[يونس : 99] وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ
99 - (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس) بما لم يشأه الله منهم (حتى يكونوا مؤمنين) لا
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه: " ولو شاء "، يا محمد، " ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا "، بك، فصدقوك أنك لي رسول، وأن ما جئتم به وما تدعوهم إليه من توحيد الله وإخلاص العبودة له، حق، ولكن لا يشاء ذلك، لأنه قد سبق من قضاء الله قبل أن يبعثك رسولاً أنه لا يؤمن بك، ولا يتبعك فيصدقك بما بعثك الله به من الهدى والنور، إلا من سبقت له السعادة في الكتاب الأول قبل أن تخلق السموات والأرض وما فيهن. وهؤلاء الذين عجبوا من صدق إيحائنا إليك هذا القرآن لتنذر به من أمرتك بإنذاره، ممن قد سبق له عندي أنهم لا يؤمنون بك في الكتاب السابق.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: " ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا "، " وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله "، [يونس: 100]، ونحو هذا في القرآن، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى، فأخبره الله أنه لا يؤمن إلا من قد سبق له من الله السعادة في الذكر الأول، ولا يضل إلا من سبق له من الله الشقاء في الذكر الأول.
فإن قال قائل: فما وجه قوله: " لآمن من في الأرض كلهم "، فـ((الكل)) يدل على ((الجميع))، و((الجميع)) على ((الكل))، فما وجه تكرار ذلك، وكل واحدة منهما تغني عن الأخرى؟
قيل: قد اختلف أهل العربية في ذلك:
فقال بعض نحويي أهل البصرة: جاء بقوله: " جميعا " في هذا الموضع توكيداً، كما قال: " لا تتخذوا إلهين اثنين "، [النحل: 51]، ففي قوله: " إلهين " دليل على ((الاثنين)).
وقال غيره: جاء بقوله: " جميعا " بعد " كلهم "، لأن " جميعا " لا تقع إلا توكيداً، و" كلهم " يقع توكيداً واسماً، فلذلك جاء بـ" جميعا " بعد " كلهم ". قال: ولو قيل إنه جمع بينهما ليعلم أن معناهما واحد، لجاز ههنا. قال: وكذلك: " إلهين اثنين " [النحل: 51]، العدد كله يفسر به، فيقال: ((رأيت قوما أربعة))، فلما جاء ((باثنين))، وقد اكتفي بالعدد منه، لأنهم يقولون: ((عندي درهم ودرهمان))، فيكفي من قولهم: ((عندي درهم واحد، ودرهمان اثنان))، فإذا قالوا: ((دراهم))، قالوا: ((ثلاثة))، لأن الجمع يلتبس، و((الواحد)) و((الاثنان)) لا يلتبسان ثم بني الواحد والتثنية على بناء ما في الجميع. لأنه ينبغي أن يكون مع كل واحد واحد، لأن ((درهماً)) يدل على الجنس الذي هو منه، و((واحد))، يدل على كل الأجناس. وكذلك ((اثنان))، يدلان على كل الأجناس، ((ودرهمان)) يدلان على أنفسهما، فلذلك جاء بالأعداد، لأنه الأصل.
وقوله: " أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين "، يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: إنه لن يصدقك، يا محمد، ولن يتبعك ويقر بما جئت به إلا من شاء ربك أن يصدقك، لا بإكراهك إياه، ولا بحرصك على ذلك، " أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين " لك، مصدقين على ما جئتهم به من عند ربك؟يقول له جل ثناؤه: فاصدع بما تؤمر، وأعرض عن المشركين الذين حقت عليهم كلمة ربك أنهم لا يؤمنون.
قوله تعالى: "ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا" أي لاضطرهم إليه. كلهم تأكيد لـ من. جميعاً عند سيبويه نصب على الحال. وقال الأخفش: جاء بقوله جميعاً بعد كل تأكيداً، كقوله: "لا تتخذوا إلهين اثنين" [النحل: 51].
قوله تعالى: "أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين" قال ابن عباس: كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على إيمان جميع الناس، فأخبره الله تعالى أنه لا يؤمن إلا من سبقت له السعادة في الذكر الأول، ولا يضل إلا من سبقت له الشقاوة في الذكر الأول. وقيل: المراد بالناس هنا أبو طالب، وهو عن ابن عباس أيضاً.
يقول تعالى: "ولو شاء ربك" يا محمد لأذن لأهل الأرض كلهم في الإيمان بما جئتهم به فآمنوا كلهم ولكن له حكمة فيما يفعله تعالى كقوله تعالى: " ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين " وقال تعالى: "أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً" ولهذا قال تعالى: "أفأنت تكره الناس" أي تلزمهم وتلجئهم "حتى يكونوا مؤمنين" أي ليس ذلك عليك ولا إليك بل الله "يضل من يشاء ويهدي من يشاء" "فلا تذهب نفسك عليهم حسرات" "ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء" " لعلك باخع نفسك أن لا يكونوا مؤمنين " "إنك لا تهدي من أحببت" "فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب" " فذكر إنما أنت مذكر * لست عليهم بمصيطر " إلى غير ذلك من الايات الدالة على أن الله تعالى هو الفعال لما يريد الهادي من يشاء المضل لمن يشاء لعلمه وحكمته وعدله ولهذا قال تعالى: "وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس" وهو الخبال والضلال "على الذين لا يعقلون" أي حجج الله وأدلته, وهو العادل في كل ذلك في هداية من هدى وإضلال من ضل.
ثم بين سبحانه أن الإيمان وضده كلاهما بمشيئة الله وتقديره، فقال: 99- "ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم" بحيث لا يخرج عنهم أحد "جميعاً" مجتمعين على الإيمان لا يتفرقون فيه ويختلفون، ولكنه لم يشأ ذلك لكونه مخالفاً للمصلحة التي أرادها الله سبحانه، وانتصاب جميعاً على الحال كما قال سيبويه. قال الأخفش: جاء بقوله جميعاً بعد كلهم للتأكيد كقوله: "لا تتخذوا إلهين اثنين" ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على إيمان جميع الناس أخبره الله بأن ذلك لا يكون، لأن مشيئته الجارية على الحكمة البالغة والمصالح الراجحة لا تقتضي ذلك، فقال: "أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين" فإن ذلك ليس في وسعك يا محمد ولا داخل تحت قدرتك، وفي هذا تسلية له صلى الله عليه وسلم ودفع لما يضيق به صدره من طلب صلاح الكل، الذي لو كان لم يكن صلاحاً محققاً بل يكون إلى الفساد أقرب، ولله الحكمة البالغة.
99-قوله تعالى: "ولو شاء ربك"، يا محمد، " لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين "، هذه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه كان حريصا على أن يؤمن جميع الناس، فأخبره الله حل ذكره: أنه لا يؤمن إلا من قد سبق له من الله السعادة، ولا يضل إلا من سبق له الشقاوة.
99."ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم" بحيث لا يشذ منهم أحد." جميعا "مجتمعين على الإيمان لا يختلفون فيه، وهو دليل على القدرية في أنه تعالى لم يشأ إيمانهم أجمعين ، وأن من شاء إيمانه يؤمن لا محالة، والتقييد بمشيئة الإلجاء خلاف الظاهر. "أفأنت تكره الناس"بما لم يشأ منهم ."حتى يكونوا مؤمنين" وترتيب الإكراه على المشيئة بالفاء وإيلاؤها حرف الاستفهام للإنكار ، وتقديم الضمير على الفعل للدلالة على أن خلاف المشيئة مستحيل فلا يمكن تحصيله بالإكراه عليه فضلاًً عن الحث والتحريض عليه، إذ روي أنه كان حريصا على إيمان قومه شديد الاهتمام به فنزلت. ولذلك قرره بقوله:
99. And if thy Lord willed, all who are in the earth would have believed together. Wouldst thou (Muhammad) compel men until they are believers?
99 - If it had been thy Lord's will, they would all have believed, all who are on earth wilt thou then compel mankind, against their will, to believe