[هود : 107] خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ
107 - (خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض) أي مدة دوامهما في الدنيا (إلا) غير (ما شاء ربك) من الزيادة على مدتهما مما لا منتهى له والمعنى خالدين فيها أبداً (إن ربك فعال لما يريد)
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : يوم يأت القيامة ، أيها الناس ، وتقوم الساعة ، لا تكلم نفس إلا بإذن ربها .
واختلفت القرأة في قراءة قوله : يوم يأتي .
فقرأ ذلك عامة قرأة أهل المدينة بإثبات الياء فيها : يوم يأتي لا تكلم نفس .
وقرأ ذلك بعض قرأة أهل البصرة وبعض الكوفيين بإثبات الياء فيها في الوصل وحذفها في الوقف .
وقرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة بحذف الياء في الوصل والوقف : "يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه" .
قال أبو جعفر : والصواب من القراءة في ذلك عندي :"يوم يأت" ، بحذف الياء في الوصل والوقف ، اتباعاً لخط المصحف ، وأنها لغة معروفة لهذيل ، تقول : ما أدر ما تقول ، ومنه قول الشاعر :
كفاك كف ما تليق درهما جودا وأخرى تعط بالسيف الدما
وقيل : "لا تكلم" ، وإنما هي : لا تتكلم ، فحذف إحدى التاءين ، اجتراءً بدلالة الباقية منهما عليها .
وقوله : "فمنهم شقي وسعيد" ، يقول : فمن هذه النفوس التي لا تكلم يوم القيامة إلا بإذن ربها ، شقي وسعيد ، وعاد على النفس ، وهي في اللفظ واحدة ،بذكر الجميع في قوله : "فمنهم شقي وسعيد" .
يقول تعالى ذكره : "فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير" ، وهو أول نهاق الحمار وشبهه ، "وشهيق" ، وهو آخر نهيقه إذا ردده في الجوف عند فراغه من نهاقه ، كما قال رؤبة بن العجاج :
حشرج في الجوف سحيلا أو شهق حتى يقال ناهق وما نهق
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : "لهم فيها زفير وشهيق" ، يقول : صوت شديد ، وصوت ضعيف .
قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن أبي العالية في قوله : "لهم فيها زفير وشهيق" ، قال : الزفير ، في الحلق ، و الشهيق ، في الصدر .
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، بنحوه .
حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، أخبرنا عبد الرزاق ،عن معمر ، عن قتادة قوله : صوت الكافر في النار صوت الحمار ،أوله زفير وآخره شهيق .
حدثنا أبو هشام الرفاعي ، ومحمد بن معمر البحراني ، ومحمد بن المثنى ، ومحمد بن بشار قالوا ، حدثنا أبو عامر قال ، حدثنا سليمان بن سفيان قال ، حدثنا عبد الله بن دينار ، "عن ابن عمر قال : لما نزلت هذه الآية : "فمنهم شقي وسعيد" ، سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : يا نبي الله ، فعلام عملنا ؟ على شيء قد فرغ منه ، أم على شيء لم يفرغ منه ؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : على شيء قد فرغ منه ، يا عمر ، وجرت به الأقلام ، ولكن كل ميسر لما خلق له" . اللفظ لحديث ابن معمر .
وقوله : "خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد" ، يعني تعالى ذكره بقوله : "خالدين فيها" ، لابثين فيها ، ويعني بقوله : "ما دامت السماوات والأرض" ، أبداً .
وذلك أن العرب إذا أرادت أن تصف الشيء بالدوام أبداً قالت : هذا دائم دوام السموات والأرض ، بمعنى : أنه دائم أبداً . وكذلك يقولون : هو باق ما اختلف الليل والنهار ، و ما سمر ابنا سمير ، و ما لألأت العفر بأذنابها ، يعنون بذلك كله : ابداً . فخاطبهم جل ثناؤه بما يتعارفون به بينهم ، فقال : "خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض" ، والمعنى في ذلك : خالدين فيها أبداً .
وكان ابن زيد يقول في ذلك بنحو ما قلنا فيه .
حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : "خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض" ، قال : ما دامت الأرض أرضاً والسماء سماءً .
ثم قال : "إلا ما شاء ربك" ، واختلف أهل العلم والتأويل في معنى ذلك .
فقال بعضهم : هذا استثناء استثناه الله في أهل التوحيد ، أنه يخرجهم من النار إذا شاء ، بعد أن أدخلهم النار .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة في قوله : "فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق * خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك" ، قال : الله أعلم بثنياه . وذكر لنا أن ناساً يصيبهم سفع من النار بذنوب أصابوها ، ثم يدخلهم الجنة .
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : "خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك" ، والله أعلم بثنيته . ذكر لنا أن ناساً يصيبهم سفع من النار بذنوب أصابتهم ، ثم يدخلهم الله الجنة بفضل رحمته ، يقال لهم : الجهنميون .
حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا شيبان بن فروخ قال ، حدثنا أبو هلال قال ، حدثنا قتادة ، وتلا هذه الآية : "فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق" ، إلى قوله : "لما يريد" ، فقال عند ذلك : "حدثنا أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يخرج قوم من النار" ، قال قتادة : ولا نقول مثل ما يقول أهل حروراء .
حدثنا ابن حميدقال حدثنا يعقوب عن أبي مالك يعني ثعلبة عن أبي سنان في قوله "فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق * خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد" قال : استثناء في أهل التوحيد.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الضحاك بن مزاحم : "فأما الذين شقوا ففي النار" ، إلى قوله : "خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك" ، قال : يخرج قوم من النار فيدخلون الجنة ، فهم الذي استثنى لهم .
حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن عامر بن جشيب ، عن خالد بن معدان في قوله : ( لابثين فيها أحقابا ) ، وقوله : "خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك" ، أنهما في أهل التوحيد .
وقال آخرون : الاستثناء في هذه الآية في أهل التوحيد ، إلا أنهم قالوا : معنى قوله : "إلا ما شاء ربك" ، إلا أن يشاء ربك أن يتجاوز عنهم فلا يدخلهم النار ، ووجهوا الاستثناء إلى أنه من قوله : "فأما الذين شقوا ففي النار" ، "إلا ما شاء ربك" ، لا من الخلود .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، حدثنا ابن التيمي ، عن أبيه ، عن أبي نضرة ، عن جابر : أو : أبي سعيد ، يعني الخدري ، أو : عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في قوله : "إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد" ، قال : هذه الآية تأتي على القرآن كله . يقول : حيث كان في القرآن "خالدين فيها" ، تأتي عليه ، قال : وسمعت أنا مجلز يقول : هو جزاؤه ، فإن شاء الله تجاوز عن عذابه .
وقال آخرون : عنى بذلك أهل النار وكل من دخلها .
ذكر من قال ذلك :
حدثت عن المسيب ، عمن ذكره ، عن ابن عباس : "خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض" ، لا يموتون ولا هم منها يخرجون ، "ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك" ، قال : استثناء الله . قال : يأمر النار أن تأكلهم . قال : وقال ابن مسعود : ليأتين على جهنم زمان تخفق أبوابها ، ليس فيها أحد ، وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقاباً .
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن بيان ، عن الشعبي قال : جهنم أسرع الدارين عمراناً ، وأسرعهما خراباً .
وقال آخرون : أخبرنا الله بمشيئته لأهل الجنة ، فعرفنا معنى ثنياه بقوله : "عطاء غير مجذوذ" ، أنها في الزيادة على مقدار مدة السموات والأرض . قال : ولم يخبرنا بمشيئته في أهل النار . وجائز أن تكون مشيئته في الزيادة ، وجائز أن تكون في النقصان .
ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : "خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك" . فقرأ حتى بلغ : "عطاء غير مجذوذ" ، قال : وأخبرنا بالذي يشاء لأهل الجنة ، فقال : "عطاء غير مجذوذ" ، ولم يخبرنا بالذي يشاء لأهل النار .
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال في تأويل هذه الآية بالصواب ، القول الذي ذكرنا عن قتادة و الضحاك : من أن ذلك استثناء في أهل التوحيد من أهل الكبائر ، أنه يدخلهم النار خالدين فيها أبداً ، إلا ما شاء من تركهم فيها أقل من ذلك ، ثم يخرجهم فيدخلهم الجنة ، كما قد بينا في غير هذا الموضع ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال بالصحة في ذلك ، لأن الله جل ثناؤه اوعد أهل الشرك به الخلود في النار ، وتظاهرت بذلك الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فغير جائز أن يكون استثناءً في أهل الشرك ، وأن الأخبار قد تواترت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله يدخل قوماً من أهل الإيمان به بذنوب أصابوها النار ، ثم يخرجهم منها فيدخلهم الجنة ، فغير جائز أن يكون ذلك استثناء في أهل التوحيد قبل دخولها ، مع صحة الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ذكرنا ، وأنا إن جعلناه استثناء في ذلك ، كنا قد دخلنا في قول من يقول : لا يدخل الجنة فاسق ، ولا النار مؤمن ، وذلك خلاف مذاهب أهل العلم ، وما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . فإذا فسد هذان الوجهان ، فلا قول قال به القدوة من أهل العلم إلا الثالث .
ولأهل العربية في ذلك مذهب غير ذلك ، سنذكره بعد ونبينه إن شاء الله .
وقوله : "إن ربك فعال لما يريد" ، يقول تعالى ذكره : إن ربك ،يا محمد ، لا يمنعه مانع من فعل ما أراد فعله بمن عصاه وخالف أمره ، من الانتقام منه ، ولكنه يفعل ما يشاء فعله ، فيمضي فيهم وفيمن شاء من خلقه فعله وقضاؤه .
قوله تعالى: " خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض " ( ما دامت) في موضع نصب على الظرف، أي دوام السماوات والأرض، والتقدير: وقت ذلك. واختلف في تأويل هذا، فقالت طائفة منهم الضحاك : المعنى ما دامت سماوات الجنة والنار وأرضهما والسماء كل ما علاك فأظلك، والأرض ما استقر عليه قدمك، وفي التنزيل: " وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء " ( الزمر: 74). وقيل: أراد به السماء والأرض المعهودتين في الدنيا وأجري ذلك على عادة العرب في الإخبار عن دوام الشيء وتأييده، كقولهم: لا آتيك ما جن ليل، أو سأل سيل، وما اختلف الليل والنهار، وما ناح الحمام، وما دامت السماوات والأرض، ونحو هذا مما يريدون به طولاً من غير نهاية، فأفهمهم الله تخليد الكفرة بذلك. وإن كان قد أخبر بزوال السماوات والأرض. وعن ابن عباس أن جميع الأشياء المخلوقة أصلها من نور العرش، وأن السماوات والأرض في الآخرة تردان إلى النور الذي أخذتا منه، فهما دائمتان أبداً في نور العرش.
قوله تعالى: " إلا ما شاء ربك " في موضع نصب، لأنه استثناء ليس من الأول، وقد اختلف فيه على أقوال عشرة: الأول: أنه استثناء من قوله: ( ففي النار) كأنه قال: إلا ما شاء ربك من تأخير قوم عن ذلك، وهذا قول رواه أبو نضرة عن أبي سعيد الخدري وجابر رضي الله عنهما. وإنما لم يقل من شاء، لأن المراد العدد لا الأشخاص، كقوله: " ما طاب لكم " ( النساء: 3). وعن أبي نضرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " إلا من شاء ألا يدخلهم وإن شقوا بالمعصية ". الثاني: أن الاستثناء إنما هو للعصاة من المؤمنين في إخراجهم بعد مدة من النار، وعلى هذا يكون قوله: " فأما الذين شقوا " عاماً في الكفرة والعصاة، ويكون الاستثناء من ( خالدين)، قاله قتادة و الضحاك وأبو سنان وغيرهم. وفي الصحيح من حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يدخل ناس جهنم حتى إذا صاروا كالحممة أخرجوا منها ودخلوا الجنة فيقال هؤلاء الجهنميون " وقد تقدم هذا المعنى في ( النساء) وغيرها. الثالث: أن الاستثناء من الزفير والشهيق، أي لهم فيها زفير وشهيق إلا ما شاء ربك من أنواع العذاب الذي لم يذكره، وكذلك لأهل الجنة من النعيم ما ذكر، وما لم يذكر. حكاه ابن الأنباري . الرابع: قال ابن مسعود: ( خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض) لا يموتون فيها، ولا يخرجون منها " إلا ما شاء ربك " وهو أن يأمر النار فتأكلهم وتفنيهم، ثم يجدد خلقهم.
قلت: وهذا القول خاص بالكافر والاستثناء له في الأكل، وتجديد الخلق.
الخامس: أن ( إلا) بمعنى ( سوى) كما تقول في الكلام: ما معي رجل إلا زيد، ولي عليك ألفا ردهم إلا الألف التي لي عليك. قيل: فالمعنى ما دامت السماوات والأرض سوى ما شاء ربك من الخلود. السادس: أنه استثناء من الإخراج، وهو لا يريد أن يخرجهم منها. كما تقول في الكلام: أردت أن أفعل ذلك إلا أن أشاء غيره، وأنت مقيم على ذلك الفعل، فالمعنى أنه لو شاء أن يخرجهم لأخرجنهم، ولكنه قد أعلمهم أنهم خالدون فيها، ذكر هذين القولين الزجاج عن أهل اللغة، قال: ولأهل المعاني قولان آخران، فأحد القولين: ( خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك) من مقدار موقفهم على رأس قبورهم، وللمحاسبة، وقدر مكثهم في الدنيا، والبرزخ، والوقوف للحساب. والقول الآخر: وقوع الاستثناء في الزيادة على النعيم والعذاب، وتقديره: ( خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك) من زيادة النعيم لأهل النعيم، وزيادة العذاب لأهل الجحيم.
قلت: فالاستثناء في الزيادة من الخلود على مدة كون السماء والأرض المعهودتين في الدنيا واختاره الترمذي الحكيم أبو عبد الله محمد بن علي ، أي خالدين فيها مقدار دوام السماوات والأرض، وذلك مدة العالم، وللسماء والأرض وقت يتغيران فيه، وهو قوله سبحانه: " يوم تبدل الأرض غير الأرض " ( إبراهيم: 48) فخلق الله سبحانه الآدميين وعاملهم، واشترى منهم أنفسهم وأموالهم بالجنة، وعلى ذلك بايعهم يوم الميثاق، فمن وفى بذلك العهد فله الجنة، ومن ذهب برقبته يخلد في النار بمقدار دوام السماوات والأرض، فإنما دامتا للمعاملة، وكذلك أهل الجنة خلود في الجنة بمقدار ذلك، فإذا تمت هذه المعاملة وقع الجميع في مشيئة الله، قال الله تعالى: " وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين * ما خلقناهما إلا بالحق " ( الدخان: 38: 39) فيخلد أهل الدارين بمقدار دوامهما لحق الأحدية، فمن لقيه موحداً لأحديته بقي في داره أبداً، ومن لقيه مشركاً بأحديته إلهاً بقي في السجن أبداً، فأعلم الله العباد مقدار الخلود، ثم قال: ( إلا ما شاء ربك) من زيادة المدة التي تعجز القلوب عن إدراكها لأنه لا غاية لها، فبالاعتقاد دام خلودهم في الدارين أبداً. وقد قيل: إن ( إلا) بمعنى الواو، قاله الفراء وبعض أهل النظر وهو ( الثامن - والمعنى: وما شاء ربك من الزيادة في الخلود على مدة دوام السماوات والأرض في الدنيا. وقد قيل في قوله تعالى: " إلا الذين ظلموا " ( البقرة: 150) أي ولا الذين ظلموا. وقال الشاعر:
وكل أخ مفارقه أخوه لعمر أبيك إلا الفرقدان
أي والفرقدان. وقال أبو محمد مكي: وهذا قول بعيد عند البصريين أن تكون ( إلا) بمعنى الواو، وقد مضى في ( البقرة) بيانه. وقيل: معناه كما شاء ربك، كقوله تعالى: " ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف " ( النساء: 22) أي كما قد سلف، وهو - التاسع، العاشر - وهو أن قوله تعالى: ( إلا ما شاء ربك) إنما ذلك على طريق الاستثناء الذي ندب الشرع إلى استعماله في كل كلام، فهو على حد قوله تعالى: " لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين " ( الفتح: 27) فهو استثناء في واجب، وهذا الاستثناء في حكم الشرط كذلك، كأنه قال: إن شاء ربك، فليس يوصف بمتصل ولا منقطع، ويؤيده ويقويه قوله تعالى: ( عطاء غير مجذوذ) ونحوه عن أبي عبيد قال: تقدمت عزيمة المشيئة من الله تعالى في خلود الفريقين في الدارين، فوقع لفظ الاستثناء، والعزيمة قد تقدمت في الخلود، قال: وهذا مثل قوله تعالى: " لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين " ( الفتح: 27) وقد علم أنهم يدخلونه حتماً، فلم يوجب الاستثناء في الموضعين خياراً، إذ المشيئة قد تقدمت بالعزيمة في الخلود في الدارين والدخول في المسجد الحرام، ونحوه عن الفراء. وقول - حادي عشر - وهو أن الأشقياء هم السعداء، والسعداء هم الأشقياء لا غيرهم، والاستثناء في الموضعين راجع إليهم، وبيانه أن ( ما) بمعنى ( من) استثنى الله عز وجل من الداخلين في النار المخلدين فيها الذين يخرجون منها من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بما معهم من الإيمان، واستثنى من الداخلين في الجنة المخلدين فيها الذين يدخلون النار بذنوبهم قبل دخول الجنة ثم يخرجون منها إلى الجنة. وهم الذين وقع عليهم الاستثناء الثاني، كأنه قال تعالى: " فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق * خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك " ألا يخلده فيها، وهم الخارجون منها من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بإيمانهم وبشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم، فهم بدخولهم النار يسمون الأشقياء، وبدخولهم الجنة يسمون السعداء، كما روى الضحاك عن ابن عباس إذ قال: الذين سعدوا شقوا بدخول النار ثم سعدوا بالخروج منها ودخولهم الجنة.
يقول تعالى "لهم فيها زفير وشهيق" قال ابن عباس الزفير في الحلق والشهيق في الصدر أي تنفسهم زفير وأخذهم النفس شهيق, لما هم فيه من العذاب عياذاً بالله من ذلك "خالدين فيها ما دامت السموات والأرض" قال الإمام أبو جعفر بن جرير: من عادة العرب إذا أرادت أن تصف الشيء بالدوام أبداً قالت هذا دائم دوام السموات والأرض, وكذلك يقولون هو باق ما اختلف الليل والنهار, وما سمر أبناء سمير وما لألأت العير بأذنابها يعنون بذلك كله أبداً فخاطبهم جل ثناؤه بما يتعارفونه بينهم فقال: "خالدين فيها ما دامت السموات والأرض" (قلت): ويحتمل أن المراد بما دامت السموات والأرض الجنس لأنه لا بد في عالم الاخرة من سموات وأرض كما قال تعالى " يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات " ولهذا قال الحسن البصري في قوله: "ما دامت السموات والأرض" قال: يقول: سماء غير هذه السماء وأرض غير هذه فما دامت تلك السماء وتلك الأرض. وقال ابن أبي حاتم ذكر عن سفيان بن حسين عن الحكم عن مجاهد عن ابن عباس قوله: "ما دامت السموات والأرض" قال: لكل جنة سماء وأرض, وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: ما دامت الأرض أرضا والسماء سماء. وقوله "إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد" كقوله "النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم" وقد اختلف المفسرون في المراد من هذا الاستثناء على أقوال كثيرة حكاها الشيخ أبو الفرج بن الجوزي في كتابه زاد المسير, وغيره من علماء التفسير, ونقل كثيراً منها الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله في كتابه واختار هو ما نقله عن خالد بن معدان والضحاك وقتادة وابن سنان ورواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس والحسن أيضاً أن الاستثناء عائد على العصاة من أهل التوحيد ممن يخرجهم الله من النار بشفاعة الشافعين, من الملائكة والنبيين والمؤمنين, حتى يشفعون في أصحاب الكبائر ثم تأتي رحمة أرحم الراحمين فتخرج من النار من لم يعمل خيراً قط وقال يوماً من الدهر لا إله إلا الله كما وردت بذلك الأخبار الصحيحة المستفيضة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمضمون ذلك من حديث أنس وجابر وأبي سعيد وأبي هريرة وغيرهم من الصحابة ولا يبقى بعد ذلك في النار إلا من وجب عليه الخلود فيها ولا محيد له عنها, وهذا الذي عليه كثير من العلماء قديماً وحديثاً في تفسير هذه الاية الكريمة. وقد روي في تفسيرها عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وابن مسعود وابن عباس وأبي هريرة وعبد الله بن عمرو وجابر وأبي سعيد من الصحابة, وعن أبي مجلز والشعبي وغيرهما من التابعين, وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وإسحاق بن راهويه وغيرهما من الأئمة في أقوال غريبة وورد حديث غريب في معجم الطبراني الكبير عن أبي أمامة صدي بن عجلان الباهلي ولكن سنده ضعيف والله أعلم. وقال قتادة: الله أعلم بثنياه, وقال السدي هي منسوخة بقوله "خالدين فيها أبداً".
107- "خالدين فيها ما دامت السموات والأرض" أي مدة دوامهما.
وقد اختلف العلماء في بيان معنى هذا التوقيت، لأنه قد علم بالأدلة القطعية تأبيد عذاب الكفار في النار وعدم انقطاعه عنهم، وثبت أيضاً أن السموات والأرض تذهب عند انقضاء أيام الدنيا، فقالت طائفة: إن هذا الإخبار جار على ما كانت العرب تعتاده إذا أرادوا المبالغة في دوام الشيء، قال: هو دائم ما دامت السموات والأرض، ومنه قوله: لا آتيك ما جن ليل، وما اختلف الليل والنهار، وما ناح الحمام ونحو ذلك. فيكون معنى الآية: أنهم خالدون فيها أبداً لا انقطاع لذلك ولا انتهاء له، وقيل: إن المراد سموات الآخرة وأرضها، فقد ورد ما يدل على أن للآخرة سموات وأرضاً غير هذه الموجودة في الدنيا، وهي دائمة بدوام دار الآخرة، وأيضاً لا بد لهم من موضع يقلهم وآخر يظلهم، وهما أرض وسماء. قوله: "إلا ما شاء ربك" قد اختلف أهل العلم في معنى هذا الاستثناء على أقوال: الأول: أنه من قوله: "ففي النار" كأنه قال: إلا ما شاء ربك من تأخير قوم عن ذلك. روى هذا أبو نضرة عن أبي سعيد الخدري. الثاني: أن الاستثناء إنما هو للعصاة من الموحدين، وأنهم يخرجون بعد مدة من النار، وعلى هذا يكون قوله سبحانه: "فأما الذين شقوا" عاماً في الكفرة والعصاة، ويكون الاستثناء من خالدين، وتكون ما بمعنى من، وبهذا قال قتادة والضحاك وأبو سنان وغيرهم. وقد ثبت بالأحاديث المتواترة تواتراً يفيد العلم الضروري بأنه يخرج من النار أهل التوحيد، فكان ذلك مخصصاً لكل عموم. الثالث: أن الاستثناء من الزفير والشهيق: أي لهم فيها زفير وشهيق "إلا ما شاء ربك" من أنواع العذاب غير الزفير والشهيق قاله ابن الأنباري. الرابع: أن معنى الاستثناء: أنهم خالدون فيها ما دامت السموات والأرض لا يموتون إلا ما شاء ربك، فإنه يأمر النار فتأكلهم حتى يفنوا، ثم يجدد الله خلقهم، روي ذلك عن ابن مسعود. الخامس: أن إلا بمعنى سوى. والمعنى ما دامت السموات والأرض سوى ما يتجاوز ذلك من الخلود، كأنه ذكر في خلودهم ما ليس عند العرب أطول منه، ثم زاد عليه الدوام الذي لا آخر له حكاه الزجاج. السادس: ما روي عن الفراء وابن الأنباري وابن قتيبة من أن هذا لا ينافي عدم المشيئة كقولك: والله لأضربنه إلا أن أرى غير ذلك، ونوقش هذا بأن معنى الآية الحكم بخلودهم إلا المدة التي شاء الله، فالمشيئة قد حصلت جزماً، وقد حكى هذا القول الزجاج أيضاً. السابع: أن المعنى: خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك من مقدار موقفهم في قبورهم وللحساب حكاه الزجاج أيضاً. الثامن: أن المعنى: خالدين فيها إلا ما شاء ربك من زيادة النعيم لأهل النعيم وزيادة العذاب لأهل الجحيم، حكاه أيضاً الزجاج، واختاره الحكيم الترمذي. التاسع: أن إلا بمعنى الواو قاله الفراء، والمعنى وما شاء ربك من الزيادة، قال مكي: وهذا القول بعيد عند البصريين أن تكون إلا بمعنى الواو. العاشر: أن إلا بمعنى الكاف، والتقدير: كما شاء ربك، ومنه قوله تعالى: "ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف" أي كما قد سلف. الحادي عشر: أن هذا الاستثناء إنما هو على سبيل الاستثناء الذي ندب إليه الشارع في كل كلام فهو على حد قوله: "لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين" روي نحو هذا عن أبي عبيد، وهذه الأقوال هي جملة ما وقفنا عليه من أقوال أهل العلم. وقد نوقش بعضها بمناقشات، ودفعت بدفوعات. وقد أوضحت ذلك في رسالة مستقلة جمعتها في جواب سؤال ورد من بعض الأعلام.
107- "خالدين فيها"، لابثين مقيمين فيها، "ما دامت السموات والأرض"، قال الضحاك: ما دامت سموات الجنة والنار وأرضهما وكل ما علاك وأظلك فهو سماء، وكل ما استقرت عليه قدمك فهو أرض.
قال أهل المعاني: هذا عبارة عن التأييد على عادة العرب، يقولون لا آتيك ما دامت السموات والأرض، ولا يكون كذا ما اختلف الليل والنهار، يعنون: أبدا.
قوله تعالى: "إلا ما شاء ربك".
اختلفوا في هذين الاستثنائين فقال بعضهم: الاستثناء في أهل الشقاء يرجع إلى قوم من المؤمنين يدخلهم الله النار بذنوب اقترفوها، ثم يخرجوهم منها فيكون ذلك/ استثناء من غير الجنس، لأن الذين أخرجوا من النار سعداء استثناهم الله من جملة الأشقياء، وهذا كما:
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد بن عبد الله النعيمي، أنبأنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا حفص بن عمر، حدثنا هشام، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليصيبن أقواما سفع من النار بذنوب أصابوها، عقوبة، ثم يدخلهم الله الجنة بفضل رحمته، فيقال لهم: الجهنميون".
وأخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحيقال أخبرنا أحمد بن عبد الله النعييمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنامسدد أخبرنا يحي عن الحسن بن ذكوان أنبأنا أبو رجاء حدثني عمران بن حصين رضي الله عنه عن النبي صلى عليه وسلم قال " يخرج قوم من النار بشفاعة محمد فيدخلون الجنة ويسمون الجهنميين"
وأما الاستثناء في أهل السعادة فيرجع إلى مدة لبثهم في النار قبل دخول الجنة.
وقيل: إلا ما شاء ربك من الفريقين من تعميرهم في الدنيا واحتباسهم في البرزخ ما بين الموت والبعث، قبل مصيرهم إلى الجنة أو النار. يعني: هم خالدون في الجنة أو النار إلا هذا المقدار.
وقيل: لا ما شاء ربك: سوى ما شاء ربك، معناه خالدين فيها ما دامت السموات والأرض سوى ما شاء ربك من الزيادة على قدر مدة بقاء السموات والأرض، وذلك هو الخلود فيها، كما تقول: لفلان علي ألف إلا الألفين، أي: سوى الألفين اللتين تقدمتا.
وقيل: إلا بمعنى الواو، أي: وقد شاء ربك خلود هؤلاء في النار وهؤلاء في الجنة، كقوله: "لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا" (البقرة-150)، أي: ولا الذين ظلموا.
وقيل: معناه لو شاء ربك لأخرجهم منها ولكنه لا يشاء أنه حكم لهم بالخلود.
قال الفراء: هذا الاستثناء الله ولا يفعله، كقولك: والله لاضربنك إلا أن أرى غير ذلك وعزيمتك أن تضربه.
"إن ربك فعال لما يريد".
107." خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض "ليس لارتباط دوامهم في النار بدوامهما فإن النصوص دالة على تأبيد دوامهم وانقطاع دوامهما.بل التعبير عن التأييد والمبالغة بما كانت العرب يعبرون به عنه على سبيل التمثيل ، ولو كان الارتباط لم يلزم أيضاً من زوال السموات والأرض زوال عذابهم ولا من دوامه دوامهما إلا من قبيل المفهوم ، لأن دوامهما كالملزوم لدوامه، وقد عرفت أن المفهوم لا يقاوم المنطوق .وقيل المراد سموات الآخرة وأرضها ويدل عليه قوله تعالى :"يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات"وإن أهل الآخرة لابد لهم من مظل ومقل ، وفيه نظر لأنه تشبيه بما لا يعرف أكثر الخلق وجوده ودوامه ، ومن عرفه فإنما يعرفه بما يدل على دوام الثواب والعقاب فلا يجدي له التشبيه ."إلا ما شاء ربك"استثناء من الخلود في النار لأن بعضهم وهم فساق الموحدين يخرجون منها ،وذلك كاف في صحة الاستثناء لأن زوال الحكم عن الكل يكفيه زواله عن البعض،وهم المراد بالاستثناء الثاني فإنهم مفارقون عن الجنة أيام عذابهم،فإن التأييد من مبدأ معين ينتقض باعتبار الابتداء كما ينتقض باعتبار الانتهاء،وهؤلاء شقوا بعصيانهم فقد سعدوا بإيمانهم ،ولا يقال فعلى هذا لم يكن قوله:"فمنهم شقي وسعيد"تقسيماً صحيحاً لأن من شرطه أن تكون صفة كل قسم منتفية عن قسمنه ،لأن ذلك الشرط حيث التقسيم لانفصال حقيقي أو مانع من الجمع و ها هنا المراد أن أهل الموقف لا يخرجون عن القسمين،وأن حالهم لا يخلو عن السعادة والشقاوة وذلك لا يمنع اجتماع الأمرين في شخص باعتبارين، أو لأن أهل النار ينقلون منها إلى الزمهرير وغيره من العذاب أحياناً ، وكذلك أهل الجنة ينعمون بما هو أعلى من الجنة كالاتصال بجناب القدس والفوز برضوان الله ولقائه، او من أصل الحكم والمستثنى زمان توقفهم في الموقف للحساب لأن ظاهره يقتضي أن يكونوا في النار حين يأتي اليوم ، أو مدة لبثهم في الدنيا والبرزخ إن كان الحكم مطلقاً غير مقيد باليوم ، وعلى هذا التأويل يحتمل أن يكون الاستثناء من الخلود على ما عرفت .وقيل هو من قوله:"لهم فيها زفير وشهيق"وقيل إلا هاهنا بمعنى سوى كقولك على ألف إلا الألفان القديمان والمعنى سوى ما شاء ربك من الزيادة التي لا آخر لها على مدة بقاء السموات والأرض."إن ربك فعال لما يريد"من غير اعتراض.
107. Abiding there so long as the heavens and the earth endure save for that which thy Lord willeth. Lo! thy Lord is Doer of what He will.
107 - They will dwell therein for all the time that the heavens and the earth endure, except as thy Lord is the (sure) accomplisher of what he planneth