[يوسف : 15] فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَـذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ
15 - (فلما ذهبوا به وأجمعوا) عزموا (أن يجعلوه في غيابة الجب) وجواب لمَّا محذوف أي فعلوا ذلك بأن نزعوا قميصه بعد ضربه وإهانته وإرادة قتله وأدلوه فلما وصل إلى نصف البئر ألقوه ليموت فسقط في الماء ، ثم أوى إلى صخرة فنادوه فأجابهم يظن رحمتهم فأرادوا رضخه بصخرة فمنعهم يهوذا (وأوحينا إليه) في الجب وحيَ حقيقة وله سبع عشرة سنة أو دونها تطميناً لقلبه (لتنبِّئنَّهم) بعد اليوم (بأمرهم) بصنيعهم (هذا وهم لا يشعرون) بك حال الإنباء
قال أبو جعفر : وفي الكلام متروك حذف ذكره ، اكتفاءً بما ظهر عما ترك وهو : فأرسله معهم ، "فلما ذهبوا به وأجمعوا " ، يقول : وأجمع رأيهم ، وعزموا على أن يجعلوه في "غيابة الجب" ، كما :
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عمرو بن محمد ، عن أسباط ، عن السدي قوله : "إني ليحزنني أن تذهبوا به" ، الآية ، قال ، قال : لن أرسله معكم ، إني أخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون ، "قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون" ، فأرسله معهم ، فأخرجوه وبه عليهم كرامة ،فلما برزوا به إلى البرية أظهروا له العداوة ، وجعل أخوه يضربه ، فيستغيث بالآخر فيضربه ، فجعل لا يرى منهم رحيماً ، فضربوه حتى كادوا يقتلونه ، فجعل يصيح ويقول : يا أبتاه ‍، يا يعقوب ، لو تعلم ما صنع بابنك بنو الإماء ، فلما كادوا يقتلونه ، قال يهوذا : أليس قد أعطيتموني موثقاً أن لا تقتلوه ؟ فانطلقوا به إلى الجب ليطرحوه ، فجعلوا يدلونه في البئر فيتعلق بشفير البئر . فربطوا يديه ، ونزعوا قميصه ، فقال : يا إخوتاه ، ردوا علي قميصي أتوارى به في الجب ، فالوا : ادع الشمس والقمر والأحد عشر كوكبا تؤنسك ، قال : إني لم أر شيئاً ، فدلوه في البئر ، حتى إذا بلغ نصفها ألقوه إرادة أن يموت . وكان في البئر ماء فسقط فيه ، ثم أوى إلى صخرة فيها فقام عليها . قال : فلما ألقوه في البئر ، جعل يبكي ، فنادوه ، فظن أنها رحمة أدركتهم ، فلباهم ، فأرادوا أن يرضخوه بصخرة فيقتلوه ، فقام يهوذا فمنعهم ، وقال : قد أعطيتموني موثقاً أن لا تقتلوه ‍، وكان يهوذا يأتيه بالطعام .
وقوله : "فلما ذهبوا به وأجمعوا" ، فادخلت الواو في الجواب ،كما قال امرؤ القيس :
‌فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى بنا بطن خبت ذي قفاف عقنقل‌
فأدخل الواو في جواب لما ، وإنما الكلام :فلما أجزنا ساحة الحي ، انتحى بنا . وكذلك : "فلما ذهبوا به وأجمعوا" ، لأن قوله : "أجمعوا" هو الجواب .
وقوله : "وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم" ، يقول : وأوحينا إلى يوسف ، لتخبرن إخوتك ، "بأمرهم هذا" ، يقول : بفعلهم هذا الذي فعلوه بك ، "وهم لا يشعرون" ، يقول : وهم لا يعلمون ولا يدرون .
ثم اختلف أهل التأويل في المعنى الذي عناه الله عز وجل بقوله : "وهم لا يشعرون" .
فقال بعضهم : عنى بذلك : أن الله أوحى إلى يوسف أن يوسف سينبىء إخوته بفعلهم به ما فعلوه : من إلقائه في الجب وبيعهم إياه ،وسائر ما صنعوا به من صنيعهم ، وإخوته لا يشعرون بوحي الله إليه بذلك .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : "وأوحينا إليه" ، إلى يوسف .
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : "وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا" ، قال : أوحينا إلى يوسف : لتنبئن إخوتك .
قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : "وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون" قال : أوحى إلى يوسف وهو في الجب أن سينبئهم بما صنعوا ، وهم لا يشعرون بذلك الوحي .
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ،عن ابن ابي نجيح قال ، قال مجاهد : "وأوحينا إليه" ، قال : إلى يوسف .
وقال آخرون : معنى ذلك : وأوحينا إلى يوسف بما إخوته صانعون به ، وإخوته لا يشعرون بإعلام الله إياه بذلك .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : "وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون" ، بما أطلع الله عليه يوسف من أمرهم ، وهو في البئر .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا بن ثور ، عن معمر ،عن قتادة : "وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون" ، قال : أوحى الله إلى يوسف وهو في الجب أن ينبئهم بما صنعوا به ، وهم لا يشعرون بذلك الوحي .
حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن معمر ، عن قتادة ، بنحوه ، إلا أنه قال : أن سينبئهم .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أن يوسف سينبئهم بصنيعهم به ، وهم لا يشعرون أنه يوسف .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قوله : "وهم لا يشعرون" ، يقول : وهم لا يشعرون أنه يوسف .
حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا صدقة بن عبادة الأسدي ، عن أبيه ، قال : سمعت ابن عباس يقول : لما دخل إخوة يوسف فعرفهم وهم له منكرون ، قال : جيء بالصواع ، فوضعه على يده ، ثم نقره فطن ، فقال : إنه ليخبرني هذا الجام أنه كان لكم أخ من أبيكم يقال له يوسف ، يدنيه دونكم ،وإنكم انطلقتم به فألقيتموه في غيابة الجب ، قال : ثم نقره فطن ، فأتيتم أباكم فقلتم : إن الذئب أكله ، وجئتم على قميصه بدم كذب ‍، قال :فقال بعضهم لبعض : إن هذا الجام ليخبره بخبركم ، قال ابن عباس : فلا نرى هذه الآية نزلت إلا فيهم : "لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون" .
قوله تعالى: " فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه " ( أن) في موضع نصب، أي على أن يجعلوه في غيابة الجب قيل في القصة: إن يعقوب عليه السلام لما أرسله معهم أخذ عليهم ميثاقاً غليظاً ليحفظنه، وسلمه إلى روبيل وقال: يا روبيل! إنه صغير، وتعلم يا بني شفقتي عليه، فإن جاع فأطعمه، وإن عطش فاسقه، وإن أعيا فاحمله ثم عجل برده إلي. قال: فأخذوا يحملونه على أكتافهم، لا يضعه واحد إلى رفعه آخر، ويعقوب يشيعهم ميلا ثم رجع، فلما انقطع بصر أبيهم عنهم رماه الذي كان يحمله إلى الأرض حتى كاد ينكسر، فالتجأ إلى آخر فوجد عند كل واحد منهم أشد مما عند الآخر من الغيظ والعسف، فاستغاث بروبيل وقال: ( أنت أكبر إخوتي، والخليفة من بعد والدي علي، وأقرب الإخوة إلي، فارحمني وارحم ضعفي) فلطمه لطمة شديدة وقال: لا قرابة بيني وبينك، فادع الأحد عشر كوكباً فلتنجك منا، فعلم أن حقدهم من أجل رؤياه، فتعلق بأخيه يهوذا وقال: يا أخي! ارحم ضعفي وعجزي وحداثة سني، وارحم قلب أبيك يعقوب، فما أسرع ما تناسيتم وصيته ونقضتم عهده، فرق قلب يهوذا فقال: والله لا يصلون إليك أبداً ما دمت حياً، ثم قال: يا أخوتاه! إن قتل النفس التي حرم الله من أعظم الخطايا، فردوا هذا الصبي إلى إبيه، ونعاهده ألا يحدث والده بشيء مما جرى أبداً، فقال له إخوته: والله ما تريد إلا أن تكون لك المكانة عند يعقوب، والله لئن لم تدعه لنقتلنك معه، قال: فإن أبيتم إلا ذلك فها هنا هذا الجب الموحش القفر، الذي هو مأوى الحيات والهوام فألقوه فيه، فإن أصيب بشيء من ذلك فهو المراد، وقد استرحتم من دمه، إن انفلت على أيدي سيارة يذهبون به إلى أرض فهو المراد، فأجمع رأيهم على ذلك، فهو قول الله تعالى: " فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب " وجواب ( لما) محذوف، أي فلما ذهبوا به وأجمعوا على طرحه في الجب عظمت فتنتهم. وقيل: جواب ( لما) قولهم: " قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق ". وقيل: التقدير فلما ذهبوا به من عند أبيهم وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب جعلوه فيها، هذا على مذهب البصريين، وأما على قول الكوفيين فالجواب. ( أوحينا) والواو مقحمة، والواو عندهم تزاد مع لما وحتى، قال الله تعالى: " حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها " ( الزمر: 73) أي فتحت، وقوله: " حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور " ( هود: 40) أي فار. قال امرؤ القيس :
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى
أي انتحى، ومنه قوله تعالى: ( فلما أسلما وتله للجبين. وناديناه أي ناديناه). وفي قوله: " وأوحينا إليه " دليل على نبوته في ذلك الوقت. قال الحسن ومجاهد و الضحاك وقتادة: أعطاه الله النبوة وهو في الجب على حجر مرتفع عن الماء. وقال الكلبي : ألقي في الجب وهو ابن ثماني عشرة سنة، فما كان صغيراً، ومن قال كان صغيراً فلا يبعد في العقل أن يتنبأ الصغير ويوحى إليه. وقيل: كان وحي إلهام كقوله: " وأوحى ربك إلى النحل " ( النحل: 68). وقيل: كان مناماً، والأول أظهر - والله أعلم - وأن جبريل جاءه بالوحي.
قوله تعالى: " لتنبئنهم بأمرهم هذا " فيه وجهان: أحدهما - أنه أوحى إليه أنه سيلقاهم ويوبخهم على ما صنعوا، فعلى هذا يكون الوحي بعد إلقائه في الجب تقوية لقلبه، وتبشيراً له بالسلامة. الثاني - أنه أوحي إليه بالذي يصنعون به، فعلى هذا يكون الوحي قبل إلقائه في الجب إنذاراً له. " وهم لا يشعرون " أنك يوسف، وذلك أن الله تعالى أمره لما أفضى إليه الأمر بمصر إلا يخبر أباه وإخوته بمكانه. وقيل: بوحي الله تعالى بالنبوة، قاله ابن عباس ومجاهد. وقيل: ( الهاء) ليعقوب، أوحى الله تعالى إليه ما فعلوه بيوسف، وأنه سيعرفهم بأمره، وهم لا يشعرون بما أوحى الله إليه، والله أعلم. ومما ذكر من قصته إذ ألقي في الجب - ما ذكره السدي وغيره - أن إخوته لما جعلوا يدلونه في البئر، تعلق بشفير البئر، فربطوا يديه ونزعوا قميصه، فقال: يا أخوتاه! ردوا علي قميصي أتوارى به في هذا الجب، فإن مت كان كفني، وإن عشت أواري به عورتي، فقالوا: ادع الشمس والقمر والأحد عشر كوكباً فلتؤنسك وتكسك، فقال: إني لم أر شيئاً، فدلوه في البئر حتى إذا بلغ نصفها ألقوه إرادة إن يسقط فيموت، فكان في البئر ماء فسقط فيه، ثم آوى إلى صخرة فقال عليها. وقيل: إن شمعون هو الذي قطع الحبل إرادة إن يتفتت على الصخرة، وكان جبريل تحت ساق العرش، فأوحى الله إليه أن أدرك عبدي، قال جبريل: فأسرعت وهبطت حتى عارضته بين الرمي والوقوع فأقعدته على الصخرة سالماً. وكان ذلك الجب مأوى الهوام، فقام على الصخرة وجعل يبكي، فنادوه، فظن أنها رحمة عليه أدركتهم، فأجابهم، فأرادوا أن يرضخوه بالصخرة فمنعهم يهوذا، وكان يهوذا يأتيه بالطعام، فلما وقع عرياناً نزل جبريل إليه، وكان إبراهيم حين ألقي في النار عرياناً أتاه جبريل بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه، فكان ذلك عند إبراهيم، ثم ورثه إسحق، ثم ورثه يعقوب، فلما شب يوسف جعل يعقوب ذلك القميص في تعويذة وجعله في عنقه، فكان لا يفارقه، فلما ألقي في الجب عرياناً أخرج جبريل ذلك القميص فألبسه إياه. قال وهب: فلما قام على الصخرة قال: يا إخوتاه! إن لكل ميت وصية، فاسمعوا وصيتي، قالوا: وما هي؟ قال: إذا اجتمعتم كلكم فآنس بعضكم بعضاً فاذكروا وحشتي، وإذا أكلتم فاذكروا جوعي، وإذا شربتم فاذكروا عطشي، وإذا رأيتم غريباً فاذكروا غربتي، وإذا رأيتم شاباً فاذكروا شبابي، فقال له جبريل: يا يوسف! كف عن هذا واشتغل بالدعاء، فإن الدعاء عند الله بمكان، ثم علمه فقال: قل اللهم يا مؤنس كل غريب، ويا صاحب كل وحيد، ويا ملجأ كل خائف، ويا كاشف كل كربة، ويا عالم كل نجوى، ويا منتهى كل شكوى، ويا حاضر كل ملإ، يا حي يا قيوم! أسألك أن تقذف رجاءك في قلبي، حتى لا يكون لي هم ولا شغل غيرك، وأن تجعل لي من أمري فرجاً ومخرجاً، إنك على كل شيء قدير، فقالت الملائكة: إلهنا! نسمع صوتاً ودعاء، الصوت صوت صبي، والدعاء دعاء نبي. وقال الضحاك : نزل جبريل عليه السلام على يوسف وهو في الجب فقال له: ألا أعلمك كلمات إذا أنت قلتهن عجل الله لك خروجك من هذا الجب؟ فقال: نعم! فقال له: قل يا صانع كل مصنوع، ويا جابر كل كسير، ويا شاهد لك نجوى، ويا حاضر كل ملإ، ويا مفرج كل كربة، ويا صاحب كل غريب، ويا مؤنس كل وحيد، ايتني بالفرج والرجاء، واقذف رجاءك في قلبي حتى لا أرجو أحداً سواك، فرددها يوسف في ليلته مراراً، فأخرجه الله في صبيحة يومه ذلك من الجب.
يقول تعالى: فلما ذهب به إخوته من عند أبيه بعد مراجعتهم له في ذلك "وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب" هذا فيه تعظيم لما فعلوه, أنهم اتفقوا كلهم على إلقائه في أسفل ذلك الجب وقد أخذوه من عند أبيه فيما يظهرونه له إكراماً له, وبسطاً وشرحاً لصدره, وإدخالاً للسرور عليه, فيقال إن يعقوب عليه السلام لما بعثه معهم ضمه إليه وقبله ودعا له, وذكر السدي وغيره أنه لم يكن بين إكرامهم له وبين إظهار الأذى له إلا أن غابوا عن عين أبيه وتواروا عنه, ثم شرعوا يؤذونه بالقول من شتم ونحوه, والفعل من ضرب ونحوه, ثم جاءوا به إلى ذلك الجب الذي اتفقوا على رميه فيه, فربطوه بحبل ودلوه فيه, فكان إذا لجأ إلى واحد منهم لطمه وشتمه, وإذا تشبث بحافات البئر ضربوا على يديه, ثم قطعوا به الحبل من نصف المسافة, فسقط في الماء فغمره, فصعد إلى صخرة تكون في وسطه يقال لها الراغوفة, فقام فوقها.
وقوله: "وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون", يقول تعالى ذاكراً لطفه ورحمته وعائدته وإنزاله اليسر في حال العسر: إنه أوحى إلى يوسف في ذلك الحال الضيق تطييباً لقلبه وتثبيتاً له, إنك لا تحزن مما أنت فيه, فإن لك من ذلك فرجاً ومخرجاً حسناً, وسينصرك الله عليهم ويعليك ويرفع درجتك وستخبرهم بما فعلوا معك من هذا الصنيع, وقوله: "وهم لا يشعرون". قال مجاهد وقتادة: "وهم لا يشعرون" بإيحاء الله إليه. وقال ابن عباس: ستنبئهم بصنيعهم هذا في حقك, وهم لا يعرفونك ولا يستشعرون بك, كما قال ابن جرير: حدثني الحارث, حدثنا عبد العزيز, حدثنا صدقة بن عبادة الأسدي عن أبيه, سمعت ابن عباس يقول: لما دخل إخوة يوسف عليه فعرفهم وهم له منكرون, قال: جيء بالصواع فوضعه على يده, ثم نقره فطن, فقال: إنه ليخبرني هذا الجام أنه كان لكم أخ من أبيكم يقال له يوسف, يدنيه دونكم, وأنكم انطلقتم به وألقيتموه في غيابة الجب, قال: ثم نقره فطن, قال: فأتيتم أباكم فقلتم: إن الذئب أكله وجئتم على قميصه بدم كذب, قال: فقال بعضهم لبعض: إن هذا الجام ليخبره بخبركم. قال ابن عباس: فلا نرى هذه الاية نزلت إلا فيهم "لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون".
15- "فلما ذهبوا به" من عند يعقوب "وأجمعوا" أمرهم "أن يجعلوه في غيابة الجب" قد تقدم تفسير الغيابة والجب قريباً، وجواب لما محذوف لظهوره ودلالة المقام عليه، والتقدير: فعلوا به ما فعلوا، وقيل جوابه "قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق" وقيل الجواب المقدر جعلوه فيها، وقيل الجواب أوحينا والواو مقحمة، ومثله قوله تعالى: " فلما أسلما وتله للجبين * وناديناه " أي ناديناه "وأوحينا إليه" أي إلى يوسف تيسيراً له وتأنيساً لوحشته مع كونه صغيراً اجتمع على إنزال الضرر به عشرة رجال من إخوته، بقلوب غليظة فقد نزعت عنها الرحمة وسلبت منها الرأفة، فإن الطبع البشري، دع عنك الدين، يتجاوز عن ذنب الصغير ويغتفره لضعفه عن الدفع وعجزه عن أيسر شيء يراد منه، فكيف بصغير لا ذنب له، بل كيف بصغير هو أخ وله ولهم أب مثل يعقوب، فلقد أبعد من قال إنهم كاوا أنبياء في ذلك الوقت، فما هكذا عمل الأنبياء ولا فعل الصالحين. وفي هذا دليل على أنه يجوز أن يوحي الله إلى من كان صغيراً ويعطيه النبوة حينئذ كما وقع في عيسى ويحيى بن زكريا، وقد قيل إنه كان في ذلك الوقت قد بلغ مبلغ الرجال، وهو بعيد جداً، فإن من كان قد بلغ مبالغ الرجال لا يخاف عليه أن يأكله الذئب " لتنبئنهم بأمرهم هذا " أي لتخبرن إخوتك بأمرهم هذا الذي فعلوه معك بعد خلوصك مما أرادوه بك من الكيد وأنزلوه عليك من الضرر، وجملة "وهم لا يشعرون" في محل نصب على الحال: أي لا يشعرون بأنك أخوهم يوسف لاعتقادهم هلاكك بإلقائهم لك في غيابة الجب، ولبعد عهدهم بك، ولكونك قد صرت عند ذلك في حال غير ما كنت عليه وخلاف ما عهدوه منك، وسيأتي ما قاله لهم عند دخولهم عليه بعد أن صار إليه ملك مصر.
15-"فلما ذهبوا به وأجمعوا"، أي: عزموا، "أن يجعلوه"، يلقوه، "في غيابة الجب وأوحينا إليه"، هذه الواو زائدة، تقديره: أوحينا إليه، كقوله تعالى: " فلما أسلما وتله للجبين * وناديناه " (الصافات-103) أي: ناديناه، "لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون"، يعني: أوحينا إلى يوسف عليه السلام لتصدقن رؤياك ولتخبرن إخوتك بصنيعهم هذا وهم لا يشعرون بوحي الله وإعلامه إياه ذلك، قاله مجاهد.
وقيل: معناه: وهم لا يشعرون يوم تخبرهم أنك يوسف، وذلك حين دخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون.
وذكر وهب وغيره: أنهم أخذوا يوسف عليه السلام بغاية الإكرام وجعلوا يحملونه، فلما برزوا إلى البرية ألقوه وجعلوا يضربونه فإذا ضربه واحد منهم استغاث بالآخر فضربه الآخر، فجعل لا يرى منهم رحيما فضربوه حتى كادوا يقتلونه وهو يصيح با أبتاه لو تعلم ما يصنع بابنك بنو الإماء، فلما كادوا أن يقتلوه قال لهم يهوذا: أليس قد أعطيتموني موثقا أن لا تقتلوه، فانطلقوا به إلى الجب ليطرحوه فيه، وكان ابن اثنتي عشرة سنة - وقيل: ثمانية عشرة سنة- فجاؤا به إلى بئر على غير الطريق واسعة الأسفل ضيقة الرأس. قال مقاتل: على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب عليه السلام. وقال كعب: بين مدين ومصر. وقال وهب بأرض الأردن. وقال قتادة: هي بئر بيت المقدس فجعلوا يدلونه في البئر فيتعلق بشفير البئر فربطوا يديه ونزعوا قميصه فقال: يا إخواتاه ردوا علي القميص أتوارى به في الجب، فقالوا: ادع الشمس والقمر والكواكب تواريك، قال: إني لم أر شيئا، فألقوه فيها.
وقيل: جعلوه في دلو وأرسلوه فيها حتى إذا بلغ نصفها القوه إرادة أن يموت فكان في البئر ماء فسقط فيه، ثم أوى إلى صخرة فيها فقام عليها.
إنهم لما ألقوه فيها جعل يبكي فنادوه فظن أن رحمة أدركتهم فأجابهم فأرادوا أن يرضخوه بصخرة فيقتلوه، فمنعهم يهوذا وكان يهوذا يأتيه بالطعام، وبقي فيها ثلاث ليال.
"وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا"، الأكثرون على أن الله تعالى أوحى إليه بهذا وبعث إليه جبريل عليه السلام يؤنسه ويبشره بالخروج، ويخبره أنه ينبئهم بما فعلوه ويجازيهم عله وهم لا يشعرون.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: ثم إنهم ذبحوا سخلة وجعلوا دمها على قميص يوسف عليه السلام.
15." فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب " وعزموا على إلقاءه فيها، والبئر بئر بيت المقدس أو بئر بأرض الأردن أو بين مصر ومدين، أو على ثلاثة فراسخ من مقام يعقوب وجواب لما محذوف مثل فعلوا به ما فعلوا من الأذى . فقد روي أنهم لما بروزا به إلى الصحراء أخذوا يؤذونه ويضربونه حتى كادوا يقتلونه، فجعل يصيح ويستغيث فقال يهوذا : أما عاهدتموني أن لا تقتلونه فأتوا به إلى البئر ، فدلوه فيها فتعلق بشفيرها فربطوا يديه ونزعوا قميصه ليلطخوه بالدم ويحتالوا به على أبيهم ، فقال : يا إخوتاه ردوا علي قميصي أتوارى به فقالوا : ادع الأحد عشر كوكباً والشمس والقمر يلبسوك ويؤنسوك فلما ، بلغ نصفها ألقوه وكان فيها ماء فسقط فيه ، ثم آوى إلى صخرة كانت فيها فقام عليها يبكي فجاءه جبريل بالوحي كما قال :"وأوحينا إليه"وكان ابن سبع عشرة سنة . وقيل كان مراهقاً أوحي إليه في صغره كما أوحي إلى يحيى وعيسى عليهم الصلاة والسلام . وفي القصص: أن إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار جرد عن ثيابه فأتاه جبريل عليه السلام بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه ، فدفعه إبراهيم إلى إسحاق وإسحاق إلى يعقوب فجعله في تميمة علقها بيوسف فأخرجه جبريل عليه السلام وألبسه إياه" لتنبئنهم بأمرهم هذا "لتحدثنهم بما فعلوا بك"وهم لا يشعرون"إنك يوسف لعلو شأنك وبعده عن أوهامهم وطول العهد المغير للحلى والهيئات ، وذلك إشارة إلى ما قال لهم بمصر حين دخلوا عليه ممتاريين "فعرفهم وهم له منكرون"بشره بما يؤول إليه أمره إيناساً له وتطييباً لقلبه . وقيل "وهم لا يشعرون" متصل بـ"أوحينا" أي آنسناه بالوحي وهم لا يشعرون ذلك .
15. Then, when they led him off, and were of one mind that they should place him in the depth of the pit, We inspired in him: Thou wilt tell them of this deed of theirs when they know (thee) not.
15 - So they did take him away, and they all agreed to throw him down to the bottom of the well: and we put into his heart (this message): of a surety thou shalt (one day) tell them the truth of this their affair while they know (thee) not