[النحل : 80] وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ
80 - (والله جعل لكم من بيوتكم سكنا) موضعا تسكنون فيه (وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا) كالخيام والقباب (تستخفونها) للحمل (يوم ظعنكم) سفركم (ويوم إقامتكم ومن أصوافها) أي الغنم (وأوبارها) أي الإبل (وأشعارها) أي المعز (أثاثا) متاعا لبيوتكم كبسط وأكسية (ومتاعا) تتمتعون به (إلى حين) تبلى فيه
يقول تعالى ذكره : "والله جعل لكم" أيها الناس "من بيوتكم" التي هي من الحجر والمدر "سكنا" تسكنون أيام مقامكم في دوركم وبلادكم "وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا" وهي البيوت من الأنطاع والفساطيط من الشعر والصوف والوبر "تستخفونها" يقول : تستخفون حملها ونقلها "يوم ظعنكم" من بلادكم وأمصاركم لأسفاركم "ويوم إقامتكم" في بلادكم وأمصاركم "ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا" .
وبنحو الذي قلنا في معنى السكنى ، قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ،قال : حدثنا أبوعاصم ، قال : حدثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، وحدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، جميعاً عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله تعالى : "من بيوتكم سكنا" قال : تسكنون فيه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .وأما الأشعار شعر تثقل عينه وتخفف ، وواحد الشعر شعرة . وأما الأثاث فإنه متاع البيت لم يسمع له بواحد ، وهو في أنه لا واحد له مثل المتاع . وقد حكي عن بعض النحويين أنه كان يقول : واحد الأثاث أثاثه ، ولم أر أهل العلم بكلام العرب يعرفون ذلك ، ومن الدليل على أن الأثاث هو المتاع ، قول الشاعر :
أهاجتك الظعائن يوم بانوا بذي الرئي الجميل من الأثاث
ويروى : بذي الزي ، وأنا أرى أصل الأثاث اجتماع بعض المتاع إلى بعض حتى يكثر الشعر الأثيث وهو الكثير المتلف ، يقال منه ، أث شعر فلان يئث أثا : إذا كثر والتف واجتمع .
وبنحو الذي قلنا في ذلك ،قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال :حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله "أثاثا" يعني بالأثاث : المال .
حدثني محمد بن عمر ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال :حدثنا ورقاء ، وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ،جميعاً عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله تعالى "أثاثا" قال : متاعاً .
حدثنا القاسم ، قال :حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : "أثاثا" قال : هو المال .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن حرب الرازي ، قال : أخبرنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن حميد بن عبد الرحمن ، في قوله : "أثاثا" قال : الثياب .
وقوله : "ومتاعا إلى حين" فإنه يعني : أنه جعل ذلك لهم بلاغاً ، يتبلغون ويكتفون به إلى حين آجالهم للموت .
كما حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : "ومتاعا إلى حين" فإنه يعني : زينة : يقول : ينتفعون به إلى حين .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن ابي نجيح ، عن مجاهد : "ومتاعا إلى حين" قال : إلى الموت .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : "ومتاعا إلى حين" إلى أجل وبلغة .
فيه عشر مسائل :
الأولى قوله تعالى " جعل لكم " معناه صير . وكل ما علاك فأظلك فهو سقف وسماء وكل ما أقلك فهو أرض وكل ما سترك من جهاتك الأربع فهو جدار فإذا انتظمت واتصلت فهو بيت وهذه الآية فيها تعديد نعم الله تعالى على الناس في البيوت فذكر أولا بيوت المدن وهي التي للإقامة الطويلة وقوله "سكنا " أي تسكنون فيها وتهدأ جوارحكم من الحركة ، وقد تتحرك فيه وتسكن في غيره ، إلا أن القول خرج على الغالب . وعد هذا في جملة النعم فإنه لو شاء خلق العبد مضطربا أبدا كالأفلاك لكان ذلك كما خلق وأراد ، ولو خلقه ساكنا كالأرض لكان كما خلق وأراد ولكنه أوجده خلقا يتصرف للوجهين ويختلف حاله بين الحالتين ، وردده كيف وأين والسكن مصدر يوصف به الواحد والجمع . ثم ذكر تعالى بيوت النقلة والرحلة وهي :
الثانية : فقال " وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها " أي من الأنطاع والأدم "بيوتا" يعني الخيام القباب يخف عليكم حملها في الأسفار "يوم ظعنكم" الظعن سير البادية في الانتجاع والتحول من موضع إلى موضع ومنه قول عنترة :
‌‌ ظعن الذين فراقهم أتوقع وجرى بينهم الغراب الأبقع والظعن الهودج أيضا قال :
ألا هل هاجك الأظعان إذ بانوا وإذ جادت بوشك البين غربان
وقرئ بإسكان العين وفتحها كالشعر والشعر وقيل يحتمل أن يعم بيوت الأدم وبيوت الشعر وبيوت الصوف لأنه هذه من الجلود لكونها ثابتة فيها نحا إلى ذلك ابن سلام وهو احتمال حسن ، ويكون قوله ومن أصوافها ابتداء كلام كأنه قال جعل أثاثا يريد الملابس والوطاء وغير ذلك قال الشاعر :
أهاجتك الظعائن يوم بانوا بذي الزي الجميل من الأثاث
ويحتمل أن يريد بقوله "من جلود الأنعام " بيوت الأدم فقط كما قدمناه أولا ويكون قوله ومن أوصافها عطفا على قوله من جلود الأنعام أي جعل بيوتا أيضا . قال ابن العربي وهذا أمر انتشر في تلك الديار وعزبت عنه بلادنا فلا تضرب الأخبية عندنا إلا من الكتان والصوف .
وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم قبة من أدم وناهيك من أدم الطائف غلاء في القيمة ، واعتلاء في الصنعة وحسنا في البشرة ولم يعد ذلك صلى الله عليه وسلم ترفا ولا رآه سرفا ، لأنه مما امتن الله سبحانه من نعمته وأذن فيه من متاعه ، وظهرت وجوه منفعته في الاكتنان والاستظلال الذي لا يقدر على الخروج عنه جنس الإنسان . ومن غريب ما جرى أني زرت بعض المتزهدين من الغافلين مع بعض المحدثين فدخلنا عليه في خباء كتان فعرض عليه صاحبي المحدث أن يحمله إلى منزله ضيفا وقال إن هذا موضع يكثر فيه الحر والبيت أرفق بك وأطيب لنفسي فيك ، فقال: هذا الخباء لنا كثير وكان في صنعنا من الحقير فقلت ليس كما زعمت فقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو رئيس الزهاد قبة من أدم الطائفي يسافر معها ويستظل بها فبهت ورأيته على منزلة من العي فتركته مع صاحبي وخرجت عنه .
الثالثة : قوله تعالى " ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها " أذن الله سبحانه بالانتفاع بصوف الغنم ووبر الإبل وشعر المعز ، كما أذن في الأعظم وهو ذبحها وأكل لحومها ولم يذكر القطن والكتان لأنه لم يكن في بلاد العرب المخاطبين به ، وإنما عدد عليهم ما أنعم به عليهم ، وخوطبوا فيما عرفوا بما فهموا . وما قام مقام هذه وناب منابها فيدخل في الاستعمال والنعمة مدخلها وهذا كقوله تعالى " وينزل من السماء من جبال فيها من برد " فخاطبهم بالبرد لأنهم كانوا يعرفون نزوله كثيرا عندهم ، وسكت عن ذكر الثلج لأنه لم يكن في بلادهم وهو مثله في الصفة والمنفعة وقد ذكرهما النبي صلى الله عليه وسلم معا في التطهير فقال : اللهم اغسلني بماء وثلج وبرد قال ابن عباس : الثلج شيء أبيض ينزل من السماء وما رأيته قط . وقيل إن ترك ذكر القطن والكتان إنما كان إعراضا عن الترف إذ ملبس عباد الله الصالحين إنما هو الصوف . وهذا فيه نظر فإنه سبحانه يقول " يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم " حسبما تقدم بيانه في الأعراف وقال هنا وجعل لكم سرابيل فأشار إلى القطن والكتان في لفظة سرابيل والله أعلم . و"أثاثا " قال الخليل متاعا منضما بعضه إلى بعض من أث إذ أكثر قال :
وفرغ يزين المتن أسود فاحم أثيث كقنو النخلة المتعثكل
ابن عباس : أثاثا ثيابا وقد تقدم . وتضمنت هذه الآية جواز الانتفاع بالأصواف والأوبار والأشعار على كل حال ، ولذلك قال أصحابنا : صوف الميتة وشعرها طاهر يجوز الانتفاع به على كل حال ، ويغسل مخافة أن يكون علق به وسخ ، وكذلك "روت أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا بأس بجلد الميتة إذا دبغ وصوفها وشعرها إذا غسل " لأنه مما لا يحله الموت وسواء كان شعر ما يؤكل لحمه أو لا كشعر ابن آدم والخنزير فإنه طاهر كله وبه قال أبو حنيفةولكنه زاد علينا فقال: القرن والسن والعظم مثل الشعر قال لأن هذه الأشياء كلها لا روح فيها فلا تنجس بموت الحيوان . وقال الحسن البصري والليث بن سعد والأوزاعي إن الشعور كلها نجسه ولكنها تطهر بالغسل . وعن الشافعي ثلاث روايات : الأولى طاهرة لا تنجس بالموت . الثانية تنجس الثالثة الفرق بين شعر ابن آدم وغيره ، فشعر ابن آدم طاهر وما عداه نجس ودليلنا عموم قوله تعالى " ومن أصوافها " الآية . فمن علينا بأن جعل لنا الانتفاع بها ولم يخص شعر الميتة من المذكاة فهو عموم إلا أن يمنع منه دليل . وأيضا فإن الأصل كونها طاهرة قبل الموت بإجماع فمن زعم أنه انتقل إلى نجاسة فعليه الدليل . فإن قيل قوله " حرمت عليكم الميتة " وذلك عبارة عن الجملة قلنا نخصه بما ذكرنا فإنه منصوص عليه في ذكر الصوف وليس في آيتكم ذكره صريحا فكان دليلنا أولى . والله أعلم وقد عول الشيخ الإمام أبو إسحاق إمام الشافعية ببغداد على أن الشعر جزء متصل بالحيوان خلقة فهو ينمي بنمائه ويتنجس بموته كسائر الأجزاء وأجيب بأن النماء ليس بدليل على الحياة لأن النبات ينمي وليس بحي وإذا عولوا على النماء المتصل لما على الحيوان عولنا نحن على الإبانة التي تدل على عدم الإحساس الذي يدل على عدم الحياة وأما ما ذكره الحنفيون في العظم والسن والقرن أنه مثل الشعر ، فالمشهور عندنا أن ذلك نجس كاللحم . وقال ابن وهب مثل قول أبي حنيفة ولنا قول ثالث هل تلحق أطراف القرون والأظلاف بأصولها أو بالشعر ، قولان وكذلك الشعري من الريش حكمه حكم الشعر والعظمي منه حكمه حكمه ودليلنا "قوله صلى الله عليه وسلم : لا تنتفعوا من الميتة بشيء " وهذا عام فيها وفي كل جزء منها إلا ما قام دليله ومن الدليل القاطع على ذلك قوله تعالى " قال من يحيي العظام وهي رميم " وقال تعالى " وانظر إلى العظام كيف ننشزها " وقال " فكسونا العظام لحما " وقال " أإذا كنا عظاما نخرة " فالأصل هي العظام والروح والحياة فيها كما في اللحم والجلد و"في حديث عبد الله بن عكيم : لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب " فإن قيل : قد ثبت في الصحيح "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في شاة ميمونة : ألا انتفعتم بجلدها فقالوا يا رسول الله إنها ميتة فقال إنما حرم أكلها " والعظم لا يؤكل قلنا : العظم يؤكل وخاصة عظم الجمل الرضيع والجدي والطير وعظم الكبير يشوى ويؤكل وما ذكرناه قبل يدل على وجود الحياة فيه وما كان طاهرا بالحياة ويستباح بالذكاة ينجس بالموت . والله أعلم .
الرابعة : قوله تعالى " من جلود الأنعام" عام في جلد الحي والميت فيجوز الانتفاع بجلود الميتة وإن لم تدبغ وبه قال ابن شهاب والزهريوالليث بن سعد قال الطحاوي : لم نجد عن أحد من الفقهاء أئمة الفتوى بالأمصار بعد التابعين وأما ابن شهاب فذلك عنه صحيح وهو قول أباه جمهور أهل العلم وقد روي عنهما خلاف هذا القول والأول أشهر .
قلت : قد ذكر الدارقطني في سننه حديث يحيى بن أيوب عن يونس وعقيل عن الزهري وحديث بقية عن الزبيدي وحديث محمد بن كثير العبدي وأبي سلمة المنقري عن سليمان بن كثير عن الزهري وقال في آخرها هذه أسانيد صحاح .
السادسة : اختلف العلماء في جلد الميتة إذا دبغ هل يطهر أم لا فذكر ابن عبد الحكم عن مالك ما يشبه مذهب ابن شهاب في ذلك وذكره ابن خويز منداد في كتابه عن ابن عبد الحكم أيضا : قال ابن خويز منداد وهو قول الزهري والليث قال : والظاهر من مذهب مالك ما ذكره ابن عبد الحكم ، وهو أن الدباغ لا يطهر جلد الميتة ولكن يبيح الانتفاع به في الأشياء اليابسة ، ولا يصلي عليه ولا يؤكل فيه وفي المدونة لـابن القاسم من اغتصب جلد ميتة غير مدبوغ فأتلفه كان عليه قيمته . وحكى أن ذلك قول مالك وذكر أبو الفرج أن مالكا قال من اغتصب لرجل جلد ميتة غير مدبوغ فلا شيء عليه قال إسماعيل إلا أن يكون لمجوسي وروى ابن وهب وابن عبد الحكم عن مالك جواز بيعه ، وهذا في جلد كل ميتة إلا الخنزير وحده ، لأن الزكاة لا تعمل فيه فالدباغ أولى . قال أبو عمر : وكل جلد ذكي فجائز استعماله للوضوء وغيره . وكان مالك يكره الوضوء في إناء جلد الميتة بعد الدباغ على اختلاف من قوله ، ومرة قال : إنه لم يكرهه إلا في خاصة نفسه ، وتكره الصلاة عليه وبيعه ، وتابعه على ذلك جماعة من أصحابه وأما أكثر المدنيين فعلى إباحة ذلك وإجازته لـ"قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيما إهاب دبغ فقد طهر "وعلى هذا أكثر أهل الحجاز والعراق من أهل الفقه والحديث وهو اختيار ابن وهب
السابعة : ذهب الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه إلى أنه لا يجوز الانتفاع بجلود الميتة في شيء وإن دبغت لأنها كلحم الميتة . والأخبار بالانتفاع بعد الدباغ ترد قوله واحتج بـ"حديث عبد الله بن عكيم ـ رواه أبو داود قال قرئ علينا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأرض جهينة وأنا غلام شاب : ألا تستمتعوا من الميتة بإهاب ولا عصب " و"في رواية : قبل موته بشهر " رواه القاسم بن مخيمرة عن عبد الله بن عكيم قال حدثنا مشيخة لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إليهم قال داود بن علي : سألت يحيى بن معين عن هذا الحديث فضعفه وقال ليس بشيء إنما يقول حدثني الأشياخ قال أبو عمر ولو كان ثابتا لاحتمل أن يكون مخالفا للأحاديث المروية عن ابن عباس وعائشة وسلمة بن المحبق وغيرهم ، لأنه جائز أن يكون معنى حديث ابن عكيم ألا تنتفعوا من الميتة بإهاب قبل الدباغ وإذا احتمل ألا يكون مخالفا فليس لنا أن نجعله مخالفا ، وعلينا أن نستعمل الخبرين ما أمكن وحديث عبد الله بن عكيم وإن كان قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بشهر كما جاء في الخبر فيمكن أن تكون قصة ميمونة وسماع ابن عباس منه : "أيما إهاب دبغ فقد طهر " قبل موته بجمعة أو دون جمعة والله أعلم .
الثامنة : المشهور عندنا أن جلد الخنزير لا يدخل في الحديث ولا يتناوله العموم ، وكذلك الكلب عند الشافعي وعند الأوزاعي وأبي ثور لا يطهر بالدباغ إلا جلد ما يؤكل لحمه . وروى معن بن عيسى عن مالك أنه سئل عن جلد الخنزير إذا دبغ فكرهه . قال ابن وضاح وسمعت سحنونا يقول لا بأس به وكذلك قال محمد بن عبد الحكم وداود بن علي وأصحابه لقوله عليه السلام : " أيما مسك دبغ فقد طهر " قال أبو عمر : يحتمل أن يكون أراد بهذا القول عموم الجلود المعهود الانتفاع بها فأما الخنزير فلم يدخل في المعنى لأنه غير معهود الانتفاع بجلده إذ لا تعمل فيه الذكاة . ودليل آخر وهو ما قاله النضر بن شميل : إن الإهاب جلد البقر والإبل وما عداه فإنما يقال له : جلد لا إهاب .
قلت : وجلد الكلب وما لا يؤكل لحمه أيضا غير معهود الانتفاع به فلا يطهر ، وقد" قال صلى الله عليه وسلم : أكل كل ذي ناب من السباع حرام " فليست الذكاة فيها ذكاة كما أنها ليست في الخنزير ذكاة . و"روى النسائي عن المقدام بن معد يكرب قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحرير والذهب ومياثر النمور "
التاسعة : اختلف الفقهاء في الدباغ التي تطهر به جلود الميتة ما هو ؟ فقال أصحاب مالك وهو المشهور من مذهبه : كل شيء دبغ الجلد من ملح أو قرظ أو شب أو غير ذلك فقد جاز الانتفاع به وكذلك قال أبو حنيفة وأصحابه وهو قول داود ولـلشافعي في هذه المسألة قولان : أحدهما : هذا والآخر أنه لا يطهر إلا بالشب والقرظ لأنه الدباغ المعهود على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعليه خرج الخطابي والله أعلم ما رواه النسائي "عن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنه مر برسول الله صلى الله عليه وسلم رجال من قريش يجرون شاة لهم مثل الحصان فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لو أخذتم إهابها قالوا إنها ميتة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يطهرها الماء والقرظ "
العاشرة : قوله تعالى " أثاثا " الأثاث متاع البيت ، واحدها أثاثه هذا قول أبي زيد الأنصاري وقال الأموي الأثاث متاع البيت وجمعه آثة وأثث وقال غيرهما الأثاث جميع أنواع المال ولا واحد له من لفظه ، وقال الخليل أصله من الكثرة واجتماع بعض المتاع إلى بعض حتى يكثر ومنه شعر أثيث أي كثير . وأث شعر فلان يأث أثا إذا كثر والتف قال امرؤ القيس :
وفرع يزين المتن أسود فاحم أثيث كقنو النخلة المتعثكل
وقيل : الأثاث ما يلبس ويفترش وقد تأثثت إذا اتخذت أثاث وعن ابن عباس رضي الله عنه أثاثا مالا . وقد تقدم القول في الحين وهو هنا وقت غير معين بحسب كل إنسان إما بموته وإما بفقد تلك الأشياء التي هي أثاثا ومن هذه اللفظة قول الشاعر
أهاجتك الظعائن يوم بانوا بذي الزي الجميل من الأثاث
يذكر تبارك وتعالى تمام نعمه على عبيده بما جعل لهم من البيوت التي هي سكن لهم, يأوون إليها, ويستترون بها, وينتفعون بها بسائر وجوه الانتفاع, وجعل لهم أيضاً من جلود الأنعام بيوتاً أي من الأدم, يستخفون حملها في أسفارهم ليضربوها لهم في إقامتهم في السفر والحضر, ولهذا قال: "تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها" أي الغنم, "وأوبارها" أي الإبل, "وأشعارها" أي المعز, والضمير عائد على الأنعام "أثاثا" أي تتخذون منه أثاثاً وهو المال, وقيل: المتاع, وقيل: الثياب, والصحيح أعم من هذا كله فإنه يتخذ من الأثاث البسط والثياب وغير ذلك, ويتخذ مالاً وتجارة, وقال ابن عباس: الأثاث المتاع, وكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن وعطية العوفي وعطاء الخراساني والضحاك وقتادة. وقوله: "إلى حين" أي إلى أجل مسمى ووقت معلوم.
وقوله: " والله جعل لكم مما خلق ظلالاً" قال قتادة: يعني الشجر "وجعل لكم من الجبال أكناناً" أي حصوناً ومعاقل, كما "جعل لكم سرابيل تقيكم الحر" وهي الثياب من القطن والكتان والصوف "وسرابيل تقيكم بأسكم" كالدروع من الحديد المصفح والزرد وغير ذلك, "كذلك يتم نعمته عليكم" أي هكذا يجعل لكم ما تستعينون به على أمركم وما تحتاجون إليه ليكون عوناً لكم على طاعته وعبادته "لعلكم تسلمون" هكذا فسره الجمهور, وقرءوه بكسر اللام من "تسلمون" أي من الإسلام.
وقال قتادة في قوله: "كذلك يتم نعمته عليكم" هذه السورة تسمى سورة النعم. وقال عبد الله بن المبارك وعباد بن العوام عن حنظلة السدوسي, عن شهر بن حوشب, عن ابن عباس أنه كان يقرؤها "تسلمون" بفتح اللام, يعني من الجراح, رواه أبو عبيد القاسم بن سلام عن عباد, ,أخرجه ابن جرير من الوجهين, ورد هذه القراءة. وقال عطاء الخراساني: إنما نزل القرآن على قدر معرفة العرب, ألا ترى إلى قوله تعالى: " والله جعل لكم مما خلق ظلالاً وجعل لكم من الجبال أكناناً" وما جعل من السهل أعظم وأكثر, ولكنهم كانوا أصحاب جبال ؟ ألا ترى إلى قوله: "ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين" وما جعل لهم من غير ذلك أعظم وأكثر, ولكنهم كانوا أصحاب وبر وشعر ؟ ألا ترى إلى قوله: "وينزل من السماء من جبال فيها من برد" لعجبهم من ذلك وما أنزل من الثلج أعظم وأكثر, ولكنهم كانوا لا يعرفونه ؟ ألا ترى إلى قوله تعالى: "سرابيل تقيكم الحر" وما تقي من البرد أعظم وأكثر, ولكنهم كانوا أصحاب حر.
وقوله: "فإن تولوا" أي بعد هذ البيان وهذا الامتنان, فلا عليك منهم "فإنما عليك البلاغ المبين" وقد أديته إليهم "يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها" أي يعرفون أن الله تعالى هو المسدي إليهم ذلك وهو المتفضل به عليهم ومع هذا ينكرون ذلك ويعبدون معه غيره ويسندون النصر والرزق إلى غيره "وأكثرهم الكافرون" كما قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا صفوان, حدثنا الوليد, حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن مجاهد أن أعرابياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله, فقرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم " والله جعل لكم من بيوتكم سكناً" فقال الأعرابي: نعم, قال: "وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا" الاية, قال الأعرابي: نعم, ثم قرأ عليه كل ذلك, يقول الأعرابي: نعم حتى بلغ "كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون" فولى الأعرابي, فأنزل الله "يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها" الاية.
قوله: 80- "والله جعل لكم" معطوف على ما قبله وهذا المذكور من جملة أحوال الإنسان، ومن تعديد نعم الله عليه، والسكن مصدر يوصف به الواحد والجمع، وهو بمعنى مسكون: أي تسكنون فيها وتهدأ جوارحكم من الحركة، وهذه نعمة، فإن الله سبحانه لو شاء لخلق العبد مضطرباً دائماً كالأفلاك، ولو شاء لخلقه ساكناً أبداً كالأرض "وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً" لما ذكر سبحانه بيوت المدن، وهي التي للإقامة الطويلة عقبها بذكر بيوت البادية والرحلة: أي جعل لكم من جلود الأنعام، وهي الأنطاع والأدم بيوتاً كالخيام والقباب "تستخفونها" أي يخف عليكم حملها في الأسفار وغيرها، ولهذا قال "يوم ظعنكم" والظعن بفتح العين وسكونها، وقرئ بهما: سير أهل البادية للانتجاع والتحول من موضع إلى موضع، ومنه قول عنترة:
ظعن الذين فراقهم أتوقع وجرى ببينهم الغراب الأبقع
والظعن الهودج أيضاً "ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً" معطوف على "جعل" أي وجعل لكم من أصواف الأنعام وأوبارها وأشعارها، والأنعام تعم الإبل والبقر والغنم كما تقدم، والأصواف للغنم، والأوبار للإبل، والأشعار للمعز، وهي من جملة الغنم، فيكون ذكر هذه الثلاثة على وجه التنويع كل واحد منها لواحد من الثلاثة، أعني الإبل، ونوعي الغنم، والأثاث متاع البيت، وأصله الكثرة والاجتماع، ومنه شعر أثيث: أي كثير مجتمع، قال الشاعر:
وفرع يزين المتن أسود فاحم أثيث كقنو النخلة المتعثكل
قال الخليل أثاثاً: أي منضماً بعضه إلى بعض، من أث إذا أكثر، قال الفراء: لا واحد له، والمتاع: ما يتمتع به بأنواع التمتع، وعلى قول أبي زيد الأنصاري: إن الأثاث المال أجمع: الإبل والغنم والعبيد والمتاع، يكون عطف المتاع على الأثاث من عطف الخاص على العام، وقيل إن الأثاث ما يكتسي به الإنسان ويستعمله من الغطاء والوطاء، والمتاع ما يفرش في المنازل ويتزين به، ومعنى "إلى حين" إلى أن تقضوا أوطاركم منه، أو إلى أن يبلى ويفنى، أو إلى الموت، أو إلى القيامة.
80 - " والله جعل لكم من بيوتكم " [ التي هي من الحجر والمدر ] " سكناً" أي : مسكناً تسكنونه ، " وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً" ، يعني الخيام ، والقباب ، والأخبية ، والفساطيط من الأنطاع والأدم ، " تستخفونها " أي : يخف عليكم حملها، " يوم ظعنكم " ، رحلتكم في سفركم ، قرأ ابن عامر ، وأهل الكوفة ، ساكنة العين ، والآخرون بفتحها ، وهو أجزل اللغتين، " ويوم إقامتكم " ، في بلدكم لا تثقل عليكم في الحالين .
" ومن أصوافها و أوبارها وأشعارها " ، يعني : أصواف الضأن ، و أوبار الإبل ، وأشعار المعز ،والكنايات راجعة إلى الأنعام ، " أثاثاً " ، قال ابن عباس : مالاً ، قال مجاهد : متاعاً .
قال القتيبي : ( الأثاث ) : المال أجمع ، من الإبل والغنم والعبيد ، والمتاع .
وقال غيره : هو متاع البيت من الفرش والأكسية .
" ومتاعاً " ، بلاغاً ينتفعون بها ، " إلى حين " يعني الموت . وقيل : إلىحين تبلى .
80."والله جعل لكم من بيوتكم سكناً" موضعاً تسكنون فيه وقت إقامتكم كالبيوت المتخذة من الحجر والمدر ، فعل بمعنى مفعول ."وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً" هي القباب المتخذة من الأدم ، ويجوز أن يتناول المتخذة من الوبر والصوف والشعر فإنها من حيث إنها نابتة على جلودها يصدق عليها أنها من جلودها."تستخفونها"تجدونها خفيفة يخف عليكم حملها ونقلها."يوم ظعنكم "وقت ترحالكم ."ويوم إقامتكم"ووضعها أو ضربها وقت الحضر أو النزول .وقرأ الحجازيان والبصريان يوم ظعنكم بالفتح وهو لغة فيه."ومن أصوافها و أوبارها وأشعارها" الصوف للضائنة والوبر للإبل والشعر للمعز،وإضافتها إلى ضمير "الأنعام "لأنها من جملتها."أثاثاً" ما يلبس ويفرش ."ومتاعاً" ما يتجر به ."إلى حين" إلى مدة من الزمان فإنها لصلابتها تبقى مدة مديدة ، أو إلى حين ، مماتكم أو إلى أن تقضوا منه أو طاركم.
80. And Allah hath given you in your houses an abode, and hath given you (also), of the hides of cattle, houses which ye find light (to carry) on the day of migration and on the day of pitching camp; and of their wool and their fur and their hair, caparison and comfort for a while.
80 - It is God who made your habitation homes of rest and quiet for you; and made for you, out of the skins of animals, (tents for) dwellings, which ye find so light (and handy) when ye travel and when ye stop (in your travels); and out of their wool, and their soft fibres (between wool and hair), and their hair, rich stuff and articles of convenience (to serve you) for a time.