[الفاتحة : 1] بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قال أبو جعفر: إن الله تعالى ذكره وتقدست أسماؤه أدب نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بتعليمه تقديم ذكر أسمائه الحسنى أمام جميع أفعاله، وتقدم إليه في وصفه بها قبل جميع مهماته، وجعل ما أدبه به من ذلك وعلمه إياه، منه لجميع خلقه سنة يستنون بها، وسبيلاً يتبعونه عليها، فبه افتتاح أوائل منطقهم، وصدور رسائلهم وكتبهم وحاجاتهم، حتى أغنت دلالة ما ظهر من قول القائل: " بسم الله "، على ما بطن من مراده الذي هو محذوف.
وذلك أن الباء من " بسم الله " مقتضية فعلاً يكون لها جالبًا، ولا فعل معها ظاهر، فأغنت سامع القائل "بسم الله " معرفته بمراد قائله، عن إظهار قائل ذلك مراده قولاً. إذ كان كل ناطق به عند افتتاحه أمرًا، قد أحضر منطقه به إما معه، وإما قبله بلا فصل ما قد أغنى سامعه عن دلالة شاهدة على الذي من أجله افتتح قيله به. فصار استغناء سامع ذلك منه عن إظهار ما حذف منه، نظير استغنائه إذا سمع قائلاً قيل له: ما أكلت اليوم؟ فقال: طعامًا عن أن يكرر المسئول مع قوله طعامًا ، أكلت، لما قد ظهر لديه من الدلالة على أن ذلك معناه، بتقدم مسئلة السائل إياه عما أكل. فمعقول إذًا أن قول القائل إذا قال: "بسم الله الرحمن الرحيم" ثم افتتح تاليًا سورة، أن إتباعه "بسم الله الرحمن الرحيم " تلاوة السورة، ينبىء عن معنى قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم ". ومفهوم به أنه مريد بذلك: أقرأ بسم الله الرحمن الرحيم. وكذلك قوله: "بسم الله " عند نهوضه للقيام أو عند قعوده وسائر أفعاله، ينبىء عن معنى مراده بقوله "بسم الله "، وأنه أراد بقيله "بسم الله "، أقوم باسم الله، وأقعد باسم الله. وكذلك سائر الأفعال.
وهذا الذي قلنا في تأويل ذلك، هو معنى قول ابن عباس الذي:
حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، قال: حدثنا أبو روق، عن الضحاك ، عن عبدالله بن عباس، قال: إن أول ما نزل به جبريل على محمد، قال: يا محمد، قل: أستعيذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم ثم قال: قل "بسم الله الرحمن الرحيم". قال: قال له جبريل: قل بسم الله يا محمد، يقول: اقرأ بذكر الله ربك، وقم واقعد بذكر الله.
قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: فإن كان تأويل قول "بسم الله " ما وصفت، والجالب الباء في "بسم الله " ما ذكرت، فكيف قيل "بسم الله " بمعنى أقرأ باسم الله، أو أقوم أو أقعد باسم الله؟ وقد علمت أن كل قارىء كتاب الله، فبعون الله وتوفيقه قراءته، وأن كل قائم أو قاعد أو فاعل فعلا، فبالله قيامه وقعوده وفعله. وهلا إذ كان ذلك كذلك قيل بالله الرحمن الرحيم ولم يقل "بسم الله " فإن قول القائل: أقوم وأقعد بالله الرحمن الرحيم، أو أقرأ بالله أوضح معنى لسامعه من قوله " بسم الله "، إذ كان قوله أقوم أو أقعد باسم الله، يوهم سامعه أن قيامه وقعوده بمعنى غير الله.
قيل له، وبالله التوفيق: إن المقصود إليه من معنى ذلك غير ما توهمته في نفسك. وإنما معنى قوله "بسم الله ": أبدأ بتسمية الله وذكره قبل كل شيء، أو أقرأ بتسميتي الله، أو أقوم وأقعد بتسميتي الله وذكره لا أنه يعني بقيله "بسم الله ": أقوم بالله، أو أقرأ بالله، فيكون قول القائل: أقرأ بالله، أو أقوم أو أقعد بالله أولى بوجه الصواب في ذلك من قوله "بسم الله ".
فإن قال: فإن كان الأمر في ذلك على ما وصفت، فكيف قيل: " بسم الله " وقد علمت أن الاسم اسم، وأن التسمية مصدر من قولك سميت؟
قيل: إن العرب قد تخرج المصادر مبهمة على أسماء مختلفة، كقولهم: أكرمت فلاناً كرامةً.
وإنما بناء مصدر أفعلت إذا أخرج على فعله الإفعال . وكقولهم: أهنت فلاناً هواناً، وكلمته كلامًا. وبناء مصدر: فعلت التفعيل. ومن ذلك قول الشاعر:
أكفرًا بعد رد الموت عني وبعد عطائك المئة الرتاعا
يريد: إعطائك. ومنه قول الاخر:
وإن كان هذا البخل منك سجية لقد كنت في طولي رجاءك أشعبا
يريد: في إطالتي رجاءك. ومنه قول الآخر:
أظليم إن مصابكم رجلاً أهدى السلام تحية، ظلم
يريد: إصابتكم. والشواهد في هذا المعنى تكثر، وفيما ذكرنا كفاية لمن وفق لفهمه.
فإذ كان الأمر على ما وصفنا، من إخراج العرب مصادر الأفعال على غير بناء أفعالها كثيرًا، وكان تصديرها إياها على مخارج الأسماء موجودًا فاشيًا، فبين بذلك صواب ما قلنا من التأويل في قول القائل "بسم الله " أن معناه في ذلك عند ابتدائه في فعل أو قول: أبدأ بتسمية الله قبل فعلي أو قبل قولي. وكذلك معنى قول القائل عند ابتدائه بتلاوة القرآن: "بسم الله الرحمن الرحيم "، إنما معناه: أقرأ مبتدئاً بتسمية الله، أو أبتدىء قراءتي بتسمية الله. فجعل الاسم مكان التسمية، كما جعل الكلام مكان التكليم، والعطاء مكان الإعطاء.
وبمثل الذي قلنا من التأويل في ذلك، روي الخبر عن عبدالله بن عباس:
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، قال:
حدثنا أبو روق، عن الضحاك، عن عبدالله بن عباس، قال: أول ما نزل جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم قال: يا محمد، قل: أستعيذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم ، ثم قال: قل: بسم الله الرحمن الرحيم . قال ابن عباس: "بسم الله" يقول له جبريل: يا محمد، اقرأ بذكر الله ربك، وقم واقعد بذكر الله.
وهذا التأويل من ابن عباس ينبىء عن صحة ما قلنا من أنه يراد بقول القائل مفتتحًا قراءته:
"بسم الله الرحمن الرحيم ": أقرأ بتسمية الله وذكره، وأفتتح القراءة بتسمية الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى ويوضح فساد قول من زعم أن معنى ذلك من قائله: بالله الرحمن الرحيم أول كل شيء، مع أن العباد إنما أمروا أن يبتدئوا عند فواتح أمورهم بتسمية الله، لا بالخبر عن عظمته وصفاته، كالذي أمروا به من التسمية على الذبائح والصيد، وعند المطعم والمشرب، وسائر أفعالهم. فكذلك الذي أمروا به من تسميته عند افتتاح تلاوة تنزيل الله، وصدور رسائلهم وكتبهم.
ولا خلاف بين الجميع من علماء الأمة، أن قائلاً لو قال عند تذكيته بعض بهائم الأنعام:
بالله ولم يقل: "بسم الله " أنه مخالف بتركه قيل: "بسم الله " ما سن له عند التذكية من القول. وقد علم بذلك أنه لم يرد بقوله " بسم الله " بالله، كما قال الزاعم أن اسم الله في قول الله: "بسم الله الرحمن الرحيم"، هو الله. لأن ذلك لو كان كما زعم، لوجب أن يكون القائل عند تذكيته ذبيحته بالله، قائلاً ما سن له من القول على الذبيحة. وفي إجماع الجميع على أن قائل ذلك تارك ما سن له من القول على ذبيحته إذ لم يقل "بسم الله " دليل واضح على فساد ما ادعى من التأويل في قول القائل: "بسم الله " أنه مراد به بالله ، وأن اسم الله هو الله.
وليس هذا هو الموضع من مواضع الإكثار في الإبانة عن الاسم: أهو المسمى، أم غيره، أم هو صفة له؟ فنطيل الكتاب به، وإنما هذا موضع من مواضع الإبانة عن الاسم المضاف إلى الله: أهو اسم، أم مصدر بمعنى التسمية؟
فإن قال قائل: فما أنت قائل في بيت لبيد بن ربيعة:
‌‌‌‌‌‌‌‌‌إلى الحول، ثم اسم السلام عليكما، ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر
‌‌‌‌‌‌‌‌فقد تأوله مقدم في العلم بلغة العرب، أنه معني به: ثم السلام عليكما، وأن اسم السلام هو السلام؟
قيل له: لو جاز ذلك وصح تأويله فيه على ما تأول، لجاز أن يقال: رأيت اسم زيد، وأكلت اسم الطعام، وشربت اسم الشراب وفي إجماع جميع العرب على إحالة ذلك، ما ينبىء عن فساد تأويل من تأول قول لبيد: ثم اسم السلام عليكما، أنه أراد: ثم السلام عليكما، وادعائه أن إدخال الاسم في ذلك وإضافته إلى السلام إنما جاز، إذ كان اسم المسمى هو المسمى بعينه.
ويسأل القائلون قول من حكينا قوله هذا، فيقال لهم: أتستجيزون في العربية أن يقال: أكلت اسم العسل ، يعني بذلك: أكلت العسل، كما جاز عندكم: اسم السلام عليك، وأنتم تريدون: السلام عليك؟
فإن قالوا: نعم! خرجوا من لسان العرب، وأجازوا في لغتها ما تخطئه جميع العرب في لغتها. وإن قالوا: لا، سئلوا الفرق بينهما فلن يقولوا في أحدهما قولاً إلا ألزموا في الآخر مثله. فإن قال لنا قائل: فما معنى قول لبيد هذا عندك؟
قيل له: يحتمل ذلك وجهين، كلاهما غير الذي قاله من حكينا قوله.
أحدهما: أن السلام اسم من أسماء الله، فجائز أن يكون لبيد عنى بقوله: ثم اسم السلام عليكما، ثم الزما اسم الله وذكره بعد ذلك، ودعا ذكري والبكاء علي، على وجه الإغراء. فرفع الاسم، إذ أخر الحرف الذي يأتي بمعنى الإغراء. وقد تفعل العرب ذلك، إذا أخرت الإغراء وقدمت المغرى به، وإن كانت قد تنصب به وهو مؤخر. ومن ذلك قول الشاعر:
‌يا أيها المائح دلوي دونكا! إني رأيت الناس يحمدونكا!
فأغرى بـ (دونك ) وهي مؤخرة، وإنما معناه: دونك دلوي. فكذلك قول لبيد:
إلى الحول، ثم اسم السلام عليكما
يعني: عليكما اسم السلام، أي الزما ذكر الله ودعا ذكري والوجد بي، لأن من بكى حولاً على امرىء ميت فقد اعتذر. فهذا أحد وجهيه.
والوجه الآخر منهما: ثم تسميتي الله عليكما، كما يقول القائل للشيء يراه فيعجبه: اسم الله عليك يعوذه بذلك من السوء فكأنه قال: ثم اسم الله عليكما من السوء، وكأن الوجه الأول أشبه المعنيين بقول لبيد.
ويقال لمن وجه بيت لبيد هذا إلى أن معناه: ثم السلام عليكما، أترى ما قلنا من هذين الوجهين جائزاً، أو أحدهما، أو غير ما قلت فيه؟
فإن قال: لا! أبان مقداره من العلم بتصاريف وجوه كلام العرب، وأغنى خصمه عن مناظرته.
وإن قال: بلى!
قيل له: فما برهانك على صحة ما ادعيت من التأويل أنه الصواب، دون الذي ذكرت أنه محتمله من الوجه الذي يلزمنا تسليمه لك؟ ولا سبيل إلى ذلك.
وأما الخبر الذي:
حدثنا به إسمعيل بن الفضل، قال: حدثنا إبراهيم بن العلاء بن الضحاك وهو يلقب بزبريق، قال: حدثنا إسمعيل بن عياش، عن إسمعيل بن يحيى، عن ابن أبي مليكة، عمن حدثه، عن ابن مسعود ومسعربن كدام، عن عطية، عن أبي سعيد قال: قال" رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن عيسى ابن مريم أسلمته أمه إلى الكتاب ليعلمه، فقال له المعلم: اكتب بسم فقال له عيسى: وما بسم ؟ فقال له المعلم: ما أدري! فقال عيسى: الباء بهاء الله، والسين سناؤه، والميم مملكته".
فأخشى أن يكون غلطاً من المحدث، وأن يكون أراد (ب س م،) على سبيل ما يعلم المبتدىء من الصبيان في الكتاب حروف أبي جاد، فغلط بذلك فوصله، فقال: بسم،، لأنه لا معنى لهذا التأويل إذا تلي "بسم الله الرحمن الرحيم "، على ما يتلوه القارىء في كتاب الله، لاستحالة معناه عن المفهوم به عند جميع العرب وأهل لسانها، إذا حمل تأويله على ذلك.
القول في تأويل قول الله: " الله ".
قال أبو جعفر: وأما تأويل قول الله تعالى ذكره "الله " فإنه على معنى ما روي لنا عن عبدالله بن عباس: هو الذي يألهه كل شيء، ويعبده كل خلق.
وذلك أن أبا كريب حدثنا، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، قال: حدثنا أبو روق، عن الضحاك، عن عبدالله بن عباس، قال: "الله" ذو الألوهية والمعبودية على خلقه أجمعين.
فإن قال لنا قائل: فهل لذلك في فعل ويفعل أصل كان منه بناء هذا الاسم؟
قيل: أما سماعًا من العرب فلا، ولكن استدلالاً.
فإن قال: وما دل على أن الألوهية هي العبادة، وأن الإله هو المعبود، وأن له أصلاً في فعل ويفعل ؟
قيل: لا تمانع بين العرب في الحكم لقول القائل يصف رجلاً بعبادة، وبطلب ما عند الله جل ذكره: تأله فلان بالصحة ولا خلاف. ومن ذلك قول رؤبة بن العجاج:
‌لله در الغانيات المده سبحن واسترجعن من تألهي
يعني: من تعبدي وطلبي الله بعملي.
ولا شك أن التأله ،التفعل من أله يأله ، وأن معنى أله إذا نطق به: عبدالله. وقد جاء منه مصدر يدل على أن العرب قد نطقت منه بـ( فعل يفعل )، بغير زيادة.
وذلك ما حدثنا به سفيان بن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن نافع بن عمر، عن عمروبن دينار، عن ابن عباس: أنه قرأ "ويذرك وآلهتك" (الأعراف: 127) قال: عبادتك، ويقال: إنه كان يعبد ولا يعبد.
حدثنا سفيان، قال: حدثنا ابن عيينة، عن عمروبن دينار ، عن محمد بن عمروبن الحسن، عن ابن عباس: "ويذرك وآلهتك"، قال: إنما كان فرعون يعبد ولا يعبد.
وكذلك كان عبدالله يقرؤها ومجاهد.
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: أخبرني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: قوله "ويذرك وآلهتك" قال: وعبادتك.
ولا شك أن الإلاهة على ما فسره ابن عباس ومجاهد مصدر من قول القائل: أله الله فلان إلاهة، كما يقال: عبدالله فلان عبادةً، وعبر الرؤيا عبارةً. فقد بين قول ابن عباس ومجاهد هذا: أن أله عبد، وأن الإلاهة مصدره.
فإن قال: فإن كان جائزًا أن يقال لمن عبدالله: ألهه على تأويل قول ابن عباس ومجاهد فكيف الواجب في ذلك أن يقال، إذا أراد المخبر الخبر عن استيجاب الله ذلك على عبده؟
قيل: أما الرواية فلا رواية فيه عندنا، ولكن الواجب على قياس ما جاء به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي:
حدثنا به إسمعيل بن الفضل، حدثنا إبراهيم بن العلاء، قال: حدثنا إسمعيل بن عياش، عن إسمعيل بن يحيى، عنابن أبي مليكة، عمن حدثه عن ابن مسعود ومسعربن كدام، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن عيسى أسلمته أمه إلى الكتاب ليعلمه فقال له المعلم اكتب الله فقال له عيسى: أتدري ما الله؟ الله إله الآلهة".
أن يقال : الله جل جلاله أله العبد، والعبد ألهه. وأن يكون قول القائل الله من كلام العرب أصله الإله.
فإن قال: وكيف يجوز أن يكون ذلك كذلك، مع اختلاف لفظيهما؟
قيل: كما جاز أن يكون قوله: "لكنا هو الله ربي" (الكهف: 38) أصله: لكن أنا، هو الله ربي، كما قال الشاعر:
وترمينني بالطرف، أي أنت مذنب، وتقلينني، لكن إياك لا أقلي‌
يريد: لكن أنا إياك لا أقلي، فحذف الهمزة من أنا فالتقت نون أنا ونون لكن وهي ساكنة، فأدغمت في نون أنا فصارتا نونا مشددة. فكذلك الله أصله الإله، أسقطت الهمزة التي هي فاء الاسم، فالتقت اللام التي هي عين الاسم، واللام الزائدة التي دخلت مع الألف الزائدة وهي ساكنة، فأدغمت في الأخرى التي هي عين الاسم، فصارتا في اللفظ لاما واحدة مشددة، كما وصفنا من قول الله "لكنا هو الله ربي".
القول في تأويل قوله: "الرحمن الرحيم ".
قال أبو جعفر: وأما "الرحمن " فهو فعلان، من رحم، و "الرحيم " فعيل منه. والعرب كثيراً ما تبني الأسماء من فعل يفعل على فعلان كقولهم من غضب: غضبان، ومن سكر: سكران، ومن عطش: عطشان. فكذلك قولهم "رحمن" من رحم، لأن فعل منه: رحم يرحم. وقيل "رحيم " وإن كانت عين فعل منها مكسورة، لأنه مدح. ومن شأن العرب أن يحملوا أبنية الأسماء إذا كان فيها مدح أو ذم على فعيل ، وإن كانت عين فعل منها مكسورة أو مفتوحة، كما قالوا من علم عالم وعليم، ومن قدر قادر وقدير. وليس ذلك منها بناء على أفعالها، لأن البناء من فعل يفعل و، فعل يفعل فاعل. فلو كان الرحمن والرحيم خارجين على بناء أفعالهما، لكانت صورتهما الراحم .
فإن قال قائل: فإذا كان الرحمن والرحيم اسمين مشتقين من الرحمة، فما وجه تكرير ذلك، وأحدهما مؤد عن معنى الآخر؟
قيل له: ليس الأمر في ذلك على ما ظننت، بل لكل كلمة منهما معنى لا تؤدي الأخرى منهما عنها.
فإن قال: وما المعنى الذي انفردت به كل واحدة منهما، فصارت إحداهما غير مؤدية المعنى عن الأخرى؟
قيل: أما من جهة العربية فلا تمانع بين أهل المعرفة بلغات العرب، أن قول القائل: "الرحمن" عن أبنية الأسماء من فعل يفعل أشد عدولاً من قوله "الرحيم ". ولا خلاف مع ذلك بينهم، أن كل اسم له أصل في فعل يفعل ثم كان عن أصله من فعل يفعل أشد عدولاً أن الموصوف به مفضل على الموصوف بالاسم المبني على أصله من فعل يفعل ، إذا كانت التسمية به مدحًا أو ذمًا. فهذا ما في قول القائل "الرحمن "، من زيادة المعنى على قوله "الرحيم" في اللغة.
وأما من جهة الأثر والخبر، ففيه بين أهل التأويل اختلاف:
فحدثني السري بن يحيى التميمي، قال: حدثنا عثمان بن زفر، قال: سمعت العرزمي يقول: "الرحمن الرحيم "، قال: الرحمن بجميع الخلق، الرحيم، قال: بالمؤمنين.
حدثنا إسمعيل بن الفضل، قال: حدثنا إبراهيم بن العلاء، قال: حدثنا إسمعيل بن عياش، عن إسمعيل بن يحيى، عن ابن أبي مليكة، عمن حدثه، عن ابن مسعود ومسعربن كدام، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد يعني الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم": إن عيسى ابن مريم قال: الرحمن رحمن الآخرة والدنيا، والرحيم رحيم الاخرة".
فهذان الخبران قد أنبآ عن فرق ما بين تسمية الله جل ثناؤه باسمه الذي هو رحمن ، وتسميته الذي هو رحيم واختلاف معنى الكلمتين وإن اختلفا في معنى ذلك الفرق، فدل أحدهما على أن ذلك في الدنيا، ودل الآخر على أنه في الآخرة.
فإن قال: فأي هذين التأويلين أولى عندك بالصحة؟
قيل: لجميعهما عندنا في الصحة مخرج، فلا وجه لقول قائل: أيهما أولى بالصحة؟ وذلك أن المعنى الذي في تسمية الله بالرحمن، دون الذي في تسميته بالرحيم: هو أنه بالتسمية بالرحمن موصوف بعموم الرحمة جميع خلقه، وأنه بالتسمية بالرحيم موصوف بخصوص الرحمة بعض خلقه، إما في كل الأحوال، وإما في بعض الأحوال. فلا شك إذ كان ذلك كذلك أن ذلك الخصوص الذي في وصفه بالرحيم، لا يستحيل عن معناه، في الدنيا كان ذلك أو في الآخرة، أو فيهما جميعاً. فإذ كان صحيحًا ما قلنا من ذلك وكان الله جل ثناؤه قد خص عباده المؤمنين في عاجل الدنيا بما لطف بهم من توفيقه إياهم لطاعته، والإيمان به وبرسله، واتباع أمره واجتناب معاصيه مما خذل عنه من أشرك به، وكفر، وخالف ما أمره به، وركب معاصيه وكان مع ذلك قد جعل، جل ثناؤه، ما أعد في آجل الآخرة في جناته من النعيم المقيم والفوز المبين، لمن آمن به، وصدق رسله، وعمل بطاعته، خالصًا، دون من أشرك وكفر به كان بيناً أن الله قد خص المؤمنين من رحمته في الدنيا والآخرة، مع ما قد عمهم به والكفار في الدنيا من الإفضال والإحسان إلى جميعهم في البسط في الرزق، وتسخير السحاب بالغيث، وإخراج النبات من الأرض، وصحة الأجسام والعقول، وسائر النعم التي لا تحصى، التي يشترك فيها المؤمنون والكافرون.
فربنا جل ثناؤه رحمن جميع خلقه في الدنيا والآخرة، ورحيم المؤمنين خاصة في الدنيا والآخرة. فأما الذي عم جميعهم به في الدنيا من رحمته فكان رحماناً لهم به، فما ذكرنا مع نظائره التي لا سبيل إلى إحصائها لأحد من خلقه، كما قال جل ثناؤه: "وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها" (إبراهيم: 34، النحل: 18). وأما في الآخرة، فالذي عم جميعهم به فيها من رحمته، فكان لهم رحماناً، في تسويته بين جميعهم جل ذكره في عدله وقضائه، فلا يظلم أحدًا منهم مثقال ذرة، وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرًا عظيمًا، وتوفى كل نفس ما كسبت. فذلك معنى عمومه في الآخرة جميعهم برحمته، الذي كان به رحماناً في الآخرة.
وأما ما خص به المؤمنين في عاجل الدنيا من رحمته، الذي كان به رحيمًا لهم فيها، كما قال جل ذكره: " وكان بالمؤمنين رحيما" (الأحزاب: 43) فما وصفنا من اللطف لهم في دينهم، فخصهم به، دون من خذله من أهل الكفر به. وأما ما خصهم به في الآخرة، فكان به رحيمًا لهم دون الكافرين، فما وصفنا آنفاً مما أعد لهم دون غيرهم من النعيم، والكرامة التي تقصر عنها الأماني.
وأما القول الآخر في تأويله فهو ما:
حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، قال: حدثنا أبو روق، عن الضحاك، عن عبدالله بن عباس: قال: الرحمن، الفعلان من الرحمة، وهو من كلام العرب. قال: الرحمن الرحيم: الرقيق الرفيق بمن أحب أن يرحمه، والبعيد الشديد على من أحب أن يعنف عليه. وكذلك أسماؤه كلها.
وهذا التأويل من ابن عباس يدل على أن الذي به ربنا رحمن، هو الذي به رحيم، وإن كان لقوله "الرحمن " من المعنى، ما ليس لقوله "الرحيم ". لأنه جعل معنى "الرحمن " بمعنى الرفيق على من رق عليه، ومعنى "الرحيم " بمعنى الرفيق بمن رفق به.
والقول الذي رويناه في تأويل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكرناه عن العرزمي، أشبه بتأويله من هذا القول الذي رويناه عن ابن عباس،. وإن كان هذا القول موافقاً معناه معنى ذلك، في أن للرحمن من المعنى ما ليس للرحيم، وأن للرحيم تأويلاً غيرتأويل الرحمن.
والقول الثالث في تأويل ذلك ما:
حدثني به عمران بن بكار الكلاعي، قال: حدثنا يحيى بن صالح، قال: حدثنا أبو الأزهر نصربن عمرو اللخمي من أهل فلسطين، قال: سمعت عطاء الخراساني يقول: كان الرحمن، فلما اختزل الرحمن من اسمه كان الرحمن الرحيم.
والذي أراد، إن شاء الله، عطاء بقوله هذا: أن الرحمن كان من أسماء الله التي لا يتسمى بها أحد من خلقه، فلما تسمى به الكذاب مسيلمة وهو اختزاله إياه، يعني اقتطاعه من أسمائه لنفسه أخبر الله جل ثناؤه أن اسمه "الرحمن الرحيم " ليفصل بذلك لعباده اسمه من اسم من قد تسمى بأسمائه، إذ كان لا يسمى أحد "الرحمن الرحيم "، فيجتمع له هذان الاسمان، غيره جل ذكره. وإنما يتسمى بعض خلقه إما رحيمًا، أو يتسمى رحمن. فأما رحمن رحيم ، فلم يجمعا قط لأحد سواه، ولا يجمعان لأحد غيره. فكأن معنى قول عطاء هذا: أن الله جل ثناؤه إنما فصل بتكرير الرحيم على الرحمن، بين اسمه واسم غيره من خلقه، اختلف معناهما أو اتفقا.
والذي قال عطاء من ذلك غير فاسد المعنى، بل جائز أن يكون جل ثناؤه خص نفسه بالتسمية بهما معاً مجتمعين، إبانة لهما من خلقه، ليعرف عباده بذكرهما مجموعين أنه المقصود بذكرهما دون من سواه من خلقه، مع ما في تأويل كل واحد منهما من المعنى الذي ليس في الآخر منهما.
وقد زعم بعض أهل الغباء أن العرب كانت لا تعرف "الرحمن "، ولم يكن ذلك في لغتها، ولذلك قال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: "وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا" (الفرقان: 60) إنكاراً منهم لهذا الاسم. كأنه كان محالاً عنده أن ينكر أهل الشرك ما كانوا عالمين بصحته، أو: لا، وكأنه لم يتل من كتاب الله قول الله "الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه" يعني محمدًا "كما يعرفون أبناءهم" (البقرة: 146،) وهم مع ذلك به مكذبون، ولنبوته جاحدون! فيعلم بذلك أنهم قد كانوا يدافعون حقيقة ما قد ثبت عندهم صحته، واستحكمت لديهم معرفته. وقد أنشد لبعض الجاهلية الجهلاء:
ألا ضربت تلك الفتاة هجينها ألا قضب الرحمن ربي يمينها
وقال سلامة بن جندل السعدي:
عجلتم علينا عجلتينا عليكم وما يشإ الرحمن يعقد ويطلق
وقد زعم أيضا بعض من ضعفت معرفته بتأويل أهل التأويل، وقلت روايته لأقوال السلف من أهل التفسير، أن "الرحمن" مجازه: ذو الرحمة، "الرحيم " مجازه: الراحم. ثم قال: قد يقدرون اللفظين من لفظ والمعنى واحد، وذلك لاتساع الكلام عندهم. قال: وقد فعلوا مثل ذلك فقالوا: ندمان ونديم، ثم استشهد ببيت برج بن مسهر الطائي:
وندمان، يزيد الكأس طيبًا، سقيت وقد تغورت النجوم
واستشهد بأبيات نظائره في النديم والندمان، ففرق بين معنى الرحمن والرحيم في التأويل لقوله: الرحمن ذو الرحمة، والرحيم الراحم، وإن كان قد ترك بيان تأويل معنيهما على صحته. ثم مثل ذلك باللفظين يأتيان بمعنى واحد، فعاد إلى ما قد جعله بمعنيين، فجعله مثال ما هوبمعنى واحد مع اختلاف الألفاظ.
ولا شك أن ذا الرحمة هو الذي ثبت أن له الرحمة، وصح أنها له صفة وأن الراحم هو الموصوف بأنه سيرحم، أو قد رحم فانقضى ذلك منه، أو هو فيه. ولا دلالة له فيه حينئذ أن الرحمة له صفة، كالدلالة على أنها له صفة، إذا وصف بأنه ذو الرحمة. فأين معنى "الرحمن الرحيم" على تأويله، من معنى الكلمتين تأتيان مقدرتين من لفظ واحد باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني؟ ولكن القول إذا كان على غير أصل معتمد عليه، كان واضحًا عواره.
وإن قال لنا قائل: ولم قدم اسم الله الذي هو "الله "، على اسمه الذي هو "الرحمن "، واسمه الذي هو "الرحمن "، على اسمه الذي هو "الرحيم "؟
قيل: لأن من شأن العرب، إذا أرادوا الخبر عن مخبر عنه، أن يقدموا اسمه، ثم يتبعونه صفاته ونعوته. وهذا هو الواجب في الحكم: أن يكون الاسم مقدمًا قبل نعته وصفته، ليعلم السامع الخبر، عمن الخبر. فإذا كان ذلك كذلك وكان لله جل ذكره أسماء قد حرم على خلقه أن يتسموا بها، خص بها نفسه دونهم، وذلك مثل "الله " و "الرحمن " و "الرحمن " و "الخالق " وأسماء أباح لهم أن يسمي بعضهم بعضاً بها، وذلك: كالرحيم والسميع والبصير والكريم، وما أشبه ذلك من الأسماء كان الواجب أن تقدم أسماؤه التي هي له خاصة دون جميع خلقه، ليعرف السامع ذلك من توجه إليه الحمد والتمجيد، ثم يتبع ذلك بأسمائه التي قد تسمى بها غيره، بعد علم المخاطب أو السامع من توجه إليه ما يتلو ذلك من المعاني. فبدأ الله جل ذكره باسمه الذي هو "الله "، لأن الألوهية ليست لغيره جل ثناؤه من وجه من الوجوه، لا من جهة التسمي به، ولا من جهة المعنى. وذلك أنا قد بينا أن معنى "الله " تعالى ذكره معنى المعبود، ولا معبود غيره جل جلاله، وأن التسمي به قد حرمه الله جل ثناؤه، وإن قصد المتسمي به ما يقصد المتسمي بسعيد وهو شقي، وبحسن وهو قبيح.
أولا ترى أن الله جل جلاله قال في غير آية من كتابه: "أإله مع الله" فاستكبر ذلك من المقر به، وقال تعالى في خصوصه نفسه بالله وبالرحمن: " قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى " (الإسراء: 110). ثم ثنى باسمه الذي هو "الرحمن "، إذ كان قد منع أيضًا خلقه التسمي به، وإن كان من خلقه من قد يستحق تسميته ببعض معانيه. وذلك أنه قد يجوز وصف كثير ممن هو دون الله من خلقه، ببعض صفات الرحمة. وغير جائز أن يستحق بعض الألوهية أحد دونه. فلذلك جاء الرحمن ثانيًا لاسمه الذي هو "الله" وأما اسمه الذي هو " الرحيم " فقد ذكرنا أنه مما هو جائز وصف غيره به. والرحمة من صفاته جل ذكره، فكان إذ كان الأمر على ما وصفنا واقعاً مواقع نعوت الأسماء اللواتي هن توابعها، بعد تقدم الأسماء عليها. فهذا وجه تقديم اسم الله الذي هو "الله "، على اسمه الذي هو "الرحمن "، واسمه الذي هو" الرحمن "، على اسمه الذي هو "الرحيم ".
وقد كان الحسن البصري يقول في "الرحمن " مثل ما قلنا، أنه من أسماء الله التي منع التسمي بها العباد.
حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا حماد بن مسعدة، عن عوف، عن الحسن، قال: "الرحمن " اسم ممنوع.
مع أن في إجماع الأمة من منع التسمي به جميع الناس، ما يغني عن الاستشهاد على صحة ما قلنا في ذلك بقول الحسن وغيره.
الحمد لله المبتدىء بحمد نفسه قبل أن يحمده حامد ، وأشهد ان لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، الرب الصمد الواحد ، الحي القيوم الذي لا يموت ، ذو الجلال والإكرام ، والمواهب العظام ، والمتكلم بالقرآن ، والخالق للإنسان ، والمنعم عيه بالإيمان ، والمرسل رسوله بالبيان ، محمداً صلى الله عليه وسلم ما اختلف للإنسان ، وتعاقب الجديدان ، أرسله بكتابه المبين ، الفارق بين الشك واليقين ، الذي أعجزت الفصحاء معارضته ، وأعيب الألباء مناقضته ، وأخرست البلغاء مشاكلته ، فلا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً . جعل أمثاله عبراً لمن تدبرها ، وأوامره هدى لمن استبصرها ، وشرح فيه واجبات الأحكام ، وفرق فيه بين الجلال والحرام ، وكرر فيه المواعظ والقصص للإفهام ، وضرب فيه الأمثال ، وقص فيه غيب الأخبار ، فقال تعالى : "ما فرطنا في الكتاب من شيء" . جاطب به أولياء ففهموا ، وبين لهم فيه مراده فعلموا . فقرأه القرآن جملة سر الله المكنون ، وحفظه علمه المخزون ، وخلفاء أنبيائه وأمناء ، وهم أهله وخاصته وخيرته وأصفياؤه ، "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن لله أهلين منا ، قالوا : يا رسول الله ، من هم ؟ قال : هم أهل القرآن أهل الله وخاصته" أخرجه ابن ماجة في سننه ، وأبو بكر البزار في مسنده . فما أحق من علم كتاب الله ان يزدجر بنواهيه ، ويتذكر ما شرح له فيه ، ويخشى الله ويتقيه ، ويراقبه ويستحييه . فإنه قد حمل أعباء الرسل ، وصار شهيداً في القيامة على من خالف من أهل الملل ، قال الله تعالى :"وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس" . ألا وإن الحجة على من علمه فأغفله ، اوكد منها على من قصر عنه وجهله . ومن أوتي علم القرآن فلم ينتقع ، وزجرته نواهيه فلم يرتدع ، وارتكب من المأثم قبيحاً ، ومن الجرائم فضوحاً ، كان القرآن حجة عليه ، وخصماً لديه ، " قال رسول اله صلى الله عليه وسلم : القرآن حجة لك أو عليك" خرجه مسلم . فالواجب على من خصه الله بحفظ كتابه ان يتلوه حق تلاوته ، ويتدبر حقائق عبارته ، ويتفهم عجائبه ، ويتبين غرائبه ، قال الله تعالى : "كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته" . وقال الله تعالى : "أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها" . جعلنا الله من يرعاه حق رعايته ، ويتدبر حق تدبره ، ويقوم بقسطه ، ويوفي بشرطه ، ولا يلتمس الهدى في غيره ، وهدانا لأعلامه الظاهرة ، وأحكامه القاطعة الباهرة ، وجمع لنا به خير الدنيا والآخرة ، فإنه أهل التقوى أهل المغفرة . ثم جعل الى رسوله بيان ما كان منه مجملاً ، وتفسير ما كان منه مشكلاً ، وتحقيق ما كان منه متحملاً ، ليكون له مع تبليغ الرسلة ظهور الاختصاص به ، ومنزلة التفويض اليه ، قال الله تعالى "وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم" . ثم جعل الى العلماء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم استنباط ما نبه على معانيه ، وأشار الى اصوله ليتوصلوا بالاجتهاد فيه الى علم المراد ، فيمتازوا بذلك عن غيرهم ، ويختصموا بثواب اجتهادهم ، قال الله تعالى : "يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات" . فصار الكتاب أصلاً والسنة به بياناً ، واستنباط العلماء له إيضاحاً وتبياناً . فالحمد لله الذي جعل صدورنا اوعية كتابه ، وآذاننا موارد سنن نبيه ، وهممنا مصروفة الى تعلمهما والبحث عن معانيهما وغرائبهما ، طالبين بذلك رضا رب العالمين ، ومتدرجين به الى علم الملة والدين .
فلما كان كتاب الله هو الكفيل بجميع علوم الشرع ، الذي استقل بالسنة والفرض ، ونزل به أمين اسماء الى أمين الأرض ، رأيت ان اشتغل به مدى عمري ، واستفرغ فيه منتي ، بأن أكتب فيه تعليقاً وجيزاً ، يتضمن نكتاً من التفسير واللغات ، والإعراب والقراءات ، والرد على أهل الزيغ والضلالات ، وأحاديث كثيرةً شاهدةً لما نذكره من الأحكام ونزول الآيات ، جامعاً بين معانيهما ، ومبينا ما اشكل منهما ، بأقاويل السلف ، ومن تبعهم من الخلف . وعلمته تذكرةً لنفسي ، وذخيرة ليوم رمسي ، وعملاً صالحاً بعد موتى . قال الله تعالى : "ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر" . وقال تعالى : "علمت نفس ما قدمت وأخرت" . و" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له" .
وشرطي في هذا الكتاب : إضافة الأقوال الى قائليها ، والأحاديث الى مصنفيها ، فإن يقال : من بركة العلم أن يضاف القول الى قائله . وكثيراً ما يجيء الحديث في كتب الفقه والتفسير مبهماً ، لا يعرف من أخرجه إلا من اطلع على كتب الحديث ، فيبقى من لا خبرة له بذلك حائراً ، لا يعرف الصحيح من السقيم ، ومعرفة ذلك علم جسيم ، فلا يقبل منه الاحتجاج به ، ولا الاستدلال حتى يضيفه الى من خرجه من الإئمة الأعلام ، والثقات المشاهير من علماء الإسلام . ونحن نشير الى جمل من ذلك في هذا الكتاب ، والله الموفق للصواب . وأضرب عن كثير من قصص من ذلك تبيين آي الأحكام ، بمسائل تسفر عن معناها ، وترشد الطالب الى مقتضاها ، فضمنت كل آية تتضمن حكماً أو حكمين فما زاد ، مسائل نبين فيها ما تحتوي عليه من أسباب النزول والتفسير الغريب والحكم ، فإن لم تتضمن حكماً ذكرت ما فيها من التفسير والتأويل ، هكذا إلى آخر الكتاب .
وسميته بـ (الجامع لأحكام القرآن ، والمبين لما تضمنه ممن السنة وآي الفرقان ) ، جعله الله خالصاً لوجهه ، وأن ينفعني به ووالدي ومن أراده بمنه ، إنه سميع الدعاء ، قريب مجيب ، آمين .
الأولى : ويسن لقارىء القرآن أن يقول بعد الفراغ من الفاتحة بعد سكتة على نون ولا الضالين : آمين ، ليتميز ما هو قرآن مما ليس بقرآن .
الثانية : ثبت في الأمهات من حديث أبي هريرة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إذا أمن الإمام فأمنوا فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه " . قال علماؤنا رحمة الله عليهم : فترتبت المغفرة للذنب على قدمات اربع تضمنها هذا الحديث ، الأولى : تأمين الإمام ، الثانية : تأمين من خلفه ، الثالثة : تأمين الملائكة ، الرابعة موافقة التأمين ، فقيل في الإجابة ، وقيل في الزمن ، وقيل في الصفة من إخلاص الدعاء ، لقوله عليه السلام :
"ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه" .
الثالثة : روى أبو داود عن ابي مصبح المقرائي قال : كنا نجلس الى ابي زهير النميري وكان من الصحابة ، فيحدث أحسن الحديث ، فإذا دعا الرجل منا بدعاء قال : اختمه بآمين ، فإن آمين مثل الطابع على الصحيفة . قال أبو زهير : ألا أخبركم عن ذلك : " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ، فأتينا على رجل قد ألح في المسألة ، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم يسمع منه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أوجب إن ختم ، فقال له رجل من القوم : بأي شيء يختم ؟ قال بآمين فإنه إن ختم بآمين فقد أوجب فانصرف الرجل الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم ، فأتى الرجل فقال له : اختم يا فلان وابشر " . قال ابن عبد البر : أبو زهير النميري اسمه يحيى بن نفير روى عن النبي صلى الله عليه وسلم :
"لا تقتلوا الجراد فإنه جند الله الأعظم" . وقال وهب بن منبه . آمين أربعة أحرف يخلق الله من كل حرف ملكاً يقول : اللهم اغفر لكل من قال آمين . وفي الخبر :
"لقنني جبريل آمين عند فراغي من فاتحة الكتاب وقال : إنه كالخاتم على الكتاب" وفي حديث آخر :
"آمين خاتم رب العالمين" . قال الهروي قال ابو بكر : معناه أنه طابع الله على عباده ، لأنه يدفع به عنهم الآفات والبلايا ، فكان خاتم الكتاب الذي يصونه ويمنع من إفساده وإظهار ما فيه . وفي حديث آخر :
"آمين درجة في الجنة" . قال ابو بكر : معناه أنه حرف يكتسب به قائله درجة في الجنة .
الرابعة : معنى آمين عند أكثر اهل العلم : اللهم استجب لنا ، وضع موضع الدعاء . وقال قوم هو اسم من أسماء الله ، روي عن جعفر بن محمد و مجاهد وهلال بن يساف ورواه ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصح ، قال ابن العربي . وقيل معنى آمين : كذل فليكن ، قاله الجوهري . وروى الكلبي عن ابي صالح " عن ابن عباس قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما معنى آمين ؟ قال : رب افعل " . وقال مقاتل : هو قوة للدعاء ، واستنزال للبركة. وقال الترمذي معناه لا تخيب رجاءنا .
الخامسة : وفي آمين لغتان : المد على وزن فاعيل كياسين . والقصر على وزن يمين . قال الشاعر في المد :
يا رب لا تسلبني حبها أبدا ويرحم الله عبدا قال آمينا
وقال آخر :
آمين آمين لا أرضى بواحدة حتى أبلغها ألفين آمينا
وقال آخر في القصر :
تباعد مني فطحل إذ سألته أمين فزاد الله ما بيننا بعدا
وتشديد الميم خطأ ، قال الجوهري . وقد روي عن الحسن وجعفر الصادق التشديد ، وهو قول الحسين بن الفضل ، من أم إذا قصد ، أي نحن قاصدون نحوك ، ومنه قوله "ولا آمين البيت الحرام" . حكاه ابو نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم القشيري . قال الجوهري :وهو مبني على الفتح مثل اين وكيف ، لاجتماع الساكنين . وتقول منه : أمن فلان تأميناً .
السادسة :اختلف العلماء هل يقولها الإمام وهل يجهر بها ، فذهب الشافعي و مالك في رواية المدنيين الى ذلك . وقال الكوفيون وبعض المدنيين : لا تجهر بها . وهو قول الطبري ، وبه قال ابن حبيب من علمائنا . وقال ابن بكير : هو مخير . وروى ابن القاسم عن مالك ان الإمام لا يقول آمين وإنما يقول ذلك من خلفه ، وهو قول ابن القاسم والمصريين من أصحاب مالك . وحجتهم حديث ابي موسى الأشعري :
"ان رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبنا فبين لنا سنتنا وعلمنا صلاتنا فقال : إذا صليتم فأقيموا صفوفكم ثم ليؤمكم أحدكم فإذا كبر فكبروا وإذا قال " غير المغضوب عليهم ولا الضالين" فقولوا آمين يجبكم الله" وذكر الحديث ، أخرجه مسلم .
ومثله حديث سمي عن ابي هريرة :
وأخرجه مالك . والصحيح الأول لحديث وائل بن حجر قال : "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ "ولا الضالين" قال : آمين يرفع بها صوته" ، أخرجه ابو داود و الدار قطني ، وزاد قال ابو بكر : هذه سنة تفرد بها أهل الكوفة ، هذا صحيح والذي بعده . وترجم البخاري باب جهر الإمام بالتأمين .
وقال عطاء : آمين دعاء ، أمن ابن الزبير ومن وراءه حتى أن للمسجد للجة . قال الترمذي : وبه يقول غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم ، يرون أن يرفع الرجل صوته بالتأمين لا يخفيها . وبه يقول الشافعي و أحمد و إسحاق . وفي الموطأ والصحيحين قال ابن شهاب :
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول آمين . وفي سنن ابن ماجة عن ابي هريرة :
قال : ترك الناس آمين وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم اذا قال : "غير المغضوب عليهم ولا الضالين" قال آمين حتى يسمعها أهل الصف الأول فيرتج بها المسجد . وأما حديث أبي موسى وسمي فمعناهما التعريف بالموضع الذي يقال فيه آمين ، وهو إذا قال الإمام "ولا الضالين" ليكون قولهما معاً ، ولا يتقدموه بقول آمين ، لما ذكرناه ، والله أعلم . ولقوله عليه السلام :
"إذا أمن الإمام فأمنوا" . وقال ابن نافع في كتاب ابن الحارث : لا يقولها المأموم إلا أن يسمع الإمام يقول : "ولا الضالين" . وإذا كان ببعد لا يسمعه فلا يقل . وقال ابن عبدوس يتحرى قدر القراءة ويقول :آمين .
السابعة : قال أصحاب ابي حنيفة : الإخفاء بآمين أولى من الجهر بها لأنه دعاء ، وقد قال الله تعالى : "ادعوا ربكم تضرعا وخفية" . قالوا : والدليل عليه ما روي في تأويل قوله تعالى : "قد أجيبت دعوتكما" . قال : كان موسى يدعو وهارون يؤمن ، فسماهما الله داعيين .
الجواب إن إخفاء الدعاء إنما كان أفضل لما يدخله من الرياء . وأما ما يتعلق بصلاة الجماعة فشهودها إشهار شعار ظاهر ، وإظهار حق يندب العباد الى إظهاره ، وقد ندب الإمام الى إشهار قراءة الفاتحة المشتملة على الدعاء والتأمين في آخرها ، فإذا كان الدعاء مما يسن الجهر فيه فالتأمين على الدعاء تابع له وجار مجراه ، وهذا بين .
الثامنة : كلمة آمين لم تكن قبلنا إلا لموسى وهارون عليهما السلام . ذكر الترمذي الحكيم في نوادر الأصول : حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد قال حدثنا ابي قال حدثنا زربي مؤذن مسجد هشام بن حسان قال حدثنا أنس بن مالك قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله أعطى أمتي ثلاثاً لم تعط أحداً قبلهم السلام وهو تحية أهل الجنة وصفوف الملائكة وآمين إلا ما كان من موسى وهارون" قال أبو عبد الله : معناه أن موسى دعا على فرعون ، وأمن هارون ، فقال الله تبارك اسمه عندما ذكر دعاء موسى في تنزيله "قد أجيبت دعوتكما" ولم يذكر مقالة هارون ، وقال موسى ربنا ، فكان من هارون التأمين ، فسماه داعياً في تنزيله ، إذ صير ذلك منه دعوة . وقد قيل : إن آمين خاص لهذه الأمة ، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على السلام والتأمين " أخرجه ابن ماجة من حديث حماد بن سلمة عن سهيل بن ابي صالح عن ابيه عن عائشة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال ... ، الحديث. وأخرج أيضاً من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :"ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على آمين فأكثروا من قول آمين" . قال علماؤنا رحمة الله عليهم : إنما حسدنا أهل الكتاب لأن أولها حمد لله وثناء عليه ثم خضوع له واستكانة ،ثم دعاء لنا بالهداية الى الصراط المستقيم ، ثم الدعاء عليهم مع قولنا آمين .
بسم الله الرحمن الرحيم
بسم الله الرحمن الرحيم
معنى الفاتحة في الأصل أول ما من شأنه أن يفتتح به، ثم أطلقت على أول كل شيء كالكلام، والتاء للنقل من الوصفية إلى الاسمية، فسميت هذه السورة فاتحة الكتاب لكونه افتتح بها، إذ هي أول ما يكتبه الكاتب من المصحف، وأول ما يتلوه التالي من الكتاب العزيز، وإن لم تكن أول ما نزل من القرآن. وقد اشتهرت هذه السورة الشريفة بهذا الاسم في أيام النبوة. قيل هي مكية، وقيل مدنية.
وقد أخرج الواحدي في أسباب النزول، والثعلبي في تفسيره عن علي رضي الله عنه قال: نزلت فاتحة الكتاب بمكة من كنز تحت العرش. وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف، وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في دلائل النبوة، والثعلبي والواحدي من حديث عمر بن شرحبيل "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما شكا إلى خديجة ما يجده عند أوائل الوحي، فذهبت به إلى ورقة فأخبره فقال له: إذا خلوت وحدي سمعت نداء خلفي: يا محمد يا محمد يا محمد فأنطلق هارباً في الأرض، فقال: لا تفعل، إذا أتاك فاثبت حتى تسمع ما يقول ثم ائتني فأخبرني، فلما خلا ناداه يا محمد قل: بسم الله الرحمن الرحيم، حتى بلغ ولا الضالين" الحديث. وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن رجل من بني سلمة قال: لما أسلمت فتيان بني سلمة وأسلم ولد عمرو بن الجموح قالت امرأة عمرو له: هل لك أن تسمع من أبيك ما روي عنه؟ فسأله فقرأ عليه: الحمد لله رب العالمين، وكان ذلك قبل الهجرة. وأخرج أبو بكر بن الأنباري في المصاحب عن عبادة قال: فاتحة الكتاب نزلت بمكة. فهذا جملة ما استدل به من قال إنها نزلت بمكة.
واستدل من قال إنها نزلت بالمدينة بما أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، وأبو سعيد بن الأعرابي في معجمه، والطبراني في الأوسط من طريق مجاهد بن أبي هريرة "رن إبليس حين أنزلت فاتحة الكتاب" وأنزلت بالمدينة.
وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وأبو نعيم في الحلية وغيرهم من طرق عن مجاهد قال: نزلت فاتحة الكتاب بالمدينة، وقيل: إنها نزلت مرتين مرة بمكة ومرة بالمدينة جمعاً بين هذه الروايات.
وتسمى: أم الكتاب قال البخاري في أول التفسير: وسميت أم الكتاب لأنه يبدأ بكتابها في المصاحف، ويبدأ بقراءتها في الصلاة. وأخرج ابن الضريس في فضائل القرآن عن أيوب عن محمد بن سيرين كان يكره أن يقول أم الكتاب ويقول: قال الله تعالى: "وعنده أم الكتاب" ولكن يقول فاتحة الكتاب. ويقال لها الفاتحة لأنها يفتتح بها القراءة، وافتتحت الصحابة بها كتابة المصحف الإمام. قال ابن كثير في تفسيره: وصح تسميتها بالسبع المثاني، قالوا: لأنها تثنى في الصلاة فتقرأ في كل ركعة. وأخرج أحمد من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأم القرآن: "هي أم القرآن، وهي السبع المثاني، وهي القرآن العظيم". وأخرج ابن جرير في تفسيره عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هي أم القرآن، وهي فاتحة الكتاب، وهي السبع المثاني". وأخرج نحوه ابن مردويه في تفسيره والدارقطني من حديثه، وقال: كلهم ثقات. وروى البيهقي عن علي وابن عباس وأبي هريرة أنهم فسروا قوله تعالى: "سبعاً من المثاني" بالفاتحة.
ومن جملة أسمائها كما حكاه في الكشاف سورة الكنز، والوافية، وسورة الحمد، وسورة الصلاة. وقد أخرج الثعلبي أن سفيان بن عيينة كان يسمى فاتحة الكتاب الواقية. وأخرج الثعلبي أيضاً عن عبد الله بن يحيى بن أبي كثير أنه سأله سائل عن قراءة الفاتحة خلف الإمام، فقال عن الكافية تسال؟ قال السائل: وما الكافية!؟ قال: الفاتحة، أما علمت أنها تكفي عن سواها ولا يكفي سواها عنها. وأخرج أيضاً عن الشعبي أن رجلاً اشتكى إليه وجع الخاصرة، فقال: عليك بأساس القرآن، قال: وما أساس القرآن؟ قال: فاتحة الكتاب. وأخرج البيهقي في الشعب عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله أعطاني فيما من به علي فاتحة الكتاب، وقال: هي من كنوز عرشي" وأخرج إسحاق بن راهويه في مسنده عن علي نحوه مرفوعاً. وقد ذكر الدارقطني في تفسيره للفاتحة اثني عشر اسماً وهي سبع آيات بلا خلاف كما حكاه ابن كثير في تفسيره. وقال القرطبي: أجمعت الأمة على أن فاتحة الكتاب سبع آيات إلا ما روي عن حسين الجعفي أنها ست وهو شاذ. وإلا ما روي عن عمرو بن عبيد أنه جعل إياك نعبد آية، فهي عنده ثمان، وهو شاذ انتهى. وإنما اختلفوا في البسملة كما سيأتي إن شاء الله. وقد أخرج عبد بن حميد، ومحمد بن نصر في كتاب الصلاة، وابن الأنباري في المصاحف عن محمد بن سيرين أن أبي بن كعب وعثمان بن عفان كانا يكتبان فاتحة الكتاب والمعوذتين، ولم يكتب ابن مسعود شيئاً منهن. وأخرج عبد بن حميد عن إبراهيم قال: كان عبد الله بن مسعود لا يكتب فاتحة الكتاب في المصحف، وقال: لو كتبتها لكتبت في أول كل شيء.
وقد ورد في فضل هذه السورة أحاديث، منها ما أخرجه البخاري وأحمد وأبو داود والنسائي من حديث أبي سعيد بن المعلى "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له:لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد"، قال: فأخذ بيدي، فلما أراد أن يخرج من المسجد قلت: يا رسول الله إنك قلت لأعلمنك أعظم سورة في القرآن؟ قال: "نعم: "الحمد لله رب العالمين" هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته". وأخرج أحمد والترمذي وصححه من حديث أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "أتحب أن أعلمك سورة لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها؟ ثم أخبره أنها الفاتحة". وأخرجه النسائي وأخرج أحمد في المسند من حديث عبد الله بن جابر" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له:ألا أخبرك بأخير سورة في القرآن؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال:إقرأ الحمد لله رب العالمين حتى تختمها". وفي إسناده ابن عقيل، وقد احتج به كبار الأئمة، وبقية رجاله ثقات. وعبد الله بن جابر هذا هو العبدي كما قال ابن الجوزي، وقيل: الأنصاري البياضي كما قال ابن عساكر. وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي سعيد "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما أخبروه بأن رجلاً رقى سليماً بفاتحة الكتاب: وما كان يدريه أنها رقية" الحديث. وأخرج مسلم في صحيحه، والنسائي في سننه من حديث ابن عباس قال: "بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده جبريل إذ سمع نقيضاً فوقه، فرفع جبريل بصره إلى السماء فقال: هذا باب قد فتح من السماء ما فتح قط، قال: فنزل منه ملك فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ حرفاً منهما إلا أوتيته" وأخرج مسلم والنسائي والترمذي، وصححه من حديث أبي هريرة: "من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج ثلاثاً، غير تامة". وأخرج البزار في مسنده بسند ضعيف عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا وضعت جنبك على الفراش وقرأت فاتحة الكتاب "قل هو الله أحد" فقد أمنت من كل شيء إلا الموت" وأخرج الطبراني في الأوسط بسند ضعيف عن أبي زيد وكان له صحبة قال: "كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض فجاج المدينة، فسمع رجلاً يتهجد ويقرأ بأم القرآن، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فاستمع حتى ختمها ثم قال: ما في القرآن مثلها". وأخرج سعيد بن منصور في سننه، والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فاتحة الكتاب شفاء من كل سقم". وأخرج أبو الشيخ نحوه من حديثه، وحديث أبي هريرة مرفوعاً. وأخرج الدارمي، والبيهقي في شعب الإيمان بسند رجاله ثقات عن عبد الملك بن عمير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في فاتحة الكتاب: "شفاء من كل داء". وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن السني في عمل اليوم والليلة، وابن جرير والحاكم، وصححه عن خارجة بن الصلت التميمي عن عمه "أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أقبل راجعاً من عنده، فمر على قوم وعندهم رجل مجنون موثق بالحديد، فقال أهله: أعندك ما تداوي به هذا!؟ فإن صاحبكم قد جاء بخير، قال: فقرأت عليه فاتحة الكتاب ثلاثة أيام في كل يوم مرتين غدوة وعشية، أجمع بزاقي ثم أتفل فبرأ، فأعطاني مائة شاة، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: كل، فمن أكل برقية باطل، فقد أكلت برقية حق". وأخرج الفرياني في تفسيره عن ابن عباس قال: "فاتحة الكتاب ثلث القرآن". وأخرج الطبراني في الأوسط بسند ضعيف عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ أم القرآن "قل هو الله أحد" فكأنما قرأ ثلث القرآن" وأخرج عبد بن حميد في مسنده بسند ضعيف عن ابن عباس يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: "فاتحة الكتاب تعدل بثلثي القرآن". وأخرج الحاكم وصححه، وأبو ذر الهروي في فضائله، والبيهقي في الشعب عن أنس قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم في مسير له، فنزل فمشى رجل من أصحابه إلى جنبه، فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ألا أخبرك بأفضل القرآن، فتلا عليه "الحمد لله رب العالمين"". وأخرج أبو نعيم والديلمي عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فاتحة الكتاب تجزئ ما لا يجزي شيء من القرآن، ولو أن فاتحة الكتاب جعلت في كفة الميزان، وجعل القرآن في الكفة الأخرى لفضلت فاتحة الكتاب على القرآن سبع مرات". وأخرج أبو عبيد في فضائله عن الحسن مرسلاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ فاتحة الكتاب فكأنما قرأ التوراة والإنجيل والزبور والفرقان".
1- "بسم الله الرحمن الرحيم"
اختلف أهل العلم هل هي آية مستقلة في أول كل سورة كتبت في أولها، أو هي بعض آية من أول كل سورة، أو هي كذلك في الفاتحة فقط دون غيرها، أو أنها ليست بآية في الجميع وإنما كتبت للفصل؟ والأقوال وأدلتها مبسوطة في موضع الكلام على ذلك. وقد اتفقوا على أنها بعض آية في سورة النمل. وقد جزم قراء مكة والكوفة بأنها آية من الفاتحة ومن كل سورة. وخالفهم قراء المدينة والبصرة والشام فلم يجعلوها آية لا من الفاتحة ولا من غيرها من السور، قالوا: وإنما كتبت للفصل والتبرك. وقد أخرج أبو داود بإسناد صحيح عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يعرف فصل السورة حتى ينزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم. وأخرجه الحاكم في المستدرك. وأخرج ابن خزيمة في صحيحه عن أم سلمة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ البسملة في أول الفاتحة في الصلاة وغيرها آية" وفي إسناده عمرو بن هارون البلخي وفيه ضعف، وروى نحوه الدارقطني مرفوعاً عن أبي هريرة.
وكما وقع الخلاف في إثباتها وقع الخلاف في الجهر بها في الصلاة. وقد أخرج النسائي في سننه، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما، والحاكم في المستدرك عن أبي هريرة "أنه صلى فجهر في قراءته بالبسملة، وقال بعد أن فرغ: إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم" وصححه الدارقطني والخطيب والبيهقي وغيرهم. وروى أبو داود والترمذي عن ابن عباس:" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفتتح الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم "قال الترمذي: وليس إسناده بذاك. وقد أخرجه الحاكم في المستدرك عن ابن عباس بلفظ: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم" ثم قال صحيح. وأخرج البخاري في صحيحه عن أنس أنه سئل عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كانت قراءته مداً، ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم يمد بسم الله ويمد الرحمن ويمد الرحيم. وأخرج أحمد في المسند وأبو داود في السنن وابن خزيمة في صحيحه، والحاكم في مستدركه عن أم سلمة أنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع قراءته بسم الله الرحمن الرحيم "الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين "" وقال الدارقطني: إسناده صحيح.
واحتج من قال: بأنه لا يجهر بالبسملة في الصلاة بما في صحيح مسلم عن عائشة قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بـ "الحمد لله رب العالمين"". وفي الصحيحين عن أنس قال: "صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يستفتحون بـ "الحمد لله رب العالمين"". ولمسلم "لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا في آخرها". وأخرج أهل السنن نحوه عن عبد الله بن مغفل. وإلى هذا ذهب الخلفاء الأربعة وجماعة من الصحابة. وأحاديث الترك وإن كانت أصح ولكن الإثبات أرجح مع كونه خارجاً من مخرج صحيح، فالأخذ به أولى ولا سيما مع إمكان تأويل الترك، وهذا يقتضي الإثبات الذاتي، أعني كونها قرآناً، والوصفي أعني الجهر بها عند الجهر بقراءة ما يفتتح بها من السور في الصلاة. ولتنقيح البحث والكلام على أطرافه استدلالاً ورداً وتعقباً ودفعاً، ورواية ودراية موضع غير هذا. ومتعلق الباء محذوف وهو أقرأ أو أتلو لأنه المناسب لما جعلت البسملة مبدأ له، فمن قدره متقدماً كان غرضه الدلالة بتقديمه على الاهتمام بشأن الفعل، ومن قدره متأخراً كان غرضه الدلالة بتأخيره على الاختصاص مع ما يحصل في ضمن ذلك من العناية بشأن الاسم والإشارة إلى أن البداية به أهم لكون التبرك حصل به، وبهذا يظهر رجحان تقدير الفعل متأخراً في مثل هذا المقام، ولا يعارضه قوله تعالى: "اقرأ باسم ربك الذي خلق" لأن ذلك المقام مقام القراءة، فكان الأمر بها أهم، وأما الخلاف بين أئمة النحو في كون المقدر اسماً أو فعلاً فلا يتعلق بذلك كثير فائدة. والباء للاستعانة أو للمصاحبة، ورجح الثاني الزمخشري. واسم أصله سمو حذفت لامه، ولما كان من الأسماء التي بنوا أوائلها على السكون زادوا في أوله الهمزة إذا نطقوا به لئلا يقع الابتداء بالساكن، وهو اللفظ الذال على المسمى، ومن زعم أن الاسم هو المسمى كما قاله أبو عبيدة وسيبويه والباقلاني وابن فورك، وحكاه الرازي عن الحشوية والكرامية والأشعرية فقد غلط غلطاً بيناً، وجاء بما لا يعقل، مع عدم ورود ما يوجب المخالفة للعقل لا من الكتاب ولا من السنة ولا من لغة العرب، بل العلم الضروري حاصل بأن الاسم الذي هو أصوات مقطعة وحروف مؤلفة غير المسمى الذي هو مدلوله، والبحث مبسوط في علم الكلام. وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة: "إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة" وقال الله عز وجل: "ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها" وقال تعالى: "قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى". والله علم لذات الواجب الوجود لم يطلق على غيره، وأصله إله حذفت الهمزة وعوضت عنها أداة التعريف فلزمت. وكان قبل الحذف من أسماء الله الأجناس يقع على كل معبود بحق أو باطل، ثم غلب على المعبود بحق كالنجم والصعق، فهو قبل الحذف من الأعلام الغالبة، وبعده من الأعلام المختصة. والرحمن الرحيم: إسمان مشتقان من الرحمة على طريق المبالغة، ورحمن أشد مبالغة من رحيم. وفي كلام ابن جرير ما يفهم حكاية الاتفاق على هذا، ولذلك قالوا رحمن الدنيا والآخرة ورحيم الدنيا. وقد تقرر أن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى. وقال ابن الأنباري والزجاج: إن الرحمن عبراني والرحيم عربي وخالفهما غيرهما. والرحمن من الصفات الغالبة لم يستعمل في غير الله عز وجل. وأما قول بني حنيفة في مسيلمة رحمن اليمامة، فقال في الكشاف: إنه باب من تعنتهم في كفرهم. قال أبو علي الفارسي: الرحمن اسم عام في جميع أنواع الرحمة يختص به الله تعالى، والرحيم إنما هو في جهة المؤمنين، قال الله تعالى: "وكان بالمؤمنين رحيماً" وقد ورد في فضلها أحاديث. منها ما أخرجه سعيد بن منصور في سننه وابن خزيمة
في كتاب البسملة والبيهقي عن ابن عباس قال: استرق الشيطان من الناس أعظم آية من القرآن: بسم الله الرحمن الرحيم. وأخرج الدارقطني بسند ضعيف عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كان جبريل إذا جاءني بالوحي أول ما يلقي علي بسم الله الرحمن الرحيم". وأخرج ابن أبي حاتم في تفسيره والحاكم في المستدرك، وصححه البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس "أن عثمان بن عفان سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن بسم الله الرحمن الرحيم فقال: هو اسم من أسماء الله، وما بينه وبين اسم الله الأكبر إلا كما بين سواد العين وبياضها من القرب". وأخرج ابن جرير وابن عدي في الكامل وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية وابن عساكر في تاريخ دمشق، والثعلبي بسند ضعيف جداً عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن عيسى ابن مريم أسلمته أمه إلى الكتاب لتعلمه، فقال له المعلم: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، فقال له عيسى، وما بسم الله الرحمن الرحيم؟ قال المعلم: لا أدري، فقال له عيسى: الباء بهاء الله، والسين سناه، والميم مملكته، والله إله الآلهة، والرحمن رحمن الدنيا والآخرة، والرحيم رحيم الآخرة" وفي إسناده إسماعيل بن يحيى وهو كذاب. وقد أورد هذا الحديث ابن الجوزي في الموضوعات. وأخرج ابن مردويه والثعلبي عن جابر قال: لما نزلت بسم الله الرحمن الرحيم هرب الغيم إلى المشرق، وسكنت الريح، وهاج البحر، وأصغت البهائم بآذانها، ورجمت الشياطين من السماء، وحلف الله بعزته وجلاله أن لا تسمى على شيء إلا بارك فيه. وأخرج أبو نعيم والديلمي عن عائشة قالت: لما نزلت بسم الله الرحمن الرحيم ضجت الجبال حتى سمع أهل مكة دويها، فقالوا: سحر محمد الجبال، فبعث الله دخاناً حتى أظل على أهل مكة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ بسم الله الرحمن الرحيم موقناً سبحت معه الجبال إلا أنه لا يسمع ذلك منها". وأخرج الديلمي عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ بسم الله الرحمن الرحيم كتب الله له بكل حرف أربعة آلاف حسنة، ومحا عنه أربعة آلاف سيئة، ورفع له أربعة آلاف درجة". وأخرج الخطيب في الجامع عن أبي جعفر محمد بن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بسم الله الرحمن الرحيم مفتاح كل كتاب". وهذه الأحاديث ينبغي البحث عن أسانيدها والكلام عليها بما يتبين بعد البحث إن شاء الله. وقد شرعت التسمية في مواطن كثيرة قد بينها الشارع منها عند الوضوء، وعند الذبيحة، وعند الأكل، وعند الجماع وغير ذلك.
ولها ثلاثة أسماء معروفة: فاتحة الكتاب، وأم القرآن، والسبع المثاني.
سميت فاتحة الكتاب: لأن الله بها افتتح القرآن. وسميت أم القرآن وأم الكتاب: لأنها أصل القرآن منها بدئ القرآن، وأم الشيء: أصله، ويقال لمكة: أم القرى لأنها أصل البلاد دحيت الأرض من تحتها، وقيل: لأنها مقدمة وإمام لما يتلوها من السور يبدأ بكتابتها في المصحف وبقراءتها في الصلاة، والسبع المثاني لأنها سبع آيات باتفاق العلماء. وسميت مثاني لأنها تثنى في الصلاة، فتقرأ في كل ركعة، وقال مجاهد سميت مثاني لأن الله تعالى استثناها لهذه الأمة فذخرها لهم.
وهي مكية على قول الأكثرين. وقال مجاهد : مدنية وقيل: نزلت مرتين مرة بمكة ومرة بالمدينة ولذلك سميت مثاني والأول أصح، أنها مكية، لأن الله تعالى من على الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: " ولقد آتيناك سبعاً من المثاني " ( 87 - الحجر ) والمراد منها فاتحة الكتاب وسورة الحجر مكية فلم يكن يمن عليه بها قبل نزولها.
سورة الفاتحة
1." بسم الله الرحمن الرحيم " قوله: بسم الله الباء أداة تخفض ما بعدها مثل: من وعن، والمتعلق به الباء محذوف لدلالة الكلام عليه، تقديره: أبدأ بسم الله، أو قل: بسم الله. وأسقطت الألف من الاسم طلباً للخفة وكثرة استعمالها وطولت الباء قال القتيبي ليكون افتتاح كلام كتاب الله بحرف معظم، كان عمر بن عبد العزيز رحمه الله يقول لكتابه: طولوا الباء وأظهروا السين وفرجوا بينهما، ودوروا الميم. تعظيماً لكتاب الله تعالى وقيل: لما أسقطوا الألف ردوا طول الألف على الباء ليكون دالاً على سقوط الألف، ألا ترى أنه لما كتبت الألف في " اقرأ باسم ربك " ( 1- العلق ) ردت الباء إلى صيغتها ولا تحذف الألف إذا أضيف الاسم إلى غير الله ولا مع غير الباء.
والاسم هو المسمى وعينه وذاته قال تعالى: " إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى " ( 7- مريم ) أخبر أن اسمه يحيى ثم نادى الاسم فقال: " يا يحيى " وقال " ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها " (40- يوسف ) وأراد الأشخاص المعبودة لأنهم كانوا يعبدون المسميات وقال: " سبح اسم ربك " ( 1- الأعلى )، و" تبارك اسم ربك " ( 78-الرحمن ) ثم يقال للتسمية أيضاً اسم فاستعماله في التسمية أكثر من المسمى ( فإن قيل ما معنى التسمية من الله لنفسه؟ قيل هو تعليم للعباد كيف يفتتحون القراءة ).
واختلفوا في اشتقاقه قال المبرد في البصريين: هو مشتق من السمو وهو العلو، فكأنه علا على معناه وظهر عليه، وصار معناه تحته، وقال ثعلب في الكوفيين: هو من الوسم والسمة وهي العلامة وكأنه علامة لمعناه والأول أصح لأنه يصغر على السمى ولو كان من السمة لكان يصغر على الوسيم كما يقال في الوعد وعيد ويقال في تصريفه سميت ولو كان في الوسم لقيل: وسمت. قوله تعالى: (( الله )) قال الخليل وجماعة: هو اسم علم خاص لله عز وجل لا اشتقاق له كأسماء الأعلام للعباد مثل زيد وعمرو. وقال جماعة هو مشتق ثم اختلفوا في اشتقاقه فقيل: من أله إلاهة أي عبد عبادة وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما " ويذرك وآلهتك " ( 127- الأعراف ) أي عبادتك - معناه أنه مستحق للعبادة دون غيره وقيل أصله إله قال الله عز وجل: " وما كان معه من إله إذاً لذهب كل إله بما خلق " ( 91- المؤمنون ) قال المبرد : هو من قول العرب ألهت إلى فلان أي سكنت إليه قال الشاعر:
ألهت إليها والحوادث جمة
فكأن الخلق يسكنون إليه ويطمئنون بذكره، ويقال: ألهت إليه، أي فزعت إليه قال الشاعر:
ألهت إليها والركائب وقف
وقيل أصل الإله (( ولاه )) فأبدلت الواو بالهمزة مثل وشاح واشاح، اشتقاقه من الوله لأن العباد يولهون إليه أي يفزعون إليه في الشدائد، ويلجؤون إليه في الحوائج كما يوله كل طفل إلى أمه، وقيل هو من الوله وهو ذهاب العقل لفقد من يعز عليك.
قوله :"الرحمن الرحيم " قال ابن عباس رضي الله عنهما: هما اسمان رقيقان أحدهما أرق من الآخر.
واختلفوا فيهما منهم من قال: هما بمعنى واحد مثل ندمان ونديم ومعناهما ذو الرحمة، وذكر أحدهما بعد الآخر ( تطميعاً ) لقلوب الراغبين. وقال المبرد : هو إنعام بعد إنعام، وتفضل بعد تفضل، ومنهم من فرق بينهما فقال: الرحمن بمعنى العموم والرحيم بمعنى الخصوص. فالرحمن بمعنى الرزاق في الدنيا وهو على العموم لكافة الخلق. والرحيم بمعنى المعافي في الآخرة والعفو في الآخرة للمؤمنين على الخصوص ولذلك قيل في الدعاء: يا رحمن الدنيا ورحيم الآخرة، فالرحمن من تصل رحمته إلى الخلق على العموم، والرحيم من تصل رحمته إليهم على الخصوص،ن ولذلك يدعى غير الله رحيماً ولا يدعى غير الله رحمن. فالرحمن عام المعنى خاص اللفظ، والرحيم عام اللفظ خاص المعنى، والرحمة إرادة الله تعالى الخير لأهله. وقيل ترك عقوبة من يستحقها وإسداء الخير إلى من لا يستحق، فهي على الأول صفة ذات، وعلى الثاني صفة (فعل).
واختلفوا في آية التسمية فذهب قراء المدينة والبصرة وفقهاء الكوفة إلى أنها ليست من فاتحة الكتاب، ولا من غيرها من السور والافتتاح بها للتيمن والتبرك. وذهب قراء مكة والكوفة وأكثر فقهاء الحجاز إلى أنها من الفاتحة وليست من سائر السور وأنها كتبت للفصل وذهب جماعة إلى أنها من الفاتحة ومن كل سورة إلا سورة التوبة وهو قول الثوري و ابن المبارك و الشافعي لأنها كتبت في المصحف بخط سائر القرآن.
واتفقوا على أن الفاتحة سبع آيات فالآية الأةلى عند من يعدها من الفاتحة (بسم الله الرحمن الرحيم) وابتداء الآية الأخيرة (صراط الذين) ومن لم يعدها من الفاتحة قال ابتداؤها (الحمد لله رب العالمين) وابتداء الآية الأخيرة (غير المغضوب عليهم) واحتج من جعلها من الفاتحة ومن السور بأنها كتبت في المصحف بخط القرآن، وبما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الكسائي أنا أبو محمد عبد العزيز بن أحمد الخلال ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم أنا الربيع بن سليمان أنا الشافعي أنا عبد المجيد عن ابن جريح قال: أخبرني أبي عن سعيد بن جبير (قال) " ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم " (87- الحجر) هي أم القرآن قال أبي ةقرأها علي سعيد بن جبير حتى ختمها ثم قال: ((بسم الله الرحمن الرحيم)) الآية السابعة، قال ابن عباس: فذخرها لكم فما أخرجها لأحد قبلكم.
ومن لم يجعلها من الفاتحة احتج بما ثنا أبو الحسن محمد بن محمد الشيرازي أنا زاهر بن أحمد ثنا أبو عيسى اسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن حميد الطويل عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: (( قمت وراء أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهم فكلهم كان لا يقرأ ((بسم الله الرحمن الرحيم إذا افتتح الصلاة )) قال سعيد بن جبير عن ابن عباس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم / لا يعرف ختم سورة حتى ينزل بسم الله الرحمن الرحيم.
وعن ابن مسعود قال: كنا لا نعلم فصل ما بين السورتين حتى بسم الله الرحمن الرحيم وقال الشعبي : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب في بدء الأمر على رسم قريش باسمك اللهم حتى نزلت " وقال اركبوا فيها بسم الله مجريها " (41 - هود) فكتب بسم الله حتى نزلت " قل ادعوا الله. أو ادعوا الرحمن " (110 - الاسراء) فكتب بسم الله الرحمن الرحيم حتى نزلت " إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم " (30 - النمل) فكتب مثلها.

وتسمى أم القرآن ، لأنها مفتتحه و مبدؤه فكأنها أصله ومنشؤه ، ولذلك تسمى أساساً . أو لأنها تشتمل على ما فيه من الثناء على الله سبحانه وتعالى ، التعبد بأمره ,ونهيه وبيان وعده ووعيده . أو على جملة معانيه من الحكم النظرية ، والأحكام العملية التي هي سلوك الطريق المستقيم والاطلاع على مراتب السعداء ومنازل الأشقياء . وسورة الكنز و الوافية والكافية لذلك . وسورة الحمد والشكر والدعاء . وتعليم المسألة لاشتمالها عليها والصلاة لوجوب قراءتها أو استحبابها فيها . والشافية الشفاء لقوله عليه الصلاة السلام : " هي شفاء من كل داء " . " والسبع المثاني " أنها سبع آيات بالاتفاق إلا أن منهم من عد التسمية دون " أنعمت عليهم " ، ومنهم من عكس ، و تثنى في الصلاة ، أو الإنزال إن صح أنها نزلت بمكة حين فرضت الصلاة ، وبالمدينة حين حولت القبلة ، وقد صح أنها مكية لقوله تعالى : " ولقد آتيناك سبعا من المثاني " ، وهو مكي بالنص.
1- " بسم الله الرحمن الرحيم " من الفاتحة ، و من كل سورة ، وعليه قراء مكة والكوفة وفقهاؤهما وابن المبارك رحمه الله تعالى والشافعي . وخالفهم قراء المدينة والبصرة الشام وفقهاؤها ومالك والأوزاعي ، ولم ينص أبو حنيفة رحمه الله فيه بشيء فظن أنها ليست من السورة عنده . وسئل محمد بن الحسن عنها فقال : ما بين الدفتين كلام الله تعالى . ولنا أحاديث كثيرة : منها ما روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه ، أنه عليه الصلاة والسلام قال : " فاتحة الكتاب سبع آيات أولاهن" بسم الله الرحمن الرحيم " "وقول أم سلمة رضي الله عنها " قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاتحة وعد " بسم الله الرحمن الرحيم " " الحمد لله رب العالمين " " ومن أجلهما اختلف في أنها آية برأسها أم بما بعدها ، والإجماع على أن ما بين الدفتين كلام الله سبحانه وتعالى ، والوفاق على إثباتها في المصاحف مع البالغة في تجريد القرآن حتى لم تكتب آمين . والباء متعلقة بمحذوف تقديراً : بسم الله أقرأ لأن الذي يتلوه مقروء. وكذلك يضمر كل فاعل ما يجعل التسمية مبدأ له ، وذلك أولى من أن يضمر أبدأ لعدم ما يطابقه ويدل عليه . أو ابتدائي لزيادة إضمار فيه ، وتقديم المعمول ههنا أوقع كما في قوله : " بسم الله مجريها " وقوله " إياك نعبد " لأنه أهم وأدل على الاختصاص، وأدخل في التعظيم وأوفق للوجود فإن اسمه سبحانه وتعالى مقدم على القراءة ، كيف لا وقد جعل آلة لها من حيث إن الفعل لا يتم ولا يعتد به شرعاً ما لم يصدر باسمه تعالى لقوله عليه الصلاة السلام " كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر " وقيل الباء للمصاحبة ،
والمعنى متبركاً باسم الله تعالى اقرأ ، وهذه وما بعده إلى آخر السورة مقول على ألسنة العباد ليعلموا كيف يتبرك باسمه ، ويحمد على نعمه ، ويسأل من فضله ، وإنما كسرت ومن حق الحروف المفردة أن تفتح ، لاختصاصها باللزوم الحرفية الجر ، كما كسرت لام الأمر ولام الإضافة داخله على المظهر للفصل بينهما وبين لام الابتداء ، والاسم عند أصحابنا البصريين من الأسماء التي حذفت أعجازها لكثرة الاستعمال ، وبينت أوائلها على السكون ن وأدخل عليها مبتدأ بها همزة الوصل ، لأن من دأبهم أن يبتدئوا بالمتحرك ويقفوا على الساكن . ويشهد له تصريفه على أسماء وأسامي وسمى وسميت ومجيء سمى كهدى لغة فيه قال :
والله أسماك سمى مباركاً آثرك الله به إيثاركـا
والقلب بعيد غير مطرود ، واشتقاقه من السمو لأنه رفعة للمسمى وشعار له . ومن السمة عند الكوفيين ، وأصله وسم حذفت الواو وعوضت عنها همزة الوصل ليقل إعلاله . ورد بأن الهمزة لم تعهد داخله على ما حذف صدره في كلامهم ، ومن لغاته سمم وسم قال :
‌ بسم الذي في كل سورة سمه
و الاسم إن أريد به اللفظ فغير المسمى ، لأنه يتألف من أصوات متقطعة غير قارة ، ويختلف باختلاف الأمم و الأعصار ، ويتعدد تارة ويتحد أخرى . والمسمى لا يكون كذلك ، وإن أريد به ذات الشئ فهو المسمى لكنه لم يشتهر بهذا المعنى وقوله تعالى: " تبارك اسم ربك " و " سبح اسم ربك " المراد به اللفظ لأنه كما يجب تنزيه ذاته سبحانه وتعالى وصفاته عن النقائص ، يجب تنزيه الألفاظ الموضوعة لها عن الرفث وسوء الأدب . أو الاسم فيه مقحم كما في قول الشاعر :
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما
وأن أريد به الصفة ، كما هو رأي الشيخ أبي الحسن الأشعري ، انقسم الصفة عنده: إلى ما هو نفس المسمى ، وإلى ما هو غيره ، وإلى ما ليس هو ولا غيره . وإنما قال بسم الله ولم يقل بالله ، لأن التبرك والاستعانة بذكر اسمه . أو للفرق بين اليمين و التيمين . ولم تكتب الألف على ما هو وضع الخط لكثرة الاستعمال وطولت الباء عوضاً عنها . والله أصله إله ، فحذفت الهمزة وعوض عنها الألف واللام ولذلك قيل : يا الله ، بالقطع إلا أنه مختص بالمعبود بالحق. والإله في الأصل لكل معبود ، ثم غلب على المعبود بالحق . واشتقاقه من أله ألهة وألوهة بمعنى عبد ، ومنه تأله واستاله ، وقيل من أله إذا تحير لأن العقول تتتحير في معرفته . أو من ألهت إلى فلان أي سكنت إليه ، لأن القلوب تطمئن بذكره ،والأرواح تسكن إلى معرفته . أو من أله إذا فزع من أمر نزل عليه ، وآلهة غيره أجازه إذ العائذ يفزع إليه وهو يجبره حقيقة أو بزعمه . أو من أله الفصيل إذا ولع بأمه ، إذ العباد يولعون بالتضرع إليه في الشدائد . أو من وله إذا تحير وتخبط عقله ، وكان أصله ولاه فقلبت الواو همزة لاستثقال الكسرة عليها استثقال الضمة في وجوه ، فقيل إله كإعاء وإشاح ، ويرده الجمع على آلهة دون ألولهة . وقيل أصله لاه مصدر لاه يليه ليها ولاها ، إذا احتجب وارتفع لأنه سبحانه وتعالى محبوب عن إدراك الأبصار ، ومرتفع على كل شئ وعما لا يليق به ويشهد له قول الشاعر :
كحلفـة من أبي ربـاح يشهـدها لاهـه الكبــار
وقيل علم لذاته المخصوصة لأنه يوصف ولا يوصف به ، ولأنه لا بد له من اسم تجري عليه صفاته ولا يصلح له مما يطلق عليه سواه ، ولأنه لو كان وصفاً لم يكن قول : لا إله إلا الله ، توحيداً مثل : لا إله إلا الرحمن ، فإنه لا يمنع الشركة ، والأظهر أنه وصف في أصله لكنه لما غلب عليه بحيث لا يستعمل في غيره وصار له كالعلم مثل : الثريا والصعق أجرى مجراه في إجراء الأوصاف عليه ، وامتناع الوصف به ، وعدم تطرق احتمال الشركة إليه ، لأن ذاته من حيث هو بلا اعتبار أمر حقيقي أو غيره غير معقول للبشر ، فلا يمكن أن يدل عليه بلفظ ، ولأنه لو دل على مجرد ذاته المخصوصة لما أفاد ظاهر قوله سبحانه و تعالى : " وهو الله في السماوات " معنى صحيحاً ، ولأن معنى الاشتقاق هو كون أحد اللفظين مشاركاً للآخر في المعنى والتركيب ، وهو حاصل بينه وبين الأصل المذكورة ، وقيل أصله لاها بالسريانية فعرب بحذف الألف الأخيرة ، وإدخال اللام عليه ، وتفخيم لاهه إذا انفتح ما قبله أو انضم سنة ، وقيل مطلقاً ، و حذف ألفه لحن تفسد به الصلاة ، ولا ينعقد به صريح اليمن ، وقد جاء لضرورة الشعر :
ألا لا بارك الله في سهيل إذا ما الله بارك في الرجال
و " الرحمن الرحيم " اسمان بنيا للمبالغة من رحم ، كالغضبان من غضب ، والعليم من علم ، والرحمة في اللغة : رقة القلب ، وانعطاف يقتضي التفضل والإحسان ، ومنه الرحم لانعطافها على ما فيها . وأسماء الله تعالى إنما تؤخذ باعتبار الغايات التي هي أفعال دون المبادي التي تكون انفعالات و " الرحمن " أبلغ من " الرحيم " ، لأن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى كما في قطع و قطع و كبار وكبار ، وذلك إنما يؤخذ تارة باعتبار الكمية ، وأخرى باعتبار الكيفية ، فعلى الأول قيل :يا رحمن الدنيا لأنه يعم المؤمن والكافر ، ورحيم الآخرة لأنه يخص المؤمن ، وعلى الثاني قيل : يا رحمن الدنيا و الآخرة ورحيم الدنيا ، لأن النعم الأخروية كلها جسام ، وأما النعم الدنيوية فجليلة وحقيرة ، وإنما قدم والقياس يقتضي الترقي من الأدنى إلى الأعلى ، لتقدم رحمة الدنيا ، ولأنه صار كالعلم من حيث إنه لا يوصف به غيره لأن معناه المنعم الحقيقي البالغ في الرحمة غايتها وذلك لا يصدق على غيره لأن من عداه فهو مستعيض بلطفه وإنعامه يريد به جزيل ثواب أو جميل ثناء أو مزيج ، رقة الجنسية أو حب المال عن القلب ، ثم إنه كالوساطة في ذلك لأن ذات النعم ووجودها ، والقدرة على إيصالها ، والداعية الباعثة عليه ، والتمكن من الانتفاع بها ، والقرى التي بها يحصل الانتفاع ، إلى غير ذلك من خلقه لا يقدر عليها أحد غيره . أو لأن الرحمن لما دل على جلائل النعم وأوصلها ذكر الرحيم ليتناول ما خرج منها ، فيكون كالتتتمة والرديف له . أو للمحافظة على رؤوس الآي .
والأظهر أنه غير مصروف وان حظر اختصاصه بالله تعالى أن يكون له مؤنث على فعلى أو فعلانة إلحاقاً له هو الغالب في بابه . وإنما خص التسمية بهذه الأسماء ليعلم العارف أن المستحق لأن يستعان به في مجامع الأمور ، هو المعبود الحقيقي الذي هو مولى النعم كلها عاجلها و آجلها ، جليلها وحقيرها ، فيتوجه بشراشره إلى جناب القدس ، ويتمسك بحبل التوفيق ، و يشغل سره بذكره و الاستعداد به عن غيره .
1. In the name of Allah, the Beneficent, the Merciful
SURA 1: FATIHAH
1 - In the name of God, Most Gracious, Most Merciful