[يوسف : 52] ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ
52 - (ذلك) أي طلب البراءة (ليعلم) العزيز (أني لم أخنه) في أهله (بالغيب) حال (وأن الله لا يهدي كيد الخائنين) ثم تواضع لله فقال :
قال أبو جعفر : يعني بقوله : "ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب" ، هذا الفعل الذي فعلته ، من ردي رسول الملك إليه ، وتركي إجابته والخروج إليه ، ومسألتي إياه أن يسأل النسوة اللاتي قطعن أيديهن عن شأنهن إذ قطعن أيديهن ، إنما فعلته ليعلم أني لم أخنه في زوجته ، "بالغيب" ، يقول : لم أركب منها فاحشةً في حال غيبته عني . وإذا لم يركب ذلك بمغيبه ، فهو في حال مشهده إياه أحرى أن يكون بعيداً من ركوبه ، كما :
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : يقول يوسف : "ذلك ليعلم" ، إطفير سيده ، "أني لم أخنه بالغيب" ، أني لم أكن لأخالفه إلى أهله من حيث لا يعلمه .
حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : "ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب" ، يوسف يقوله .
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : "ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب" ، يوسف يقوله ، لم أخن سيدي .
قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : "ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب" ، قال : يوسف يقوله .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : "ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب" ، قال : هذا يوسف .
حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، حدثنا هشيم ، عن إسماعيل بن سالم ، عن أبي صالح في قوله : "ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب" ، قال : هو يوسف ، لم يخن العزيز في امرأته .
حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ يقول ، حدثنا عبيد قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : "ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب" ، هو يوسف يقول : لم أخن الملك بالغيب .
وقوله : "وأن الله لا يهدي كيد الخائنين" ، يقول : فعلت ذلك ، ليعلم سيدي أني لم أخنه بالغيب ، "وأن الله لا يهدي كيد الخائنين" ، يقول : وأن الله لا يسدد صنيع من خان الأمانات ، ولا يرشد فعالهم في خيانتهموها .
واتصل قوله : "ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب" ، بقول امرأة العزيز : "أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين" ، لمعرفة السامعين لمعناه ، كاتصال قول الله : ( وكذلك يفعلون ) ، بقول المرأة : (وجعلوا أعزة أهلها أذلة ) ، وذلك أن قوله : ( وكذلك يفعلون ) ، خبر مبتدأ ، وكذلك قول فرعون لأصحابه في سورة الأعراف ، ( فماذا تأمرون ) ، وهو متصل بقول الملأ : ( يريد أن يخرجكم من أرضكم ) .
قوله تعالى: " ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب " اختلف فيمن قاله، فقيل: هو من قول امرأة العزيز، وهو متصل بقولها: " الآن حصحص الحق " أي أقررت بالصدق ليعلم أني لم أخنه بالغيب أي بالكذب عليه، ولم أذكره بسوء وهو غائب، بل صدقت وحدت عن الخيانة، ثم قالت: " وما أبرئ نفسي " بل أنا راودته، وعلى هذا هي كانت مقرة بالصانع، ولهذا قالت: " إن ربي غفور رحيم ". وقيل: هو من قول يوسف، أي قال يوسف: ذلك الأمر الذي فعلته، من رد الرسول ( ليعلم) العزيز( إني لم أخنه بالغيب) قاله الحسن وقتادة وغيرهما. ومعنى ( بالغيب) وهو غائب. وإنما قال يوسف ذلك بحضرة الملك، وقال: ( ليعلم) على الغائب توقيراً للملك. وقيل: قاله إذ عاد إليه الرسول وهو في السجن بعد، قال ابن عباس: جاء الرسول إلى يوسف عليه السلام بالخبر وجبريل معه يحدثه، فقال يوسف: " ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين " أي لم أخن سيدي بالغيب، فقال له جبريل عليه السلام: يا يوسف! ولا حين حللت الإزار، وجلست مجلس الرجل من المرأة؟! فقال يوسف: " وما أبرئ نفسي " الآية. وقال السدي : إنما قالت له امرأة العزيز ولا حين حللت سراويلك يا يوسف؟! فقال يوسف: ( وما أبريء نفسي). وقيل: ( ذلك ليعلم) من قول العزيز، أي ذلك ليعلم يوسف أني لم أخنه بالغيب، وأني لم أغفل عن مجازاته على أمانته. " وأن الله لا يهدي كيد الخائنين " معناه أن الله لا يهدي الخائنين بكيدهم.
يقول تعالى إخباراً عن الملك لما رجعوا إليه بتعبير رؤياه التي كان رآها بما أعجبه وأيقنه, فعرف فضل يوسف عليه السلام, وعلمه وحسن اطلاعه على رؤياه, وحسن أخلاقه على من ببلده من رعاياه, فقال: "ائتوني به" أي أخرجوه من السجن وأحضروه, فلما جاءه الرسول بذلك امتنع من الخروج حتى يتحقق الملك ورعيته براءة ساحته ونزاهة عرضه مما نسب إليه من جهة امرأة العزيز, وأن هذا السجن لم يكن على أمر يقتضيه, بل كان ظلماً وعدواناً, فقال: "ارجع إلى ربك" الاية. وقد وردت السنة بمدحه على ذلك والتنبيه على فضله وشرفه وعلو قدره وصبره, صلوات الله وسلامه عليه, ففي المسند والصحيحين من حديث الزهري عن سعيد وأبي سلمة, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال "رب أرني كيف تحيي الموتى" الاية, ويرحم الله لوطا كان يأوي إلى ركن شديد, ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي", وفي لفظ لأحمد: حدثنا عفان, حدثنا حماد بن سلمة, حدثنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة, عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كنت أنا, لأسرعت الإجابة وما ابتغيت العذر".
وقال عبد الرزاق: أخبرنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار, عن عكرمة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد عجبت من يوسف وصبره وكرمه والله يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان, ولو كنت مكانه ما أجبتهم حتى أشترط أن يخرجوني, ولقد عجبت من يوسف وصبره وكرمه, والله يغفر له حين أتاه الرسول, ولو كنت مكانه لبادرتهم الباب, ولكنه أراد أن يكون له العذر", هذا حديث مرسل. وقوله تعالى: "قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه" إخبار عن الملك حين جمع النسوة اللاتي قطعن أيديهن عند امرأة العزيز, فقال مخاطباً لهن كلهن وهو يريد امرأة وزيره, وهو العزيز, قال الملك للنسوة اللاتي قطعن أيديهن "ما خطبكن" أي شأنكن وخبركن "إذ راودتن يوسف عن نفسه" يعني يوم الضيافة, "قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء" أي قالت النسوة جواباً للملك: حاش لله أن يكون يوسف متهماً, والله ما علمنا عليه من سوء, فعند ذلك " قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق " قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد: تقول الان تبين الحق وظهر وبرز, "أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين" أي في قوله: "هي راودتني عن نفسي" "ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب" تقول: إنما اعترفت بهذا على نفسي ليعلم زوجي أني لم أخنه بالغيب في نفس الأمر, ولا وقع المحذور الأكبر, وإنما راودت هذا الشاب مراودة فامتنع, فلهذا اعترفت ليعلم أني بريئة " وأن الله لا يهدي كيد الخائنين * وما أبرئ نفسي " تقول المرأة: ولست أبرىء نفسي, فإن النفس تتحدث وتتمنى, ولهذا راودته لأن "النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي" أي إلا من عصمه الله تعالى: "إن ربي غفور رحيم" وهذا القول هو الأشهر والأليق والأنسب بسياق القصة ومعاني الكلام.
وقد حكاه الماوردي في تفسيره, وانتدب لنصره الإمام أبو العباس بن تيمية رحمه الله, فأفرده بتصنيف على حدة, وقد قيل: إن ذلك من كلام يوسف عليه السلام يقول: "ذلك ليعلم أني لم أخنه" في زوجته "بالغيب" الايتين, أي إنما رددت الرسول ليعلم الملك براءتي, وليعلم العزيز "أني لم أخنه" في زوجته "بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين" الاية, وهذا القول هو الذي لم يحك ابن جرير ولا ابن أبي حاتم سواه. وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب, حدثنا وكيع عن إسرائيل, عن سماك, عن عكرمة, عن ابن عباس قال: لما جمع الملك النسوة فسألهن: هل راودتن يوسف عن نفسه ؟ " قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق " الاية, قال يوسف "ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب" فقال جبريل عليه السلام: ولا يوم هممت بما هممت به ؟ فقال " وما أبرئ نفسي " الاية, وهكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة وابن أبي الهذيل والضحاك والحسن وقتادة والسدي, والقول الأول أقوى وأظهر, لأن سياق الكلام كله من كلام امرأة العزيز بحضرة الملك, ولم يكن يوسف عليه السلام عندهم, بل بعد ذلك أحضره الملك.
وقوله: 51- "ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب" ذهب أكثر المفسرين إلى أن هذا من كلام يوسف عليه السلام. قال الفراء: ولا يبعد وصل كلام إنسان بكلام إنسان آخر إذا دلت القرينة الصارفة لكل منهما إلى ما يليق به. والإشارة إلى الحادثة الواقعة منه، وهي تثبته وتأنيه: أي فعلت ذلك ليعلم العزيز إني لم أخنه في أهله بالغيب، والمعنى بظهر الغيب. والجار والمجرور في محل نصب على الحال: أي وهو غائب عني، أو وأنا غائب عنه. قيل إنه قال ذلك وهو في السجن بعد أن أخبره الرسول بما قالته النسوة. وما قالته امرأة العزيز، وقيل إنه قال ذلك وقد صار عند الملك، والأول أولى. وذهب الأقلون من المفسرين إلى أن هذا من كلام امرأة العزيز، والمعنى: ذلك القول الذي قلته في تنزيهه، والإقرار على نفسي بالمراودة ليعلم يوسف إني لم أخنه فأنسب إليه ما لم يكن منه وهو غائب عني، أو وأنا غائبة عنه "وأن الله لا يهدي كيد الخائنين" أي لا يثبته ويسدده، أو لا يهديهم في كيدهم حتى يوقعوه على وجه يكون له تأثير يثبت به ويدوم وإذا كان من قول يوسف ففيه تعريض بامرأة العزيز حيث وقع منها الكيد له والخيانة لزوجها، وتعريض بالعزيز حيث ساعدها على حبسه بعد أن علم براءته ونزاهته.
52-"ذلك"، أي: ذلك الذي فعلت من ردي رسول الملك إليه، "ليعلم"، العزيز، "أني لم أخنه"، في زوجته، "بالغيب"، أي: في حال غيبته، "وأن الله لا يهدي كيد الخائنين"، قوله ذلك ليعلم من كلام يوسف اتصل بقول امرأة العزيز: أنا راودته عن نفسه، من غير تميز، لمعرفة السامعين.
وقيل: فيه تقديم وتأخير: معناه: ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم، ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب.
قيل: لما قال يوسف هذه المقالة، قال له جبريل: ولا حين هممت بها؟ فقال يوسف عند ذلك: وما أبرئ نفسي.
قال السدي: إنما قالت له امرأة العزيز: ولا حين حللت سراويلك يا يوسف؟ فقال يوسف:
52."ذلك ليعلم" قاله يوسف لما عاد إليه الرسول وأخبره بكلامهن أي ذلك
التثبت ليعلم العزيز."أني لم أخنه بالغيب" بظهر الغيب وهو حال من الفاعل أو
المفعول أي لم أخنه وأنا غائب عنه ، أو وهو غائب عني أو ظرف أي بمكان
الغيب وراء الأستار والأبواب المغلقة."وأن الله لا يهدي كيد الخائنين"لا ينفذه ولا
يسدده ، أو لا يهدي الخائنين بكيدهم فأوقع الفعل على الكيد مبالغة.
وفيه تعريض براعيل في خيانتها زوجها وتوكيد لأمانته ولذلك عقبه بقوله:
52. (Then Joseph said: I asked for) this, that he (my lord) may now that I betrayed him not in secret, and that surely Allah guideth not the snare of the betrayers.
52 - This (say I), in order that he may know that I have never been false to him in his absence, and that God will never guide the snare of the false ones.