[النحل : 127] وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ
127 - (واصبر وما صبرك إلا بالله) بتوفيقه (ولا تحزن عليهم) أي الكفار إن لم يمنوا لحرصك على إيمانهم (ولا تك في ضيق مما يمكرون) أي لا تهتم بمكرهم فأنا ناصرك عليهم
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : واصبر يا محمد على ما أصابك من أذى في الله ، "وما صبرك إلا بالله" يقول : وما صبرك إن صبرت إلا بمعونة الله ، وتوفيقه إياك لذلك "ولا تحزن عليهم" يقول :ولا تحزن على هؤلاء المشركين الذين يكذبونك ، وينكرون ما جئتهم به في آن ولوا عنك وأعرضوا عما أتيتهم به من النصيحة "ولا تك في ضيق مما يمكرون" يقول : ولا يضيق صدرك بما يقولون من الجهل ، ونسبتهم ما جئتهم به إلى أنه سحر أو شعر أو كهانة . "مما يمكرون" : مما يحتالون بالخدع في الصد عن سبيل الله ، ومن أراد الإيمان بك ، والتصديق بما أنزل الله إليك .
واختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء العراق "ولا تك في ضيق" بفتح الضاد في الضيق على المعنى الذي وصفت من تأويله . وقرأه بعض قراء أهل المدينة ولا تك في ضيق بكسر الضاد .
وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندنا قراءة من قرأه في ضيق ، بفتح الضاد ، لأن الله تعالى إنما نهى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يضيق صدره مما يلقى من أذى المشركين على تبليغه إياهم وحي الله وتنزيله ، فقال له ( فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به ) وقال ( فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير ) ، وإذ كان ذلك هو الذي نهاه تعالى ذكره ، ففتح الضاد هو الكلام المعروف من كلام العرب في ذلك المعنى ،تقول العرب في صدري من هذا ضيق ، وإنما تكسر الضاد في الشيء المعاش ، وضيق المسكن ، ونحو ذلك ، فإن وقع الضيق بفتح الضاد في موضع الضيق بالكسر ، كان على الذي يتسع احياناً ، ويضيق من قلة أحد وجهين ، إما على جمع الضيقة ، كما قال أعشى بني ثعلبة :
فلئن ربك من رحمته كشف الضيقة عنا وفسح
والآخر على تخفيف الشيء الضيق ، كما يخفف الهين اللين ، فيقال : هو هين لين .
فيه مسألة واحدة : قال ابن زيد هي منسوخة بالقتال وجمهور الناس على أنها محكمة أي اصبر بالعفو عن المعاقبة عن المعاقبة بمثل ما عاقبوا من المثلة " ولا تحزن عليهم " أي على قتلى أحد إنهم صاروا إلى رحمة الله "ولا تك في ضيق " ضيق جمع ضيقة قال الشاعر :
‌ كشف الضيقة عنا وفسح
وقراءة الجمهور بفتح الضاد وقرأ ابن كثير بكسر الضاد ورويت عن نافع وهو غلط ممن رواه . قال بعض اللغويين : الكسر والفتح في الضاد لغتان في المصدر قال الأخفش الضيق والضيق مصدر ضاق يضيق . والمعنى : لا يضيق صدرك من كفرهم وقال الفراء الضيق ما ضاق عنه صدرك والضيق ما يكون في الذي يتسع ويضيق مثل الدار والثوب ، وقال ابن السكيت هما سواء ، يقال في صدره ضيق وضيق القتبي ضيق مخفف ضيق ، أي لا تكن في أمر ضيق فخفف مثل هين وهين ، وقال ابن عرفة يقال ضاق الرجل إذا بخل ، وأضاق إذا افتقر وقوله " إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون " أي الفواحش والكبائر بالنصر والمعونة والفضل والبر والتأييد وتقدم معنى الإحسان وقيل لهرم بن حبان عند موته : أوصنا فقال : أوصيكم بآيات الله وآخر سورة النحل "ادع إلى سبيل ربك " إلى آخرها .
تمت سورة النحل والحمد لله رب العالمين .
يأمر تعالى بالعدل في القصاص والمماثلة في استيفاء الحق, كما قال عبد الرزاق عن الثوري عن خالد, عن ابن سيرين أنه قال في قوله تعالى: "فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به" إن أخذ منكم رجل شيئاً فخذوا مثله, وكذا قال مجاهد وإبراهيم والحسن البصري وغيرهم واختاره ابن جرير. وقال ابن زيد: كانوا قد أمروا بالصفح عن المشركين فأسلم رجال ذوو منعة فقالوا: يارسول الله لو أذن الله لنا لا نتصرنا من هؤلاء الكلاب. فنزلت هذه الاية, ثم نسخ ذلك بالجهاد.
وقال محمد بن إسحاق عن بعض أصحابه عن عطاء بن يسار قال: نزلت سورة النحل كلها بمكة, وهي مكية إلا ثلاث آيات من آخرها نزلت بالمدينة بعد أحد حين قتل حمزة رضي الله عنه ومثل به, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لئن أظهرني الله عليهم لأمثلن بثلاثين رجلاً منهم" فلما سمع المسلمون ذلك قالوا: والله لئن ظهرنا عليهم لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب بأحد قط, فأنزل الله "وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به" إلى آخر السورة, وهذا مرسل وفيه رجل مبهم لم يسم.
وقد روي هذا من وجه آخر متصل, فقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا الحسن بن يحيى, حدثنا عمرو بن عاصم, حدثنا صالح المري عن سليمان التيمي عن أبي عثمان, عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول لله صلى الله عليه وسلم وقف على حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه حين استشهد, فنظر إلى منظر لم ينظر إلى منظر أوجع للقلب منه, أو قال لقلبه, فنظر إليه وقد مثل به, فقال: "رحمة الله عليك إن كنت ما علمتك إلا وصولاً للرحم, فعولاً للخيرات, والله لولا حزن من بعدك عليك لسرني أن أتركك حتى يحشرك الله من بطون السباع ـ أو كلمة نحوها ـ أما والله على ذلك لأمثلن بسبعين كمثلتك" فنزل جبريل عليه السلام على محمد صلى الله عليه وسلم بهذه السورة وقرأ " وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به " إلى آخر الاية, فكفر رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني عن يمينه وأمسك عن ذلك, وهذا إسناد فيه ضعف, لأن صالحاً هو ابن بشير المري ضعيف عند الأئمة, وقال البخاري: هو منكر الحديث, وقال الشعبي وابن جريج: نزلت في قول المسلمين يوم أحد فيمن مثل بهم لنمثلن بهم فأنزل الله فيهم ذلك.
وقال عبد الله بن الإمام أحمد في مسند أبيه: حدثنا هدية بن عبد الوهاب المروزي, حدثنا الفضل بن موسى, حدثنا عيسى بن عبيد عن الربيع بن أنس عن أبي العالية, عن أبي بن كعب قال: لما كان يوم أحد قتل من الأنصار ستون رجلاً, ومن المهاجرين ستة, فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : لئن كان لنا يوم مثل هذا من المشركين لنربين عليهم, فلما كان يوم الفتح قال رجل: لا تعرف قريش بعد اليوم, فنادى مناد: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمن الأسود والأبيض إلا فلاناً وفلاناً ـ ناساً سماهم ـ فأنزل الله تبارك وتعالى " وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به " إلى آخر السورة, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نصبر ولا نعاقب" وهذه الاية الكريمة لها أمثال في القرآن, فإنها مشتملة على مشروعية العدل والندب إلى الفضل كما في قوله: "وجزاء سيئة سيئة مثلها" ثم قال: "فمن عفا وأصلح فأجره على الله" الاية. وقال: "والجروح قصاص" ثم قال "فمن تصدق به فهو كفارة له" وقال في هذه الاية: "وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به" ثم قال "ولئن صبرتم لهو خير للصابرين".
وقوله تعالى: "واصبر وما صبرك إلا بالله" تأكيد للأمر بالصبر وإخبار بأن ذلك لا ينال إلا بمشيئة الله وإعانته, وحوله وقوته, ثم قال تعالى: "ولا تحزن عليهم" أي على من خالفك فإن الله قدر ذلك "ولا تك في ضيق" أي غم "مما يمكرون" أي مما يجهدون أنفسهم في عداوتك وإيصال الشر إليك, فإن الله كافيك وناصرك ومؤيدك ومظهرك ومظفرك بهم. وقوله: "إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون" أي معهم بتأييده ونصره ومعونته وهديه وسعيه وهذه معية خاصة كقوله: "إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا" وقوله لموسى وهارون: " لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى" وقول النبي صلى الله عليه وسلم للصديق وهما في الغار: " لا تحزن إن الله معنا" وأما المعية العامة فبالسمع والبصر والعلم, كقوله تعالى: " وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير " وكقوله تعالى: " ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا " وكما قال تعالى: " وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا " الاية, ومعنى "الذين اتقوا" أي تركوا المحرمات, "والذين هم محسنون" أي فعلوا الطاعات, فهؤلاء الله يحفظهم ويكلؤهم وينصرهم ويؤيدهم ويظفرهم على أعدائهم ومخالفيهم, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا محمد بن بشار, حدثنا أبو أحمد الزبيري, حدثنا مسعر عن عون عن محمد بن حاطب: كان عثمان رضي الله عنه من الذين اتقوا والذين هم محسنون.
آخر تفسير سورة النحل ، ولله الحمد والمنة وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً .
ثم أمر الله سبحانه رسوله بالصبر فقال: 127- "واصبر" على ما أصابك من صنوف الأذى "وما صبرك إلا بالله" أي بتوفيقه وتثبيته، والاستثناء مفرغ من أعم الأشياء: أي وما صبرك مصحوباً بشيء من الأشياء إلا بتوفيقه لك، وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم. ثم نهاه عن الحزن فقال "ولا تحزن عليهم" أي على الكافرين في إعراضهم عنك، أو لا تحزن على قتلى أحد، فإنهم قد أفضوا إلى رحمة الله "ولا تكن في ضيق مما يمكرون" قرأ الجمهور بفتح الضاد، وقرأ ابن كثير بكسرها. قال ابن السكيت: هما سواء، يعني المفتوح والمكسور. وقال الفراء: الضيق بالفتح ما ضاق عنه صدرك، والضيق بالكسر ما يكون في الذي يتسع مثل الدار والثوب، وكذا قال الأخفش، وهو من الكلام المقلوب، لأن الضيق وصف للإنسان يكون فيه ولا يكون الإنسان فيه، وكأنه أراد وصف الضيق بالعظم حتى صار كالشيء المحيط بالإنسان من جميع جوانبه، ومعنى مما يمكرون: من مكرهم لك فيما يستقبل من الزمان.
127 - " واصبر وما صبرك إلا بالله " ، أي : بمعونة الله وتوفيقه ،" ولا تحزن عليهم " ، في إعراضهم عنك ،" ولا تك في ضيق مما يمكرون " ، أي : فيما فعلوا من الأفاعيل .
قرأ ابن كثير هاهنا وفي النمل " ضيق " بكسر الضاد وقرأ الآخرون بفتح الضاد ،قال أهل الكوفة : هما لغتان مثل رطل ورطل .
وقال أبو عمرو : ( الضيق ) بالفتح : الغم ،وبالكسر : الشدة
وقال أبوعبيده ( الضيق ) بالكسر في قلة المعاش وفي المساكن ، فأما ما كان في القلب والصدر فإنه بالفتح .
وقال ابن قتيبه : الضيق تخفيف مثل هين وهين ، ولين ولين ، فعلى هذا هو صفة ، كأنه قال : ولا تكن في أمر ضيق من مكرهم .
127."واصبر وما صبرك إلا بالله"إلا بتوفيقه وتثبيته."ولا تحزن عليهم"على الكافرين أو على المؤمنين وما فعل بهم."ولا تك في ضيق مما يمكرون"في ضيق صدر من مكرهم ، وقرأابن كثيرفي "ضيق"بالكسر هنا وفي النمل وهما لغتان كالقول والقيل ويجوز أن يكون الضيق تخفيف ضيق.
127. Endure thou patiently (O Muhammad). Thine endurance is only by (the help of) Allah. Grieve not for them, and be not in distress because of that which they devise.
127 - And do thou be patient, for thy patience is but from God; nor grieve over them: and distress not thyself because of their plots.