[التكاثر : 2] حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ
2 - (حتى زرتم المقابر) بأن متم فدفنتم فيها أو عددتم الموتى تكاثرا
وقوله : " حتى زرتم المقابر " يعني : حتى صرتم إلى المقابر فدفنتم فيها ، وفي هذا دليل على صحة القول بعذاب القبر ، لأن الله تعالى ذكره ، أخبر عن هؤلاء القوم الذين ألهاهم التكاثر ، أنهم سيعلمون ما يلقون إذا هم زاروا القبور وعيداً منه لهم وتهدداً .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن عطية ، عن قيس ، عن حجاج ، عن المنهال ، عن زر عن علي قال : كنا نشك في عذاب القبر ، حتى نزلت هذه الآية : " ألهاكم التكاثر " ...إلى " كلا سوف تعلمون " في عذاب القبر .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام بن سلم ، عن عنبسة ، عن ابن أبي ليلى ، عن المنهال ، عن زر ، عن علي ، قال : نزلت " ألهاكم التكاثر " في عذاب القبر .
حدثنا ابن حميد ، قال :ثنا حكام ، عن عمرو ، عن الحجاج ، عن الممنهار بن عمرو ، عن زر عن علي ، قال : ام زلنا نشك في عذاب القبر ، حتى نزلت " ألهاكم التكاثر * حتى زرتم المقابر "
قوله تعالى:" حتى زرتم المقابر" أي حتى أتاكم الموت، فصرتم في المقابر زواراً، ترجعون منها كرجوع الزائر إلى منزله من جنة أو نار. يقال لمن مات : قد زار قبره. وقيل: أي ألهاكم التكاثر حتى عددتم الأموات، على ما تقدم. وقيل: هذا وعيد. أي اشتغلتم بمفاخرة الدنيا، حتى تزوروا القبور، فتروا ما ينزل بكم من عذاب الله عز وجل.
الثالثة: قوله تعالى:" المقابر" جمع مقبرة ومقبرة - بفتح الباء وضمها- والقبور : جمع القبر، قال:
أرى أهل القصور إذا أميتوا بنوا فوق المقابر بالصخور
أبوا إلا مباهاة وفخرا على الفقراء حتى في القبور
وقد جاء في الشعر(المقبر)، قال:
لكل أناس مقبر بفنائهم فهم ينقصون والقبور تزيد
وهو المقبري والمقبري: لأبي سعيد المقبري، وكان يسكن المقابر. وقبرت الميت أقبره وأقبره قبراً، أي دفنته. وأقبرته أي أمرت بأن يقبر. وقد مضى في سورة (عبس) القول فيه. والحمدلله.
الرابعة: لم يأت في التنزيل ذكر المقابر إلا في هذه السورة. وزيارتها من أعظم الدواء للقلب القاسي، لأنها تذكر الموت والآخرة. وذلك يحمل على قصر الأمل، والزهد في الدنيا، وترك الرغبة فيها. قال النبي صلى الله عليه وسلم:
(كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروا القبور، فإنها تزهد في الدنيا، وتذكر الآخرة) رواه ابن مسعود، أخرجه ابن ماجه. وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: (فإنها تذكر الموت). وفي الترمذي عن بريدة:
(فإنها تذكر الآخرة) قال : هذا حديث حسن صحيح. وفيه عن
أبي هريرة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن زوارات القبور " . قال: وفي الباب عن ابن عباس وحسان بن ثابت. قال أبو عيسى: وهذا حديث حسن صحيح. وقد رأى بعض أهل العلم أن هذا كان قبل أن يرخص النبي صلى الله عليه وسلم في زيارة القبور، فلما رخص دخل في رختصه الرجال والنساء. وقال بعضهم: إنما كره زيارة القبور للنساء لقلة صبرهن، وكثرة جزعهن.
قلت: زيارة القبور للرجال متفق عليه عند العلماء، مختلف فيه للنساء. أما الشواب فحرام عليهن الخروج، وأما القواعد فمباح لهن ذلك. وجائز لجميعهن. ذلك إذا انفردن بالخروج عن الرجال، ولا يختلف في هذا إن شاء الله. وعلى هذا المعنى يكون قوله: (زوروا القبور) عاماً. وأما موضع أو وقت يخشى فيه الفتنة من اجتماع الرجال والنساء، فلا يحل ولا يجوز. فبينا الرجل يخرج ليعتبر، فيقع بصره على أمرأة فيفتتن، وبالعكس، فيرجع كل واحد من الرجال والنساء مأزوراً غير مأجور. والله أعلم .
الخامسة: قال العلماء : ينبغي لمن أراد علاج قلبه وانقياده بسلاسل القهر إلى طاعة ربه، ان يكثر من ذكر هاذم اللذات، ومفرق الجماعات، وموتم البنين والبنات، ويواظب على مشاهدة المحتضرين، وزيادرة قبور أموات المسلمين. فهذه ثلاثة أمور، ينبغي لمن قسا قلبه، ولزمه ذنبه، أن يستعين بها على دواء دائه، ويستصرخ بها على فتن الشيطان وأعوانه، فإن انتفع بالإكثار من ذكر الموت، وانجلت به قساوة قلبه فذاك، وإن عظم عليه ران قلبه، واستحكمت فيه دواعي الذنب، فإن مشاهدة المحتضرين، وزيارة قبور أموات المسلمين، تبلغ في دفع ذلك ما لا يبلغه الأول، لأن ذكر الموت إخبار للقلب بما إليه المصير، وقائم له مقام التخويف والتحذير. وفي مشاهدة من احتضر، وزيادة قبر من مات من المسلمين معاينة ومشاهدة، فلذلك كان أبلغ من الأول، قال صلى الله عليه وسلم:
(ليس الخبر كالمعاينة). رواه ابن عباس. فأما الاعتبار بحال المحتضرين، فغير ممكن في كل الأوقات، وقد لايتفق لمن أراد علاج قلبه في ساعة من الساعات. وأما زيارة القبور فوجودها أسرع، والانتفاع بها أليق وأجدر. فينبغي لمن عزم على الزيارة، أن يتأدب بآدابها، ويحضر قلبه في إتيانها، ولا يكون حظه منها التطواف على الأجداث فقط، فإن هذه حالة تشاركه فيها بهيمة. ونعوذ بالله من ذلك. بل يقصد بزيارته وجه الله تعالى، وإصلاح فساد قلبه، أو نفع الميت بما يتلو عنده من القرآن والدعاء، ويتجنب المشي على المقابر، والجلوس عليها ويسلم إذا دخل المقابر، وإذا وصل إلى قبر ميته الذي يعرفه سلم عليه أيضاً، وأتاه من تلقاء وجهه، لأنه في زيارته كمخاطبته حياً، ولو خاطبه حياً لكان الأدب استقباله بوجهه، فكذلك ها هنا. ثم يعتبر بمن صار تحت التراب، وانقطع عن الأهل والأحباب، بعد أن قاد الجيوش والعساكر، ونافس الأصحاب والعشائر، وجمع الأموال والذخائر ، فجاءه الموت في وقت لم يحتسبه، وهول لم يرتقبه. فليتأمل الزائر حال من مضى من إخوانه، ودرج من أقرانه الذي بلغوا الآمال، وجمعوا الأموال، كيف انقطعت آمالهم، ولم تغن عنهم أموالهم، ومحا التراب محاسن وجوههم، وافترقت في القبور أجزاؤهم، وترمل من بعدهم نساؤهم، وشمل ذل اليتيم أولادهم، وافترقت في القبور أجزاؤهم، وترمل من بعدهم نساؤهم، وشمل ذل اليتيم أولادهم، واقتسم غيرهم طريفهم وتلادهم. وليتذكر ترددهم في المآرب، وحرصهم على نيل المطالب، وانخداعهم لمواتاة الأسباب، وركونهم إلى الصحة والشباب. وليعلم أن ميله إلى اللهو واللعب كميلهم، وغفلته عما بين يديه من الموت الفظيع، والهلاك السريع، كغفلتهم، وأنه لا بد صائر إلى مصيرهم، وليحضر بقلبه ذكر من كان متردداً في أغراضه، وكيف تهدمت رجلاه، وكان يتلذذ بالنظر إلى ما خوله وقد سالت عيناه، ويصول ببلاغه نطقه وقد أكل الدود لسانه، ويضحك لمواتاة دهره وقد أبلى التراب أسنانه، وليتحقق أن حاله كحاله، ومآله كمآله. وعند هذا التذكر والاعتبار تزول عنه جميع الأغيار الدنيويو، ويقبل على الأعمال الأخروية، فيزهد في دنياه، ويقبل على طاعة مولاه، ويلين قلبه، وتخشع جوارحه.
يقول تعالى: أشغلكم حب الدنيا ونعيمها وزهرتها عن طلب الاخرة وابتغائها, وتمادى بكم ذلك حتى جاءكم الموت وزرتم المقابر وصرتم من أهلها.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا زكريا بن يحيى الوقاد المصري حدثني خالد بن عبد الدائم عن ابن زيد بن أسلم عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ألهاكم التكاثر ـ عن الطاعة ـ حتى زرتم المقابر ـ حتى يأتيكم الموت" وقال الحسن البصري "ألهاكم التكاثر" في الأموال والأولاد, وفي صحيح البخاري في الرقاق منه وقال أخبرنا أبو الوليد , حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس بن مالك عن أبي بن كعب قال كنا نرى هذا من القرآن حتى نزلت "ألهاكم التكاثر" يعني لو كان لابن آدم واد من ذهب. وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة سمعت قتادة يحدث عن مطرف يعني ابن عبد الله بن الشخير عن أبيه قال: انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: ""ألهاكم التكاثر" يقول ابن آدم مالي مالي, وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت ؟" ورواه مسلم والترمذي والنسائي من طريق شعبة به, وقال مسلم في صحيحه : حدثنا سويد بن سعيد حدثنا حفص بن ميسرة عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول العبد مالي مالي, وإنما له من ماله ثلاث: ما أكل فأفنى أو لبس فأبلى أو تصدق فاقتنى, وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس" تفرد به مسلم .
وقال البخاري : حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم , سمع أنس بن مالك يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يتبع الميت ثلاثة فيرجع اثنان ويبقى معه واحد: يتبعه أهله وماله وعمله فيرجع أهله وماله ويبقى عمله" وكذا رواه مسلم والترمذي والنسائي من حديث سفيان بن عيينة به, وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى عن شعبة حدثنا قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يهرم ابن آدم ويبقى منه اثنتان الحرص والأمل" أخرجاه في الصحيحين وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة الأحنف بن قيس واسمه الضحاك أنه رأى في يد رجل درهماً فقال: لمن هذا الدرهم ؟ فقال الرجل: لي, فقال: إنما هو لك إذا أنفقته في أجر أو ابتغاء شكر, ثم أنشد الأحنف متمثلاً قول الشاعر:
أنت للمال إذا أمسكته فإذا أنفقته فالمال لك
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو أسامة قال صالح بن حيان حدثني عن ابن بريدة في قوله: "ألهاكم التكاثر" قال: نزلت في قبيلتين من قبائل الأنصار في بني حارثة وبني الحارث تفاخروا وتكاثروا فقالت إحداهما فيكم مثل فلان بن فلان وفلان, وقال الاخرون مثل ذلك, تفاخروا بالأحياء ثم قالوا انطلقوا بنا إلى القبور فجعلت إحدى الطائفتين تقول: فيكم مثل فلان يشيرون إلى القبور, ومثل فلان, وفعل الاخرون مثل ذلك فأنزل الله " ألهاكم التكاثر * حتى زرتم المقابر " لقد كان لكم فيما رأيتم عبرة وشغل وقال قتادة : " ألهاكم التكاثر * حتى زرتم المقابر " كانوا يقولون: نحن أكثر من بني فلان, ونحن أعد من بني فلان, وهم كل يوم يتساقطون إلى آخرهم, والله ما زالوا كذلك حتى صاروا من أهل القبور كلهم, والصحيح أن المراد بقوله: زرتم المقابر أي صرتم إليها ودفنتم فيها, كما جاء في الصحيح " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على رجل من الأعراب يعوده فقال: لابأس طهور إن شاء الله فقال: قلت طهور بل هي حمى تفور, على شيخ كبير, تزيره القبور, قال: فنعم إذن".
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة , حدثنا محمد بن سعيد الأصبهاني , أخبرنا حكام بن سالم الرازي عن عمرو بن أبي قيس عن الحجاج عن المنهال عن زر بن حبيش عن علي قال: ما زلنا نشك في عذاب القبر حتى نزلت " ألهاكم التكاثر * حتى زرتم المقابر " ورواه الترمذي عن أبي كريب عن حكام بن سالم به, وقال غريب. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي , حدثنا سلمة بن داود العرضي , حدثنا أبو المليح الرقي عن ميمون بن مهران قال: كنت جالساً عند عمر بن عبد العزيز فقرأ " ألهاكم التكاثر * حتى زرتم المقابر " فلبث هنيهة ثم قال: يا ميمون ما أرى المقابر إلا زيارة, وما للزائر بد من أن يرجع إلى منزله. وقال أبو محمد : يعني أن يرجع إلى منزله أي إلى جنة أو إلى نار, وهكذا ذكر أن بعض الأعراب سمع رجلاً يتلو هذه الاية: حتى زرتم المقابر, فقال بعث اليوم ورب الكعبة أي إن الزائر سيرحل من مقامه ذلك إلى غيره.
وقوله تعالى: "كلا سوف تعلمون * ثم كلا سوف تعلمون" قال الحسن البصري هذا, و عيد , وقال الضحاك : "كلا سوف تعلمون" يعني أيها الكفار "ثم كلا سوف تعلمون" يعني أيها المؤمنون, وقوله تعالى: "كلا لو تعلمون علم اليقين" أي لو علمتم حق العلم لما ألهاكم التكاثر عن طلب الدار الاخرة حتى صرتم إلى المقابر, ثم قال: "لترون الجحيم * ثم لترونها عين اليقين" هذا تفسير الوعيد المتقدم, وهو قوله: "كلا سوف تعلمون * ثم كلا سوف تعلمون" توعدهم بهذا الحال, وهو رؤية أهل النار التي إذا زفرت زفرة واحدة خر كل ملك مقرب ونبي مرسل على ركبتيه من المهابة والعظمة ومعاينة الأهوال على ما جاء به الأثر المروي في ذلك, وقوله تعالى: "ثم لتسألن يومئذ عن النعيم" أي ثم لتسألن يومئذ عن شكر ما أنعم الله به عليكم من الصحة والأمن والرزق وغير ذلك ما إذا قابلتم به نعمه من شكره وعبادته.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة , حدثنا زكريا بن يحيى الجزار المقري , حدثنا عبد الله بن عيسى أبو خالد الجزار , حدثنا يونس بن عبيد عن عكرمة عن ابن عباس أنه سمع عمر بن الخطاب يقول: " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الظهيرة فوجد أبا بكر في المسجد فقال: ما أخرجك هذه الساعة ؟ فقال: أخرجني الذي أخرجك يا رسول صلى الله عليه وسلم. قال: وجاء عمر بن الخطاب فقال: ما أخرجك يا ابن الخطاب ؟ قال أخرجني الذي أخرجكما, قال: فقعد عمر وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثهما ثم قال: هل بكما من قوة تنطلقان إلى هذا النخل فتصيبان طعاماً وشراباً وظلاً ؟ قلنا: نعم. قال: مروا بنا إلى منزل ابن التيهان أبي الهيثم الأنصاري قال: فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أيدينا فسلم واستأذن ثلاث مرات, و أم الهيثم من وراء الباب تسمع الكلام تريد أن يزيدها رسول الله صلى الله عليه وسلم من السلام, فلما أراد أن ينصرف خرجت أم الهيثم تسعى خلفهم فقالت: يا رسول الله قد والله سمعت تسليمك ولكن أردت أن تزيدني من سلامك, فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: خيراً ثم قال: أين أبو الهيثم لا أراه ؟ قالت: يا رسول الله هو قريب ذهب يستعذب الماء, ادخلوا فإنه يأتي الساعة إن شاء الله فبسطت بساطاً تحت شجرة, فجاء أبو الهيثم ففرح بهم وقرت عيناه بهم, فصعد على نخلة فصرم لهم أعذاقاً فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: حسبك يا أبا الهيثم فقال: يا رسول الله تأكلون من بسره ومن رطبه ومن تذنوبه, ثم أتاهم بماء فشربوا عليه, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا من النعيم الذي تسألون عنه", هذا غريب من هذا الوجه.
وقال ابن جرير : حدثني الحسين بن علي الصدائي , حدثنا الوليد بن القاسم عن يزيد بن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " بينما أبو بكر وعمر جالسان إذ جاءهما النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما أجلسكما ههنا ؟ قالا: والذي بعثك بالحق ما أخرجنا من بيوتنا إلا الجوع. قال: والذي بعثني بالحق ما أخرجني غيره فانطلقوا حتى أتوا بيت رجل من الأنصار, فاستقبلتهم المرأة فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: أين فلان ؟ فقالت: ذهب يستعذب لنا ماء, فجاء صاحبهم يحمل قربته فقال: مرحباً, ما زار العباد شيء أفضل من نبي زارني اليوم, فعلق قربته بقرب نخلة وانطلق فجاءهم بعذق, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألا كنت اجتنيت ؟ فقال: أحببت أن تكونوا الذين تختارون على أعينكم, ثم أخذ الشفرة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إياك والحلوب فذبح لهم يومئذ فأكلوا, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم لتسألن عن هذا يوم القيامة أخرجكم من بيوتكم الجوع فلم ترجعوا حتى أصبتم هذا فهذا من النعيم" ورواه مسلم من حديث يزيد بن كيسان به, ورواه أبو يعلى وابن ماجه من حديث المحاربي عن يحيى بن عبيد الله عن أبيه عن أبي هريرة عن أبي بكر الصديق به, وقد رواه أهل السنن الأربعة من حديث عبد الملك بن عمير عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه بنحو من هذا السياق وهذه القصة.
وقال الإمام أحمد : حدثنا سريج , حدثنا حشرج عن أبي نضرة عن أبي عسيب , يعني مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلاً فمر بي فدعاني فخرجت إليه, ثم مر بأبي بكر فدعاه فخرج إليه, ثم مر بعمر فدعاه فخرج إليه, فانطلق حتى دخل حائطاً لبعض الأنصار فقال لصاحب الحائط: أطعمنا بسراً فجاء بعذق فوضعه فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثم دعا بماء بارد فشرب وقال: لتسألن عن هذا يوم القيامة قال: فأخذ عمر العذق فضرب به الأرض حتى تناثر البسر قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: يا رسول الله إنا لمسؤولون عن هذا يوم القيامة ؟ قال: نعم إلا من ثلاثة: خرقة لف بها الرجل عورته, أو كسرة سد بها جوعته, أو جحر يدخل فيه من الحر والقر" تفرد به أحمد , وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد , حدثنا حماد , حدثنا عمار سمعت جابر بن عبد الله يقول: " أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رطباً وشربوا ماء, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا من النعيم الذي تسألون عنه" ورواه النسائي من حديث حماد بن سلمة عن عمار بن أبي عمار عن جابر به, وقال الإمام أحمد : حدثنا أحمد حدثنا يزيد , حدثنا محمد بن عمرو عن صفوان بن سليم عن محمود بن الربيع قال: لما نزلت "ألهاكم التكاثر" فقرأ حتى بلغ "لتسألن يومئذ عن النعيم" قالوا: " يا رسول الله عن أي نعيم نسأل ؟ وإنما هما الأسودان الماء والتمر, وسيوفنا على رقابنا والعدو حاضر فعن أي نعيم نسأل ؟ قال: أما إن ذلك سيكون".
وقال أحمد : حدثنا أبو عامر عبد الملك بن عمرو , حدثنا عبد الله بن سليمان , حدثنا معاذ بن عبد الله بن حبيب , عن أبيه عن عمه قال " كنا في مجلس فطلع علينا لنبي صلى الله عليه وسلم وعلى رأسه أثر ماء, فقلنا يا رسول الله نراك طيب النفس, قال: أجل ثم خاض الناس في ذكر الغنى, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لابأس بالغنى لمن اتقى الله والصحة لمن اتقى الله خير من الغنى وطيب النفس من النعيم" ورواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن خالد بن مخلد عن عبد الله بن سليمان به. وقال الترمذي : حدثنا عبد بن حميد , حدثنا شبابة عن عبد الله بن العلاء عن الضحاك بن عبد الرحمن بن عزرب الأشعري قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: " قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن أول ما يسأل عنه ـ يعني يوم القيامة ـ العبد من النعيم أن يقال له ألم نصح لك بدنك ونروك من الماء البارد ؟" تفرد به ا لترمذي ورواه ابن حبان في صحيحه من طريق الوليد بن مسلم عن عبد الله بن العلاء بن زبير به.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة , حدثنا مسدد , حدثنا سفيان عن محمد بن عمرو , عن يحيى بن حاطب عن عبد الله بن الزبير قال: قال الزبير : " لما نزلت "ثم لتسألن يومئذ عن النعيم" قالوا يا رسول الله لأي نعيم نسأل عنه وإنما هما الأسودان التمر والماء قال: إن ذلك سيكون" وقد رواه الترمذي وابن ماجه من حديث سفيان هو ابن عيينة به ورواه أحمد عنه وقال الترمذي حسن وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو عبد الله الظهراني حدثنا حفص بن عمر العدني عن الحكم بن أبان عن عكرمة قال لما نزلت هذه الاية "ثم لتسألن يومئذ عن النعيم" قال الصحابة: " يا رسول الله, وأي نعيم نحن فيه وإنما نأكل في أنصاف بطوننا خبز الشعير ؟" فأوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم قل لهم أليس تحتذون النعال وتشربون الماء البارد ؟ فهذا من النعيم.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة , حدثنا إبراهيم بن موسى , أخبرنا محمد بن سليمان بن الأصبهاني عن ابن أبي ليلى أظنه عن عامر عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: " "ثم لتسألن يومئذ عن النعيم" قال الأمن والصحة" وقال زيد بن أسلم " عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "ثم لتسألن يومئذ عن النعيم" يعني شبع البطون وبارد الشراب وظلال المساكن واعتدال الخلق ولذة النوم " , ورواه ابن أبي حاتم بإسناده المتقدم عنه في أول السورة. وقال سعيد بن جبير : حتى عن شربة عسل وقال مجاهد : عن كل لذة من لذات الدنيا, وقال الحسن البصري : من النعيم الغداء والعشاء. وقال أبو قلابة . من النعيم أكل السمن والعسل بالخبز النقي وقول مجاهد أشمل هذه الأقوال. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس "ثم لتسألن يومئذ عن النعيم" قال: النعيم صحة الأبدان والأسماع والأبصار يسأل الله العباد فيما استعملوها وهو أعلم بذلك منهم وهو قوله تعالى: "إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً".
وثبت في صحيح البخاري وسنن الترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث عبد الله بن سعيد بن أبي هند عن أبيه عن ابن عباس قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ" ومعنى هذا أنهم مقصرون في شكر هاتين النعمتين لا يقومون بواجبهما ومن لا يقوم بحق ما وجب عليه فهو مغبون. وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا القاسم بن محمد بن يحيى المروزي , حدثنا علي ين الحسين بن شقيق , حدثنا أبو حمزة عن ليث عن أبي فزارة , عن يزيد بن الأصم عن ابن عباس قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما فوق الإزار وظل الحائط والخبز, يحاسب به العبد يوم القيامة أو يسأل عنه " ثم قال: لا نعرفه إلا بهذا الإسناد. وقال الإمام أحمد : حدثنا بهز وعفان قالا: حدثنا حماد , قال عفان في حديثه, قال إسحاق بن عبد الله عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله عز وجل ـ قال عفان يوم القيامة ـ يا ابن آدم حملتك على الخيل والإبل وزوجتك النساء وجعلتك تربع وترأس فأين شكر ذلك ؟" تفرد به من هذا الوجه. آخر تفسير سورة التكاثر, ولله الحمد والمنة.
2- "حتى زرتم المقابر" أي حتى أدرككم الموت وأنتم على تلك الحال. وقال قتادة: إن التكاثر التفاخر بالقبائل والعشائر. وقال الضحاك: ألهاكم التشاغل بالمعاش. وقال مقاتل وقتادة أيضاً وغيرهما: نزلت في اليهود حين قالوا نحن أكثر من بني فلان، وبنو فلان أكثر من بني فلان، ألهاكم ذلك حتى ماتوا. وقال الكلبي: نزلت في حيين من قريش: بني عبد، مناف، وبني سهم تعادوا وتكاثروا بالسيادة والأشراف في الإسلام، فقال كل حي منهم نحن أكثر سيداً وأعز عزيزاً وأعظم نفراً وأكثر قائداً، فكثر بنو عبد مناف بني سهم، ثم تكاثروا بالأموات فكثرتهم بهم، فنزلت "ألهاكم التكاثر" فلم ترضوا "حتى زرتم المقابر" مفتخرين الأموات. وقيل نزلت في حيين من الأنصار. والمقابر جمع مقبرة بفتح الباء وضمها. وفي الآية دليل على أن الاشتغال بالدنيا والمكاثرة بها والمفاخرة فيها من الخصال المذمومة، وقال سبحانه: "ألهاكم التكاثر" ولم يقل عن كذا، بل أطلقه لأن الإطلاق أبلغ في الذم، لأنه يذهب الوهم فيه كل مذهب، فيدخل فيه جميع ما يحتمله المقام، ولأن حذف المتعلق مشعر بالتعميم، كما تقرر في علم البيان، والمعنى أنه شغلكم التكاثر عن كل شيء يجب عليكم الاشتغال به من طاعة الله والعمل للآخرة، وعبر عن موتهم بزيارة المقابر لأن الميت قد صار إلى قبره كما يصير الزائر إلى الموضع الذي يزوره هذا على قول من قال: إن معنى "زرتم المقابر" متم، وأما على قول من قال: إن معنى "زرتم المقابر" ذكرتم الموتى وعددتموهم للمفاخرة والمكاثرة، فيكون ذلك على طريق التهكم بهم، وقيل إنهم كانوا يزورون المقابر، فيقولون هذا قبر فلان، وهذا قبر فلان يفتخرون بذلك.
2- "حتى زرتم المقابر"، حتى متم ودفنتم في المقابر.
قال قتادة: نزلت في اليهود، قالوا: نحن أكثر من بني فلان، وبنو فلان أكثر من بني فلان، شغلهم ذلك حتى ماتوا ضلالاً.
وقال مقاتل والكلبي: نزلت في حيين من قريش، بني عبد مناف بن قصي، وبني سهم بن عمرو، كان بينهم تفاخر، فتعاد السادة والأشراف أيهم أكثر عدداً؟ فقال بنو عبد مناف: نحن أكثر سيداً وأعز عزيزاً وأعظم نفراً وأكثر عدداً، وقال بنو سهم مثل ذلك، فكثرهم بنو عبد مناف، ثم قالوا: نعد موتانا، حتى زاروا القبور فعدوهم، فقالوا: هذا قبر فلان وهذا قبر فلان فكثرهم بنو سهم بثلاثة أبيات لأنهم كانوا في الجاهلية أكثر عدداً، فأنزل الله هذه الآية.
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أخبرنا أبو محمد أحمد بن الحسن الحيري، أخبرنا حاجب بن أحمد الطوسي، حدثنا عبد الرحيم بن منيب، حدثنا النضر بن شميل، عن قتادة عن مطرف بن عبد الله الشخير، عن أبيه قال: "انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ هذه الآية: "ألهاكم التكاثر"، قال: يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك من مالك، إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت".
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، حدثنا عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم أنه سمع أنس بن مالك يقول: قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يتبع الميت ثلاثة، فيرجع اثنان ويبقى معه واحد، يتبعه أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله، ويبقى عمله".
2-" حتى زرتم المقابر " إذا استوعبتم عدد الأحياء صرتم إلى المقابر فتكاثرتم بالأموات ، عبر عن انتقالهم إلى ذكر الموتى بزيارة المقابر . روي أن بني عبد مناف وبني سهم تفاخروا بالكثرة فكثرهم بنو بد مناف ، فقال بنو سهم إن البغي أهلكنا في الجاهلية فعادونا بالأحياء والأموات فكثرهم بنو سهم ، وإنما حذف المنهي عنه وهو ما يعنيهم من أمر الدين للتعظيم والمبالغة . وقيل معناه " ألهاكم التكاثر " بالأموال والأولاد إلى أن متم وقبرتم مضيعين أعماركم في طلب الدنيا عما هو أهم لكم ، وهو السعي لأخراكم فتكون زيارة القبور عبارة عن الموت .
2. Until ye come to the graves.
2 - Until ye visit the graves.