[يونس : 39] بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ
39 - قال تعالى (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه) أي القرآن ولم يتدبروه (ولما) لم (يأتهم تأويله) عاقبة ما فيه من الوعيد (كذلك) التكذيب (كذب الذين من قبلهم) رسلهم (فانظر كيف كان عاقبة الظالمين) بتكذيب الرسل أي آخر أمرهم من الهلاك فكذلك نهلك هؤلاء
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ما بهؤلاء المشركين، يا محمد، تكذيبك ولكن بهم التكذيب بما لم يحيطوا بعلمه مما أنزل الله عليك في هذا القرآن، من وعيدهم على كفرهم بربهم، " ولما يأتهم تأويله "، يقول: ولما يأتهم بعد بيان ما يؤول إليه ذلك الوعيد الذي توعدهم الله في هذا القرآن، " كذلك كذب الذين من قبلهم "، يقول تعالى ذكره: كما كذب هؤلاء المشركون، يا محمد، بوعيد الله، كذلك كذب الأمم التي خلت قبلهم بوعيد الله إياهم على تكذيبهم رسلهم وكفرهم بربهم، " فانظر كيف كان عاقبة الظالمين "، يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فانظر، يا محمد، كيف كان عقبى كفر من كفر بالله، ألم نهلك بعضهم بالرجفة، وبعضهم بالخسف، وبعضهم بالغرق؟ يقول: فإن عاقبة هؤلاء الذين يكذبونك ويجحدون بآياتي من كفار قومك، كالتي كانت عاقبة من قبلهم من كفرة الأمم، إن لم ينيبوا من كفرهم، ويسارعوا إلى التوبة.
قوله تعالى: "بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه" أي كذبوا بالقرآن وهم جاهلون بمعانيه وتفسيره، وعليهم أن يعلموا ذلك بالسؤال، فهذا يدل على أنه يجب أن ينظر في التأويل. وقوله: "ولما يأتهم تأويله" أي ولم يأتهم حقيقة عاقبة التكذيب من نزول العذاب بهم. أو كذبوا بما في القرآن من ذكر البعث والجنة والنار، ولم يأتهم تأويله أي حقيقة ما وعدوا يف الكتاب، قاله الضحاك. وقيل للحسين بن الفضل: هل تجد في القرآن (من جهل شيئاً عاداه) قال نعم، في موضعين: "بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه" وقوله: "وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم" [الأحقاف: 11]. "كذلك كذب الذين من قبلهم" يريد الأمم الخالية، أي كذا كانت سبيلهم. والكاف في موضع نصب. "فانظر كيف كان عاقبة الظالمين" أي أخذهم بالهلاك والعذاب.
هذا بيان لإعجاز القرآن وأنه لا يستطيع البشر أن يأتوا بمثله ولا بعشر سور ولا بسورة من مثله لأنه بفصاحته وبلاغته ووجازته وحلاوته واشتماله على المعاني العزيزة النافعة في الدنيا والاخرة لا تكون إلا من عند الله الذي لا يشبهه شيء في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله وأقواله فكلامه لا يشبه كلام المخلوقين ولهذا قال تعالى: "وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله" أي مثل هذا القرآن لا يكون إلا من عند الله ولا يشبه هذا كلام البشر "ولكن تصديق الذي بين يديه" أي من الكتب المتقدمة ومهيمناً عليه ومبيناً لما وقع فيها من التحريف والتأويل والتبديل وقوله: "وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين" أي وبيان الأحكام والحلال والحرام بياناً شافياً كافياً حقاً لا مرية فيه من الله رب العالمين كما تقدم في حديث الحارث الأعور عن علي بن أبي طالب فيه خبر ما قبلكم ونبأ ما بعدكم وفصل ما بينكم أي خبر عما سلف وعما سيأتي وحكم فيما بين الناس بالشرع الذي يحبه الله ويرضاه. وقوله: " أم يقولون افتراه قل فاتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين " أي إن ادعيتم وافتريتم وشككتم في أن هذا من عند الله وقلتم كذباً وميناً إن هذا من عند محمد فمحمد بشر مثلكم وقد جاء فيما زعمتم بهذا القرآن فأتوا أنتم بسورة مثله, أي من جنس هذا القرآن واستعينوا على ذلك بكل من قدرتم عليه من إنس وجان.
وهذا هو المقام الثالث في التحدي فإنه تعالى تحداهم ودعاهم إن كانوا صادقين في دعواهم أنه من عند محمد فليعارضوه بنظير ما جاء به وحده وليستعينوا بمن شاءوا وأخبر أنهم لا يقدرون على ذلك ولا سبيل لهم إليه فقال تعالى: "قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً" ثم تقاصر معهم إلى عشر سور منه فقال في أول سورة هود: " أم يقولون افتراه قل فاتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين " ثم تنازل إلى سورة فقال في هذه السورة: " أم يقولون افتراه قل فاتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين " وكذا في سورة البقرة وهي مدنية تحداهم بسورة منه وأخبر أنهم لا يستطيعون ذلك أبداً فقال: "فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار" الاية, هذا وقد كانت الفصاحة من سجاياهم, وأشعارهم ومعلقاتهم إليها المنتهى في هذا الباب, ولكن جاءهم من الله مالا قبل لأحد به, ولهذا آمن من آمن منهم بما عرف من بلاغة هذا الكلام وحلاوته وجزالته وطلاوته وإفادته وبراعته فكانوا أعلم الناس به وأفهمهم له وأتبعهم له وأشدهم له انقياداً كما عرف السحرة لعلمهم بفنون السحر أن هذا الذي فعله موسى عليه السلام لا يصدر إلا عن مؤيد مسدد مرسل من الله وأن هذا لا يستطاع لبشر إلا بإذن الله. وكذلك عيسى عليه السلام بعث في زمان علماء الطب ومعالجة المرضى فكان يبرىء الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله, ومثل هذا لا مدخل للعلاج والدواء فيه فعرف من عرف منهم أنه عبد الله ورسوله.
ولهذا جاء في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أوتي من الايات ما آمن على مثله البشر, وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً". وقوله: "بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله" يقول بل كذب هؤلاء بالقرآن ولم يفهموه ولا عرفوه "ولما يأتهم تأويله" أي ولم يحصلوا ما فيه من الهدى ودين الحق إلى حين تكذيبهم به جهلاً وسفهاً "كذلك كذب الذين من قبلهم" أي من الأمم السالفة "فانظر كيف كان عاقبة الظالمين" أي فانظر كيف أهلكناهم بتكذيبهم رسلنا ظلماً وعلواً وكفراً وعناداً وجهلاً فاحذروا أيها المكذبون أن يصيبكم ما أصابهم. وقوله: "ومنهم من يؤمن به" الاية, أي ومن هؤلاء الذين بعثت إليهم يا محمد من يؤمن بهذا القرآن ويتبعك وينتفع بما أرسلت به "ومنهم من لا يؤمن به" بل يموت على ذلك ويبعث عليه "وربك أعلم بالمفسدين" أي وهو أعلم بمن يستحق الهداية فيهديه ؟ ومن يستحق الضلالة فيضله, وهو العادل الذي لا يجور, بل يعطي كلاً ما يستحقه تبارك وتعالى وتقدس وتنزه لا إله إلا هو.
ولهذا قال سبحانه عقب هذا التحدي البالغ 39- "بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه" فاضرب عن الكلام الأول، وانتقل إلى بيان أنهم سارعوا إلى تكذيب القرآن قبل أن يتدبروه ويفهموا معانيه وما اشتمل عليه، وهكذا صنع من تصلب في التقليد ولم يبال بما جاء به من دعا إلى الحق وتمسك بذيول الإنصاف، بل يرده بمجرد كونه لم يوافق هواه، ولا جاء على طبق دعواه قبل أن يعرف معناه ويعلم مبناه، كما تراه عياناً وتعلمه وجداناً. والحاصل أن من كذب بالحجة النيرة والبرهان الواضح قبل أن يحيط بعلمه، فهو لم يتمسك بشيء في هذا التكذيب إلا مجرد كونه جاهلاً لما كذب به غير عالم به، فكان بهذا التكذيب منادياً على نفسه بالجهل بأعلى صوت، ومسجلاً بقصوره عن تعقل الحجج بأبلغ تسجيل، وليس على الحجة ولا على من جاء بها من تكذيبه شيء:
ما يبلغ الأعداء من جاهل ما يبلغ الجاهل من نفسه
قوله: "ولما يأتهم تأويله" معطوف على "لم يحيطوا بعلمه" أي بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه وبما لم يأتهم تأويله، أو هذه الجملة في محل نصب على الحال: أي كذبوا به حال كونهم لم يفهموا تأويل ما كذبوا به ولا بلغته عقولهم. والمعنى: أن التكذيب منهم وقع قبل الإحاطة بعلمه، وقبل أن يعرفوا ما يؤول إليه من صدق ما اشتمل عليه من حكاية ما سلف من أخبار الرسل المتقدمين والأمم السابقين، ومن حكايات ما سيحدث من الأمور المستقبلة التي أخبر عنها قبل كونها، أو قبل أن يفهموه حق الفهم وتتعقله عقولهم، فإنهم لو تدبروه كلية التدبر لفهموه كما ينبغي، وعرفوا ما اشتمل عليه من الأمور الدالة أبلغ دلالة على أنه كلام الله، وعلى هذا فمعنى تأويله ما يؤول إليه ملن تدبره من المعاني الرشيقة واللطائف الأنيقة، وكلمة التوقع أظهر في المعنى الأول "كذلك كذب الذين من قبلهم" أي مثل ذلك التكذيب كذب الذين من قبلهم من الأمم عند أن جاءتهم الرسل بحجج الله وبراهينه، فإنهم كذبوا به قبل أن يحيطوا بعلمه، وقبل أن يأتيهم تأويله "فانظر كيف كان عاقبة الظالمين" من الأمم السالفة من سوء العاقبة بالخسف والمسخ ونحو ذلك من العقوبات التي حلت بهم كما حكى ذلك القرآن عنهم، واشتملت عليه كتب الله المنزلة عليهم.
39-"بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه"، يعني: القرآن، كذبوا به ولم يحيطوا بعلمه، "ولما يأتهم تأويله"، أي: عاقبة ما وعد الله في القرآن، أنه يؤول إليه أمرهم من العقوبة، يريد: أنهم لم يعلموا ما يؤول إليه عاقبة أمرهم. "كذلك كذب الذين من قبلهم"، أي: كما كذب هؤلاء الكفار بالقرآن كذلك كذب الذين من قبلهم من كفار الأمم الخالية، "فانظر كيف كان عاقبة الظالمين"، آخر أمر المشركين بالهلاك.
39."بل كذبوا"بل سارعوا إلى التكذيب ."بما لم يحيطوا بعلمه"بالقرآن أول ما سمعوه قبل أن يتدبروا آياته ويحيطوا بالعلم بشأنه، أو بما جهلوه ولم يحيطوا به علماً من ذكر البعث والجزاء وسائر ما يخلف دينهم ."ولما يأتهم تأويله" ولم يقفوا بعد على تأويله ولم تبلغ أذهانهم معانيه، أو ولم يأتهم بعد تأويل ما فيه من الإخبار بالغيوب حتى يتبين لهم أنه صدق أم كذب ، والمعنى أن القرآن معجز من جهة اللفظ والمعنى ثم إنهم فاجئوا تكذيبه قبل أن يتدبروا نظمه ويتفحصوا معناه ومعنى التوقع في لما أنه قد ظهر لهم بالآخرة إعجازه لما كرر عليهم التحدي فزادوا قواهم في معارضته فتضاءلت دونها، أو لما شاهدوا وقوع ما أخبر به طبقاً لإخباره مراراً فلم يقلعوا عن التكذيب تمرداً وعناداً."كذلك كذب الذين من قبلهم"أنبياءهم ."فانظر كيف كان عاقبة الظالمين"فيه وعيد لهم بمثل ما عوقب به من قبلهم.
39. Nay, but they denied that, the knowledge whereof they could not compass, and whereof the interpretation (in events) hath not yet come unto them. Even so did those before them deny. Then see what was the consequence for the wrongdoers!
39 - Nay, they charge with falsehood that whose knowledge they cannot compass, even before the elucidation thereof hath reached them: thus did those before them make charges of falsehood: But see what was the end of those who did wrong