[الفاتحة : 6] اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ
اهدنا الصراط المستقيم) أي أرشدنا إليه
قال أبو جعفر: ومعنى قوله "اهدنا الصراط المستقيم "، في هذا الموضع عندنا: وفقنا للثبات عليه، كما روي ذلك عن ابن عباس:
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال حدثنا بشر بن عمارة، قال حدثنا أبو روق، عن الضحاك، عن عبدالله بن عباس، قال: قال جبريل لمحمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، اهدنا الصراط المستقيم . يقول: ألهمنا الطريق الهادي.
وإلهامه إياه ذلك، هو توفيقه له، كالذي قلنا في تأويله. ومعناه نظير معنى قوله " إياك نستعين "، في أنه مسألة العبد ربه التوفيق للثبات على العمل بطاعته، وإصابة الحق والصواب فيما أمره به ونهاه عنه، فيما يستقبل من عمره، دون ما قد مضى من أعماله، وتقضى فيما سلف من عمره. كما قوله "إياك نستعين"، مسألة منه ربه المعونة على أداء ما قد كلفه من طاعته، فيما بقي من عمره.
فكان معنى الكلام: اللهم إياك نعبد وحدك لا شريك لك، مخلصين لك العبادة دون ما سواك من الآلهة والأوثان، فأعنا على عبادتك، ووفقنا لما وفقت له من أنعمت عليه من أنبيائك وأهل طاعتك، من السبيل والمنهاج.
فإن قال قائل: وأنى وجدت الهداية في كلام العرب بمعنى التوفيق؟
قيل له: ذلك في كلامها أكثر وأظهر من أن يحصى عدد ما جاء عنهم في ذلك من الشواهد.
فمن ذلك قول الشاعر:
لا تحرمني، هداك الله، مسألتي ولا أكونن كمن أودى به السفر
يعني به: وفقك الله لقضاء حاجتي. ومنه قول الاخر:
ولا تعجلني هداك المليك، فإن لكل مقام مقالا
فمعلوم أنه إنما أراد: وفقك الله لإصابة الحق في أمري.
ومنه قول الله جل ثناؤه: " والله لا يهدي القوم الظالمين" (آل عمران: 86) في غير آية من تنزيله. وقد علم بذلك، أنه لم يعن أنه لا يبين للظالمين الواجب عليهم من فرائضه. وكيف يجوز أن يكون ذلك معناه، وقد عم بالبيان جميع المكلفين من خلقه؟ ولكنه عنى جل وعز أنه لا يوفقهم، ولا يشرح للحق والإيمان صدورهم.
وقد زعم بعضهم أن تأويل قوله "اهدنا": زدنا هداية.
وليس يخلو هذا القول من أحد أمرين: إما أن يكون ظن قائله أن النبي صلى الله عليه وسلم امر بمسألة ربه الزيادة في البيان، أو الزيادة في المعونة والتوفيق.
فإن كان ظن أنه امر بمسألة الزيادة في البيان، فذلك ما لا وجه له. لأن الله جل ثناؤه لا يكلف عبدا فرضًا من فرائضه، إلا بعد تبيينه له وإقامة الحجة عليه به. ولو كان معنى ذلك معنى مسألته البيان، لكان قد امر أن يدعو ربه أن يبين له ما فرض عليه، وذلك من الدعاء خلف، لأنه لا يفرض فرضًا إلا مبينًا لمن فرضه عليه. أو يكون أمر أن يدعو ربه أن يفرض عليه الفرائض التي لم يفرضها. وفي فساد وجه مسألة العبد ربه ذلك، ما يوضح عن أن معنى "اهدنا الصراط المستقيم "، غير معنى: بين لنا فرائضك وحدودك.
أو يكون ظن أنه امر بمسألة ربه الزيادة في المعونة والتوفيق. فإن كان ذلك كذلك، فلن تخلو مسألته تلك الزيادة من أن تكون مسألة للزيادة في المعونة على ما قد مضى من عمله، أو على ما يحدث. وفي ارتفاع حاجة العبد إلى المعونة على ما قد تقضى من عمله، ما يعلم أن معنى مسألة تلك الزيادة إنما هو مسألته الزيادة لما يحدث من عمله. وإذ كان ذلك كذلك، صار الأمر إلى ما وصفنا وقلنا في ذلك: من أنه مسألة العبد ربه التوفيق لأداء ما كلف من فرائضه، فيما يستقبل من عمره.
وفي صحة ذلك، فساد قول أهل القدر الزاعمين أن كل مأمور بأمر أو مكلف فرضًا، فقد أعطي من المعونة عليه، ما قد ارتفعت معه في ذلك الفرض حاجته إلى ربه. لأنه لو كان الأمر على ما قالوا في ذلك، لبطل معنى قول الله جل ثناؤه "إياك نعبد وإياك نستعين * اهدنا الصراط المستقيم ". وفي صحة ذلك، على ما بينا، فساد قولهم.
وقد زعم بعضهم أن معنى قوله "اهدنا الصراط المستقيم ": أسلكنا طريق الجنة في المعاد، أي قدمنا له وامض بنا إليه، كما قال جل ثناؤه: " فاهدوهم إلى صراط الجحيم " (الصافات: 23)، أي أدخلوهم النار، كما تهدى المرأة إلى زوجها، يعنى بذلك أنها تدخل إليه، وكما تهدى الهدية إلى الرجل، وكما تهدي الساق القدم، نظير قول طرفة بن العبد:
لعبت بعدي السيول به وجرى في رونق رهمه
للفتى عقل يعـيش بـــه حيث تهدي ساقـه قدمـه
أي ترد به الموارد.
وفي قول الله جل ثناؤه "إياك نعبد وإياك نستعين " ما ينبىء عن خطأ هذا التأويل، مع شهادة الحجة من المفسرين على تخطئته. وذلك أن جميع المفسرين من الصحابة والتابعين مجمعون على أن معنى الصراط في هذا الموضع، غير المعنى الذي تأوله قائل هذا القول، وأن قوله: "إياك نستعين" مسألة العبد ربه المعونة على عبادته. فكذلك قوله "اهدنا" إنما هو مسألة الثبات على الهدى فيما بقي من عمره.
والعرب تقول: هديت فلانا الطريق، وهديته للطريق، وهديته إلى الطريق، إذا أرشدته إليه وسددته له. وبكل ذلك جاء القرآن: قال الله جل ثناؤه: " وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا" (الأعراف: 43)، وقال في موضع آخر: "اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم" (النحل: 121)، وقال: " اهدنا الصراط المستقيم ".
وكل ذلك فاش في منطقها، موجود في كلامها، من ذلك قول الشاعر:
أستغفر الله ذنبًا لست محصيه، رب العباد، إليه الوجه والعمل
يريد: أستغفر الله لذنب، كما قال جل ثناؤه: " واستغفر لذنبك" (غافر: 55).
ومنه قول نابغة بنى ذبيان:
فيصيدنا العير المدل بحضره قبل الونى، والأشعب النباحا
يريد: فيصيد لنا. وذلك كثير في أشعارهم وكلامهم، وفيما ذكرنا منه كفاية.
قال أبو جعفر: أجمعت الأمة من أهل التأويل جميعًا على أن "الصراط المستقيم"، هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه. وكذلك ذلك في لغة جميع العرب، فمن ذلك قول جرير بن عطية الخطفي:
أمير المؤمنين على صراط إذا اعوج الموارد مستقيم
يريد: على طريق الحق. ومنه قول الهذلي أبي ذؤيب:
صبحنا أرضهم بالخيل حتى تركناها أدق من الصراط
ومنه قول الراجز:
فصد عن نهج الصراط القاصد
والشواهد على ذلك أكثر من أن تحصى، وفيما ذكرنا غنى عما تركنا.
ثم تستعير العرب "الصراط " فتستعمله في كل قول وعمل وصف باستقامة أو اعوجاج، فتصف المستقيم باستقامته، والمعوج باعوجاجه.
والذي هو أولى بتأويل هذه الآية عندي، أعني: "اهدنا الصراط المستقيم "، أن يكون معنيًا به: وفقنا للثبات على ما ارتضيته ووفقت له من أنعمت عليه من عبادك، من قول وعمل، وذلك هو الصراط المستقيم. لأن من وفق لما وفق له من أنعم الله عليه من النبيين والصديقين والشهداء، فقد وفق للإسلام، وتصديق الرسل، والتمسك بالكتاب، والعمل بما أمر الله به، والانزجار عما زجره عنه، واتباع منهج النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهاج أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وكل عبد لله صالح، وكل ذلك من الصراط المستقيم.
وقد اختلفت تراجمة القرآن في المعني بالصراط المستقيم. يشمل معاني جميعهم في ذلك، ما اخترنا من التأويل فيه.
ومما قالته في ذلك، ما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال، وذكر القران، فقال: "هو الصراط المستقيم ".
حدثنا بذلك موسى بن عبد الرحمن المسروقي، قال: حدثنا حسين الجعفي، عن حمزة الزيات، عن أبي المختار الطائي، عن ابن أخي الحارث، عن الحارث، عن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وحدثت عن إسمعيل بن أبي كريمة، قال: حدثنا محمد بن سلمة، عن أبي سنان، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن الحارث، عن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثله.
حدثنا أحمد بن إسحق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا حمزة الزيات، عن أبي المختار الطائي، عن ابن أخي الحارث الأعور، عن الحارث، عن علي، قال: الصراط المستقيم: كتاب الله تعالى ذكره.
حدثنا أحمد بن إسحق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا سفيان وحدثنا محمد بن حميد الرازي، قال: حدثنا مهران، عن سفيان، عن منصور، عن أبي وائل، قال: قال عبدالله: الصراط المستقيم كتاب الله.
حدثني محمود بن خداش الطالقاني، قال: حدثنا حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي، قال: حدثنا علي والحسن ابنا صالح، جميعا، عن عبدالله بن محمد بن عقيل، عن جابربن عبدالله: "اهدنا الصراط المستقيم " قال: الإسلام، قال: هو أوسع مما بين السماء والأرض.
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، قال: حدثنا أبو روق، عن الضحاك، عن عبدالله بن عباس، قال: قال جبريل لمحمد: قل يا محمد "اهدنا الصراط المستقيم " يقول: ألهمنا الطريق الهادي، وهو دين الله الذي لا عوج له.
حدثنا موسى بن سهل الرازي، قال: حدثنا يحيى بن عوف، عن الفرات بن السائب، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس، في قوله: "اهدنا الصراط المستقيم " قال: ذلك الإسلام.
حدثني محمود بن خداش، قال: حدثنا محمد بن ربيعة الكلابي، عن إسمعيل الأزرق، عن أبي عمر البزار، عن ابن الحنفية، في قوله "اهدنا الصراط المستقيم " قال: هو دين الله الذي لا يقبل من العباد غيره.
حدثني موسى بن هرون الهمداني، قال: حدثنا عمرو بن طلحة القناد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: "اهدنا الصراط المستقيم" قال: هو الإسلام.
حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس في قوله: "اهدنا الصراط المستقيم "، قال: الطريق.
حدثنا عبدالله بن كثير أبو صديف الآملي، قال: حدثنا هاشم بن القاسم، قال: حدثنا حمزة بن المغيرة، عن عاصم، عن أبي العالية، في قوله: "اهدنا الصراط المستقيم "، قال: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصاحباه من بعده أبو بكر وعمر. قال: فذكرت ذلك للحسن فقال: صدق أبو العالية ونصح.
حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال حدثنا ابن وهب، قال: قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: "اهدنا الصراط المستقيم "، قال: الإسلام.
حدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، أن عبد الرحمن بن جبير حدثه، عن أبيه، عن نواس بن سمعان الأنصاري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "ضرب الله مثلاً صراطًا مستقيمًا، والصراط: الإسلام".
حدثنا المثنى قال: حدثنا آدم العسقلاني، قال: حدثنا الليث، عن معاوية بن صالح، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه، عن نواس بن سمعان الأنصاري، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بمثله.
قال أبو جعفر: وإنما وصفه الله بالاستقامة، لأنه صواب لا خطأ فيه. وقد زعم بعض أهل الغباء، أنه سماه الله مستقيمًا، لاستقامته بأهله إلى الجنة. وذلك تأويل لتأويل جميع أهل التفسير خلاف، وكفى بإجماع جميعهم على خلافه دليلاً على خطئه.
السابعة والعشرون : قوله تعالى : "اهدنا الصراط المستقيم" .
اهدنا دعاء ورغبة من المربوب الى الرب ، والمعنى : دلنا على الصراط المستقيم وأرشدنا إليه ، وأرنا طريق هدايتك الموصلة الى أنسك وقربك . قال بعض العلماء : فجعل الله جل وعز عظم الدعاء وجملته موضوعاً في هذه السورة ، نصفها فيه مجمع الثناء ، ونصفها فيه مجمع الحاجات ، وجعل هذا الدعاء الذي في هذه السورة أفضل من الذي يدعو به الداعي لأن هذا الكلام قد تكلم به رب العالمين ، فأنت تدعو بدعاء هو كلامه الذي تكلم به ، وفي الحديث :
"ليس شيء أكرم على الله من الدعاء" . وقيل المعنى : أرشدنا باستعمال السنن في أداء فرائضك ، وقيل : الأصل فيه الإمالة ، ومنه قوله تعالى : "إنا هدنا إليك" أي ملنا ، وخرج عليه السلام في مرضه يتهادى بين اثنين ، أي يتمايل . ومنه الهدية ، لأنها تمال من ملك الى ملك . ومنه الهدي للحيوان الذي يساق الى الحرم ، فالمعنى مل بقلوبنا الى الحق . وقال الفضيل بن عياض : الصراط المستقيم طريق الحج ، وهذا خاص والعموم اولى . قال محمد بن الحنفية في قوله عز وجل : "اهدنا الصراط المستقيم" هو دين الله الذي لا يقبل من العباد غيره . وقال عاصم الأحول عن ابي العالية : "الصراط المستقيم" رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحباه من بعده . قال عاصم فقتل لـ لحسن : إن أبا العالية يقول : الصراط المستقيم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحباه ، قال : صدق ونصح .
الثامنة والعشرون : أصل الصراط في كلام العرب الطريق ، قال عامر بن الطفيل :
شحنا أرضهم بالخيل حتى تركناهم أذل من الصراط
وقال جرير :
أمير المؤمنين على صراط إذا أعوج الموارد مستقيم
وقال آخر :
فصد عن نهج الصراط الواضح
وحكى النقاش : الصراط الطريق بلغة الروم ، قال ابن عطية : وهذا ضعيف جداً . وقرىء : السراط ( بالسين ) من الاستراط بمعنى الابتلاع ، كأن الطريق يسترط من يسلكه . وقرىء بين الزاي والصاد . وقرىء بزاي خالصة والسين الأصل . وحكى سلمة عن الفراء قال : الزراط بإخلاص الزاي لغة لعذرة وكلب وبنى القين ، قال : وهؤلاء يقولون في أصدق : أزدق . وقد قالوا : الأزد والأسد ، ولسق به ولصق به . و الصراط نصب على المفعول الثاني ، لأن الفعل من الهداية يتعدى الى المفعول الثاني بحرف جر ، قال الله تعالى "فاهدوهم إلى صراط الجحيم" . وبغير حرف كما في هذه الآية . المستقيم صفة لـ الصراط وهو الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف ، ومنه قوله تعالى "وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه" وأصله مستقوم ، نقلت الحركة الى القاف وانقلبت الواو ياء لأنكسار ما قبلها .
قراءة الجمهور بالصاد وقرئ السراط وقرئ بالزاي ، قال الفراء : وهي لغة بني عذرة وبني كلب لما تقدم الثناء على المسؤول تبارك وتعالى ناسب أن يعقب بالسؤال كما قال : "فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل" وهذا أكمل أحوال السائل أن يمدح مسؤوله ثم يسأل حاجته وحاجة إخوانه المؤمنين بقوله : "اهدنا الصراط المستقيم" لأنه أنجح للحاجة وأنجع للإجابة ، ولهذا أرشد الله إليه لأنه الأكمل وقد يكون السؤال بالإخبار عن حال السائل واحتياجه كما قال موسى عليه السلام " رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير " وقد تقدمه مع ذلك وصف مسؤول كقول ذي النون "لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين" وقد يكون بمجرد الثناء على المسؤول كقول الشاعر :
أأذكر حاجتي أم قد كفاني حياؤك إن شيمتك الحياء
إذا أثنى عليك المرء يوماً كفاه من تعرضه الثناء
والهداية هـهنا والإرشاد والتوفيق ، وقد تعدى الهداية بنفسها كما هنا "اهدنا الصراط المستقيم" فتضمن معنى ألهمنا أو وفقنا أو ارزقنا أو أعطنا "وهديناه النجدين" أي بينا له الخير والشر ، وقد تعدى بإلى كقوله تعالى : "اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم" "فاهدوهم إلى صراط الجحيم" وذلك بمعنى الإرشاد والدلالة وكذلك قوله "وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم" وقد تعدى باللام كقول أهل الجنة "الحمد لله الذي هدانا لهذا" أي وفقنا لهذا وجعلنا له أهلاً .
وأما الصراط المستقيم فقال الإمام أبو جعفر بن جرير : أجمعت الأمة من أهل التأويل جميعاً على أن الصراط المستقيم هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه وذلك في لغة العرب فمن ذلك قال جرير بن عطية الخطفي :
أمير المؤمنين على صراط إذا اعوج الموارد مستقيم
قال والشواهد على ذلك أكثر من أن تحصر ، قال ثم تستعير العرب الصراط فتستعمله في كل قول وعمل ووصف باستقامة أو اعوجاج فتصف المستقيم باستقامته والمعوج باعوجاجه . ثم اختلفت عبارات المفسرين من السلف والخلف في تفسير الصراط ، وإن كان يرجع حاصلها إلى شيء واحد وهو المتابعة لله وللرسول ، فروي أنه كتاب الله ، قال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن عرفة حدثني يحيى بن يمان عن حمزة الزيات عن سعيد وهو ابن المختار الطائي عن ابن أخي الحارث الأعور عن الحارث الأعور عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الصراط المستقيم كتاب الله" وكذلك رواه ابن جرير من حديث حمزة بن حبيب الزيات وقد تقدم في فضائل القرآن فيما رواه أحمد والترمذي من رواية الحارث الأعور عن علي مرفوعاً "وهو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم" وقد روي موقوفاً على علي رضي الله عنه وهو أشبه والله أعلم : وقال الثوري عن منصور عن أبي وائل عن عبد الله قال الصراط المستقيم كتاب الله ، وقيل هو الإسلام ، قال الضحاك عن ابن عباس قال : قال جبريل لمحمد عليهما السلام "قل يا محمد اهدنا الصراط المستقيم" يقول ألهمنا الطريق الهادي وهو دين الله الذي لا اعوجاج فيه ، وقال ميمون بن مهران عن ابن عباس في قوله تعالى : "اهدنا الصراط المستقيم" قال ذاك الإسلام ، وقال إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم اهدنا الصراط المستقيم قالوا هو الإسلام ، وقال عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر اهدنا الصراط المستقيم قال هو الإسلام أوسع مما بين السماء والأرض وقال ابن الحنفية في قوله تعالى "اهدنا الصراط المستقيم" قال هو دين الله الذي لا يقبل من العباد غيره وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم اهدنا الصراط المستقيم قال هو الإسلام وفي هذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده حيث قال : حدثنا الحسن بن سوار أبو العلاء حدثنا ليث يعني ابن سعد عن معاوية بن صالح أن عبد الرحمن بن جبير بن نفير حدثه عن أبيه عن النواس بن سمعان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخاة وعلى باب الصراط داع يقول يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعاً ولا تعوجوا ، وداع يدعو من فوق الصراط فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب قال ويحك لا تفتحه ـ فإنك إن فتحته تلجه ـ فالصراط الإسلام والسوران حدود الله والأبواب المفتحة محارم الله وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله والداعي من فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم" وهكذا رواه ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث الليث بن سعد به ، ورواه الترمذي والنسائي جميعاً عن علي بن حجر عن بقية عن بجير بن سعد عن خالد بن معدان عن جبير بن نفير عن النواس بن سمعان به ، وهو إسناد حسن صحيح والله أعلم . وقال مجاهد اهدنا الصراط المستقيم قال : الحق وهذا أشمل ولا منافاة بينه وبين ما تقدم ، وروى ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث أبي النضر هاشم بن القاسم حدثنا حمزة بن المغيرة عن عاصم الأحول عن أبي العالي "اهدنا الصراط المستقيم" قال هو النبي صلى الله عليه وسلم وصاحباه من بعده. قال عاصم فذكرنا ذلك للحسن فقال صدق أبو العالية ونصح . وكل هذه الأقوال صحيحة وهي متلازمة فإن من اتبع الإسلام فقد اتبع النبي صلى الله عليه وسلم واقتدى باللذين من بعده أبي بكر وعمر فقد اتبع الحق ومن اتبع الحق فقد اتبع الإسلام ومن اتبع الإسلام فقد اتبع القرآن وهو كتاب الله وحبله المتين وصراطه المستقيم ، فكلها صحيحة يصدق بعضها بعضاً ، و لله الحمد. وقال الطبراني حدثنا محمد بن الفضل السقطي حدثنا إبراهيم بن مهدي المصيصي حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة عن الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله قال الصراط المستقيم الذي تركنا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولهذا قال الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله : والذي هو أولى بتأويل هذه الاية عندي أعني ـ اهدنا الصراط المستقيم ـ أن يكون معنياً به وفقنا للثبات على ما ارتضيته ووفقت له من أنعمت عليه من عبادك من قول وعمل ذلك هو الصراط المسقيم لأن من وفق لما وفق له من أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين فقد وفق للإسلام وتصديق الرسل والتمسك بالكتاب والعمل بما أمره الله به والانزجار عما زجره عنه واتباع منهاج النبي صلى الله عليه وسلم ومنهاج الخلفاء الأربعة ، وكل عبد صالح وكل ذلك من الصراط المستقيم .
(فإن قيل) فكيف يسأل المؤمن الهداية في كل وقت من صلاة وغيرها وهو متصف بذلك ؟ فهل هذا من باب تحصيل الحاصل أم لا ؟
فالجواب أن لا ، ولو لا احتياجه ليلاً ونهاراً إلى سؤال الهداية لما أرشده الله تعالى إلى ذلك فإن العبد مفتقر في كل ساعة وحالة إلى الله تعالى في تثبيته على الهداية ورسوخه فيها وتبصره وازدياده منها واستمراره عليها فإن العبد لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله فأرشده تعالى إلى أن يسأله في كل وقت أن يمده بالمعونة والثبات والتوفيق ، فالسعيد من وفقه الله تعالى لسؤاله فإنه قد تكفل بإجابة الداعي إذا دعاه ولا سيما المضطر المحتاج المفتقر إليه آناء الليل وأطراف النهار ، وقد قال تعالى : "يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل" الاية : فقد أمر الذين آمنوا بالإيمان وليس ذلك من باب تحصيل الحاصل لأن المراد الثبات والاستمرار والمداومة على الأعمال المعينة على ذلك والله أعلم . وقال تعالى آمراً لعباده المؤمنين أن يقولوا : "ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب" وقد كان الصديق رضي الله عنه يقرأ بهذه الاية في الركعة الثالثة من صلاة المغرب بعد الفاتحة سراً ، فمعنى قوله تعالى "اهدنا الصراط المستقيم" استمر بنا عليه ولا تعدل بنا إلى غيره .
6- "اهدنا الصراط المستقيم" قرأه الجمهور بالصاد، وقرأ السراط بالسين، والزراط بالزاي، والهداية قد يتعذر فعلها بنفسه كما هنا، وكقوله: "وهديناه النجدين" وقد يتعدى بإلى قوله: "اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم" "فاهدوهم إلى صراط الجحيم" "وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم" وقد يتعدى باللام كقوله: "الحمد لله الذي هدانا لهذا" "إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم" قال الزمخشري: أصله أن يتعدى باللام أو بإلى انتهى. وهي الإرشاد أو التوفيق أو الإلهام أو الدلالة. وفرق كثير من المتأخرين بين معنى المتعدي بنفسه وغير المتعدي فقالوا: معنى الأول الدلالة، والثاني الإيصال. وطلب الهداية من المهتدي معناه طلب الزيادة كقوله تعالى: "والذين اهتدوا زادهم هدى" "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا" والصراط: الطريق، قال ابن جرير: أجمعت الأمة من أهل التأويل جميعاً على أن الصراط المستقيم: هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه، وهو كذلك في لغة جميع العرب. قال: ثم تستعير العرب الصراط فتستعمله فتصف المستقيم باستقامته والمعوج باعوجاجه. وقد أخرج الحاكم وصححه وتعقبه الذهبي عن أبي هريرة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ "اهدنا الصراط المستقيم" بالصاد". وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد والبخاري في تاريخه عن ابن عباس "أنه قرأ الصراط بالسين". وأخرج ابن الأنباري عن ابن كثير أنه كان يقرأ السراط بالسين. وأخرج أيضاً عن حمزة أنه كان يقرأ الزراط بالزاي قال الفراء: وهي لغة لعذرة وكلب وبني القين. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال: "اهدنا الصراط المستقيم يقول: ألهمنا دينك الحق". وأخرج ابن جرير عنه وابن المنذر نحوه. وأخرج وكيع وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه عن جابر بن عبد الله أنه قال: "هو دين الإسلام وهو أوسع مما بين السماء والأرض". وأخرج نحوه ابن جرير عن ابن عباس. وأخرج نحوه أيضاً عن ابن مسعود وناس من الصحابة. وأخرج أحمد والترمذي وحسنه والنسائي وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ والحاكم وصححه، وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن النواس بن سمعان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً، وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول: يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعاً ولا تفرقوا، وداع يدعو من فوق الصراط، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب قال: ويحك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه" فالصراط: الإسلام، والسوران: حدود الله، والأبواب المفتحة: محارم الله، وذلك الداعي على رأس الصراط: كتاب الله، والداعي من فوق: واعظ الله تعالى في قلب كل مسلم. قال ابن كثير بعد إخراجه: وهو إسناد حسن صحيح. وأخرج وكيع وعبد بن حميد وابن المنذر وأبو بكر الأنباري والحاكم وصححه والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود أنه قال: "هو كتاب الله". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عدي وابن عساكر عن أبي العالية قال: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحباه من بعده. وأخرج الحاكم وصححه عن أبي العالية عن ابن عباس مثله. وروى القرطبي عن الفضيل بن عياض أنه قال: الصراط المستقيم طريق الحج، قال: وهذا خاص والعموم أولى انتهى. وجميع ما روي في تفسير هذه الآية ما عدا هذا المروى عن الفضيل يصدق بعضه على بعض، فإن من اتبع الإسلام أو القرآن أو النبي فقد اتبع الحق. وقد ذكر ابن جرير نحو هذا فقال: والذي هو أولى بتأويل هذه الآية عندي معيناً به، وفقنا للثبات على ما ارتضيته، ووفقت له من أنعمت عليه من عبادك من قول وعمل، وذلك هو الصراط المستقيم، لأن من وفق إليه ممن أنعم الله عليه من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين فقد وفق للإسلام وتصديق الرسل، والتمسك بالكتاب، والعمل بما أمره الله به والانزجار عما زجره عنه، واتباع منهاج النبي صلى الله عليه وسلم ومنهاج الخلفاء الأربعة وكل عبد صالح، وكل ذلك من الصراط المستقيم انتهى.
6. قوله " اهدنا الصراط المستقيم " اهدنا أرشدنا وقال علي وأبي بن كعب: ثبتنا كما يقال للقائم قم حتى أعود إليك أي دم على ما أنت عليه. وهذا الدعاء من المؤمنين مع كونهم على الهداية بمعنى التثبيت وبمعنى طلب مزيد الهداية لأن الألطاف والهدايات من الله تعالى لا تتناهى على مذهب أهل السنة (( الصراط )) وسراط بالسين رواه أويس عن يعقوب وهو الأصل، سمي سراطاً لأنه يسرط السابلة، ويقرأ بالزاي، وقرأ حمزة باشمام الزاي، وكلها لغات صحيحة، والاختيار: الصاد، عند أكثر القراء لموافقة المصحف.
والصراط المستقيم قال ابن عباس وجابر رضي الله عنهما: هو الإسلام وهو قول مقاتل . وقال ابن مسعود رضي الله عنه: هو القرآن/ وروي عن علي رضي الله عنه مرفوعاً (( الصراط المستقيم كتاب الله )) وقال سعيد بن جبير رضي الله عنه: طريق الجنة. وقال سهل بن عبد الله : طريق السنة والجماعة. وقال بكر بن عبد الله المزني : طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم. [ وقال أبو العالية و الحسن : رسول الله وآله وصاحباه ] وأصله في اللغة الطريق الواضح.

6- " اهدنا الصراط المستقيم " بيان للمعونة المطلوبة فكأنه قال : كيف أعينكم فقالوا " اهدنا " . أو إفراد لما هو المقصود الأعظم . والهداية دلالة بلطف ولذلك تستعمل في الخير وقوله تعالى : " فاهدوهم إلى صراط الجحيم " وارد على التهكم . ومنه الهداية وهوادي الوحش لمقدماتها ، والفعل منه هدى ، وأصله أن يعدى باللام ، أو إلى فعومل معاملة اختيار في قوله تعالى : " واختار موسى قومه " وهداية الله تعالى تنوع أنواعاً لا يحصيها عد كما قال تعالى : " وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها " ولكنها تنحصر في أجناس مترتبة :
الأول : إفاضة القوى التي بها يتمكن المرء من الاهتداء إلى مصالحه كالقوة العقلية والحواس الباطنة والمشاعر الظاهرة .
الثاني : نصب الدلائل الفارقة بين الحق والباطل والصلاح والفساد وإليه أشار حيث قال : " وهديناه النجدين " وقال : " وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى " .
الثالث : الهداية بإرسال الرسل وإنزال الكتب ، وإياها عنى بقوله : " وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا " وقوله : " إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم " .
الرابع : أن يكشف على قلوبهم السرائر ويريهم الأشياء كما هي بالوحي ، أو الإلهام والمنامات الصادقة ، وهذا قسم يختص بنيله الأنبياء والأولياء وإياه عنى بقوله : " أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده " . وقوله : " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا " . فالمطوب إما زيادة ما منحوه من الهدى ، أو الثبات عليه ، أو حصول المراتب المرتبة عليه . فإذا قاله العارف بالله الواصل عنى به أرشدنا طريق السير فيك لتمحو عنا ظلمات أحوالنا ، وتميط غواشي أبدننا ، لنستضئ بنور قدسك فنراك بنورك . والأمر والدعاء يتشاركان لفظاً ومعنى ويتفاوتان بالاستعلاء والتسفل، وقيل : بالرتبة .
والسراط : من سرط الطعام إذا ابتلعه فكأنه يسرط السابلة ، ولذلك سمي لقماً لأنه يلتقمها . و" الصراط " من قلب السين صاداً ليطابق الطاء في الإطباق ، وقد يشم الصاد صوت الزاي ليكون أقرب إلى المبدل منه . وقرأ ابن كثير برواية قنبل عنه ، و رويس عن يعقوب بالأصل ، و حمزة بالإشمام ، والباقون بالصاد وهو لغة قريش ، و الثابت في الإمام وجمعه سرط ككتب وهو كالطريق في التذكير والتأنيث .
و " المستقيم " المستوي والمراد به طريق الحق ، وقيل : هو ملة الإسلام .

6. Show us the straight path,
6 - Show us the straight way