملكهم دقينوس الجبار في طلبهم والتماسهم فلما قضوا صلاتهم كما كانوا يفعلون ، قالوا ليمليخا، وكان هو صاحب نفقتهم ، الذي كان يبتاع لهم طعامهم وشربهم من المدينة، وجاءهم بالخبر أن دقينوس يلتمسهم ، ويسال عنهم : ،أنبئنا يا أخي ما الذي قال الناس في شاننا عشي أمس عند هذا الجبار؟ وهم يظنون أنهم رقدوا كبعض ما كانوا يرقدون ، وقد خيل إليهم أنهم قد ناموا كاطول ما كانوا ينامون في الليلة التي أصبحوا فيها، حتى تساءلوا بينهم ، فقال بعضهم لبعض " كم لبثتم " نياما؟ " قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم " وكل ذلك في أنفسهم يسير، فقال لهم يمليخا: افتقدتم والتمستم بالمدينة، وهو يريد أن يؤتى بكم اليوم ، فتذبحون للطواغيت ، أو يقتلكم ، فما شاء الله بعد ذلك ، فقال لهم مكسلمينا : يا إخوتاه اعلموا أنكم ملاقون ، فلا تكفروا بعد إيمانكم إذا دعاكم عدو الله ، ولا تنكروا الحياة التي لا تبيد بعد إيمانكم بالله ، والحياة من بعد الموت ، ثم قالوا ليمليخا : انطلق إلى المدينة فتسمع ما يقال لنا بها اليوم ، وما الدي نذكر به عند دقينوس ، وتلطف ، ولا يشعرن بنا أحد، وابتع لنا طعاما فاتنا به ، فإنه قد ان لك ، وزدنا على الطعام الذي قد جئتنا به ، فإنه قد كان قليلا، فقد أصبحنا جياعا، ففعل يمليخا كما كان يفعل ، ووضع ثيابه ، وأخذ الثياب التي كان يتنكر فيها، وأخذ ورقا من نفقتهم التي كات معهم ، التي ضربت بطايع دقينوس الملك ، فانطلق يمليخا خارجا، فلما مر بباب الكهف ، رأى الحجارة منزوعة عن باب الكهف ، فعجب منها، ثم مر فلم يبال بها، حتى أتى المدينة مستخفيا يصد عن الطريق تخوفا أن يراه أحد من أهلها، فيعرفه ، فيذهب به إلى دقينوس ، ولا يشعر العبد الصالح أن دقينوس وأهل زمانه قد هلكوا قبل ذلك بثلاث مئة وتسع سنين ، أوما شاء الله من ذلك ، اذ كان ما بين أن ناموا إلى أن استيقظوا ثلاث مئة وتسع سنين ، فلما رأى يمليخا باب المدينة رفع بصره ، فرأى فوق ظهر الباب علامة تكون لأهل الإيمان ، إذا كان ظاهرا فيها، فلما راها عجب وجعل ينظر مستخفيا إليها فنظر يمينا وشمالا، فتعجب بينه وبين نفسه ، ثم ترك ذلك الباب ، فتحول إلى باب آخر من أبوابها، فنظر فرأى من ذلك ما يحيط بالمدينة كلها، ورأى على كل باب مثل ذلك ، فجعل يخيل إليه أن المدينة ليست بالمدينة التي كان يعرف ، ورأى ناسا كثيرين محدثين لم يكن يراهم قبل ذلك ، فجعل يمشي ويعجب ويخيل إليه أنه حيران ثم رجع إلى الباب الذي أتى منه ، فجعل يعجب بينه وبين نفسه ويقول : يا ليت شعري ، أما هذه عشية أمس ، فكان المسلمون يخفون هذه العلامة ويستخفون بها، وأما اليوم فإنها ظاهرة لعلي حالم ! ثم يرى أنه ليس بنائم ، فأخذه كساءه فجعله على رأسه ، ثم دخل المدينة، فجعل يمشى بين ظهري سوقها، فيسمع أناسا كثيرا يحلفون باسم عيسى ابن مريم ، فزاده فرقا، ورأى أنه حيران ، فقام مسندا ظهره إلى جدار من جدر المدينة ويقول في نفسه : والله ما أدري ما هذا! أما عشية أمس فليس على الأرض إنسان يذكر عيسى ابن مريم إلا قتل ، وأما الغداة فأسمعهم ، وكل إنسان يذكر أمر عيسى لا يخاف ، ثم قال في نفسه : لعل هذه ليست بالمدينة التي أعرف أسمع كلام أهلها ولا أعرف أحدا منهم ، والله ما أعلم مدينة قرب مدينتنا، فقام كالحيران لا يتوجه وجها، ثم لقي فتى من أهل المدينة، فقال له : ما اسم هذه المدينة يا فتى؟ قال : اسمها أفسوس ، فقال في نفسه : لعل بي مسا، أو بي أمر أذهب عقلي ، والله يحق لي أن أسرع الخروج منها قبل أن أخزى فيها أو يصيبني شر فأهلك ؟ هذا الذي يحدث به يمليخا ، أصحابه حين تبين لهم ما به ثم إنه أفاق فقال : والله لو عجلت الخروج من المدينة قبل أن يفطن بي لكان أكيس لي ، فدنا من الذين يبيعون الطعام ، فأخرج الورق التي كانت معه ، فأعطاها رجلا منهم ، فقال : بعني بهذه الورق يا عبد الله طعاما، فاخذها الرجل ، فنظر إلى ضرب الورق ونقشها، فعجب منها، ثم طرحها إلى رجل من أصحابه ، فنظر إليها، ثم جعلوا يتطارحونها بينهم من رجل إلى رجل ، ويتعجبون منها، ثم جعلوا يتشاورون بينهم ويقول بعضهم لبعض : إن هذا الرجل قد أصاب كنزا خبيئا في الأرض منذ زمان ودهر طويل . فلما رآهم يتشاورون من أجله فرق فرقا شديدا، وجعل يرتعد ويظن أنهم قد فطنوا به وعرفوه ، وأنهم إنما يريدون أن يذهبوا به إلى ملكهم دقينوس يسلمونه إليه . وجعل أناس اخرون يأتونه لا فيتعرفونه فقال لهم وهو شديد الفرق منهئم : أفق ملوا علي ، فقد أخذتم ورقي فأمسكوا، وأما طعامكم فلا حاجة لي به ، قالوا له : من أنت يا فق ، وما شانك ؟ والله لقد وجدت كنزا من كنوز الأولين ، فأنت تريد أن تخفيه منا، فانطلق معنا فأرناه وشاركنا فيه ، نخف عليك ما وجدت ، فإنك إن لا تفعل نأت بك السلطان ، فنسلمك إليه فيقتلك . فلما سمع قولهم ، عجب في نفسه فقال : قد وقعت في كل شيء كنت أحذرمنه . ثم قالوا: يا فتى إنك و الله ما تستطيع أن تكتم ما وجدت ، ولا تظن في نفسك أنه سيخفى حالك . فجعل يمليخا لا يدري ما يقول لهم وما يرجع إليهم ، وفرق حتى ما يحير إليهم جوابا، فلما رأوه لا يتكلم أخذوا، كساءه فطوقوه في عنقه ، ثم جعلوا يقودونه في سكك المدينة ملببا، حتى سمع به من فيها، فقيل : أخذ رجل عنده كنز. واجتمع عليه أهل المدينة صغيرهم وكبيرهم ، فجعلوا ينظرون إليه وبقولون : والله ما هذا الفتى من أهل هذه المدينة، وما رأ يناه فيها قط ، وما نعرفه ، فجعل يمليخا لا يدري ما يقول لهم ، مع ما يسمع منهم ، فلما اجتمع عليه أهل المدينة، فرق فسكت فلم يتكلم ، ولو أنه قال إنه من أهل المدينة لم يصدق ، وكان مستيقنا أن أباه وإخوته بالمدينة، وأن حسبه من أهل المدينة من عظماء أهلها، وأنهم سيأتونه إذا سمعوا، وقد استيقن أنه من عشية أمس يعرف كثيرا من أهلها، وأنه لا يعرف اليوم من أهلها أحدا، فبينما هو قائم كالحيران ينتظر متى يأته بعض أهله ، أبوه أو بعض إخوته فيخلصه من أيديهم ، إذلم اختطفوه فانطلقوا به إلى رئيسي المدينة ومدبريها اللهذين يدبران أمرها، وهما رجلان صالحان ، كان اسم أحدهما أريوس ، واسم الآخر أسطيوس ، فلما انطلق به إليهما، ظن يمليخا أنه ينطلق به إلى دقينوس الجبارملكهم الذي هربوا منه ، فجعل يلتفت يمينا وشمالا، وجعل الناس يسخرون منه ، كما يسخر من المجنون والحيران فجعل يمليخا يبكي ، ثم رفع رأسه إلى السماء وإلى الله ، ثم قال : اللهم إله السموات والأرض ، أولج معي روحا منك اليوم تؤيدني به عند هذا الجبار، وجعل يبكي ويقول في نفسه : فرق بيني وبين إخوتي ، يا ليتهم يعلمون ما لقيت ، وأني يذهب بي إلى دقينوس الجبار، فلو أنهم يعلمون ، فيأتون ، فنقوم جميعا بين يدي دقينوس ، فإنا كنا تواثقنا لنكونن معا، لا نكفر بالله ولا نشرك به شيئا، ولا نعبد الطواغيت من دون الله ، فرق بيني وبينهم ، فلن يروني ولن أراهم أبدا، وقد كنا تواثقنا أن لا نفترق في حياة ولا موت أبدا، يا ليت شعري ما هو فاعل بي ؟ أقاتلي هو أم لا؟ ذلك الذي يحدث به يمليخا نفسه فيما أخبر أصحابه حين رجع إليهم . فلما انتهى إلى الرجلين الصالحين أريوس وأسطيوس ، فلما رأى يمليخا أنه لم يذهب به إلى دقينوس أفاق وسكن عنه البكاء، فأخذ أريوس وأسطيوس الورق فنظرا إليها وعجبا منها، ثم قال أحدهما : اين الكنز الذي وجدت يا فتى؟ هذا الورق يشهد عليك أنك قد وجدت كنزأ. فقال لهما يمليخا: ما وجدت كنزا ولكن هذه الورق ورق آبائي ، ونقش هذه المدينة وضربها، ولكن والله ما أدري ما شأني ، وما أدري ما أقول لكم . فقال له أحدهما ؟ ممن أنت ؟ فقال له يمليخا : ما أدري ، فكنت أرى أني من أهل هذه القرية، قالوا : فمن أبوك ومن يعرفك بها؟ فأنبأهم باسم أبيه ، فلم يجدوا أحدا يعرفه ولا أباه ، فقال له أحدهما: أنت رجل كذاب لا تنبئنا بالحق . فلم يدر يمليخا ما يقول لهم ، غير أنه نكس بصره إلى الأرض ، فقال له بعض من حوله : هذا رجل مجنون ، فقال بعضهم : ليس بمجنون ، ولكنه يحمق نفسه عمدا لكي ينفلت منكم . فقال له أحدهما، ونظر إليه نظرا شديدا : أتظن أنك إذ تتجانن نرسلك ونصدقك بان هذا مال أبيك ، وضرب هذه الورق ونقشها منذ أكثر من ثلاث مئة سنة، لانما أنت غلام شاب تظن أنك تافكنا، ونحن شمط كما ترى، وحولك سراة أهل المدينة، وولاة أمرها، إني لأظنني سامر بك فتعذب عذابا شديدا، ثم أوثقك حتى تعترف بهذا الكنز الذي وجدت . فلما قال ذلك ، قال يمليخا: أنبئوني عن شيء أسألكم عنه ، فإن فعلتم صدقتكم عما عندي ، أرأيتم دقينوس الملك الذي كان في هذه المدينة عشية أمس ما فعل ؟ فقال له الرجل : ليس على وجه الأرض رجل اسمه دقينوس ، ولم يكن إلا ملك قد هلك منذ زمان ودهر طويل ، وهلكت بعده قرون كثيرة . فقال له يمليخا : فوالله إني إذا لحيران ، وما هو بمصدق أحد من الناس بما أقول ، والله لقد علمت ، لقد فررنا من الجبار دقينوس ، وإني قد رأيته عشية أمس حين دخل مدينة أفسوس ، ولكن لا أدري مدينة أفسوس هذه أم لا؟ فانطلقا معي إلى الكهف الذي في جبل بنجلوس أريكم أصحابي . فلما سمع أريوس ما يقول يمليخا قال : يا قوم لعل هذه آية من ايات الله جعلها لكم على يدي هذا الفتى، فانطلقوا بنا معه يرنا أصحابه كما قال ، فانطلق معه أريوس وأسطيوس ، وانطلق معهم أهل المدينة كبيرهم وصغيرهم ، نحو أصحاب الكهف لينظروا إليهم . ولما رأى الفتية أصحاب الكهف يمليخا قد احتبس عليهم بطعامهم وشرابهم عن القدر الذي كان ياتي به ، ظنوا أنه قد أخذ فذهب به إلى ملكهم دقينوس الذي هربوا منه ، فبينما هم يظنون ذلك ويتخوفونه ، إذ سمعوا الأصوات وجلبة الخيل مصعدة نحوهم ، فظنوا أنهم رسل الجبار دقينوس بعث إليهم ليؤتى بهم ، فقاموا حين سمعوا ذلك إلى الصلاة، وسلم بعضهم على بعض ، وأوصى بعضهم بعضا، وقالوا : انطلقوا بنا نات أخانا يمليخا، فإنه الان بين يدي الجبار دقينوس ينتظر متى نأته . فبينما هم يقولون ذلك ، وهم جلوس بين ظهري الكهف ، فلم يروا إلا أريوس وأصحابه وقوفا على باب الكهف ، وسبقهم يمليخا، فدخل عليهم وهو يبكي ، فلما رأوه يبكي بكوا معه ، ثم سألوه عن شانه ، فأخبرهم خبره وقصن عليهم النبأ كله ، فعرفوا عند ذلك أنهم كانوا نياما بأمر الله ذلك الزمان كله ، وإنما أوقظوا ليكونوا آية للناس ، وتصديقا للبعث ، وليعلموا أن الساعة آتية لا ريب فيها، ثم دخل على أثر يمليخا أريوس ، فرأئ تابوتا من نحاس مختوما بخاتم من فضة، فقام بباب الكهف ، ثم دعا رجالا من عظماء أهل المدينة، ففتح التابوت عندهم ، فوجدوا فيه لوحين من رصاص ، مكتوبا فيهما كتاب ، فقرأهما فوجد فيهما : إن مكسلمينا ، ومحسلمينا ، ويمليخا ، ومرطونس ، وكسطونس ، ويبورس ، ويكرنوس ، ويطبيونس ، وقا لوش ، كانوا فتية هربوا من ملكهم دقينوس الجبار، مخافة أن يفتنهم عن دينهم ، فدخلوا هذا الكهف ، فلما أخبر . . بمكانهم أمر بالكهف فسد عليهم بالحجارة ، وإنا كتبنا شانهم وقصة خبرهم ، ليعلمه من بعدهم إن عثر عليهم . فلما قرأوه ، عجبوا وحمدوا الله الذي أراهم آية للبعث فيهم ، ثم رفعوا أصواتهم بحمد الله وتسبيحه ، ثم دخلوا على الفتية الكهف ، فوجدوهم جلوسا بين ظهريه ، مشرقة وجوههم ، لم تبل ثيابهم . فخر أريوس وأصحابه سجودا ، وحمدوا الله الذي أراهم آية من آياته ، ثم كلم بعضهم بعضا، وأنبأهم الفتية عن الذي لقوا من ملكهم دقينوس ذلك الجبار الذي كانوا هربوا منه . ثم إن أريوس وأصحابه بعثوا بريدا إلى ملكهم الصالح تيذوسيس ، أن عجل لعلك تنظر إلى آية من آيات الله ، جعلها الله على ملكك ، وجعلها اية للعالمين ، لتكون لهم نورا وضياء، وتصديقا بالبعث ، فاعجل على فتية بعثهم الله ، وقد كان توفاهم منذ أكثر من ثلاث مئة سنة . فلما أتى الملك تيذوسيس الخبر، قام من المسندة التي كان عليها، ورجع إليه رأيه وعقله ، وذهب عنه همه ، ورجع إلى الله عز وجل ، فقال : أحمدك اللهم رب السموات والأرض ، أعبدك ، وأحمدك ، وأسبح لك ، تطولت على ، ورحمتي برحمتك ، فلم .تطفىء النور الذي كنت جعلته لآبائي ، وللعبد الصالح قسطيطينوس الملك . فلما نبا به أهل المدينة ركبوا إليه ، وساروا معه حتى أتوا مدينة أفسوس ، فتلقاهم أهل المدينة، وساروا معه حتى صعدوا نحو الكهف حتى أتوه ، فلما رأى لم الفتية تيذوسيس ، فرحوا به ، وخروا سجودا على وجوههم ، وقام تيذوسيس قدامهم ، ثم اعتنقهم وبكى ، وهم جلوس بين يديه على الأرض يسبحون الله ويحمدونه ، ويقول : والله ما أشبه بكم إلا الحواريون حين رأوا المسيح ، وقال : فرج الله عنكم ، كانكم الذين تدعون فتحشرون من القبور، فقال الفتية لتيذوسيس ، : إنا نودعك السلام ، والسلام عليك ورحمة الله ، حفظك الله ، وحفظ لك ملكك بالسلام ، ونعيذك بالله من شر الجن والإنس ، فامر بعيش من خلر ونشيل إن أسوأ ما سلك في بطن الإنسان أن لا يعلم شيئا إلا كرامة إن أكرم بها، ولا هوان إن أهين به .
فبينما الملك قائم ، إذ رجعوا إلى مضاجعهم ، فناموا، وتوفى الله أنفسهم بأمره ، وقام الملك إليهم ، فجعل ثيابه عليهم ، وأمر أن يجعل لكل رجل منهم تابوت من ذهب ، فلما أمسوا ونام ، أتوه في المنام فقالوا: إنا لم نخلق من ذهب ولا فضة، ولكنا خلقنا من تراب وإلى التراب نصير، فاتركنا كما كنا في الكهف على التراب حتى يبعثنا الله منه . فامر الملك حينئذ بتابوت من ساج ، فجعلوهم فيه ، وحجبهم الله حين خرجوا من عندهم بالرعب ، فلم يقدر أحد على أن يدخل عليهم ، وأمر الملك فجعل كهفهم مسجد! يصلى فيه ، وجعل لهم عيدا عظيما، وأمرأن يؤتى كل سنة . فهذا حديث أصحاب الكهف .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن عبد العزيز بن أبي رواد ، عن عبد الله بن عبيد بن عمير ، قال : بعثهم الله ، يعني الفتية أصحاب الكهف ، وقد سلط عليهم ملك مسلم ، يعني على أهل مدينتهم ، وسلط الله على الفتية الجوع ، " قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم " قال : فردوا علم ذلك إلى الله " قالوا ربكم أعلم بما لبثتم فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة" وإذا معهم ورق من ضرب الملك الذي كانوا في زمانه " فليأتكم برزق منه " : أي بطعام " ولا يشعرن بكم أحداً " ، فخرج أحدهم فرأى المعالم متنكرة حتى انتهى إلى المدينة، فاستقبله الناس لا يعرف منهم أحدا، فخرج ولا يعرفونه ، حتى انتهى إلى صاحب الطعام ، فسامه بطعامه ، فقال صاحب الطعام : هات ورقك ، فاخرج اليه الورق ، فقال : من أين لك هذا الورق ؟ قال : هذه ورقنا وورق أهل بلادنا، فقال : هيهات هذه الورق من، ضرب فلان ابن فلان منذ ثلاث مئة وتسع سنين ، أنت أصبت كنزا، ولست بتاركك حتى أرفعك إلى الملك . فرفعه إلى الملك ، وإذا الملك مسلم وأصحابه مسلمون ، ففرح واستبشر، وأظهر لهم أمره ، وأخبرهم خبر أصحابه ، فبعثوا إلى اللوح في الخزانة، فاتوا به ، فوافق ما وصف من أمرهم ، فقال المشركون : نحن أحق بهم هؤلاء أبناء ابائنا، وقال المسلمون : نحن أحق بهم ، هم. مسلمون منا، فانطلقوا معه إلى الكهف ، فلما أتوا باب الكهف قال : دعوني حتى أدخل على أصحابي حتى أبشرهم ، فإنهم إن رأوكم معي أرعبتموهم ، فدخل فبشرهم وقبض الله أرواحهم قال : وعمى الله عليهم مكانهم ، فلم يهتدوا ، فقال المشركون : نبني عليهم بنيانا، فإنهم أبناء آبائنا، ونعبد الله فيها . وقال المسلمون : نحن أحق بهم ، هم منا، نبني عليهم مسجدا نصلي فيه ، ونعبد الله فيه . وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي قول من قال ؟ إن الله تعالى بعثهم من رقدتهم ليتساءلوا بينهم كما بينا قبل ، لأن الله عز ذكره ، كذلك أخبر عباده في كتابه ، وإن الله أعثر عليهم القوم الذين أعثرهم عليهم ، ليتحقق عندهم ببعث الله هؤلاء الفتية من رقدتهم بعد طول مدتها بهيئتهم يوم رقدوا، ولم يشيبوا على مر الأيام والليالي عليهم ، ولم يهرموا على كر الدهور والأزمان فيهم قدرته على بعث من أماته في الدنيا من قبره إلى موقف القيامة يوم القيامة، لأن الله عز ذكره بذلك أخبرنا، فقال : " وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها " . واختلفت القراء في قراءة قوله " فابعثوا أحدكم بورقكم هذه " فقرأ ذلك عامة قراء أهل المدينة وبعض العراقيين " بورقكم هذه " بفتح الواو وكسر الراء والقاف . وقرأ عامة قراء الكوفة والبصرة بورقكم بسكون الراء، وكسر القاف . وقرأه بعض المكيين بكسر الراء، وإدغام القاف في الكاف ، وكل هذه القراءات متفقات المعاني ، لان اختلفت الألفاظ منها، وهن لغات معروفات من كلام العرب ، غير أن الأصل في ذلك فتح الواو وكسر الراء والقاف ، لأنه الورق ، وما عدا ذلك فإنه داخل عليه طلب التخفيف . وفيه أيضا لغة أخرى وهو الورق كما يقال للكبد كبد . فإذا كان ذلك هو الأصل ، فالقراءة به إلي أعجب ، من غير أن تكون الأخريان مدفوعة صحتهما، وقد ذكرنا الرواية بان الذي بعث معه بالورق إلى المدينة كان اسمه يمليخا .
وقد حدثني عبيد الله بن محمد الزهري ، قال : ئنا سفيان عن مقاتل " فابعثوا أحدكم بورقكم هذه " اسمه يمليخ .
وأما قوله " فلينظر أيها أزكى طعاما " فإن أهل التاويل اختلفوا في تاويله ، فقال بعضهم : معناه فلينظر أي أهل المدينة أكثر طعاما .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن أبى حصين عن عكرمة " أيها أزكى طعاما" قال : أكثر.
وحدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن أبي حصين ، عن عكرمة مثله ، إلا أنه قال : أية أكثر
وقال آخرون : بل معناه أيها أحل طعاما .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير ، " أيها أزكى طعاما" قال : أحل .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن أبي حصين ، عن سعيدبن جبير ، مثله . وقال آخرون : بل معناه : أيها خير طعاما .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : " أزكى طعاما" قال : خير طعاما .
وأولى الأقوال عندي في ذلك بالصواب : قول من قال : معنى ذلك : أحل وأطهر، وذلك أنه لا معنى في اختيار الإكثر طعاما للشراء منه إلا بمعنى إذا كان أكثرهم طعامأ كان خليقا أن يكون الأفضل منه عنده
أوجد، وإذا شرط على المامور الشراء من صاحب الأفضل ، فقد أمر بشراء الجيد، كان ما عند المشتري ذلك منه قليلا الجيد أو كثيرا، وإنما وجه من وجه تاويل أزكى إلى الأكثر، لأنه وجد العرب تقول : قد زكا مال فلان : إذا كثر، وكما قال الشاعر:
قبائلنا سبع وأنتم ثلاثة وللسبع أزكى من ثلاث وأطيب
بمعنى : أكثر ، وذلك وإن كان كذلك ، فإن الحلال الجيد وإن قل ، أكثر من الحرام الخبيث وإن كثر. وقيل " فلينظر أيها" فاضيف إلى كناية المدينة ، والمراد بها أهلها ، لأن تاويل الكلام : فلينظر أي م أهلها أزكى طعاما لمعرفة السامع بالمراد من الكلام . وقد يحتمل أن يكونوا عنوا بقولهم " أيها أزكى طعاما" : أيها أحل ، من أجل أنهم كانوا فارقوا قومهم وهم أهل أوثان ، فلم يستجيزوا أكل ذبيحتهم .
وقوله " فليأتكم برزق منه " يقول : فلياتكم بقوت منه تقتاتونه ، وطعام تأكلونه .
كما حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن عبد العزيز بن أبي رؤاد ، عن عبد الله بن عبيد بن عمير " فليأتكم برزق منه " قال : بطعام .
وقوله " وليتلطف " يقول : وليترفق في شرائه ما يشتري ، وفي طريقه ودخوله المدينة " ولا يشعرن بكم أحدا" يقول : ولا يعلمن بكم أ حدا من الناس.
قوله تعالى : " وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم " البعث : التحريك عن سكون . والمعنى : كما ضربنا على آذانهم وزدناهم هدى وقلبناهم بعثناهم أيضاً ، أي أيقيظناهم من نومهم على ما كانوا نعليه من هيئتهم في ثيابهم وأحوالهم . قال الشاعر :
وفتيان صدق قد بعثت بسحرة فقالوا جميعاً بين عاث ونشوان
أي أيضت . واللام في قوله : ( ليتساءلوا ) لام الصيرورة وهي لام العاقبة ، كقوله : " ليكون لهم عدوا وحزنا" [ القصص : 8] فبعثهم لم يكن لأجل تساؤلهم .
قوله تعالى : " قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم " وذلك أنهم دخلوه غذوة وبعثهم الله في آخر النهار ، فقال رئيسهم تمليخا أو مكسلمينا : الله أعلم بالمدة .
قوله تعالى : " فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة " فيه سبع مسائل :
الأولى : قال ابن عباس : كانت ورقهم كأخفاف الربع ، ذكره النحاس . وقرأ ابن كثير و نافع و ابن عامر و الكسائي و حفص عن عاصم ( بورقكم ) بكسر الراء . وقرأ أبو عمرو و حمزة و أبو بكر عن عاصم ( بورقكم ) بسكون الراء ، فحذفوا الكسرة لثقلها ، وهما لغتان . وقرأ الزجاج (بورقكم ) بكسر الواو وسكون الراء . ويروى أنهم انتبهوا جياعاً ، وأن المبعوث هو تمليخا ، كان أصغرهم ، فيما ذكر الغزنوي . والمدينة : أفسوس ويقال هي طرسوس ، وكان اسمها في الجاهلية أفسوس ، فلما جاء الإسلام سموها طرسوس . وقال ابن عباس : كان معهم دراهم عليهاصورة الملك الذي كان في زمانهم .
الثانية : قوله تعالى : " فلينظر أيها أزكى طعاما " قال ابن عباس : أحل ذبيحة ، لأن أهل بلدهم كانوا يذبحون على اسم الصنم ، وكان فيهم قوم يخفون إيمانهم . قال عباس : كان عامتهم مجوساً . وقيل : ( أزكى طعاماً ) أي أكثرهم بركة . وقيل : إنهم أمروه أن يشتري ما يظهن أنه طعاما اثنين أو ثلاثة لئلا يطلع عليه أي أكثر بركة . قيل ت: إنهم أمروه أن يشتري ما يظن أنه طعام اثنين أو ثلاثة لئلا يطلع عليهم ، ثم إذا طبخ كفى جماعة ، ولهذا قيل ذلك الطعام الأرز . وقيل كان ربيباً . وقيل تمراً ، فالله أعلم . وقيل : (أزكى ) أطيب . وقيل أرخص . " فليأتكم برزق منه " أي بقوت . " وليتلطف " أي في دخول المدينة وشراء الطعام . " ولا يشعرن بكم أحدا " أي لا يخبرن . وقيل : إن ظهر عليه فلا يوقعن إخوانه فيما وقع فيه .
يقول تعالى كما أرقدناهم بعثناهم صحيحة أبدانهم وأشعارهم وأبصارهم لم يفقدوا من أحوالهم وهيآتهم شيئاً وذلك بعد ثلثمائة سنة وتسع سنين, ولهذا تساءلوا بينهم "كم لبثتم" أي كم رقدتم ؟ "قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم" لأنه كان دخولهم إلى الكهف في أول نهار, واستيقاظهم كان في آخر نهار, ولهذا استدركوا فقالوا: "أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم" أي الله أعلم بأمركم, وكأنه حصل لهم نوع تردد في كثرة نومهم, فالله أعلم, ثم عدلوا إلى الأهم في أمرهم إذ ذاك, وهو احتياجهم إلى الطعام والشراب, فقالوا: "فابعثوا أحدكم بورقكم" أي فضتكم هذه, وذلك أنهم كانوا قد استصحبوا معهم دراهم من منازلهم لحاجتهم إليها, فتصدقوا منها وبقي منها, فلهذا قالوا: "فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة" أي مدينتكم التي خرجتم منها, والألف واللام للعهد "فلينظر أيها أزكى طعاماً" أي أطيب طعاماً. كقوله: " ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا " وقوله: "قد أفلح من تزكى" ومنه الزكاة التي تطيب المال وتطهره, وقيل: أكثر طعاماً, ومنه زكا الزرع إذا كثر, قال الشاعر:
قبائلنا سبع وأنتم ثلاثة والسبع أزكى من ثلاث وأطيب
والصحيح الأول, لأن مقصودهم إنما هو الطيب الحلال سواء كان كثيراً أو قليلاً. وقوله "وليتلطف" أي في خروجه وذهابه وشرائه وإيابه, يقولون: وليختف كل ما يقدر عليه "ولا يشعرن" أي ولا يعلمن "بكم أحداً * إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم" أي إن علموا بمكانكم "يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم" يعنون أصحاب دقيانوس يخافون منهم أن يطلعوا على مكانهم, فلا يزالون يعذبونهم بأنواع العذاب إلى أن يعيدوهم في ملتهم التي هم عليها, أو يموتوا, وإن وافقتموهم على العود في الدين فلا فلاح لكم في الدنيا ولا في الاخرة, ولهذا قال: "ولن تفلحوا إذاً أبداً".
19- "وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم" الإشارة إلى المذكور قبله أي وكما فعلنا بهم ما فعلنا من الكرامات بعثناهم من نومهم، وفيه تذكير لقدرته على الإماتة والبعث جميعاً، ثم ذكر الأمر الذي لأجله بعثهم فقال: ليتساءلوا بينهم: أي ليقع التساؤل بينهم والاختلاف والتنازع في مدة اللبث لما يترتب على ذلك من انكشاف الحال وظهور القدرة الباهرة، والاقتصار على علة التساؤل لا ينفي غيرها، وإنما أفرده لاستتباعه لسائر الآثار، وجملة "قال قائل منهم كم لبثتم" مبينة لما قبلها من التساؤل: أي كم مدة لبثكم في النوم؟ قالوا ذلك لأنهم رأوا في أنفسهم غير ما يعهدونه في العادة "قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم" أي قال بعضهم جواباً عن سؤال من سأل منهم، قال المفسرون: إنهم دخلوا الكهف غدوة، وبعثهم الله سبحانه آخر النهار، فلذلك قالوا يوماً، فلما رأوا الشمس قالوا أو بعض يوم، وكان قد بقيت بقية من النهار، وقد مر مثل هذا الجواب في قصة عزير في البقرة "قالوا ربكم أعلم بما لبثتم" أي قال البعض الآخر هذا القول: إما على طريق الاستدلال، أو كان ذلك إلهاماً لهم من الله سبحانه: أي أنكم لا تعلمون مدة لبثكم، وإنما يعلمها الله سبحانه "فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة" أعرضوا عن التجاور في مدة اللبث، وأخذوا في شيء آخر، كأنه قال القائل منهم: اتركوا ما أنتم فيه من المحاورة، وخذوا في شيء آخر مما يهمكم، والفاء للسببية، والورق الفضة مضروبة أو غير مضروبة. وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر والكسائي وحفص عن عاصم بكسر الراء، وقرأ أبو عمرو وحمزة، وأبو بكر عن عاصم بسكونها، وقرئ بكسر الراء وإدغام القاف في الكاف، وقرأ ابن محيصن بكسر الواو وسكون الراء. وفي حملهم لهذه الورق معهم دليل على أن إمساك بعض ما يحتاج إليه الإنسان لا ينافي التوكل على الله، والمدينة دقسوس، وهي مدينتهم التي كانوا فيها، ويقال لها اليوم طرسوس، كذا قال الواحدي "فلينظر أيها أزكى طعاماً" أي ينظر أي أهلها أطيب طعاماً، وأحل مكسباً، أو أرخص سعراً، وقيل يجوز أن يعود الضمير إلى الأطعمة المدلول عليها في المقام كما يقال زيد طبت أبا على أن الأب هو زيد، وفيه بعد. واستدل بالآية على حل ذبائح أهل الكتاب لأن عامة أهل المدينة كانوا كفاراً، وفيهم قوم يخفون إيمانهم، ووجه الاستدلال أن الطعام يتناول اللحم كما يتناول غيره مما يطلق عليه اسم الطعام "وليتلطف" أي يدقق النظر حتى لا يعرف أو لا يغبن، والأولى أولى، ويؤيده "ولا يشعرن بكم أحداً" أي لا يفعلن ما يؤدي إلى الشعور ويتسبب له، فهذا النهي يتضمن التأكيد للأمر بالتلطف.
19 - قوله تعالى : " وكذلك بعثناهم " ، أي : كما أنمناهم في الكهف وحفظنا أجسادهم من البلى على طول الزمان ، فكذلك بعثناهم من النومة التي تشبه الموت ، " ليتساءلوا بينهم " ، ليسأل بعضهم بعضاً ، واللام فيه لام العاقبة ، لأنهم لم يبعثوا للسؤال .
" قال قائل منهم " : وهو رئيسهم مكسلمينا ، " كم لبثتم " في نومكم ؟ وذلك أنهم استنكروا طول نومهم . ويقال : إنهم راعهم ما فاتهم من الصلاة فقالوا ذلك .
" قالوا لبثنا يوما ً " ، وذلك أنهم دخلوا الكهف غدوة فقالوا فانتبهوا [ حين انتبهوا ] عشية ، فقالوا : لبثنا يوماً ، ثم نظروا وقد بقيت من الشمس بقية ، فقالوا : " أو بعض يوم " ، فلما نظروا إلى طول شعورهم وأظفارهم علموا أنهم لبثوا أكثر من يوم .
" قالوا ربكم أعلم بما لبثتم " ، وقيل : إن رئيسهم مكسلمينا لما سمع الاختلاف بينهم قال : دعوا الاختلاف ربكم أعلم بما لبثتم ، " فابعثوا أحدكم بورقكم هذه " ، يعني يمليخا .
قرأ أبو عمرو ، و حمزة ، و أبو بكر : بورقكم ساكنة الراء والباقون بكسرهما، ومعناهما واحد ، وهي الفضة مضروبةً كانت أو غير مضروبة .
" إلى المدينة " ، قيل : هي طرسوس وكان اسمها في الجاهلية أفسوس فسموها في الإسلام طرسوس .
" فلينظر أيها أزكى طعاماً " أي : أحل طعاماً حتى لا يكون من غصب أو سبب حرام ، وقيل : أمروه أن يطلب ذبيحة مؤمن ولا يكون من ذبيحة من يذبح لغير الله وكان فيهم مؤمنون يخفون إيمانهم ،وقال الضحاك : أطيب طعاماً . وقال مقاتل بن حيان : أجود طعاماً . وقال عكرمة أكثر ، وأصل الزكاة الزيادة . وقيل : أرخص طعاماً .
" فليأتكم برزق منه " ، أي : قوت وطعام تأكلونه ، " وليتلطف " ، وليترفق في الطريق وفي المدينة وليكن في ستر وكتمان ، " ولا يشعرن " ، ولا يعلمن ، " بكم أحداً " ، من الناس .
19."وكذلك بعثناهم" وكما أنمناهم آية بعثناهم آية على كمال قدرتنا. "ليتساءلوا بينهم "ليسأل بعضهم بعضاً فتعرفوا حالهم وما صنع الله بهم فيزدادوا يقيناً على كمال قدرة الله تعالى، ويستبصروا به أمر البعث ويشكروا ما أنعم الله به عليهم . "قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم"يناء على غالب ظنهم لأن النائم لا يحصي مدة نومه ولذلك أحالوا العلم إلى الله تعالى. "قالوا ربكم أعلم بما لبثتم"ويجوز أن يكون ذلك قول بعضهم وذا إنكار الآخرين عليهم .وقيل إنهم دخلوا الكهف غدوة وانتبهوا ظهيرة وظنوا أنهم في يومهم أو اليوم الذي بعده قالوا ذلك ، فلما نظروا إلى طول أظفارهم وأشعراهم قالوا هذا ثم لما علموا أن الأمر ملتبس لا طريق لهم إلى علمه أخذوا فيما يهمهم وقالوا:"فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة"والورق الفضة مضروبة كانت أو غير مضروبة، وقرأأبو بكر و أبو عمرو و حمزة و روح عن يعقوب بالتخفيف . وقرئ بالتثقيل وإدغام القاف في الكاف وبالتخفيف مكسور الواو مدغماً وغير مدغم ، ورد المدغم لالتقاء الساكنين على غير حده ، وحملهم له دليل على أن التزود أي المتوكلين والمدينة طرسوس."فلينظر أيها"أي أهلها."أزكى طعاماً" أحل وأطيب أو أكثر وأرخص."فليأتكم برزق منه وليتلطف"وليتكلف اللطف في المعاملة حتى لا يغبن،أو في التخفي حتى لا يعرف ."ولا يشعرن بكم أحداً" ولا يفعلن ما يؤدي إلى الشعور.
19. And in like manner We awakened them that they might question one another. A speaker from among them said : How long have ye tarried? They said: We have tarried a day or some part of a day, (Others) said: Your Lord best knoweth what ye have tarried. Now send one of you with this your silver coin unto the city, and let him see what food is purest there and bring you a supply thereof. Let him be courteous and let no man know of you.
19 - Such (being their state), we raised them up (from sleep), that they might question each other. said one of them, how long have ye stayed (here)? they said, we have stayed (perhaps) a day, or part of a day. (at length) they (all) said, God (alone) knows best how long ye have stayed here. now send ye then one of you with this money of yours to the town: let him find out which is the best food (to be had) and bring some to you, that (ye may) satisfy your hunger therewith: and let him behave with care and courtesy, and let him not inform any one about you.