[يوسف : 86] قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
86 - (قال) لهم (إنما أشكوا بثي) هو عظيم الحزن الذي لا يصبر عليه حتى يبث إلى الناس (وحزني إلى الله) لا إلى غيره فهو الذي تنفع الشكوى إليه (وأعلم من الله ما لا تعلمون) من أن رؤيا يوسف صدق وهو حي ، ثم قال
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : قال يعقوب للقائلين له من ولده : "تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين" : لست إليكم أشكو بثي وحزني ، إنما أشكو ذلك إلى الله .
ويعني بقوله : "إنما أشكو بثي" ، ما أشكو همي وحزني إلا إلى الله .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج : "إنما أشكو بثي" ، قال ابن عباس : "بثي" ، همي .
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : قال يعقوب عن علم بالله : "إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون" ، لما رأى من فظاظتهم وغلظتهم وسوء لفظهم له : لم أشك ذلك إليكم ، "وأعلم من الله ما لا تعلمون" .
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو أسامة ، عن عوف ، عن الحسن :"إنما أشكو بثي وحزني إلى الله" ، قال : حاجتي وحزني إلى الله .
حدثنا الحسن بن محمد قال ، حدثنا هوذة بن خليفة قال ، حدثنا عوف ، عن الحسن ، مثله .
وقيل : إن البث ، أشد الحزن ، وهو عندي من : بث الحديث ، وإنما يراد منه : إنما أشكو خبري الذي أنا فيه من الهم ، وأبث حديثي وحزني إلى الله .
حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا يحيى بن سعيد ، عن عوف ، عن الحسن ، "إنما أشكو بثي" ، قال : حزني .
حدثنا ابن بشار قال ، حدثني يحيى بن سعيد ، عن عوف ، عن الحسن : "إنما أشكو بثي وحزني" ، قال : حاجتي .
وأما قوله : "وأعلم من الله ما لا تعلمون" ، فإن ابن عباس كان يقول في ذلك ،فيما ذكر عنه ، ما :
حدثني به محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ،عن أبيه ، عن ابن عباس في قوله : "وأعلم من الله ما لا تعلمون" ،يقول : أعلم أن رؤيا يوسف صادقة ، وأني سأسجد له .
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السدي قال : "إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون" ، قال : لما أخبروه بدعاء الملك ، أحست نفس يعقوب وقال : ما يكون في الأرض صديق إلا نبي ! فطمع قال : لعله يوسف .
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : "إنما أشكو بثي وحزني إلى الله" ، الآية ، ذكر لنا أن نبي الله يعقوب لم ينزل به بلاء قط إلا أتى حسن ظنه بالله من ورائه .
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عيسى بن يزيد ، عن الحسن قال : قيل : ما بلغ وجد يعقوب على ابنه ؟ قال : وجد سبعين ثكلى ! قال : فما كان له من الأجر ؟ قال : أجر مئة شهيد . قال : وما ساء ظنه بالله ساعة من ليل ولا نهار .
حدثنا به ابن حميد مرة أخرى قال ، حدثنا حكام ،عن أبي معاذ ، عن يونس ، عن الحسن ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، مثله .
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن المبارك بن مجاهد ، عن رجل من الأزد ، عن طلحة بن مصرف الإيامي قال : ثلاثة لا تذكرهن واجتنب ذكرهن : لا تشك مرضك ، ولا تشك مصيبتك ، ولا تزك نفسك . قال : وأنبئت أن يعقوب بن إسحاق دخل عليه جار له فقال له : يا يعقوب ، مالي أراك قد انهشمت وفنيت ، ولم تبلغ من السن ما بلغ أبوك ؟ قال : هشمني وأفناني ما ابتلاني الله به من هم يوسف وذكره ! فأوحى الله إليه : يا يعقوب ، أتشكوني إلى خلقي ؟ فقال : يا رب ، خطيئة أخطأتها فاغفرها لي ! قال : فإني قد غفرت لك . وكان بعد ذلك إذا سئل قال : "إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون" .
حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثني مؤمل بن إسماعيل قال ، حدثنا سفيان ، عن حبيب بن أبي ثابت قال : بلغني أن يعقوب كبر حتى سقط حاجباه على وجنتيه ، فكان يرفعهما بخرقة ، فقال له رجل : ما بلغ بك ما أرى ؟ قال : طول الزمان ، وكثرة الأحزان ! فأوحى الله إليه : يا يعقوب ، تشكوني ؟ قال : خطيئة فاغفرها .
حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا هشام ، عن ليث بن أبي سليم قال : دخل جبريل على يوسف السجن ، فعرفه ، فقال : أيها الملك الحسن وجهه ،الطيبة ريحه ، الكريم على ربه ، ألا تخبرني عن يعقوب أحي هو ؟ قال : نعم . قال : ايها الملك الحسن وجهه ،الطيبة ريحه ، الكريم على ربه ، فما بلغ من حزنه ؟ قال : حزن سبعين مثكلة . قال : أيها الملك الحسن وجهه ، الطيبة ريحه ، الكريم على ربه ، فهل في ذلك من أجر ؟ قال : أجر مئة شهيد .
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن ليث بن أبي سليم ،عن مجاهد قال : حدثت أن جبريل أتى يوسف صلى الله عليهما وهو بمصر في صورة رجل ، فلما رآه يوسف عرفه ،فقام إليه فقال : ايها الملك الطيب ريحه ،الطاهر ثيابه ، الكريم على ربه ، هل لك بيعقوب من علم ؟ قال : نعم ! قال : ايها الملك الطاهر ثيابه ، الكريم على ربه ،فكيف هو ؟ قال : ذهب بصره . قال : ايها الملك الطاهر ثيابه ، الكريم على ربه ،وما الذي أذهب بصره ؟ قال : الحزن عليك . قال : أيها الملك الطيب ريحه ، الطاهر ثيابه ، الكريم على ربه ،فما أعطي على ذلك ؟ قال : أجر سبعين شهيداً .
حدثني يونس بن عبد الأعلى قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال أبو شريح :سمعت من يحدث أن يوسف سأل جبريل : ما بلغ من حزن يعقوب ؟ قال : حزن سبعين ثكلى . قال : فما بلغ أجره ؟ قال : اجر سبعين شهيداً .
قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني نافع بن يزيد ، عن عبيد الله بن أبي جعفر قال : دخل جبريل على يوسف في البئر أو في السجن ، فقال له يوسف : يا جبريل ، ما بلغ حزن أبي ؟ قال : حزن سبعين ثكلى . قال : فما بلغ أجره من الله ؟ قال : أجر مئة شهيد .
حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال ، حدثني عبد الصمد بن معقل قال : سمعت وهب بن منبه يقول : أتى جبريل يوسف بالبشرى وهو في السجن . فقال : هل تعرفني أيها الصديق ؟ قال : أرى صورة طاهرة وروحاً طيبة لا تشبه أرواح الخاطئين . قال : فإني رسول رب العالمين ، وأنا الروح الأمين . قال : فما الذي أدخلك على مدخل المذنبين ، وأنت أطيب الطيبين ، ورأس المقربين ، وأمين رب العالمين ؟ قال : ألم تعلم يا يوسف أن الله يطهر البيوت بطهر النبيين ، وأن الأرض التي يدخلونها هي أطهر الأرضين ، وأن الله قد طهر بك السجن وما حوله يا أطهر الطاهرين وابن المطهرين ؟ إنما يتطهر بفضل طهرك وطهر آبائك الصالحين المخلصين ! قال : كيف لي باسم الصديقين ، وتعدني من المخلصين ، وقد أدخلت مدخل المذنبين ، وسميت في الضالين المفسدين ؟ قال : لم يفتتن قلبك ، ولم تطع سيدتك في معصية ربك ، ولذلك سماك الله في الصديقين ، وعدك من المخلصين ، وألحقك بآبائك الصالحين . قال : لك علم بيعقوب ، ايها الروح الأمين .؟ قال : نعم ، وهبه الله الصبر الجميل ، وابتلاه بالحزن عليك فهو كظيم . قال : فما قدر حزنه ؟ قال : حزن سبعين ثكلى . قال : فماذا له من الأجر يا جبريل ؟ قال : قدر مئة شهيد .
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن ليث ، عن ثابت البناني قال : دخل جبريل على يوسف في السجن ، فعرفه يوسف . قال : فأتاه فسلم عليه فقال : أيها الملك الطيب ريحه ، الطاهر ثيابه ، الكريم على ربه ، هل لك من علم بيعقوب ؟ قال : نعم . قال : ايها الملك الطيب ريحه ، الطاهر ثيابه ، الكريم على ربه ، هل تدري ما فعل ؟ قال : ابيضت عيناه . قال : ايها الملك الطيب ريحه ، الطاهر ثيابه ، الكريم على ربه ،مم ذاك ؟ قال : من الحزن عليك . قال : أيها الملك الطيب ريحه ، الطاهر ثيابه ، الكريم على ربه ،وما بلغ من حزنه ؟ قال : حزن سبعين مثكلة ! قال : أيها الملك الطيب ريحه ، الطاهر ثيابه ، الكريم على ربه ، هل له على ذلك من أجر ؟ قال : نعم ، أجر مئة شهيد .
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السدي قال : أتى جبريل يوسف وهو في السجن فسلم عليه ، وجاءه في صورة رجل حسن الوجه طيب الريح نفي الثياب ، فقال له يوسف : أيها الملك الحسن وجهه ، الكريم على ربه ، الطيب ريحه ، حدثني كيف يعقوب ؟ قال : حزن عليك حزناً شديداً . قال : وما بلغ من حزنه ؟ قال : حزن سبعين مثكلة . قال : فما بلغ من أجره ؟ قال : أجر سبعين أو مئة شهيد . قال يوسف : فإلى من أوى بعدي ؟ قال : إلى أخيك بنيامين . قال : فتراني ألقاه أبداً ؟ قال : نعم . فبكى يوسف لما لقي أبوه بعده ، ثم قال : ما أبالي ما لقيت إن الله أرانيه .
قال ، حدثنا عمرو بن محمد ، عن إبراهيم بن زيد ، عن عمرو بن دينار ،عن عكرمة قال : أتى جبريل يوسف وهو في السجن فسلم عليه ، فقال له يوسف : أيها الملك الكريم على ربه ،الطيب ريحه ،الطاهر ثيابه ، هل لك ، علم بيعقوب ؟ قال : نعم ، ما أشد حزنه ! قال : أيها الملك الكريم على ربه ، الطيب ريحه ، الطاهر ثيابه ، ماذا له من الأجر ؟ قال : أجر سبعين شهيداً . قال : أفتراني لاقيه ؟ قال : نعم . قال : فطابت نفس يوسف .
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن ليث ، عن سعيد بن جبير قال : لما دخل يعقوب على الملك وحاجباه قد سقطا على عينيه ، قال الملك : ما هذا ؟ قال السنون والأحزان ، أو :الهموم والأحزان . فقال ربه : يا يعقوب ، لم تشكوني إلى خلقي ، ألم أفعل بك وأفعل ؟
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن عبد الرحمن بن زياد ، عن مسلم بن يسار ، يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم : من بث لم يصبر . ثم قرأ : "إنما أشكو بثي وحزني إلى الله" .
حدثني عمرو بن عبد الحميد الآملي قال ، حدثنا أبو أسامة ، عن هشام ، عن الحسن قال : كان منذ خرج يوسف من عند يعقوب إلى يوم رجع ، ثمانون سنة ، لم يفارق الحزن قلبه ، يبكي حتى ذهب بصره . قال الحسن : والله ما على الأرض يومئذ خليقة أكرم على الله من يعقوب صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى: " قال إنما أشكو بثي " حقيقة البث في اللغة ما يرد على الإنسان من الأشياء المهلكة التي لا يتهيأ له أن يخفيها، وهو من بثثته أي فرقته، فسميت المصيبة بثا مجازاً، قال ذو الرمة:
وقفت على ربع لمية ناقتي فما زلت أبكي عنده وأخاطبه
وأسقيه حتى كاد مما أبثه تكلمني أحجاره وملاعبه
وقال ابن عباس: ( بثي) همي. الحسن: حاجتي. وقيل: أشد الحزن، وحقيقته ما ذكرناه. " وحزني إلى الله " معطوف عليه، أعاده بغير لفظه. " وأعلم من الله ما لا تعلمون " أي أعلم أن رؤيا يوسف صادقة، وأني سأسجد له. قاله ابن عباس. قتادة: إني أعلم من إحسان الله تعالى إلي ما يوجب حسن ظني به. وقيل: قال يعقوب لملك الموت هل قبضت روح يوسف؟ قال: لا، فأكد هذا رجاءه. وقال السدي : أعلم أن يوسف حي، وذلك أنه لما أخبره ولده بسيرة الملك وعدله وخلقه قوله أحست نفس يعقوب أنه ولده فطمع، وقال: لعله يوسف. وقال: لا يكون في الأرض صديق إلا نبيء. وقيل: أعلم من إجابة دعاء المضطرين ما لا تعلمون.
قال لهم كما قال لهم حين جاءوا على قميص يوسف بدم كذب " بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل " قال محمد بن إسحاق: لما جاءوا يعقوب وأخبروه بما جرى, اتهمهم فظن أنها كفعلتهم بيوسف, قال: "بل سولت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل" وقال بعض الناس: لما كان صنيعهم هذا مرتباً على فعلهم الأول, سحب حكم الأول عليه, وصح قوله: " بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل " ثم ترجى من الله أن يرد عليه أولاده الثلاثة: يوسف وأخاه بنيامين وروبيل الذي أقام بديار مصر ينتظر أمر الله فيه, إما أن يرضى عنه أبوه, فيأمره بالرجوع إليه, وإما أن يأخذ أخاه خفية, ولهذا قال: "عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً إنه هو العليم" أي العليم بحالي, "الحكيم" في أفعاله وقضائه وقدره, " وتولى عنهم وقال يا أسفى على يوسف " أي أعرض عن بنيه, وقال متذكراً حزن يوسف القديم الأول " يا أسفى على يوسف " جدد له حزن الابنين الحزن الدفين, قال عبد الرزاق: أنبأنا الثوري عن سفيان العصفري, عن سعيد بن جبير أنه قال: لم يعط أحد غير هذه الأمة الاسترجاع, ألا تسمعون إلى قول يعقوب عليه السلام " يا أسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم " أي ساكت لا يشكو أمره إلى مخلوق, قاله قتادة وغيره. وقال الضحاك: فهو كظيم كئيب حزين.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي. حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن الحسن, عن الأحنف بن قيس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن داود عليه السلام قال: يا رب إن بني إسرائيل يسألونك بإبراهيم وإسحاق ويعقوب, فاجعلني لهم رابعاً, فأوحى الله تعالى إليه: أن يا داود إن إبراهيم ألقي في النار بسببي فصبر, وتلك بلية لم تنلك, وإن إسحاق بذل مهجة دمه بسببي فصبر, وتلك بلية لم تنلك, وإن يعقوب أخذت منه حبيبه فابيضت عيناه من الحزن فصبر, وتلك بلية لم تنلك". وهذا مرسل وفيه نكارة, فإن الصحيح أن إسماعيل هو الذبيح, ولكن علي بن زيد بن جدعان له, مناكير وغرائب كثيرة, والله أعلم, وأقرب ما في هذا أن الأحنف بن قيس رحمه الله حكاه عن بعض بني إسرائيل ككعب ووهب ونحوهما, والله أعلم, فإن بني إسرائيل ينقلون أن يعقوب كتب إلى يوسف لما احتبس أخاه بسبب السرقة يتلطف له في رد ابنه, ويذكر له أنهم أهل بيت مصابون بالبلاء, فإبراهيم ابتلي بالنار, وإسحاق بالذبح, ويعقوب بفراق يوسف, في حديث طويل لا يصح, والله أعلم, فعند ذلك رق له بنوه, وقالوا له على سبيل الرفق به والشفقة عليه: " تالله تفتأ تذكر يوسف " أي لا تفارق تذكر يوسف "حتى تكون حرضاً" أي ضعيف القوة "أو تكون من الهالكين" يقولون إن استمر بك هذا الحال خشينا عليك الهلاك والتلف "قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله" أي أجابهم عما قالوا بقوله: "إنما أشكو بثي وحزني" أي همي وما أنا فيه "إلى الله" وحده, "وأعلم من الله ما لا تعلمون" أي أرجو منه كل خير, وعن ابن عباس "وأعلم من الله ما لا تعلمون" يعني رؤيا يوسف أنها صدق, وأن الله لا بد أن يظهرها, وقال العوفي عنه في الاية: أعلم أن رؤيا يوسف صادقة وأني سوف أسجد له.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن عرفة, حدثنا يحيى بن عبد الملك بن أبي غنية عن حفص بن عمر بن أبي الزبير, عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كان ليعقوب النبي عليه السلام أخ مؤاخ له, فقال له ذات يوم: ما الذي أذهب بصرك, وقوس ظهرك ؟ قال: أما الذي أذهب بصري فالبكاء على يوسف, وأما الذي قوس ظهري فالحزن على بنيامين, فأتاه جبريل عليه السلام فقال: يا يعقوب إن الله يقرئك السلام ويقول لك: أما تستحي أن تشكوني إلى غيري ؟ فقال يعقوب: إنما أشكو بثي وحزني إلى الله, فقال جبريل عليه السلام: الله أعلم بما تشكو" وهذا حديث غريب فيه نكارة.
86- "قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله" هذه الجملة مستأنفة، كأنه قيل فما قال يعقوب لما قالوا له ما قالوا؟ والبث: ما برد على الإنسان من الأشياء التي يعظم حزن صاحبها بها حتى لا يقدر على إخفائها، كذا قال أهل اللغة، وهو مأخوذ من بثثه: أي فرقته، فسميت المصيبة بثاً مجازاً. قال ذو الرمة:
وقفت على ربع لمية يا فتى فما زلت أبكي عنده وأخاطبه
وأسقيه حتى كاد مما أبثه تكلمني أحجاره وملاعبه
وقد ذكر المفسرون أن الإنسان إذا قدر على كتم ما نزل به من المصائب كان ذلك حزناً، وإن لم يقدر على كتمه كان ذلك بثاً، فالبث على هذا: أعظم الحزن وأصعبه، وقيل البث: الهم، وقيل هو الحاجة، وعلى هذا القول يكون عطف الحزن على البث واضح المعنى. وأما على تفسير البث بالحزن العظيم، فكأنه قال: إنما أشكو حزني العظيم وما دونه من الحزن إلى الله لا إلى غيره من الناس. وقد قرىء حزني بضم الحاء وسكون الزاي وحزني بفتحهما "وأعلم من الله ما لا تعلمون" أي أعلم من لطفه وإحسانه وثوابه على المصيبة ما لا تعلمونه أنتم، وقيل أراد علمه بأن يوسف حي، وقيل أراد علمه بأن رؤياه صادقة، وقيل أعلم من إجابة المضطرين إلى الله ما لا تعلمون.
86-"قال" يعقوب عليه السلام عند ذلك لما رأى غلظتهم "إنما أشكو بثي وحزني إلى الله"، والبث: أشد الحزن، سمي بذلك لأن صاحبه لا يصبر عليه حتى يثبته أي يظهره، قال الحسن: بثي أي: حاجتي.
ويروى أنه دخل على يعقوب جار له وقال: يا يعقوب مالي أراك قد تهشمت وفنيت ولم تبلغ من السن ما بلغ أبوك؟ قال: هشمني وأفناني ما ابتلاني الله به من هم يوسف، فأوحى الله إليه: يا يعقوب أتشكوني إلى خلقي؟ فقال: يا رب خطيئة أخطأتها فاغفرها لي، فقال: قد غفرتها لك، فكان بعد ذلك إذا سئل قال: إنما أشكو بثي وحزني إلى الله.
وروي أنه قيل له: يا يعقوب ما الذي أذهب بصرك وقوس ظهرك؟.
قال: أذهب بصري بكائي على يوسف، وقوس ظهري حزني على أخيه؟
فأوحى الله إليه: أتشكوني؟ فوعزتي وجلالي لا أكشف ما بك حتى تدعوني.
فعند ذلك قال: إنما أشكو بثي وحزني إلى الله، فأوحى الله إليه: وعزتي وجلالي لو كانا ميتين لأخرجتهما لك، وإنما وجدت عليكم لأنكم ذبحتم شاة/ فقام ببابكم مسكين فلم تطعنوه منها شيء، وإن أحب خلقي إلي الأنبياء، ثم المساكين فاصنع طعاما وادع إليه المساكين.
فصنع طعاما ثم قال: من كان صائما فليفطر الليلة عند آل يعقوب.
وروي أنه كان بعد ذلك إذا تغدى أمر من ينادي: من أراد الغداء فليأت يعقوب، وإذا أفطر أمر من ينادي: من أراد أن يفطر فليأت يعقوب، فكان يتغدى ويتعشى من المساكين.
وعن وهب بن منبه قال: أوحى الله تعالى إلى يعقوب: أتدري لم عاقبتك وحبست عنك يوسف ثمانين سنة؟ قال: لا، يا إلهي، قال: لأنك قد شويت عناقا وقترت على جارك، وأكلت ولم تطعمه.
وروي: أن سبب ابتلاء يعقوب أنه ذبح عجلا بين يدي أمه وهي تخور.
وقال وهب والسدي وغيرهما: أتى جبريل يوسف عليه السلام في السجن فقال: هل تعرفني أيها الصديق؟
قال: أرى صورة طاهرة وريحا طيبة.
قال: إني رسول رب العالمين وأنا الروح الأمين.
قال: فما أدخلك مدخل المذنبين وأنت أطيب الطيبين ورأس المقربين وأمين رب العالمين؟
قال: ألم تعلم يا يوسف أن الله تعالى يطهر البيوت بطهر النبيين، وأن الأرض التي يدخلونها هي أطهر الأراضين، وأن الله تعالى قد طهر بك السجن وما حوله يا طهر الطاهرين وابن الصالحين المخلصين.
قال: وكيف لي باسم الصديقين وتعدني من المخلصين الطاهرين، وقد أدخلت مدخل المذنبين وسميت باسم الفاسقين؟
قال جبريل: لأنه لم يفتن قلبك ولم تطع سيدتك في معصية ربك لذلك سماك الله في الصديقين، وعدك من المخلصين، وألحقك بآبائك الصالحين.
قالي يوسف: هل لك علم بيعقوب أيها الروح الأمين؟
قال: نعم، وهبه الله الصبر الجميل وابتلاه بالحزن عليك فهو كظيم.
قال: فكم قدر حزنه؟
قال: حزن سبعين ثكلى.
قال: فما زاد له من الأجر يا جبريل؟
قال: أجر مائة شهيد.
قال: أفتراني لاقيه؟
قال: نعم، فطابت نفس يوسف، وقال: ما أبالي بما لقيت إن رأيته.
قوله تعالى: "وأعلم من الله ما لا تعلمون"، يعني: أعلم من حياة يوسف ما لا تعلمون.
روي أن ملك الموت زار يعقوب فقال له: أيها الملك الطيب ريحه، الحسن صورته، هل قبضت روح ولدي في الأرواح؟ قال: لا، فسكن يعقوب وطمع في رؤيته، وقال: وأعلم أن رؤيا يوسف صادقة وإني وأنتم سنسجد له.
وقال السدي: لما أخبره ولده بسيرة الملك أحست نفس يعقوب وطمع وقال لعله يوسف، فقال: يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه.
وروي عن عبد الله بن يزيد بن أبي فروة: أن يعقوب عليه السلام كتب كتابا إلى يوسف عليه السلام حين حبس بنيامين: من يعقوب إسرائيل الله بني إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله إلى ملك مصر أما بعد: فإنا أهل بيت وكل بنا البلاء، أما جدي إبراهيم فشدت يداه ورجلاه وألقي في النار، فجعلها الله عليه بردا وسلاما، وأما أبي فشدت يداه ورجلاه ووضع السكين على قفاه، ففداه الله، وأما أنا فكان لي ابن وكان أحب أولادي إلي فذهب به إخوته إلى البرية ثم أتوني بقميصه ملطخا بالدم، فقالوا: قد أكله الذئب، فذهبت عيناي من البكاء عليه، ثم كان لي ابن وكان أخاه لأمه، وكنت أتسلى به، وإنك حبسته وزعمت أنه سرق، وإنا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقا، فإن رددته علي وإلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك، فلما قرأ يوسف الكتاب لم يتمالك البكاء وعيل صبره، فأظهر نفسه على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
86."قال إنما أشكو بثي وحزني "همي الذي لا أقدر الصبر عليه من لبث بمعنى النشر ."إلى الله"لا إلى أحد منكم ومن غيركم ، فخلوني و شكايتي ، "وأعلم من الله"من صنعه ورحمته فإنه لا يخيب داعيه ولا يدع الملتجئ إليه ، أن من الله بنوع من الإلهام ."ما لا تعلمون"من حياة يوسف . قيل رأى ملك الموت في المنام فسأله عنه فقال هو حي . وقيل علم من رؤيا يوسف أنه لا يموت حتى يخر له إخوته سجداً.
86. He said: I expose my distress and anguish only unto Allah, and I know from Allah that which ye know not.
86 - He said: I only complain of my distraction and anguish to God, and I know from God that which ye know not.