[يونس : 44] إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَـكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
44 - (إن الله لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون)
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الله لا يفعل بخلقه ما لا يستحقون منه، لا يعاقبهم إلا بمعصيتهم إياه، ولا يعذبهم إلا بكفرهم به، " ولكن الناس "، يقول: ولكن الناس هم الذين يظلمون أنفسهم، باجترامهم ما يورثها غضب الله وسخطه.
وإنما هذا إعلام من الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به، أنه لم يسلب هؤلاء الذين أخبر جل ثناؤه عنهم أنهم لا يؤمنون الإيمان ابتداءً منه بغير جرم سلف منهم، وإخبار أنه إنما سلبهم ذلك باستحقاق منهم سلبه، لذنوب اكتسبوها، فحق عليهم قول ربهم، وطبع على قلوبهم.
لما ذكر أهل الشقاء ذكر أنه لم يظلمهم، وأن تقدير الشقاء عليهم وسلب سمع القلب وبصره ليس ظلماً منه، لأنه تصرف في ملكه بما شاء، وهو في جميع أفعاله عادل. "ولكن الناس أنفسهم يظلمون" بالكفر والمعصية ومخالفة أمر خالقهم. وقرأ حمزة والكسائي ولكن مخففاً الناس رفعا. قال النحاس: زعم جماعة من النحويين منهم الفراء أن العرب إذا قالت ولكن بالواو آثرت التشديد، وإذا حذفوا الواو آثرت التخفيف، واعتل في ذلك فقال: لأنها إذا كانت بغير واو أشبهت بل فخففوها ليكون ما بعدها كما بعد بل، وإذا جاؤوا بالواو خالفت بل فشددوها ونصبوا بها، لأنها إن زيدت عليها لام وكاف وصيرت حرفاً واحداً، وأنشد:
ولكنني من حبها لعميد
فجاء باللام لأنها إن.
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم وإن كذبك هؤلاء المشركون فتبرأ منهم ومن عملهم "فقل لي عملي ولكم عملكم" كقوله تعالى: " قل يا أيها الكافرون * لا أعبد ما تعبدون " إلى آخرها, وقال إبراهيم الخليل وأتباعه لقومهم المشركين " إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله " الاية, وقوله: "ومنهم من يستمعون إليك" أي يسمعون كلامك الحسن والقرآن العظيم والأحاديث الصحيحة الفصيحة النافعة في القلوب والأديان والأبدان وفي هذا كفاية عظيمة, ولكن ليس ذلك إليك ولا إليهم فإنك لا تقدر على إسماع الأصم وهو الأطرش فكذلك لا تقدر على هداية هؤلاء إلا أن يشاء الله "ومنهم من ينظر إليك" أي ينظرون إليك وإلى ما أعطاك الله من التؤدة والسمت الحسن والخلق العظيم, والدلالة الظاهرة على نبوتك لأولي البصائر والنهى. وهؤلاء ينظرون كما ينظر غيرهم ولا يحصل لهم من الهداية شيء كما يحصل لغيرهم, بل المؤمنون ينظرون إليك بعين الوقار, وهؤلاء الكفار ينظرون إليك بعين الاحتقار "وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزواً" الاية.
ثم أخبر تعالى أنه لا يظلم أحداً شيئاً وإن كان قد هدى به من هدى وبصر به من العمى, وفتح به أعيناً عمياً وآذاناً صماً, وقلوباً غلفاً, وأضل به عن الإيمان آخرين, فهو الحاكم المتصرف في ملكه بما يشاء الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون لعلمه وحكمته وعدله, ولهذا قال تعالى: "إن الله لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون" وفي الحديث عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا ـ إلى أن قال في آخره ـ يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيراً فليحمد الله, ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه" رواه مسلم بطوله.
قوله: 44- "إن الله لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون" ذكر هذا عقب ما تقدم من عدم الاهتداء بالأسماع والأبصار لبيان أن ذلك لم يكن لأجل نقص فيما خلقه الله لهم من السمع والعقل والبصر والبصيرة، بل لأجل ما صار في طبائعهم من التعصب والمكابرة للحق، والمجادلة بالباطل، والإصرار على الكفر، فهم الذين ظلموا أنفسهم بذلك، ولم يظلمهم الله شيئاً من الأشياء، بل خلقهم وجعل لهم من المشاعر ما يدركون به أكمل إدراك، وركب فيهم من الحواس ما يصلون به إلى ما يريدون، ووفر مصالحهم الدنيوية عليهم، وخلى بينهم وبين مصالحهم الدينية، فعلى نفسها براقش تجني. وقرأ حمزة والكسائي "ولكن الناس" بتخفيف النون ورفع الناس، وقرأ الباقون بتشديدها ونصب الناس. قال النحاس: زعم جماعة من النحويين منهم الفراء، أن العرب إذا قالت ولكن بالواو شددوا النون، وإذا حذفوا الواو خففوها. قيل: والنكتة في وضع الظاهر موضع المضمر زيادة التعيين والتقرير، وتقديم المفعول على الفعل لإفادة القصر، أو لمجرد الاهتمام مع مراعاة الفاصلة.
44-"إن الله لا يظلم الناس شيئاً"، لأنه في جميع أفعاله متفضل عادل، "ولكن الناس أنفسهم يظلمون"، بالكفر والمعصية.
44."إن الله لا يظلم الناس شيئاً"بسلب حواسهم وعقولهم ." ولكن الناس أنفسهم يظلمون"بإفسادها وتفويت منافعها عليهم ، وفيه دليل على أن للعبد كسباً وأنه ليس بمسلوب الاختيار بالكلية كما زعمت المجبرة ، ويجوز أن يكون وعيداً لهم بمعنى ا، ما يحيق بهم يوم القيامة من العذاب عدل من الله لا يظلمهم به ولكنهم ظلموا أنفسهم باقتراف أسبابه . وقرأأبو عمرو والكسائيبالتخفيف ورفع "الناس".
44. Lo! Allah wrongeth not mankind in aught; but mankind wrong themselves.
44 - Verily God will not deal unjustly with man in aught: it is man that wrongs his own soul.