[النحل : 67] وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
67 - (ومن ثمرات النخيل والأعناب) ثمر (تتخذون منه سكرا) خمرا يسكر سميت بالمصدر وهذا قبل تحريمها (ورزقا حسنا) كالتمر والزبيب والخل والدبس (إن في ذلك) المذكور (لآية) دالة على قدرة الله تعالى (لقوم يعقلون) يتدبرون
يقول تعالى ذكره : ولكم أيضاً أيها الناس عبرة فيما نسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً ، مع ما نسقيكم من بطون الأنعام من اللبن الخارج من بين الفرث والدم . وحذف من قوله "ومن ثمرات النخيل والأعناب" الاسم ، والمعنى ما وصفت ، وهو : ومن الثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون منه لدلالة من عليه ، لأن من تدخل في الكلام مبغضة ، فاستغنى بدلالتها ومعرفة السامعين بما يقتضي من ذكر الاسم معها ، ، وكان بعض نحويي البصرة يقول في معنى الكلام : ومن ثمرات النخيل والأعناب شيء تتخذون منه سكراً ، ويقول : إنما ذكرت الهاء في قوله "تتخذون منه" لأنه أريد بها الشيء ، وهو عندنا عائد على المتروك ، وهو ما . وقوله "تتخذون" من صفة ما المتروكة .
واختلف أهل التأويل في معنى قوله "تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا" فقال بعضهم : عني بالسكر : الخمر ، وبالرزق الحسن : التمر والزبيب ، وقال : إنما نزلت هذه الآية قبل تحريم الخمر ، ثم حرمت بعد .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عبيد المحاربي ، قال : حدثنا أيوب بن جابر السحيمي ، عن الأسود ، عن عمرو بن سفيان ، عن ابن عباس ، قوله "تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا" قال : السكر : ما حرم من شرابه ، والرزق الحسن : ما أحل من ثمرته .
حدثنا ابن وكيع وسعيد بن الربيع الرازي ، قالا : حدثنا ابن عيينة ، عن الأسود بن قيس ، عن عمرو بن سفيان ،عن ابن عباس : "تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا" قال :الرزق الحسن : ما أحل من ثمرتها ، والسكر : ما حرم من ثمرتها .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن الأسود ، عن عمر بن سفيان ، عن ابن عباس ، مثله .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال :أخبرنا عبد الرزاق ، قال :أخبرنا الثوري ، عن الأسود بن قيس ، عن عمرو بن سفيان ،عن ابن عباس ، بنحوه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأسود بن قيس ، عن عمرو بن سفيان ، عن ابن عباس ، بنحوه .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن الأسود بن قيس ، قال :سمعت رجلاً يحدث عن ابن عباس في هذه الآية : "تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا" قال : السكر : ما حرم من ثمرتيهما ، والرزق الحسن : ما أحل من ثمرتيهما .
حدثنا احمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا الحسن بن صالح ، عن الأسود بن قيس ، عن عمرو بن سفيان ، عن ابن عباس ، بنحوه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو غسان ،قال : حدثنا زهير بن معاوية ، قال : حدثنا الأسود بن قيس ، قال : حدثني عمرو بن سفيان ، قال : سمعت ابن عباس يقول ، وذكرت عنده هذه الآية : "ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا" قال : السكر : ما حرم منهما ، والرزق الحسن : ما أحل منهما .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا سفيان ،عن الأسود بن قيس ، عن عمرو بن سفيان البصري ، قال : قال ابن عباس "تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا" قال : فأما الرزق الحسن :فما أحل من ثمرتهما ، وأما السكر : فما حرم من ثمرتهما .
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا الحماني ،قال :حدثنا شريك ، عن الأسود ، عن عمرو بن سفيان البصري ، عن ابن عباس "تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا" قال : السكر : حرامه ، والرزق الحسن : حلاله .
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا العباس بن أبي طالب ، قال :حدثنا أبو عوانة ، عن الأسود ،عن عمرو بن سفيان ، عن ابن عباس قال :السكر : ما حرم من ثمرتهما ، والرزق الحسن : ما حل من ثمرتهما .
حدثنا احمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال :حدثنا إسرائيل ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال :الرزق الحسن ،والسكر : الحرام .
حدثنا ابن بشار ، قال :حدثنا عبد الرحمن ، قال :حدثنا سفيان ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير : "تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا" قال :ما حرم من ثمرتهما ،وما أحل من ثمرتهما .
حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير ، قال : السكر خمر ، والرزق الحسن الحلال .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن مسعر و سفيان ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير ، قال : الرزق الحسن : الحلال ، والسكر : الحرام .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير ، بنحوه .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ،في هذه الآية "تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا" قال : السكر : الحرام ،والرزق الحسن : الحلال .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن أبي رزين "تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا" قال :نزل هذا وهم يشربون الخمر ، فكان هذا قبل أن ينزل تحريم الخمر .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال :حدثنا شعبة ، عن المغيرة ، عن إبراهيم و الشعبي وأبي رزين ، قالوا : هي منسوخة في هذه الآية : "تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا" .
حدثنا الحسن بن عرفة ، قال : حدثنا أبو قطن ، عن سعيد ، عن المغيرة ، عن إبراهيم و الشعبي ، و أبي رزين بمثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، في قوله "تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا" قال : هي منسوخة نسخها تحريم الخمر .
حدثنا محمد بن بشار ، قال :حدثنا هوذة ، قال :حدثنا عوف ،عن الحسن ، في قوله "تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا" ، قال :ذكر الله نعمته في السكر قبل تحريم الخمر .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن منصور وعوف ، عن الحسن ، قال : السكر : ما حرم الله منه ، والرزق : ما أحل الله منه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن الحسن ،قال : الرزق الحسن : الحلال ، والسكر : الحرام .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سلمة ، عن الضحاك ، قال :الرزق الحسن : الحلال ، والسكر : الحرام .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن أبي كدينة يحيى بن المهلب ، عن ليث ، عن مجاهد ،قال: السكر : الخمر ، والرزق الحسن : الرطب والأعناب .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا شريك ، عن ليث ، عن مجاهد : "تتخذون منه سكرا" قال : هي الخمر قبل أن تحرم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل جميعاً ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : "تتخذون منه سكرا" قال :الخمر قبل تحريمها : "ورزقا حسنا" قال : طعاماً .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ،عن مجاهد ، بنحوه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله "ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا" أما السكر : فخمور هذه الأعاجم ، وأما الرزق الحسن : فما تنتبذون ، وما تخللون ، وما تأكلون ، ونزلت هذه الآية ولم تحرم الخمر يومئذ ، وإنما جاء تحريمها بعد ذلك في سورة المائدة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبدة بن سليمان ، قال : قرأت على ابن أبي عذرة ، قال :هكذا سمعت قتادة : "تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا" ثم ذكر نحو حديث بشر .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : "سكرا" قال : هي خمور الأعاجم ، ونسخت في سورة المائدة ، والرزق الحسن : قال : ما تنتبذون وتخللون وتأكلون .
حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، "ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا" وذلك أن الناس كانوا يسمون الخمر سكراً ، وكانوا يشربونها ، قال ابن عباس : مر رجال بوادي السكران الذي كانت قريش تجتمع فيه ، إذا تلقوا مسافريهم إذا جاءوا من الشام ، وانطلقوا معهم يشيعونهم حتى يبلغوا وادي السكران ثم يرجعوا منه ،ثم سماها الله بعد ذلك الخمر حين حرمت ، وقد كان ابن عباس يزعم انها الخمر ،وكان يزعم أن الحبشة يسمون الخل السكر . وقوله "ورزقا حسنا" يعني بذلك : الحلال التمر والزبيب ، وما كان حلالاً لا يسكر .
وقال آخرون : السكر بمنزلة الخمر في التحريم ، وليس بخمر ،وقالوا : هو نقيع التمر والزبيب إذا اشتد وصار يسكر شاربه .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا الحكم بن بشير ،قال : حدثنا عمرو ، في قوله "ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا" قال ابن عباس : كان هذا قبل أن ينزل تحريم الخمر والسكر حرام مثل الخمر ، وأما الحلال منه ، فالزبيب والتمر والخل ونحوه .
حدثني المثنى ، وعلي بن داود ، قالا : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله "تتخذون منه سكرا" فحرم الله بعد ذلك ، يعني ما أنزل في سورة البقرة من ذكر الخمر ، والميسر والأنصاب والأزلام ، السكر مع تحريم الخمر لأنه منه ، قال ( ورزقا حسنا) فهو الحلال من الخل والنبيذ ، وأشباه ذلك ، فأقره الله ، وجعله حلالاً للمسلمين .
حدثنا احمد ، قال : حدثنا أبو احمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن موسى : قال : سألت مرة عن السكر فقال : قال عبد الله : هو خمر .
حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي فروة ، عن أبي عبد الرحمن بن أبي ليلى ، قال : السكر : خمر .
حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي الهيثم ، عن إبراهيم ، قال : السكر : خمر .
حدثنا أحمد ، قال :حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا حسن بن صالح ، عن مغيرة ، عن إبراهيم و أبي رزين ، قالا : السكر : خمر .
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : "تتخذون منه سكرا" يعني :ما أسكر من العنب والتمر "ورزقا حسنا" يعني : ثمرتها .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : "تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا" قال : الحلال ما كان على وجه الحلال حتى غيروها فجعلوا منها سكراً .
وقال آخرون : السكر : هو كل ما كان حلالاً شربه ، كالنبيذ الحلال والخل والرطب ، والرزق الحسن : التمر والزبيب .
ذكر من قال ذلك :
حدثني داود الواسطي ، قال :حدثنا أبو أسامة ، قال أبو روق : حدثني قال : قلت لـ لشعبي : أرأيت قوله تعالى : "تتخذون منه سكرا" أهو هذا السكر الذي تصنعه النبط ؟ قال : لا ، هذا خمر ، إنما السكر الذي قال الله تعالى ذكره : النبيذ والخل ، والرزق الحسن : التمر والزبيب .
حدثني يحيى بن داود ، قال : حدثنا أبو أسامة ، قال : وذكر مجالد ، عن عامر ، نحوه .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو احمد ، قال : حدثنا مندل ،عن ليث ، عن مجاهد : "تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا" قال : ما كانوا يتخذون من النخل النبيذ ،والرزق الحسن : ما كانوا يصنعون من الزبيب والتمر .
حدثنا أحمد، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال: حدثنا مندل ، عن أبي روق ، عن الشعبي ، قال : قلت له : ما تتخذون منه سكراً ؟ قال : كانوا يصنعون من النبيذ والخل ، قلت :والرزق الحسن ؟ قال : كانوا يصنعون من التمر والزبيب .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة وأحمد بن بشير ، عن مجالد ، عن الشعبي ، قال : السكر :النبيذ والرزق الحسن : التمر الذي كان يؤكل . وعلى هذا التأويل ، الآية غير منسوخة ، بل حكمها ثابت .
وهذا التأويل عندي هو أولى الأقوال بتأويل هذه الآية ، وذلك أن السكر في كلام العرب على أحد أوجه أربعة : أحدها : ما أسكر من الشراب . والثاني : ما طعم من الطعام ، كما قال الشاعر :
‌‌‌‌جعلت عيب الأكرمين سكرا‌
أي طعماً . والثالث : السكون من قول الشاعر :
جعلت عين الحرور تسكر
وقد بينا ذلك فيما مضى . والرابع : المصدر من قولهم : سكر فلان يسكر سكراً وسكراً وسكراً ، فإذا كان ذلك كذلك ، وكان ما يسكر من الشراب حراماً بما قد دللنا عليه في كتابنا المسمى : لطيف القول في أحكام شرائع الإسلام وكان غير جائز لنا أن نقول : هو منسوخ ، إذ كان المنسوخ هو ما نفى حكمه الناسخ ، وما لا يجوز اجتماع الحكم به وناسخه ، ولم يكن في حكم الله تعالى ذكره بتحريم الخمر دليل على أن السكر الذي هو غير الخمر ، وغير ما يسكر من الشراب ، حرام ،إذ كان السكر أحد معانيه عند العرب ، ومن نزل بلسانه القرآن هو كل ما طعم ، ولم يكن مع ذلك ، إذ لم يكن في نفس التنزيل دليل على أنه منسوخ ، أو ورد بأنه منسوخ خبر من الرسول ، ولا أجمعت عليه الأمة ، فوجب القول بما قلنا من أن معنى السكر في هذا الموضع : هو مل ما حل شربه ، مما يتخذ من ثمر النخل والكرم ، وفسد أن يكون معناه الخمر أو ما يسكر من الشراب ، وخرج من أن يكون معناه السكر نفسه ، إذ كان السكر ليس مما يتخذ من النخل والكرم ، ومن أن يكون بمعنى السكون .
وقوله : "إن في ذلك لآية لقوم يعقلون" يقول : فيما إن وصفنا لكم من نعمنا التي آتيناكم أيها الناس من الأنعام والنخل والكرم ، لدلالة واضحة وآية بينة لقوم يعقلون عن الله حججه ، ويفهمون عنه مواعظه ، فيتعضون بها .

فيه مسألتان:
الأولى - قوله تعالى: " ومن ثمرات النخيل " قال الطبري : التقدير ومن ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون، فحذف ( ما) ودل على حذفه قوله: ( منه). وقيل: حذف المحذوف شيء، والأمر قريب. وقيل: معنى ( منه) أي من المذكور، فلا يكون في الكلام حذف وهو أولى. ويجوز أن يكون قوله: ( ومن ثمرات) عطفاً على ( الأنعام)، أي ولكم من ثمرات النخيل والأعناب عبرة. ويجوز أن يكون معطوفاً على ( مما) أي ونسقيكم أيضاً مشروبات من ثمرات.
الثانية - قوله تعالى: " سكرا " السكر ما يسكر، هذا هو المشهور في اللغة. قال ابن عباس: نزلت هذه الآية قبل تحريم الخمر. وأراد بالسكر الخمر، وبالرزق الحسن جميع ما يؤكل ويشرب حلالاً من هاتين الشجرتين. وقال بهذا القول ابن جبير و النخعي و الشعبي وأبو ثور. وقد قيل: إن السكر الخل بلغة الحبشة، والرزق الحسن الطعام. وقيل: السكر العصير الحلو الحلال، وسمي سكراً لأنه قد يصير مسكراً إذا بقي، فإذا بلغ الإسكار حرم. قال ابن العربي : ( أسد هذه الأقوال قول ابن عباس، ويخرج ذلك على أحد معنيين، إما أن يكون ذلك قبل تحريم الخمر، وإما أن يكون المعنى: أنعم الله عليكم بثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه ما حرم الله عليكم اعتداء منكم، وما أحل لكم اتفاقاً أو قصداً إلى منفعة أنفسكم. والصحيح أن ذلك كان قبل تحريم الخمر فتكون منسوخة، فإن هذه الآية مكية باتفاق من العلماء، وتحريم الخمر مدني).
قلت: فعلى أن السكر الخل أو العصير الحلو لا نسخ، وتكون الآية محكمة وهو حسن. قال ابن عباس: الحبشة يسمون الخل السكر، إلا أن الجمهور على أن السكر الخمر، منهم ابن مسعود وابن عمر وأبو رزين والحسن ومجاهد وابن أبي ليلى و الكلبي وغيرهم ممن تقدم ذكرهم، كلهم قالوا: السكر ما حرمه الله من ثمرتيهما. وكذا قال أهل اللغة: السكر اسم للخمر وما يسكر، وأنشدوا:
بئس الصحاة وبئس الشرب شربهم إذا جرى فيهم المزاء والسكر
والرزق الحسن: ما أحله الله من ثمرتيهما. وقيل: إن قوله ( تتخذون منه سكرا) خبر معناه الاستفهام بمعنى الإنكار، أي أتتخذون منه سكراً وتدعون رزقاً حسناً الخل والزبيب والتمر، كقوله: " فهم الخالدون " ( الأنبياء: 34) أي أفهم الخالدون. والله أعلم. وقال أبو عبيدة: السكر الطعم، يقال: هذا سكر لك أي طعم. وأنشد:
جعلت عيب الأكرمين سكراً
أي جعلت ذمهم طعماً. وهذا اختيار الطبري أن السكر ما يطعم من الطعام وحل شربه من ثمار النخيل والأعناب، وهو الرزق الحسن، فاللفظ مختلف والمعنى واحد، مثل " إنما أشكو بثي وحزني إلى الله " ( يوسف: 86) وهذا حسن ولا نسخ، إلا أن الزجاج قال: قول أبي عبيدة هذا لا يعرف، وأهل التفسير على خلافه، ولا حجة له في البيت الذي أنشده، لأن معناه عند غيره أنه يصف أنها تتخمر بعيوب الناس. وقال الحنفيون: المراد بقوله: ( سكرا) ما لا يسكر من الأنبذة، والدليل عليه أن الله سبحانه وتعالى امتن على عباده بما خلق لهم من ذلك، ولا يقع الامتنان إلا بمحلل لا بمحرم، فيكون ذلك دليلاً على جواز شرب ما دون المسكر من النبيذ، فإذا انتهى إلى السكر لم يجز، وعضدوا هذا من السنة بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " حرم الله الخمر بعينها والسكر من غيرها ". وبما رواه عبد الملك بن نافع عن ابن عمر قال: " رأيت رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عند الركن، ودفع إليه القدح فرفعه إلى فيه فوجده شديداً فرده إلى صاحبه، فقال له حينئذ رجل من القوم: يا رسول الله، أحرام هو؟ فقال: ( علي بالرجل) فأتي به فأخذ منه القدح، ثم دعا بماء فصبه فيه ثم رفعه إلى فيه فقطب، ثم دعا بماء أيضاً فصبه فيه ثم قال: ( إذا اغتلمت عليكم هذه الأوعية فاكسروا متونها بالماء ". وروي: " أنه عليه السلام كان ينبذ له فيشربه ذلك اليوم، فإذا كان من اليوم الثاني أو الثالث سقاه الخادم إذا تغير، ولو كان حراماً ما سقاه إياه ". قال الطحاوي : وقد روى أبو عون الثقفي عن عبد الله بن شداد عن ابن عباس قال: " حرمت الخمر بعينها القليل منها والكثير والسكر من كل شراب "، خرجه الدارقطني أيضاً. ففي هذا الحديث وما مثله، أن غير الخمر لم تحرم عينه كما حرمت الخمر بعينها. قالوا: والخمر شراب العنب لا خلاف فيها، ومن حجتهم أيضاً ما رواه شريك بن عبد الله، حدثنا أبو إسحاق الهمداني عن عمرو بن ميمون قال قال عمر بن الخطاب: إنا نأكل لحوم هذه الإبل وليس يقطعه من بطوننا إلا النبيذ. قال شريك: ورأيت الثوري يشرب النبيذ في بيت حبر أهل زمانه مالك بم مغول. والجواب أن قولهم: إن الله سبحانه وتعالى امتن على عباده ولا يكون امتنانه إلا بما أحل فصحيح، بيد أنه يحتمل أن يكون ذلك قبل تحريم الخمر كما بيناه فيكون منسوخاً كما قدمناه. قال ابن العربي : إن قيل كيف ينسخ هذا وهو خبر والخبر لا يدخله النسخ، قلنا: هذا كلام من لم يتحقق الشريعة، وقد بينا أن الخبر إذا كان عن الوجود الحقيقي أو عن إعطاء ثواب فضلاً من الله فهو الذي لا يدخله النسخ، فأما إذا تضمن الخبر حكماً شرعياً فالأحكام تتبدل وتنسخ، جاءت بخبر أو أمر، ولا يرجع النسخ إلى نفس اللفظ وإنما يرجع إلى ما تضمنه، فإذا فهمتم هذا خرجتم عن الصنف الغبي الذي أخبر الله عن الكفار فيه بقوله: " وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون " ( النحل: 101). المعنى أنهم جهلوا أن الرب يأمر بما يشاء ويكلف ما يشاء، ويرفع من ذلك بعدله ما يشاء ويثبت ما يشاء وعنده أم الكتاب.
قلت: هذا تشنيع شنيع حتى يلحق فيه العلماء الأخيار في قصور الفهم بالكفار، والمسألة أصولية، وهي أن الأخبار عن الأحكام الشرعية هل يجوز نسخها أم لا؟ اختلف في ذلك، والصحيح جوازه لهذه الآية وما كان مثلها، ولأن الخبر عن مشروعية حكم ما يتضمن طلب ذلك المشروع، وذلك الطلب هو الحكم الشرعي الذي يستدل على نسخه. والله أعلم. وأما ما ذكروا من الأحاديث فالأول والثاني ضعيفان، لأنه عليه السلام قد روي عنه بالنقل الثابت أنه قال: " كل شراب أسكر فهو حرام " وقال: " كل مسكر خمر وكل مسكر حرام " وقال: " ما أسكر كثيره فقليله حرام ". قال النسائي : وهؤلاء أهل الثبات والعدالة مشهورون بصحة النقل، وعبد الملك لا يقوم مقام واحد منهم ولو عاضده من أشكاله جماعة، وبالله التوفيق. وأما الثالث وإن كان صحيحاً فإنه ما كان يسقيه للخادم على أنه مسكر، وإنما كان يسقيه لأنه متغير الرائحة. وكان صلى الله عليه وسلم يكره أن توجد منه الرائحة، فلذلك لم يشربه، ولذلك تحيل عليه أزواجه في عسل زينب بأن قيل له: إنا نجد منك ريح مغافير، يعني ريحاً منكرة، فلم يشربه بعد. وسيأتي في التحريم. وأما حديث ابن عباس فقد روي عنه خلاف ذلك من رواية عطاء وطاوس ومجاهد أنه قال: ما أسكر كثيره فقليله حرام، ورواه عنه قيس بن دينار. وكذلك فتياه في المسكر، قاله الدارقطني . والحديث الأول رواه عنه عبد الله بن شداد وقد خالفه الجماعة، فسقط القول به مع ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأما ما روي عن عمر من قوله: ليس يقطعه في بطوننا إلا النبيذ، فإنه يريد غير المسكر بدليل ما ذكرنا. وقد روى النسائي عن عتبة بن فرقد قال: كان النبيذ الذي شربه عمر بن الخطاب قد خلل. قال النسائي : ومما يدل على صحة هذا حديث السائب، قال الحارث بن مسكين قراءة عليه وأنا أسمع عن ابن القاسم: حدثني مالك عن ابن شهاب عن السائب بن يزيد، أنه أخبره أن عمر بن الخطاب خرج عليهم فقال: إني وجدت من فلان ريح شراب، فزعم أنه شراب الطلاء، وأنا سائل عما شرب، فإن كان مسكراً جلدته، فجلده عمر بن الخطاب رضي الله عنه الحد تاماً. وقد قال في خطبته على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أما بعد، أيها الناس فإنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة: من العنب والعسل والتمر والحنطة والشعير. والخمر ما خامر العقل. وقد تقدم في ( المائدة). فإن قيل: فقد أحل شربه إبراهيم النخعي وأبو جعفر الطحاوي وكان إمام أهل زمانه، وكان سفيان الثوري يشربه. قلنا: ذكر النسائي في كتابه أن أول من أحل المسكر من الأنبذة إبراهيم النخعي، وهذه ذلة من عالم وقد حذرنا من زلة العالم، ولا حجة في قول أحد مع السنة. وذكر النسائي أيضاً عن ابن المبارك قال: ما وجدت الرخصة في المسكر عن أحد صحيحاً إلا عن إبراهيم. قال أبو أسامة: ما رأيت رجلاً أطلب للعم من عبد الله بن المبارك الشامات ومصر واليمن والحجاز. وأما الطحاوي وسفيان لو صح ذلك عنهما لم يحتج بهما من خالفهما من الأئمة في تحريم المسكر مع ما ثبت م السنة، على أن الطحاوي قد ذكر في كتابه الكبير في الاختلاف خلاف ذلك. قال أبو عمر بن عبد البر في كتاب التمهيد له: قال أبو جعفر الطحاوي اتفقت الأمة على أن عصير العنب إذا اشتد وغلى وقذف بالزبد فهو خمر ومستحله كافر. واختلفوا في نقيع التمر إذا إلى وأسكر. قال: فهذا يدلك على أن حديث يحيى بن أبي كثير عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنب " غير معمول به عندهم، لأنهم لو قبلوا الحديث لأكفروا مستحل نقيع التمر، فقبت أنه لم يدخل في الخمر المحرمة غير عصير العنب الذي قد اشتد وبلغ أن يسكر. قال: ثم لا يخلو من أن يكون التحريم معلقاً بها فقط غير مقيس عليها غيرها أو يجب القياس عليها، فوجدناهم جميعاً قد قاسوا عليها نقيع التمر إذا إلى وأسكر كثيره وكذلك نقيع الزبيب. قال: فوجب قياساً على ذلك أن يحرم كل ما أسكر من الأشربة. قال: وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: كل مسكر حرام " واستغنى عن مسنده لقبول الجميع له، وإنما الخلاف بينهم في تأويله، فقال بعضهم: أراد به جنس ما يسكر. وقال بعضهم: أراد به ما يقع السكر عنده كما لا يسمى قاتلاً إلا مع وجود القتل.
قلت: فهذا يدل على أنه محرم عند الطحاوي لقوله، فوجب قياساً على ذلك أن يحرم كل ما أسكر من الأشربة. وقد روى الدارقطني في سننه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: إن الله لم يحرم لاسمها وإنما حرمها لعاقبتها، فكل شراب يكون عاقبته كعاقبة الخمر فهو حرام كتحريم الخمر. قال ابن المنذر: وجاء أهل الكوفة بأخبار معلومة، وإذا اختلف الناس في شيء وجب رد ذلك إلى كتاب الله وسنة رسوله عليه السلام، وما وري عن بعض التابعين أنه شرب الشراب الذي يسكر كثيره فللقوم ذنوب يستغفرون الله منها، وليس يخلو ذلك من أحد معنيي: إما مخطيء أخطأ في التأويل على حديث سمعه، أو رجل أتى ذنباً لعله أن يكثر من الاستغفار لله تعال، والنبي صلى الله عليه وسلم حجة الله على الأولين والآخرين من هذه الآمة. وقد قيل في تأويل الآية: إنها إنما ذكرت للاعتبار، أي من قدر على خلق هذه الاشياء قادر على البعث، وهذا الاعتبار لا يختلف بأن كانت الخمر حلالاً أو حراماً، فاتخاذ السكر لا يدل على التحريم، وهو كما قال تعالى: " قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس " ( البقرة: 219) والله أعلم.
يقول تعالى: "وإن لكم" أيها الناس"في الأنعام" وهي الإبل والبقر والغنم "لعبرة" أي لاية ودلالة على حكمة خالقها وقدرته ورحمته ولطفه "نسقيكم مما في بطونه" أفردها ههنا عوداً على معنى النعم, أو الضمير عائد على الحيوان, فإن الأنعام حيوانات أي نسقيكم مما في بطن هذا الحيوان, وفي الاية الأخرى مما في بطونها, ويجوز هذا وهذا, كما في قوله تعالى: " كلا إنها تذكرة * فمن شاء ذكره " وفي قوله تعالى: " وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون * فلما جاء سليمان " أي المال .
وقوله: "من بين فرث ودم لبناً خالصاً" أي يتخلص اللبن بياضه وطعمه وحلاوته, ما بين فرث ودم في باطن الحيوان, فيسري كل إلى موطنه إذا نضج الغذاء في معدته, فيصرف منه دم إلى العروق, ولبن إلى الضرع, وبول إلى المثانة, وروث إلى المخرج, وكل منها لا يشوب الاخر ولا يمازجه بعد انفصاله عنه ولا يتغير به. وقوله: "لبناً خالصاً سائغاً للشاربين" أي لا يغص به أحد, ولما ذكر اللبن وأنه تعالى جعله شراباً للناس سائغاً ثنى بذكر ما يتخذه الناس من الأشربة من ثمرات النخيل والأعناب, وما كانوا يصنعون من النبيذ المسكر قبل تحريمه, ولهذا امتن به عليهم فقال: "ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً" دل على إباحته شرعا قبل تحريمه, ودل على التسوية بين المسكر المتخذ من النخل والمتخذ من العنب, كما هو مذهب مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء, وكذا حكم سائر الأشربة المتخذة من الحنطة والشعير والذرة والعسل, كما جاءت السنة بتفصيل ذلك, وليس هذا موضع بسط ذلك.
كما قال ابن عباس في قوله: "سكراً ورزقاً حسناً" السكر ما حرم من ثمرتيهما, والرزق الحسن ما أحل من ثمرتيهما, وفي رواية: السكر حرامه, والرزق الحسن حلاله, يعني ما يبس منهما من تمر وزبيب, وما عمل منهما من طلاء وهو الدبس وخل ونبيذ, حلال يشرب قبل أن يشتد كما وردت السنة بذلك " إن في ذلك لآية لقوم يعقلون " ناسب ذكر العقل ههنا فإنه أشرف ما في الإنسان, ولهذا حرم الله على هذه الأمة الأشربة المسكرة صيانة لعقولها, قال الله تعالى: " وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون * ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون * سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون ".
67- "ومن ثمرات النخيل والأعناب" قال ابن جرير: التقدير، ومن ثمرات النخيل والأعناب مما تتخذون، فحذف ما ودل على حذفه قوله منه وقيل هو معطوف على الأنعام، والتقدير: وإن لكم من ثمرات النخيل والأعناب لعبرة، ويجوز أن يكون معطوفاً على مما في بطونه: أي نسقيكم مما في بطونه ومن ثمرات النخيل، ويجوز أن يتعلق بمحذوف ودل عليه ما قبله تقديره: ونسقيكم من ثمرات النخيل، ويكون على هذا "تتخذون منه سكراً" بياناً للإسقاء وكشفاً عن حقيقته، ويجوز أن يتعلق بتتخذون تقديره ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون منه سكراً، ويكون تكرير الظرف، وهو قوله منه للتأكيد كقولك زيد في الدار فيها، وإنما ذكر الضمير في منه لأنه يعود إلى المذكور، أو إلى المضاف المحذوف: وهو العصير كأنه قيل ومن عصير ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه، والسكر ما يسكر من الخمر، والرزق الحسن جميع ما يؤكل من هاتين الشجرتين كالثمر والدبس والزبيب والخل، وكان نزول هذه الآية قبل تحريم الخمر، وقيل إن السكر الخل بلغة الحبشة، والرزق الحسن الطعام من الشجرتين، وقيل السكر العصير الحلو الحلال، وسمي سكراً لأنه قد يصير مسكراً إذا بقي، فإذا بلغ الإسكار حرم. والقول الأول أولى وعليه الجمهور، وقد صرح أهل اللغة بأن السكر اسم للخمر، ولم يخالف في ذلك إلا أبو عبيدة فإنه قال: السكر الطعم. ومما يدل على ما قاله جمهور أهل اللغة قول الشاعر:
بئس الصحاب وبئس الشرب شربهم إذا جرى فيهم الهذي والسكر
ومما يدل على ما قاله أبو عبيدة ما أنشده:
جعلت عيب الأكرمين سكراً
أي جعلت ذمهم طعماً، ورجح هذا ابن جرير فقال: إن السكر ما يطعم من الطعام ويحل شربه من ثمار النخيل والأعناب وهو الرزق الحسن، فاللفظ مختلف والمعنى واحد مثل "إنما أشكو بثي وحزني إلى الله" قال الزجاج: قول أبي عبيدة هذا لا يعرف، وأهل التفسير على خلافه ولاحجة في البيت الذي أنشده لأن معناه عند غيره أنه يصف أنها تتحمر بعيوب الناس، وقد حمل السكر جماعة من الحنفية على ما لا يسكر من الأنبذة وعلى ما ذهب ثلثاه بالطبخ، قالوا: وإنما يمتن الله على عباده بما أحله لهم لا بما حرمه عليهم، وهذا مردود بالأحاديث الصحيحة المتواترة على فرض تأخره عن آية تحريم الخمر اهـ. "إن في ذلك لآية لقوم يعقلون" أي لدلالة لمن يستعمل العقل ويعمل بما يقتضيه عند النظر في الآيات التكوينية.
67 - " ومن ثمرات النخيل والأعناب " ، يعني : ولكم أيضاً عبرة فيما نسقيكم ونرزقكم من ثمرات النخيل والأعناب ، " تتخذون منه " والكناية في " منه " عائدة إلى ( ما ) محذوفة أي : ما تتخذون منه ، " سكراً ورزقاً حسناً " .
قال قوم : ( السكر ) : الخمر ، و ( الرزق الحسن ) : الخل ، والزبيب , والتمر والرب ، قالوا : وهذا قبل تحريم الخمر . وإلى هذا ذهب ابن مسعود وابن عمر ، و سعيد بن جبير ، و الحسن و مجاهد .
وقال الشعبي : ( السكر ) : ما شربت ، و ( الرزق الحسن ) : ما أكلت .
وروى العوفي عن ابن عباس : أن ( السكر ) هو الخل ، لغة الحبشة .
وقال بعضهم : ( السكر ) النبيذ المسكر ، وهو نقيع التمر والزبيب إذا اشتد ، والمطبوخ من العصير ، وهو قول الضحاك و النخعي .
ومن يبيح شرب النبيذ ومن حرمه يقول : المراد من الآية : الإخبار لا الإحلال .
وأولى الأقاويل أن قوله : " تتخذون منه سكراً " منسوخ ، روي عن ابن عباس قال ( السكر ) [ ما حرم ] من ثمرها ، و( الرزق الحسن ) : ما أحل .
وقال أبو عبيدة : ( السكر ) : الطعم ، يقال هذا سكر لك أي : طعم .
" إن في ذلك لآية لقوم يعقلون " .
67."ومن ثمرات النخيل والأعناب"متعلق بمحذوف أي ونسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب أي من عصيرهما، وقوله: "تتخذون منه سكراً"استئناف لبيان الإسقاء أو بـ"تتخذون"، ومنه تكرير للظرف تأكيداً أو خبر لمحذوف صفته"تتخذون"، أي ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون منه ، وتذكير الضمير على الوجهين الأولين لأنه للمضاف المحذوف الذي هو العصير ، أو لأن الـ"ثمرات"بمعنى الثمر والـ"سكر"مصدر سمي به الخمر . "ورزقاً حسناً "كالتمر والزبيب والدبس والخل ، والآية إن كانت سابقة على تحريم الخمر فدالة على كراهتها وإلا فجامعة بين العتاب والمنة.وقيل الـ"سكر"النبيذ وقيل الطعم قال:
جعلت أعراض الكرام سكرا
أي تنقلت بأعراضهم . وقيل ما يسد الجوع من السكر فيكون الرزق ما يحصل من أثمانه ."إن في ذلك لآيةً لقوم يعقلون "يستعملون عقولهم بالنظر والتأمل في الآيات .
67. And of the fruits of the date palm, and grapes, whence ye derive strong drink and (also) good nourishment. Lo! therein, is indeed a portent for people who have sense.
67 - And from the fruit of the date palm and the vine, ye get out wholesome drink and food: behold, in this also is a sign for those who are wise.