[إبراهيم : 51] لِيَجْزِي اللّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ
51 - (ليجزي) متعلق ببرزوا (الله كل نفس ما كسبت) من خير وشر (إن الله سريع الحساب) يحاسب جميع الخلق في قدر نصف نهار من أيام الدنيا لحديث بذلك
يقول تعالى ذكره : وتعاين الذين كفروا بالله ، فاجترموا في الدنيا الشرك يومئذ ، يعني : يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات "مقرنين في الأصفاد" يقول : مقرنة أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم بالأصفاد ، وهي الوثاق من غل وسلسلة ، واحدها : صفد ، يقال منه : صفدته في الصفد صفداً وصفاداً ، والصفاد : القيد ، ومنه قول عمرو بن كلثوم :
فآبوا بالنهاب وبالسبايا وأبنا بالملوك مصفدينا
ومن جعل الواحد من ذلك صفاداً جمعه : صفداً لا أصفاداً ، وأما من العطاء ،فإنه يقال منه : أصفدته إصفاداً ، كما قال الأعشى :
تضيفته يوما فأكرم مجلسي وأصفدني عند الزمانة قائدا
وقد قيل في العطاء أيضاً : صفدني صفداً ، كما قال النابغة الذبياني :
هذا الثناء فإن تسمع لقائله فما عرضت أبيت اللعن بالصفد
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله "مقرنين في الأصفاد" قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثني عبد الله بن صالح ، قال: حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : "مقرنين في الأصفاد" يقول : في وثاق .
حدثني محمد بن عيسى الدامغاني ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : الأصفاد : السلاسل .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : "مقرنين في الأصفاد" ، قال : مقرنين في القيود والأغلال .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا علي بن هاشم بن البريد ، قال : سمعت الأعمش ، يقول : القيد .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ،قال : قال ابن زيد ، في قوله : "مقرنين في الأصفاد" ، قال : صفدت فيها أيديهم وأرجلهم ورقابهم ، والأصفاد : الأغلال .
وقوله : "سرابيلهم من قطران" يقول : قمصهم التي يلبسونها ، واحدها : سربال ، كما قال امرؤ القيس :
لعوب تنسيني إذا قمت سربالي
حدثني يونس ،قال : أخبرنا ابن وهب ، قال :قال ابن زيد ، في قوله : "سرابيلهم من قطران" ، قال : السرابيل : القمص . وقوله : "من قطران" ، يقول : من القطران الذي يهنأ به الإبل ، وفيه لغات ثلاث : يقال : قطران وقطران بفتح القاف وتسكين الطاء منه . وقيل : إن عيسى بن عمر كان يقرأ من قطران بكسر القاف وتسكين الطاء ، ومنه قول أبي النجم :
جون كأن العرق المنتوحا لبسه القطران والمسوحا
بكسر القاف ، وقال أيضاً :
كأن قطرانا إذا تلاها ترمي به الريح إلى مجراها
بالكسر .
وبنحو ما قلنا في ذلك يقول من قرأ ذلك كذلك .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن "من قطران" يعني : الخضخاض هناء الإبل .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الحسن "من قطران" قال : قطران الإبل .
وقال بعضهم : القطران : النحاس .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال :قطران : نحاس ، قال ابن جريج : قال ابن عباس "من قطران" : نحاس .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قتادة "من قطران" ، قال : هي نحاس . وبهذه القراءة : أعني بفتح القاف وكسر الطاء ، وتصيير ذلك كله كلمة واحدة ، قرأ ذلك جميع قراء الأمصار ،وبها نقرأ لإجماع الحجة من القراء عليه .
وقد روي عن بعض المتقدمين أنه كان يقرأ ذلك من قطران بفتح القاف وتسكين الطاء وتنوين الراء وتصيير آن من نعته ، وتوجيه معنى القطر إلى أنه النحاس ، ومعنى الآن ، إلى أنه الذي قد انتهى حره في الشدة .
وممن كان يقرأ ذلك فيما ذكر لنا عكرمة مولى ابن عباس .
حدثني بذلك أحمد بن يوسف ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين عنه .
ذكر من تأول ذلك على هذه القراءة التأويل الذي ذكرت فيه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد ، في قوله : "سرابيلهم من قطران" قال : قطر ، والآن : الذي قد انتهى حره .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا داود بن مهران ، عن يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد بن جبير ، نحوه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا هشام ، قال : حدثنا يعقوب القمي ، عن جعفر ، عن سعيد ، بنحوه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد ، قال : حدثنا يعقوب القمي ، عن جعفر ، عن سعيد بن جبير أنه كان يقرأ سرابيلهم من قطرا آن .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا عفان ، قال : حدثنا المبارك بن فضالة ، قال : سمعت الحسن يقول : كانت العرب تقول للشيء إذا انتهى حره : قد أنى حر هذا : قد أوقدت عليه جهنم منذ خلقت فأنى حرها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن سعيد ، قال : حدثنا ابو جعفر ، عن الربيع بن أنس في قوله : سرابيلهم من قطر آن قال : القطر : النحاس ، والآن : يقول : قد أنى حره ، وذلك أنه يقول : حميم آن .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا عفان بن مسلم ، قال :حدثنا ثابت بن يزيد ، قال : حدثنا هلال بن خباب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، في هذه الاية : سرابيلهم من قطر آن قال : من نحاس ، قال : آن أنى لهم أن يعذبوا به .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن حصين ، عن عكرمة ، في قوله : من قطر آن قال : الآني : الذي قد انتهى حره .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : من قطر آن قال : هو النحاس المذاب .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا عبد الوهاب بن عطاء ، عن سعيد ، عن قتادة من قطر آن يعني : الصفر المذاب .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن قتادة سرابيلهم من قطر آن قال : من نحاس .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا هشام ، قال : حدثنا أبو حفص ، عن هارون ، عن قتادة أنه كان يقرأ من قطر آن قال : من صفر قد انتهى حره .
وكان الحسن يقرؤها من قطران .
وقوله "وتغشى وجوههم النار" يقول : وتلفح وجوههم النار فتحرقها "ليجزي الله كل نفس ما كسبت" يقول : فعل الله ذلك بهم جزاء لهم بما كسبوا من الآثام في الدنيا ، كيما يثيب كل نفس بما كسبت من خير وشر ، فيجزي المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته "إن الله سريع الحساب" يقول :إن الله عالم بعمل كل عامل ، فلا يحتاج في إحصاء أعمالهم إلى عقد كف ولا معاناة ، وهو سريع حسابه لأعمالهم ، قد أحاط بها علماً ، لا يعزب عنه منها شيء ، وهو مجازيهم على جميع ذلك صغيره وكبيره .
" ليجزي الله كل نفس ما كسبت " أي بما كسبت. " إن الله سريع الحساب " تقدم.
يقول تعالى: "يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات" وتبرز الخلائق لديانها, ترى يا محمد يومئذ المجرمين وهم الذين أجرموا بكفرهم وفسادهم "مقرنين" أي بعضهم إلى بعض قد جمع بين النظراء أو الأشكال منهم كل صنف إلى صنف, كما قال تعالى: "احشروا الذين ظلموا وأزواجهم" وقال: " وإذا النفوس زوجت " وقال: "وإذا ألقوا منها مكاناً ضيقاً مقرنين دعوا هنالك ثبوراً" وقال: " والشياطين كل بناء وغواص * وآخرين مقرنين في الأصفاد " والأصفاد هي القيود, قاله ابن عباس وسعيد بن جبير والأعمش وعبد الرحمن بن زيد, وهو مشهور في اللغة, قال عمرو بن كلثوم:
آبوا بالثياب وبالسبايا وأبنا بالملوك مصفدينا
وقوله: "سرابيلهم من قطران" أي ثيابهم التي يلبسونها من قطران, وهو الذي تهنأ به الإبل أي تطلى, قال قتادة: وهو ألصق شيء بالنار. ويقال فيه: قطران بفتح القاف وكسر الطاء وتسكينها, وبكسر القاف وتسكين الطاء, ومنه قول أبي النجم:
كأن قطراناً إذا تلاها ترمي به الريح إلى مجراها
وكان ابن عباس يقول: القطران هنا النحاس المذاب, وربما قرأها "سرابيلهم من قطران" أي من نحاس حار قد انتهى حره, وكذا روي عن مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن وقتادة. وقوله: "وتغشى وجوههم النار" كقوله: "تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون" وقال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا يحيى بن إسحاق, أنبأنا أبان بن يزيد عن يحيى بن أبي كثير عن زيد عن أبي سلام, عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أربع من أمر الجاهلية لا يتركن: الفخر بالأحساب, والطعن في الأنساب, والاستسقاء بالنجوم, والنياحة على الميت, والنائحة إذا لم تتب قبل موتها, تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب" انفرد بإخراجه مسلم. وفي حديث القاسم عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "النائحة إذا لم تتب توقف في طريق بين الجنة والنار سرابيلها من قطران وتغشى وجهها النار".
وقوله: "ليجزي الله كل نفس ما كسبت" أي يوم القيامة كما قال: " ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا " الاية "إن الله سريع الحساب" يحتمل أن يكون كقوله تعالى: "اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون" ويحتمل أنه في حال محاسبته لعبده سريع النجاز لأنه يعلم كل شيء, ولا يخفى عليه خافية, وإن جميع الخلق بالنسبة إلى قدرته كالواحد منهم, كقوله تعالى: "ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة" وهذا معنى قول مجاهد "سريع الحساب" إحصاء ويحتمل ان يكون المعنيان مرادين, والله أعلم.
و 51- "ليجزي الله" متعلق بمحذوف: أي يفعل ذلك بهم ليجزي "كل نفس ما كسبت" من المعاصي: أي جزاءً موافقاً لما كسبت من خير أو شر "إن الله سريع الحساب" لا يشغله عنه شيء. وقد تقدم تفسيره.
"ليجزي الله كل نفس ما كسبت"، من خير وشر، "إن الله سريع الحساب".
51."ليجزي الله كل نفس "أي يفعل بهم ذلك ليجزي كل نفس مجرمة ."ما كسبت"أو كل نفس من مجرمة أو مطيعة لأنه إذا تبين أن المجرمين يعاقبون لإجرامهم علم أن المطيعين يثابون لطاعتهم، ويتعين ذلك أن علق اللام بـ"برزوا"."إن الله سريع الحساب"لأنه لا يشغله حساب عن حساب .
51. That Allah may repay each soul what it hath earned. Lo! Allah is swift at reckoning.
51 - That God may requite each soul according to its deserts; and verily God is swift in calling to account.